اطبع هذه الصفحة


سيأتون يا ولدي

ماجد بن محمد الجهني
الظهران

 
العم أبومحمد رجلٌ مهيبٌ جاوز في عمره الثمانين ، وروحه المرحة لم تتجاوز العشرين ، وإذا قُدِّر لك أن تجلس معه فستمر بأحوال عجيبة تتقلب فيها بين الضحك والبكاء ، والفرح والحزن ، والصلابة والضعف.
العم أبومحمد يجمع لك الدنيا بكل تناقضاتها في لحظات تعيشها معه فهو القوي الصابر ، وهو الضعيف الحزين بمجرد مرور اسم أحد أبنائه أمامه.

لقد تزوج أبومحمد امرأةً من جماعته كما يقول ، وعاش معها أياماً جميلةً في حياةٍ بسيطة يحيط بها من كل جانب شظف العيش وقلة ذات اليد ومع ذلك فالسعادة تحيط بالحياة من كل جانب خصوصاً بعد أن رُزقوا أطفالاً زينوا الحياة أكثر بإطلالتهم البهية.

تعاقبت السنون على أبي محمد بحلاوتها ومرارتها ، ولكن أقسى لحظات عمره كانت حين فارقته رفيقة دربه بعد معاناة مع مرض عضال لم يُمهلها طويلاً ، وبعدها تفرغ أبو محمد لأبنائه الثلاثة محمد وسالم وفواز.

أبو محمد قضى ما بقي من سنوات قوته وقفاً على أبنائه الثلاثة تعليماً وتربيةً وإصلاحاً حتى شبوا عن الطوق وتخرجوا من الجامعات حيث أصبح محمدٌ طبيباً للأسنان (ولكن)؟؟وأصبح سالم معلماً (ولكن)؟؟ وأما فواز فاتجه إلى قطاع الأعمال الحرة وهو يشترك مع أخويه في (لكن) التي سأحدثكم عنها وأتمنى أن يكون حديثي بنفس المرارة التي تحدث بها عنهم أبو محمد.

أما (لكن) فسبب وجودها أن هؤلاء الرجال الذين فقدوا معنى المروءة والرجولة تنكروا لوالدهم الذي بذل حياته من أجلهم ، وبعد زواجهم وتسنمهم للمراكز الاجتماعية المرموقة رأوا فيه رجلاً ثقيلاً بوجوده وكبر سنه وأمراضه فأصبح كل واحدٍ من هؤلاء يرميه على الآخر إلى أن استقرَّ بهم الحال على خيانته في حال ضعفه ومسكنته وحاجته ليلقوا به إلى دهاليز إحدى دور العجزة و(بالتي واللتيا) يتصل الواحد منهم على والده.

أبومحمد يقول: إن أبنائي يخادعونني ويقولون لي :إننا وضعناك في المشفى لأن الأطباء هم من قرروا ذلك وأنا يابُني أعلمُ جيداً بأنني لستُ في المشفى وإنما في دار المسنين والعجزة لأنني لستُ درويشاً ولا غبياً حتى يضحك علي هؤلاء العاقين الذين ما رحموا ضعفي وحالي ولكن لا تخف يابُني موعدهم هنا قريب ولن يطول.

قلتُ لأبي محمد وماذا تقصدُ بقولك عن أن موعدهم قريب ولن يطول؟ ردَّ عليَّ بجوابٍ هزَّ كياني ، وأغرقَ عينيَّ في بحرٍ من الدموع ؛ فلقد قال والدموع تتساقط من عينيه الآسرتين: لقد دعوتُ اللهَ عليهم من أعماق قلبي وأنا أعلم علم اليقين أن الله لهم بالمرصاد وسيأتي بهم إلى هذا المكان في يومٍ من الأيام على أيدي أبنائهم ، وأنا أحمدُ اللهَ تعالى أن أمَّ محمد ماتت قبل أن يأتي عليها هذا اليوم ليأتيَ بها العاقون هؤلاء إلى مثل هذا المكان الذي نموت فيه يا ولدي يومياً عشرات المرات.

إن هؤلاء يا ولدي سلبوني أغلى وأعظم حلم ، فلقد حبستُ نفسي عليهم بعد وفاة أمهم ولم أتزوج النساء مخافة أن تأتي الظلوم التي تهينهم وتنافسهم على أبيهم أو تكون سبباً في بعده عنهم ، وكنت أفعل ذلك والأمل يحدوني في أن يكونوا لي ذخيرةً وسنداً عند الكبر والحاجة ولكن للأسف فقد عضوا اليد التي امتدت إليهم بالعطاء وأعقبوني بعد المشيب حسرةً لا تنقطعُ إلى أن ألقى الله تعالى الذي أبثه ضعفي وحزني وشكاتي.

أبومحمد قرائي الكرام عنوان قصة حقيقية بينها عشرات القصص المماثلة والتي تنضح بالأسى والحزن ، وتتكلم فصولها بلغة مأساوية عن موت الضمير ونكران الجميل ، وتغير أخلاقيات بعض أبناء المسلمين إلى مستوىً مؤسف ، وهو الأمر الذي يجعلنا ندق ناقوس الخطر ونعيد عبارةً نحن أحوج ما نكون إليها تقول بصوت عال : أدركوا المجتمع من التفكك الأسري.

 

صليل القلم
  • صليل القلم
  • مختارات
  • الصفحة الرئيسية