***
يمضى عليهم الليل والنهار ، لا يفرقون بينهما ، والفضاء المترامي الأرجاء ،
قد ضاق عليهم فصار كسم الخياط ، جاثمون على ركبهم في زنزانة سوداء الجدران
ملؤها الكآبة ، ليس فيها إلا مصباح ضئيل يجاهد لتمزيق الظلام فلا يفلح إلا
قليلا ، قد ذبلت أجسامهم ، فصارت كأفراخ ضم الجوع والبؤس بين ضلوعها ، فهي
تعانق الحزن والأسى صباح مساء .
***
شاحبة وجوههم ، شاخصة أبصارهم ، مرتعشة أيديهم ، محزونة قلوبهم على مصاب
الإسلام في كل بقاع الأرض ، يسمعون هدير أمواج جزيرة (غوانتناموا ) ، وزمجرة
رعودها ، وزفيف رياحها ، وقعقعة سلاسل الحديد بين أرجلهم وأيديهم ، فيحسبون
أنها نذر شؤم ، تأتيهم من مستقبل مجهول ، في عالم مجهول ، أو أنها أجراس
الموت تعج عجيجا ، وتلج لجيجا ، فتبعث في الكبد لهيجا .
***
يقاسون الآلام الشداد ، قد غدت قلوبهم
نهبا مقسما في يد الهموم والأفكار ، بعضها مما يحاك بالعالم الإسلامي من
المكر الكبار ، و بعضها مما هم فيه من البلاء ، وبعضها من ذكرى الآباء
والأمهات الذين يعالجون كل يوم أنين الوالهين ، وينفثون زفرات المكروبين ،
والأولاد الصغار الذين خلفوهم ، فهم يلحفون في السؤال للام المفجوعة :
***
أين أبي يا أماه ، ما فعل أبونا حتى
يذهبوا به ، فيلقوه هناك ، بعيدا عنا في تلك الجزيرة الموحشة ، وحيدا طريدا ،
لماذا يلبسونه هذا اللباس ، لماذا يكبلونه بهذا الحديد ، ما ذنبه يا أماه ،
ولماذا لا يأخذون الذين يقتلون المسلمين في فلسطين؟ ويأخذون آباءنا بدلا منهم
؟
***
فتفيض الدموع من مقلتيها ، وتمسك بيد
الصغير ، وتجيب بصوت متقطع لا يكاد يبين: أي بني ، ليس لأبيك ذنب ، أبوك
البطل ، قد نذر نفسه لامر عظيم جلل ، قد نذر نفسه لينصر الإسلام ، ولكن أكثر
الناس لا يعلمون .
***
وسيرجع إليك ليأخذ بيدك الصغيرة هذه ،
ويذهب معك إلى حيث كنتما تذهبان وتلعبان ، أو يختاره الله شهيدا ، فتحيى
بموته أمته من بعده ، وحسبت الأم أن هذه الكلمات كبيرة على عقل ولدها الصغير
، ولكنها أرادت أن تبقى في ذهنه حتى إذا كبر استرجعها ، فغدت له نبراسا يعلي
همته ، فيغدو بطلا مجاهدا كأبيه .
***
وبينما أولئك الليوث القابعة وراء تلك القضبان ، على هذا الحال ، وبين هذه
الهموم ، إذا جاءهم صدق يقينهم بالله ، فقذف في صدورهم الانشراح ، وتنزلت
عليهم قوة توكلهم على الله فأرسلت على قلوبهم أعطر الرياح ، وتذكرت قلوبهم
احتساب ثواب الآخرة فعادت إلى أرواحهم الأفراح .
***
إن الأبطال الذين في غوانتناموا ـ
مهما حاول الإعلام الغربي زخرفـــة جريمة أسرهم ـ ليسوا سوى ضحية إرهاب القوى
العظمى ، التي في سبيل بلوغها أوج الاستكبار تعبث بكل الفضائل الإنسانية،
وتعمى عن كل القيم البشرية، وتستخف بكل حق ، وتتلاعب بكل نظام ، بروح طاغية
في الاستبداد ، وسادرة في العلو في الأرض والفساد .
***
وهاهم الأمريكيون الذين نصبوا تمثال
الحرية على مدخل إمبراطوريتهم الصهيونية ، ينتهكون كل حقوق الإنسان في حق
هؤلاء الأسرى ، لتسقط عنهم أقنعة الزيف التي طالما تبجحوا بها .
***
ولقد صدق الكاتب الساخر ( برناندشو )
إذ قال ذات مرة ( يقولون إنني كاتب ساخر ،ولكن لم تبلغ بي السخرية أن أذهب
إلى أمريكا وأرى تمثال الحرية على مدخلها ).
***
ويا أيها المتفاخرون بجبروتهم ، القائلون : من أشد منا قوة ، تربصوا ، فستمضي
عليكم سنة الله في المستكبرين ( استكبارا في الأرض ومكر السيء ، ولا يحيق
المكر السيء إلا بأهله ، فهل ينظرون إلا سنة الأولين ، فلن تجد لسنة الله
تبديلا ، ولن تجد لسنة الله تحويلا ، أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان
عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة ، وما كان الله ليعجزه من شيء في
السموات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا ) .
فيارب لا تبعث إلي منيتي
**** إلى أن أرى الوعد المؤمل والنصرا
في نهضة بكرية عمريـــة **** تعيــد إلينـــا مجدنــــــــا تارة أخرى
المصدر