اطبع هذه الصفحة


وأدوها حية

ماجد بن محمد الجهني

 
 الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وبعد:

امرأة أرسلت ابنها وفي يديه رسالة تحمل في طياتها هموم هذه الأم وزفرات فؤادها الحرى بسبب موقف زوجها من تزويج ابنتها تقول فيها : " ياشيخ إن زوجي يرد خطاب ابنتي دون سبب مقنع وتكرر هذا الأمر في أكثر من موقف مع أن من تقدم إليها هم ممن يرضى دينهم وترضى أماناتهم وقد عانيت في ذلك من زوجي أشد المعاناة بسبب تعنته في هذا الأمر فأرجو منكم مساعدتي في إيجاد حل لمثل هذه المشكلة".

إنها صورة لمأساة تتكرر في أكثر من مكان ، صورة بغيضة لنوع جديد من أنواع الوأد البغيضة التي حرمها الإسلام ، ولئن كان الجاهليون قديما وأدوا الأنثى بدفنها وهي حية حتى تلفظ أنفاسها الأخيرة ظلما وعدوانا بلا ذنب جنته سوى كونها أنثى ، فإن بعض الآباء وبعض الأولياء الظلمة يمارسون لونا جديدا وعنيفا من ألوان الوأد المحرم شرعا ألا وهو العضل وما أدراكم ما العضل ؟

العضل وأد للآمال والطموحات ، وقتل للحقوق والتطلعات ، إنه حرمان لحق من الحقوق الشرعية التي كفلها هذا الدين العظيم لتلك المرأة الضعيفة التي استرعى الله عزوجل الأولياء على حقوقها ليقوموا بصيانتها والحفاظ عليها وتأديتها على الوجه الذي يرضيه عزوجل فذهب بعضهم إلى التلاعب بها وتضييعها دون مراعاة لكرامة هذه الإنسانة ودون استشعار لآدميتها و أحاسيسها ومشاعرها فهي بشر كسائر البشر لها آمال وآلام ولها طموحات وأمنيات ، تحلم كغيرها بالزوج الرحيم وبالمسكن الكريم وتحلم بأن يكون لها في يوم من الأيام منزلا تسكن إليه وأطفالا تحن عليهم صغارا ليحنوا عليها كبيرة ولكن يا للأسف يأتي هذا الأب أو هذا الولي وبكل بساطة يدوس على أحلامها ويحطم مشاعرها بكل عنجهية وغلظة فيعضلها عن حقها ويسقيها كأس الحسرات فتتجرعه وهي تتجرع معه ألوان الزفرات و الحشرجات التي تبين عن فؤاد مكلم وقلب واله مفجوع لايستطيع أن يبوح بما يختلج داخله بسبب مانع الحياء والخوف فيالها من مسكينة وما أعظم جناية مثل هؤلاء الأولياء على مولياتهم؟؟

لقد حرم الله تبارك وتعالى العضل بنص الكتاب المبين وبنص سنة سيد المرسلين عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم فلقد قال الله عزوجل : ( فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن ) ومناسبة نزول هذه الآية كانت في قصة الصحابي الجليل معقل بن يسار رضي الله عنه حيث إنه زوج أخته لرجل فطلقها زوجها طلقة رجعية وتركها حتى انقضت عدتها وأراد زوجها إرجاعها فحلف معقل ألا يزوجها فنزلت هذه الآية والحديث رواه البخاري رحمه الله ، وعند أبي داوود هذه الزيادة عن معقل قال : " فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه ".

وهذا نص صريح في أنه ليس من حق الولي أن يمنع موليته في نكاح من توافرت فيه الشروط الشرعية ، وأن المانع من النكاح يجب ألا يكون مرتبطا بحاجة شخصية أو علة نفسية بل يجب أن يكون المانع شرعيا فإن لم يكن هناك مانع شرعي معتبر فلا حق للولي أن يمنع موليته من نكاح من ترغب ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " فليس للولي أن يجبرها على نكاح من لاترضاه ، ولايعضلها عن نكاح من ترضاه إذا كان كفؤا لها ، باتفاق الأئمة وإنما يجبرها ويعضلها أهل الجاهلية والظلمة ، الذين يروجون نسائهم لمن يختارونه لغرض ، لا لمصلحة المرأة ، ويكرهونها على ذلك يخجلونها حتى تفعل ، ويعضلونها عن نكاح من يكون كفؤا لها ، لعداوة أو غرض ، وهذا كله من عمل الجاهلية والظلم والعدوان ، وهو مماحرمه الله ورسوله ، واتفق المسلمون على تحريمه " مجموع الفتاوى – ج / 32 ص/ 52-53 .

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير " فيالله العجب كم من الفتنة والفساد الكبير الذي تسبب به العاضلون لبناتهم في أرض الله عزوجل ، ألم يستشعر مثل هؤلاء الأولياء أنهم بمثل هذه الجناية يقتلون مولياتهم في اليوم الواحد مئات المرات ، ألم يفكر هذا الولي وهو ينعم بحياة هادئة في بيت كريم وزوجة صالحة وأولاد بررة ألم يفكر في أن موليته هذه لها نفس الحقوق التي يتمتع بها هو ، هي أيضا تتمنى بيتا هادئا وزوجا صالحا وأولادا بررة ، هي كيان وإنسان ، هي مخلوق فطر الله فيه من الغرائز وركبها كما ركبها في غيرها ، فهل يجوز عقلا وعرفا وشرعا وقانونا أن تصادر حقوقها لأنها تستحي أن تتكلم أو لأنها تخجل من البوح بما في صدرها ؟؟

يقول الشيخ صالح بن حميد حفظه الله : " العضل مسلك من مسالك الظلمة الذين يستغلون حياء المرأة وخجلها وبراءتها وحسن ظنها وسلامة نيتها ، وما ذلك إلا لعصبية جاهلية أو حمية قبلية أو طمع في مزيد من المال أو أنانية في الحبس من أجل الخدمة " .

لقد نهى الله عزوجل عن عضل المرأة ومنعها من الزواج تحت أي مبرر من المبررات فما بال بعض الآباء قد صمت آذانهم حتى كأنهم لايسمعون شيئا ، ألم يقرأوا قول الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل : ( يا أيها الذين آمنوا لايحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ).

إن العاضل لابنته أو موليته من الزواج ظالم ظالم ظالم ظالم ومهدد بإسقاط حق الولاية عنه لأنه لم يقم بأداء الأمانة التي استرعاه الله عزوجل عليها على الوجه الصحيح فلقد ذكر أهل العلم رحمهم الله عزوجل أن الولي إذا امتنع من تزويج موليته بكفء رضيته سقطت ولايته ، وانتقلت لمن بعده الأحق فالأحق ، أو انتقلت للسلطان لعموم حديث : " فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لاولي له" والحديث أخرجه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها وقال الترمذي : حديث حسن .

ويقول أهل العلم أيضا : " إذا تكرر من الولي رد الخطاب من غير سبب صحيح صار فاسقا ودخل عليه النقص في دينه وإيمانه " .

إنني أذكر الأولياء الذين يعضلون مولياتهم عن حقوقهن الشرعية أن يتقوا الله وأن يعلموا أن هذه المولية ستقف خصيمة لهم يوم القيامة بين يدي ملك الملوك في يوم لاينفع فيه مال ولابنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، وعندها سيتمنى أنه لم يتسلم ولاية على امرأة ليوم واحد وذلك لما يراه من نتائج ظلمه وقسوته وجبروته في الدنيا تجاه هذه الإنسانة التي قهرها وقتلها في الدنيا القتلة تلو القتلة دون مراعاة لمشاعر قلب يتقلب على جمر الغضى لظلم القريب وقلة الناصر.
 

صليل القلم
  • صليل القلم
  • مختارات
  • الصفحة الرئيسية