تعددت الكتب التي تحدثت عن مميزات وصفات الشهيد سيد قطب رحمه الله ، والقارئ
لهذه الكتب والمطلع على كتابات الشهيد يدرك أن من أهم صفاته التي ساعدته على
سلوك درب الشهادة الصدق وبعد النظر وحسن الإدراك ، فإذا بحثت عن الصدق وجدته
في الكلمة التي أدرك تماماً أهميتها وحاول مراراً أن يحميها من عبث العابثين
، الكلمة التي قال عنها : " ليست كل كلمة تبلغ إلى قلوب الآخرين فتحركها
وتجمعها وتدفعها ، إنها الكلمات التي تقطر دماً لأنها تقتات قلب إنسان حي، …
إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئاً كثيراً ولكن بشرط واحد : أن
يموتوا هم لتعيش أفكارهم ، أن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم ، أن يقولوا
ما يعتقدون أنه حق ويقدموا دماءهم فداءً لكلمة الحق".
أما إذا بحثت عن بُعد النظر وحُسن الإدراك فستجدهما في حُسن قراءته للأحداث
الماضية والحاضرة والمستقبلية ، فمن الماضي أحسنَ قراءة الدين والتاريخ
والفلسفة ، ومن الحاضر برع في تعلُّم العلوم والسياسة والفكر ، أما من
المستقبل فقد استشرف منه النصر لدين الإسلام والهزيمة لأعدائه الذين كانوا
وراء تشويه تاريخه وعقيدته وفكره .
ولقد كان من حصاد فكر سيد قطب وبُعْد نظره الثاقب أن فضح مؤامرات عدة حيكت
للأمة الإسلامية في غفلة عن أبنائها الذين شغلتهم الدنيا ومناصبها وزخرفتها
عن أمور مصيرية كبرى، هذه المؤامرات التي حاكها الغرب بجناحيه اليهودي
والصليبي بغية إضعاف أمة الإسلام التي كانت لها السيادة بدون منازع قروناً
مديدة سابقة .
ولقد أراد سيد قطب رحمه الله بكشفه لأضاليل اليهود ومن تآمر معهم من
الصليبيين فضحَ أساليبهم وصفاتهم الدنيئة التي حذّر منها القرآن الكريم ،
والتي يتحدثون عنها بشكل صريح في أهم كتبهم ككتابي " التلمود " وبروتوكولات
حكماء صهيون " ، هذان الكتابان اللذان يحدّدان أصابعهم المزروعة في كل فكر
وفلسفة وأدب .
ومن هنا كانت معاناة الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى ! ومن هنا كان منبع ألمه
وحزنه ! لم تكن معاناته من آلام السجن والوحشة ، إنما معاناته الحقيقية -التي
أودت بحياته - نتجت عن بعد نظره الثاقب الذي جعله يرى مالا يرى غيره ويلحظ ما
لا يلحظه سواه ، فقد عاين أسباب ضعف الأمة الإسلامية وتشرذمها ، وأدرك أن
وراء هذا الأمر قوة سياسية عالمية تسعى لعدم إقامة حكم الله على الأرض ،
وأدرك أيضاً أن السبيل لنهوض هذه الأمة ورفعتها لن يكون إلا بالجهاد ، ولن
يتم إلا إذا لم يعد المسلم يخشى اليهودي أو يركن إليه .
إن هذه القوة السياسية اليهودية التي تسرح وتمرح في أرجاء العالم الإسلامي
ليست جديدة في التاريخ ، فهي ناشطة منذ بدء الدعوة الإسلامية لدرجة أن القرآن
الكريم حذَّر من مخاطرها بقوله تعالى : " ولتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا
اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى
ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون"
قال سيد قطب رحمه الله في تعليقه على هذه الآية : إن ما يلفت النظر في هذه
الآية صياغتها التي تضمنت تقديم اليهود على الذين أشركوا مما يدل على شدة
عداوتهم للمؤمنين ، وذلك أمر ثابت عبر التاريخ فالحرب" التي شنها اليهود على
الإسلام أطول أمداً ، وأعرض مجالاً، من تلك التي شنها عليه المشركون
والوثنيون –على ضراوتها - قديماً وحديثاً .. إن المعركة مع مشركي العرب لم
تمتد إلى أكثر من عشرين عاماً في جملتها وكذلك كانت المعركة مع فارس في العهد
الأول ، أما في العصر الحديث فإن ضراوة المعركة بين الوثنية الهندية والإسلام
ضراوة ظاهرة ، ولكنها لا تبلغ ضراوة الصهيونية العالمية ".
ولقد بدأت عداوة اليهود مع بدء الوحي ، فكان جبريل أول أعدائهم لأنه حسب
زعمهم "هو الذي حمل الوحي إلى محمد دونهم " ، وهم يزعمون أنه ينزل بالهلاك
والدمار والعذاب لذلك فهو عدوهم ، بينما لو كان الذي جاء بالوحي ميكائيل
لآمنوا به لأنه ينزل بالرخاء والمطر والخصب"
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عدوهم الثاني الذي جاء ليأخذ منهم كل شيء،
جاء ليأخذ الرسالة والكتاب كما جاء أيضاً ليأخذ منهم " القيادة العقلية
والتجارة الرابحة والربا المضعّف" باختصار جاء الدين الإسلامي ليسلب من
اليهود كل الامتيازات الدنيوية التي تمتعوا بها ، فهل يقفون حيال هذا الأمر
مكتوفي الأيدي وهم الذين يعتقدون أنفسهم شعب الله المختار ، وأن سائر الناس "
غوييم ( أميين ) " لا يصلحون إلا لخدمتهم والقيام على مصالحهم ؟ أم يحاربون
هذا الدين الذي لم يجعل التمييز بين الناس على أساس العرق أو اللون ، بل جعل
التقوى هي الميزان لهذا التمييز؟
الاختيار ليس صعباً ، وهو بالطبع لن يكون بالاستسلام لهذا الدين بل سيكون
بالحرب ، ولكن ليس بالضروري حرب المواجهة والقتال بل الحرب الخفية التي لا
تترك أثراً ولا شُبهة ، لذلك كانت الأسلحة التي استخدمها اليهود في كثير من
حروبهم ضد الإسلام أسلحة غير ظاهرة لكثير من المسلمين الذين لم يكلفوا نفسهم
عناء قراءة قرآنهم الكريم والاطلاع على تاريخهم المجيد ، إن هذا الأمر الذي
غفل عنه بعض المسلمين أدرك أهميته الشهيد رحمه الله فعكف على كتاب الله تعالى
يستخرج منه الآيات التي تفضح أساليب اليهود وخفاياهم القديمة ويقارنها
بأساليبهم الحديثة التي لم تتغير ولم تتبدل والتي من أهمها ما يلي :
-1-
التشكيك بالعقيدة الإسلامية ، وتحويلها إلى مجرد مشاعر وأحاسيس نَفْس لا تخرج
عن إطار النطق بالشهادتين أو حتى اتخاذ اسم إسلامي عربي ، بينما العبودية
الحقيقية هي للمال والجنس والأفكار الهدامة المنبثة في العلم والأدب والفن
والصحافة ، وتسخير هذه الوسائل من أجل " التهوين من شأن العقيدة والشريعة
سواء ، وتأويلها وتحميلها ما لا تطيق ، والدقّ المتصل على " رجعيتها " !
والدعوة للتفلت منها ، وإبعادها عن مجال الحياة إشفاقاً عليها من الحياة أو
إشفاقاً على الحياة منها ! وابتداع تصورات ومُثُل وقواعد للشعور والسلوك
تناقض وتحطم تصورات العقيدة ومُثُلَها ".
وقد أعان اليهودَ في حربهم هذه عملاءُ في مجالات الحياة كافة ، فكان منهم
الأساتذة والدكاترة والباحثون وأحياناً الكتاب والشعراء والفنانون والصحفيون
الذين يحملون أسماء إسلامية ، وقد تعاون هؤلاء مع اليهود على هدم الإسلام عبر
صرف الأمة عن دينها وقرآنها و "تحويل الدين إلى مجرد مشاعر وشعائر ، وطرده من
واقع الحياة ، وإيهام المعتقدين به أنهم يمكن أن يظلوا مؤمنين بالله ، مع أن
هناك أرباباً أخرى هي التي تشرع لحياتهم من دون الله ! ويصلون بذلك إلى تدمير
البشرية فعلاً ، حتى مع وهمها أنها لا تزال تؤمن بالله ".
-2-
التلبيس والتدليس في كل ما يتصل بهذا الدين من تاريخ وحديث وتفسير ، " فدسّوا
ولبّسوا في التاريخ الإسلامي وأحداثه ورجاله ، ودسّوا ولبّسوا في الحديث
النبوي حتى قيض الله له رجاله الذين حققوه وحرروه إلا ما ندَّ عن الجهد
الإنساني المحدود ، ودسّوا ولبّسوا في التفسير القرآني، وهناك دس جد خطير ،
لقد دسوا رجالاً وزعامات للكيد لهذه الأمة " .
-3-
تفكيك الأمة الإسلامية عبر تكبير الهوّة بين الحكاّم والشعوب والمساهمة في
تزكية نار الفتنة وإشعال الحروب والعداوات المصطنعة التي ينتج عنها مزيد من
التشرذم ومزيد من التشويه لهذا الدين الحنيف والتشكيك بنوايا الداعين إليه.
-4-
إمساكهم العصا بالوسط ، بمعنى " انضمامهم إلى المعسكرات المتطاحنة كلها من
باب الاحتياط ، لتحقيق بعض المغانم على أية حال ، وضمان صوالح اليهود في
النهاية سواء انتصر هذا المعسكر أم ذاك ! وهي خطة من لا يثق بالله ولا يستمسك
بميثاقه ، ويجعل اعتماده كله على الدهاء ، ومواثيق الأرض والاستنصار بالعباد
لا برب العباد " .
وقد هدف سيد قطب من دراسته لأساليب اليهود
القديمة ومقارنتها بأساليبهم الحديثة لأهداف عدة أهمها اثنين وهما : تذكير
المسلمين بالفرق بين مفهوم التسامح والولاء ، وتذكيرهم بخصائص اليهود التي
ذكرها القرآن الكريم والتي يمكن لأي قارئ له أن يتوصل إليها بسهولة ويُسْر
مما يعين هذه الأمة على الانتصار عليهم ودحر كيدهم .
قال سيد قطب في تفريقه بين مفهوم السماحة والولاء : " ثم يظهر بيننا من يظن –
في بُعْدٍ كامل عن تقريرات القرآن الجازمة – أنه يمكن أن يقوم بيننا وبين أهل
الكتاب هؤلاء ولاء وتناصر . ندفع به المادية الإلحادية عن الدين !
إن هؤلاء لا يقرأون القرآن ، وإذا قرأوه اختلطت عليهم دعوة السماحة التي هي
طابع الإسلام ؛ فظنوها دعوة الولاء التي يحذر منها القرآن " .
إن سماحة الإسلام مع أهل الكتاب شيء واتخاذهم أولياء شيء آخر ، إن التسامح
يكون في المعاملات الشخصية لا في التصور الاعتقادي ولا في النظام الاجتماعي ،
بمعنى أن " طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم ، واقتباس منهجهم وأوضاعهم ، تحمل
ابتداء معنى الهزيمة الداخلية ، والتخلي عن دور القيادة الذي من أجله أنشئت
الأمة المسلمة ، كما تحمل معنى الشك في كفاية منهج الله لقيادة الحياة
وتنظيمها والسير بها صعداً في طريق النماء والارتقاء ، وهذا بذاته دبيب الكفر
في النفس، وهي لا تشعر به ولا ترى خطره القريب " .
ويكفي نهياً عن اتباع منهج اليهود ما ورد على لسان رسول الله صلى الله عليه
وسلم حيث قال : " لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق
فتكذبوا به ، أو بباطل فتصدقوا به ، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما
وسعه إلا أن يتَّبعني ".
وقد أشار سيد قطب في حديثه عن صفات اليهود ، والتي أحصاها القرآن الكريم
بأجمعها ، إلى أن هذه الصفات لم تتغير عبر الزمن ولن تتغير في المستقبل بقوله
: "جَعل القرآن يخاطبهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم – كما كانوا هم
أنفسهم الذين كانوا على عهد موسى عليه السلام وعلى عهود خلفائه من أنبيائهم -
باعتبارهم جبلة واحدة . سماتهم هي هي، ودورهم هو هو، وموقفهم من الحق والخلق
موقفهم على مدار الزمان " .
فهم في البداية حريصون على الحياة الدنيوية مهما كانت حتى ولو كانت حياة
تنكير وتحقير، لذلك تجدهم يهربون من الحروب والمواجهة ويستبدلونها بأساليب
الغش والخديعة ، قال تعالى : "ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا
يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر والله بصير بما
يعملون " سورة البقرة ن آية 96 .
وهم أيضاً ضعفاء مفككي الأهواء لا يجتمعون على رأي، ولا يثبتون على عهد ، ولا
يستمسكون بعروة ، وإن بدا ظاهرهم خلاف ذلك ، لذلك فإن حربهم وجهادهم أمرٌ ليس
بالصعب إذا اجتمعت جهود الأمة الإسلامية على جهادهم ومحاربتهم ، خاصة أن
دواعي هذا الجهاد متعددة، ومن أهمها استرجاع حقوق وأراضٍ مسلوبة يشكل بعضها
مقدسات مهمة للمسلمين لا ينبغي التفريط بها ، ومن هذه المقدسات المسجد الأقصى
الذي يقع في فلسطين، تلك الدولة التي " ضاعت على مذبح المنافسات بين عدة بيوت
حاكمة ، لا لأن قوى الأمة العربية – أيًّا كانت ضعيفة – عجزت عن الوقوف أمام
حفنة من اليهود ، مهما جاءتهم النجدة من الكتلة الشيوعية والكتلة الرأسمالية
، ولو كان في مجموعة الشعب العربي من الحيوية إذ ذاك ما تحطم به أطماع
العاملين ، وتضرب على أيديهم العابثة ، ما وقعت الكارثة " .
لقد آمن سيد قطب بأن قضية فلسطين هي قضية
المسلمين فرحلة الإسراء إلى المسجد الأقصى هي " إعلان وراثة الرسول الأخير
صلى الله عليه وسلم لمقدسات الرسل قبله ، واشتمال رسالته على هذه المقدسات "
، لذلك ودفاعاً عن إيمانه بحق المسلمين بأرض فلسطين شارك سيد قطب رحمه الله
كبار شخصيات العالم الإسلامي في المؤتمر الإسلامي العام الذي انعقد في القدس
عام 1954 م. ليؤكد " أن القضية الفلسطينية هي من أخطر القضايا الإسلامية
وأجدرها بعناية الشعوب المسلمة وتضافرها في الكفاح لاسترداد البلاد المقدسة
من اليهود الغاصبين ، وحماية ما تبقى منها في أيدي أصحابها الشرعيين بعد تآمر
الاستعمار الغربي والصهيونية العالمية " .
لقد بلغ من شدة إدراك سيد قطب رحمه الله لخطر اليهود على الأمة وفضحه
لمخططاتهم أن أعلن الشهيد رحمه الله في جريدة الشهاب عن كيفية توقعه لختام
حياته بقوله : " لقد وقفت على مدى تغلغل الأصابع اليهودية وخطرها بعد بحث
وطول عناء ،واليهود إذا علموا أنني أحيط بذلك فلا بد أن أقتل " .
د. نهى قاطرجي