ما أكثر الأصوات المؤيدة والمناصرة والداعمة التي ترتفع بحزم وقوة كلما أثيرت
قضية تتعلق بالدين والقيم ، حيث نرى الناس – من كل الطوائف دون استثناء –
يجتمعون في أضخم تجمع بشري للدفاع عن الثقافة والمثثقفين الذين تنتهك حرمتهم
في عقر ديارهم ويمنعون من التعبير والإبداع الذي لا يجد له الشغل الشاغل
للإعلام المرئي والمسموع ، هذا الإعلام الذي لا يكتفي بالدفاع عن ( المثقف )
بل إن بعض أحهزته تحضر – وعلى نفقتها الخاصة – ( مثقفين ) من خارج البلد (
وكأن الموجودين لا يفون بالغرض ) وذلك بهدف بحث مواضيع فكرية وإسلامية تمس
العقيدة والشريعة الإسلامية وتؤدي إلى إثارة الفتنة بين المسلمين .
إن ما يلفت النظر في هذه القضية نقاط عدة منها :
1- أن أبرز من يقوم بهذه الأعمال هم علمانيون
مهما كان انتماؤهم الطائفي ، وهم يسعون بجهد متواصل إلى أن " يكفّ المسلمون
عن إسلامهم ويكفّ علماء الدين عن دراسة الدين والدعوة إليه وأن يكف المفكرون
الإسلاميون عن استلهام الدين في مختلف شؤون الحياة ، ، لأنهم يخشون- كما يخشى
العالم بأسره – من المدّ الإسلامي الذي أصبح بعد انهيار الشيوعية الخطر الأول
الذي يهدد القُوى الغربية الذين يدافعون عن مصالحها في لبنان .
وهم من أجل تنتفيذ هدفهم التدميري هذا يستخدمون الوسائل المتاحة لهم كافة
فيستضيفون الأشخاص الذين أجمع علماء الأمة على تكفيرهم ، ويتحدثون معهم في
مواضيع فكرية لا يفقهها المتكلم ولا المحاور ولا حتى المُشاهد ، والهدف طبعاً
لا يُخفى على المسلم البسيط الذي يدرك أن الحرب انواع وهي وإن انتهت على
الأرض فهي لم تنته في مَيدان العقول والأفكار .
كما أن لرجال الأعلام أيضاً ضيوفاً من ( المثقفين )وضعوا دينهم جانباً
وشمّروا عن سواعد أقلامهم وموهبتهم الروائية والشعرية للدفاع عن حرية الرأي
والكلمة والإبداع مستخدمين كل وسائل السخرية والاستهزاء والتطاول على
المقامات الدينية الإسلامية معتبرين ان الرأي الصادر عن العلماء هو رأي شخصي
وليس حكم الإسلام .
2- أن من يتبجّح بالحرية دون إدراك لمعناها
الأدبي والشرعي ولحدودها – إلا كونها تُطلق العِنان للجاهل والكافر على حد
سواء- يخدع نفسه قبل ان يخدع الآخرين لأنه يريد أن يثبت أن ما يفعله هو دليل
عقلانية وتنوير وإعمال الفكر ، بينما في الحقيقة إن ما يسعى إليه هو إطلاق
العنان لغرائزه وأهوائه التي تقرّبه للبهيمية ، لذلك فهو يسعى لإيجاد ستار
عقلي يبيح له هذا الفعل ، وقد أحسن الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي حين وصف
الملحد بقوله : " إن المُلحد الذي يمارس أمامك حياة التحلل والإلحاد ليس
مشدوداً إلى حياته بسبب فكر مجرد كما تظن ، ولكنه مشدود إليها بأهواء نفسية
مستحكمة" .
وهؤلاء الملحدون الذين حرمهم الله عز وجل من الهداية وقال فيهم : " ولو شئنا
لآتينا كل نفس هُداها ولكن حقَّ القول مني لأملأن جهنم من الجِنّة والناس
أجمعين " السجدة ، 13.
إنما منحهم هذه المنزلة نتيجة ممارستهم لحريتهم في الاعتقاد الشخصي ، لأن
الإيمان فعل قلبي ولا يمكن ان يكون بالإكراه ، لهذا قال عز وجل : " لا أكراه
في الدين" البقرة،256 . وقال أيضاً : " ولو شاء ربّك لآمن مَن في الأرض كلّهم
جميعاً أفأنت تركه الناس حتى يكونوا مؤمنين " يونس ، 99.
إن الإيمان بالله عز وجل شرف وتكريم وهؤلاء لا يستحقون هذا الشرف لهذا حرمهم
الله منه ، إلا أنه سبحانه وتعالى جعل حرية المعتقد عند هؤلاء مشروطة بعدم
نشر الفساد بين المسلمين وعدم الاعتداء على حرمة هذا الدين .
لهذا فهناك فرق بين حرية المعتقد وحرية الرأي والتعبير في الإسلام ، فحرية
الرأي في الإسلام تستلزم شروطاً ومبادئ لا يمكن التغافل عنها منها :
أ- أن إبداء الرأي في مواضيع إسلامية لا بد أن
يكون صادراً عن مسلم عاقل يتمتع بالأهلية كما يتمتع بمقدرة ثقافية علمية ،
فليس من حق أي انسان ان يتكلم في موضوع يجهل أبعاده .
ب- أن إبداء الرأي في مواضيع إسلامية يجب أن
يصدر عن المعنيين بالأمر، فليس من حق الإنسان ان يُدلي برأيه في موضوع لا
يخصّه ولا يربطه به صلة مباشرة ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مِن
حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " رواه الترمذي .
ج- أن إبداء الرأي يجب أن لا يتطاول على
الإسلام والمقدَّسات الدينية للمسلمين ، لهذا فحرية إبداء الرأي يجب أن تخضع
للقاعدة الفقهية الهامّة المستقاة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
لاضرر ولا ضرار " .
إن العبث بالنصوص الشرعية المتمثلة في القرآن والسُّنة على وجه التحديد ،
ينبغي أن يظل بمنأى عن الذين بتذرعون بحرية التعبير أو البحث ، ويرّوجون
لدعاوى تستهدف تعطيل النصوص وإجهاضها باسم تاريخية النصوص ، أو نسبية الأحكام
الشرعية ، أو غير ذلك من مداخل العدوان على عقيدة المجتمع وضميره " .
3- أن مما يساهم بشكل غير مباشر في ازدياد هذه
الموجة التهجّمية على الإسلام هو غياب الدَّور الذي أناطه الإسلام بكل مسلم ،
الا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيما تتجمع ألوف الأصوات لدعم
المنكر يختفي الصوت الذي يدافع ويبرر ويدعو ويرشد ، مما جعل الآخرين
يتمادَوْن في غيهم لعدم وجود من يردعهم وقد استخدم احدهم مثلاً شعبياص عندما
تهجم على مقام الإفتاء نعيده إليه هنا " يا فرعون من فَرعنَك ؟ قال : ما لقيت
حدا يردني ".
ألا يكفي انتهاك حرمة القرآن سبباً للوقوف في وجه اعدء هذا الدين ؟ ألا يجب
على كل مسلم نصرة هذا الدين بما أُتيح له من وسائل ؟ ورسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه
، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " رواه مسلم .
لماذا يريد المسلم اليوم ان يقفز إلى الاستنكار بالقلب ويتخلى عن باقي
الوسائل التي لا تزال متاحة أمامه ؟
إن اعداء الإسلام يستخدمون سلاح اللسان ويتمسكون به ويقاتلون من أجله ،
فلماذا لا يستخدمه المسلمون ليدافعوا عن أنفسهم وعقيدتهم ويسيتفيدوا من حرية
الرأي التي يريد الآخرون احتكارها لنفسهم ؟
إن من أسباب فقدان النصر الجُبن والضعف وعدم التوكل على الله عز وجل ، قال
سبحانه وتعالى : " ولينصرن الله من ينصره " الحج ، 40.
إن المسلم اليوم يتوكل على الله في حظوظه وشهواته ولا يتوكل عليه في نصرة
دينه وإعلاء كلمته ، ولا يقوم بواجبه الديني في الجهاد والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ، ولا يظنن أحد أن الجهاد يكون فقط بالسلاح بل إن " الجهاد
بمفهومه الواسع يعني أي حركة إيجابية للمسلم ( وفق منهج الله ) يقاوم بها أي
فكرة أو سلوك او نظام منحرف داخل نفسه أو داخل المجتمع ( المحلي والعالمي )"
.
إن المسلمين اليوم لم يكتفوا بترك هذه السنن بل منهم مَن وقف في صَفّ الكفار
والملحدين إما جهلاً بدينه أو جُبناً وتمسكاً بمصالح دنيوية وصل إليها ، وقد
وصف ابن تيمية حال مثل هؤلاء بقوله : " كثيراً ما يجتمع في كثير من الناس
أمران بُغض الكفر وأهله وبُغض نَهيهم وجهادهم ، كما يحب المعروف وأهله ولا
يحب أن يأمر به ولا يجاهد عليه بالنفس والمال ، وقد قال تعالى : " إنما
المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم
في سبيل الله أولئك هم الصادقون " الحجرات ، 15.
وقال تعالى : " قل إن كان آباؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال
اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله
وجهاد في سبيله فتربّصوا حتى يأتي الله بامره والله لا يهدي القوم الفاسقين "
التوبة ، 24.
وفي الختام نذكر بعاقبة تَرك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفاً من
أن يمسّنا عذاب الله الذي حذّر منه رسوله عليه الصلاة والسلام بقوله : "والذي
نفسي بيده لتامُرُنّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر أو ليوشكن أن يبعث الله
عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعُوُنه فلا يستجاب لكم " رواه أحمد .
د. نهى قاطرجي