بسم الله الرحمن الرحيم

من أجل خطاب إسلامي عالمي


الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحابه ومن والاه وبعد :
إن الإسلام دين يرتكز على مجموعة من المبادئ والمثل والقواعد والأسس والتشريعات والنظم والتي يراد منها أن تكون أدوات ووسائل لتنظيم السلوك الإنساني في هذه الحياة من ناحية التفكير والاعتقاد والحركة والسكون والعبادة والعادة والمعاملة والسلوك وبما يحقق مطالب الروح والجسد ويؤمن حقوق الفرد والجماعة ويرتب علاقات الأفراد والجماعات والشعوب .
وهو من اجل ذلك دين ودولة ، وعبادة وقيادة ، وعقيدة وشريعة ، ولذلك لا يمكن لعاقل أن يتصور دولة إسلامية بغير دين كما لا يمكن أن يتصور إسلاما كهنوتيا جامدا جافا خاليا من توجيه المجتمع وسياسة الأمة .
وعلى هذا يجب أن يقال إن الإسلام : صلة بين العبد وربه ، وصلة بين العبد ونفسه ، وصلة بين العبد ومجتمعه ، وصلة بين العبد وبيئته ، وصلة بين العبد وسائر الحيوانات والكائنات الحية التي تحيط به ، وصلة بينه وبين الأشياء كلها حتى لو كانت جامدة لأن الإسلام قد وضع للإنسان مبادئ وتعاليم تنظم علاقته بكل ناحية من نواحي الحياة هذه :
1- فهو صلة بين العبد وربه تقوم على الإيمان بعبودية الإنسان وربوبية الواحد الديان وتعتمد على كلمة التوحيد الوطيدة الماجدة ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) وتقول للعبد ( ومن يسلم وجهه لله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى والى الله عاقبة الأمور ) وتجعله يرد قوله تعالى ( وجهة وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين * قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من أول المسلمين ) .
2- والإسلام صلة بين الإنسان ونفسه لأنه يعلمه كيف يطهرها ويزكيها وبذلك يصونها ويهديها فيقول له ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ) ويقول له ( فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) .
3- والإسلام صلة بين الإنسان وأسرته وقرابته ألم يقل القرآن ( وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) ( وآتي ذا القربى حقه ) ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى ) ألم يقل له رسول صلى الله عليه وسلم ( الأقربون أولى بالمعروف ) ألم يقل له ( إبدأ بمن تعول ثم الأقرب فالأقرب ) ألم يقل له ( خيركم خيركم لأهله ) .
4- والإسلام صلة بين الإنسان والناس مهما كانت صفتهم أليس من مبادئ الإسلام وتعاليمه ونصوصه الكريمة ( وقولوا للناس حسنا ) ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن ) ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) ( خير الناس أنفعهم للناس ) ( ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) ( الراحمون يرحمهم الرحمن ) ( الدين المعاملة ) ( الدين النصيحة ) ( لا دين لمن لا أمانة له ولا إيمان لمن لا عهد له ) ( إماطة الأذى عن الطريق صدقة ) ( الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ) ( والله لا يؤمن : قيل من يا رسول الله ؟ قال : من لا يأمن جاره بوائقه ) ( والله لا يؤمن : قيل من يا رسول الله ؟ قال : من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم ) .
5- والإسلام صلة بين الإنسان والحيوانات : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم (اتقوا الله في هذه العجماوات ) وألم يقل ( هم المؤمن دابته ) وألم يقل ( إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ) ألم يقل ( دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ) وألم يقل ( وفي كل كبد رطب صدقة ) وألم يخبرنا أن إحدى مومسات بني إسرائيل غفر لها لأنها أخرجت الماء لكلب يلهث .
6- والإسلام صلة بين الإنسان وبيئته التي تحيط به من أرض وسموات وما بينهما ألم يقل القرآن للمسلم موجها ( وفي الأرض آيات للموقنين ) ( وهو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور ) ( قل انظروا ماذا في السموات والأرض ) وألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم ( التمسوا الرزق في خبايا الأرض ) .

فكيف يقال بعد هذا كله إن الإسلام مجرد صلة بين العبد وربه ثم لا شئ وراء ذلك بغية تقزيم الإسلام وتحريف كلمه عن مواضعه ومن ثم إزاحته عن ساحة الحياة ليتحول إلى دين سلبي كهنوتي مقصور على طائفة من الأدعية والأوراد والطقوس الدينية ليسلبوه من وراء ذلك أهم صفة لهذا الدين ، وهي أن يكون زماما وقائدا وإماما يقود البشرية إلى الخير ويهديها إلى السعادة ويعصمها من الضلال والشقاوة .
وإن دول الاستكبار وفي مقدمتها أمريكا وخاصة بعد الفتن التي هزت جنبات العالم في الفترة الأخيرة وراحة ضحيتها سمعة المسلمين وجمال وجههم ، أقول : إن هذه الدول استغلت هذه الظروف القاسية والمحن العصيبة التي نمر بها فتجرأت لتطالب الدول الإسلامية بتغير مناهجها الدراسية كخطوة أولى لتتمشى مع هذا النهج السلبي والصورة الكهنوتية للأديان وتمشيا مع مقولتهم الانهزامية التي تدعو إلى ( ترك ما لله لله وما لقيصر لقيصر ) ولعل بعض هذه الدول ذو المواقف الرخوة والقيادات الهزيلة أبدت استعدادها لتغير مناهجها وفقا للسياسة الأمريكية الجديدة ، بل ربما البعض منها سارعت وغيرت لتأخذ المكافأة من تلك القوى الاستكبارية ، وإني استغل هذه المناسبة لأقول : إذا تجاوب المسلمون وانهزموا داخليا واستسلموا لليأس ورضخوا للضغط الأمريكي وحاولوا أن يرضوا قوى الاستكبار ظنا منهم أن شيئا من المسايرة قد يكون أقرب للحكمة فإن ذلك لن يشبع رغبة أعداءنا بل يطمعهم فينا وغداً سيطالبوننا بقلب مفاهيمنا وإعادة النظر في تفاسيرنا وربما بعد غدٍ سيطالبوننا بحذف أو تغير بعض الآيات التي تتحدث عن اليهود وتصفهم بالشر والحقد والعدوان ، وإلا فسيصفوننا بأننا نحرض على الإرهاب أو نحارب السامية .
لذلك من الضروري أن يعي المسلمون جميعا خطورة هذه المرحلة ويعلموا أن الذي يقيهم ويحقنهم بمصول تحميهم هو إلصاقهم بدينهم وتعرفهم على حقيقته واعتقادهم بأن هذا الدين لا يمكن أن يعزل عن الحياة لأنه دين ودنيا ، وعبادة وقيادة ، وكياسة وسياسة ، وعلم وعمل ، ونظام ودولة .
وحتى عبادات الإسلام على المسلمين أن يعلموا أنها ليست عبادات كهنوتية وبالتالي فهي بمعزل عن هذه الحياة ، إنما هي إضافة إلى كونها عبادات وشعائر وطقوسا وتلاوات وأذكار فهي في نفس الوقت توجيه وإرشاد وتعليم وتنظيم لأمور الدنيا والحياة ، فلو أخذنا الصلاة مثلا والتي يظن البعض أنها مجرد صلة بين الإنسان وربه ، هذه الصلاة لو تأملنا فيها كما أراد الإسلام وكما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) سنجد أنها جمعت بين العبادة والعمل وبين الدين والدنيا في وقت واحد ، ففي الصلاة عبادة عن طريق المناجاة والعروج الروحي ، وفي الصلاة قيادة وسياسة عن طريق الإمامة ، وفي الصلاة وحدة عن طريق الجماعة ، وفي الصلاة نظام عن طريق الاصطفاف وتسوية الصفوف وتناغم الحركات ، وفي الصلاة ضبط عن طريق التوقيت ، وفي الصلاة مساواة وعدالة عن طريق عدم التميز في الصفوف والوقوف على أي أساس من أسس التميز بين الناس كالمال والجمال والغنى والشرف والمقام وغير ذلك ، وفي الصلاة إضافة إلى هذا طهارة للحس والثوب والبدن والمكان عن طريق الاغتسال والوضوء وإزالة النجاسات واختيار المكان الطاهر ، وفي الصلاة أيضا طهارة للنفس عن طريق الدعاء والشعور بالله ومراقبته والخشوع والذل بين يديه والرجاء والخوف منه ، ولأن الصلاة كما قلنا ربطا بالدين بالدنيا نجد القرآن يحبك بين الصلاة وأمور الحياة حبكا شديدا فيقول ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ) بل حتى في أثناء الصلاة يوثق الإسلام الصلات بين محراب الصلاة ورحاب الإيمان ، فصحيح أن المسلم في صلاته يقف بين يدي ربه ويدعوه ويناجيه ويرتل قرآنا يتعبد به ولكنه في الوقت نفسه تلقنه هذه الصلاة درسا في صميم الحياة والمجتمع والعلاقات الدولية حتى .
فهو في صلاته يتلو قوله تعالى ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) وبناءً عليه يرتب اقتصاده وينظمه .
وهو في صلاته يتلو ( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) وعلى هذا الأساس ينظم علاقاته مع الآخرين .
وفي هذه الصلاة يتلو ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) ويبني أسس عدالته عليه كما أنه لا ينسى أن يتلو ( وإن تعفوا وتصفحوا فهو خير لكم ) ليضع نقاط الإحسان على حروفها ويُعَلِّم الناس الفضل والعفو .
وفي هذه الصلاة يتلو ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) وعلى هذا الأساس يحافظ على توازن القوى مع أعدائه ، كما لا ينسى أن يتلو فيها ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ) ليعلم الناس أن صلاته كما علمته أن يكون قويا فقد علمته أيضا أن يعفو ويصفح عند القوة والمقدرة ، وهكذا يتلو المسلم في صلاته النصوص التي تتحدث عن الحدود والقصاص ومعاقبة قطاع الطرق والمحاربين وجلد الزاني والقاذف وشارب الخمر وكقطع يد السارق إضافة إلى الفرائض في تقسيم التركات والإرث وما شابه ذلك .
فهي أمور كلها تنعكس على دنيا هذا المسلم ولكنها من إفرازات صلة الإنسان بربه في صلاته ، لذلك تجد هذه الصلاة تتدخل تدخلا مباشرا وكبيرا ومؤثرا في حياتنا ونظام مجتمعاتنا وترتيب حسابات اقتصادنا وسياسة أمتنا .
ثم إذا كنا مطالبين بتغير مناهجنا وإن شئت فقل صراحة بتغير مفاهيم ديننا بغية عزله عن الحياة فماذا نفعل بتلك النصوص القرآنية الصريحة الهاتفة بأن الإسلام دين للحياة والمجتمع وللدولة ، هل نحذفها من المصحف أم نعلقها ونحكم عليها بوقف التنفيذ تلبية لرغبة أمريكا وقوى الاستكبار العالمي ، ثم ماذا نصنع بعد ذلك وهل بإمكان أمريكا إن استجبنا لها أن تحمينا من الله يوم توزع علينا التهم يوم القيامة من قبيل ( ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الفاسقون – هم الظالمون – هم الكافرون ) .
ثم ماذا تنفعنا الدنيا كلها يوم يقول الله لنا : ألم تقرأوا في كتابي هذه المادة التي أخاطب فيها رسولكم محمدا صلى الله عليه وسلم ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) .
آلا فلتعلم قوى الاستكبار العالمي أننا معاشر المسلمين أفرادا وجماعات رعاة ورعية قادة وقواعد حكاما ومحكومين نقول لها ولأعوانها ولأذنابها وصنائعها : أننا لا يمكن بحال من الأحوال أن نجحد بربنا أو ننسى ديننا أو أن نعطل شريعتنا أو أن نفصل بين عقيدتنا وحياتنا ، وإذا آذتنا وهددتنا وحاربتنا كما تفعل هنا وهناك فلن نقول لها إلا كما قال سحرة موسى لفرعون متحدين :
( لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقضي ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى إنه من يأتي ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى جنات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ) .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .

أخوكم محمد معشوق الخزنوي
مدير مركز إحياء السنة بالقامشلي

الصفحة الرئيسة