اطبع هذه الصفحة


أمة لا تموت

ماجد بن محمد الجهني

 
هذه الأمة المحمدية أمة عجب كتب الله لها السناء والرفعة والنصر والظهور على كل من ناوأها وحاول النيل منها.

والأمر الأعجب في هذه الأمة أنها لا تزداد مع سياط النكبات، ولهيب الأزمات، إلا قوة وعزة، واستعلاء، فالمحن تصقلها، والكوارث تنبهها، من غفوتها وسباتها، ولو أن ما مر بهذه الأمة المرحومة، من الأزمات مر على أمة أخرى لكانت نسيا منسيا، ولتوارت في غياهب الماضي، وسراديب الآثار، ولرأيتها أثراً بعد عين، وذكرى بعد ضجيج، ولكنها أمتنا التي تختلف عن جميع الأمم، والتي أوجدها الله للقيام برسالة عظيمة تجاه البشرية، لأنها الأمة المجتباة الرائدة، التي تستحق بالفعل متى ما قامت بما أوجب الله عليها أن تكون رائدة العلم والتطور والسلام، وقائدة الحضارة، لأنها تملك الرصيد العقدي والرصيد الثقافي والرصيد الخلقي والمواقع الجغرافية والطاقات البشرية التي تخولها للقيام بدور القيادة والريادة، ومن هي الأمة التي تستحق ذلك غير أمة القرآن، وغير أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟.

إن الكوارث بالنسبة لهذه الأمة العظيمة، ما هي إلا صعقات إحياء، لا صعقات إماته، لأن هذه الأمة المبروكة قد تمرض، وقد تضعف، وقد تتخلف عن ركب الأمم الأخرى، وقد يعتري الوهن أوصالاً كثيرة من جسدها، كما هو مشاهد في الأزمنة المتأخرة، ولكنها وبرغم ذلك لا تموت، بل تظل أمة الأمل المشرق مهما احلولك الظلام، واشتد عليها الظلم والتسلط من أعدائها.
لقد أحاط أعداء هذه الأمة قديماً برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين في المدينة، إحاطة السوار بالمعصم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه يحفر الخندق، وهناك والمشركون محيطون بمكة، وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنوز فارس والروم، فتشربت هذه البشائر النفوس المؤمنة، وفرحت رغم الأزمة وانجفل المضعضعون والمخذولون يقولون استخفافا " أحدنا لا يستطيع الخروج لقضاء حاجته ومحمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر" ولسان حالهم وقالهم (ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) ,ومع ذلك تحقق الوعد ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال.

واستمرت هذه الأمة المرحومة المباركة في مسيرتها تمخر عباب البحر الزاخر بأمواجه المتلاطمة متحدية كل المحن، وكل الفتن، واستهل وجه الإسلام ضاحكا في فتوحات في شرق الأرض وغربها، في عهد الخلفاء المرضيين ومن بعدهم من خلفاء بني أمية وبني العباس، حتى جاءت كارثة المغول وما حدث من رزية في بغداد، كانت أعظم ما حل بالمسلمين من المذابح في تأريخهم القديم والحديث، حتى جرت أزقة بغداد بأنهار الدم وحتى اختلف العلماء في عدد القتلى حيث إن بعضهم أوصل عدد القتلى إلى ثماني مئة ألف، وبعضهم أوصلها إلى المليون قتيل. هذا عدا ما تم تدميره من ممتلكات حضارية، وثروات علمية، مازال أثرها على عالمنا الإسلامي إلى يومنا هذا، وأظلم جبين الأمة حتى قيل لن يتهللا، وحتى قيل إن العالم الإسلامي لن تقوم له قائمة بعد ذلك؟؟؟ ولكنها سنوات يسيرة جدا وتتحرك في هذه الأمة روحها الدافقة، وعزيمتها الصادقة، فيتحول الحزن إلى فرح، والذل إلى عزة، والألم إلى أمل يتلوه عمل، فتتساند السواعد، وتتعاضد المشاعر، ويجتمع العلماء والأمراء، والحاكم والمحكوم، والصغير والكبير، على نور الله وكتاب الله وسنة رسول الله، حاديهم خوف الله، ومحرك مشاعرهم الحب في الله، والتوادد في الله، والتغافر في الله، وحسن الظن فيما بينهم، فتخرج الجيوش التي انكسرت قبل فترة وجيزة في بغداد لتكسر شوكة التتار في بلاد الشام، وينحصر المد التتتري، ويقضى على أكابر مجرميه، ويدخل أهل بلاد التتار في دين الله أفواجا، وبعدها بسنوات عادت الحملات الصليبية، واحتلت بيت المقدس، ودمرت وقتلت وسبت في بلاد الشام خلقا لا يحصيهم إلا الله تبارك وتعالى، ولكن وبعد سنوات أيضا دخلت خيول الفتح المظفر، بقيادة صلاح الدين الأيوبي إلى نفس الساحة التي أزهقت فيها أرواح عشرات الآلاف من المسلمين، دخلت والرعايا النصارى ينظرون لكنهم لم يلقوا المصير الذي لقيه المسلمون على يد أعدائهم، لأن الفرق والبون شاسع بين حضارة الرحمة والخلق والنبل، وبين حضارة الشر والانتقام والقتل.!

إن حاضر الأمة اليوم رغم مرارته، يجب ألا يقودنا إلى اليأس والقنوط والإحباط، لأن الأعداء يتمنون أن يظفروا منا بهذا الأمر، ليقتلوا فينا روح التحدي، وإرادة البناء والإصلاح لجميع مواطن الخلل، وهم يريدون منا أن نسلم بالأمر الواقع، فلا نفكر في مستقبل ولا نخطط له، ونلتفت إلى مواطن خلل فنصلحها، ومعاطن زلل فنتركها.

ولهذا لابد علينا كمسلمين نؤمن بأن الله عزوجل هو المتفرد في هذا الكون، أقول يجب علينا أن نؤمن بقضاء الله وقدره، وأن نعود إليه ونتوب من جميع ذنوبنا وأن نصلح أحوالنا معه عزوجل، وأن نضع أيدينا بأيدي بعضنا وأن نتوحد على كتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ونستضيء بنور علمائنا الثقات الأثبات الراسخين في العلم، وألا نصغي للممارسات الغوغائية والتصرفات الفردية، وأن نشيع الأمل، ونجدد العمل، ونسارع في الخيرات، وندعوه عزوجل رغبا ورهبا مخبتين له، منيبين إليه، أواهين بين يديه، وأن نستشعر دائما أن كل من عادى هذه الأمة، أو حاربها، أو كاد لها، أو أراد نقيصتها، أو مهانتها، أو استئصال شأفتها، فهو بعون مدحور منكوس، والشواهد في التأريخ على ذلك أكثر من أن تحصى، وأحداث الزمان على كر العصور عند الأجيال لاتنسى.

لقد جائت هذه الأزمات لتنبه هذه الأمة التي جربت مجموعة كبيرة من الحلول لم تزدها إلا خبالا، فلقد شاء الله عزوجل أن تسقط جميع الشعارات الزائفة، وإلا فأين القومية الناصرية وأين عبارات "سنرمي إسرائيل في البحر وجوع ياسمك" وأين شعارات الاشتراكية العربية، وأين جعجعات البعث المخذول، وأين الأطروحات الليبرالية التي مارست زمنا طويلا دور الملمع للحضارة الغربية التي فضح الله عزوجل على رؤوس الأشهاد زيف دعاواها، وكذب شعاراتها، التي لا تعترف إلا بمبدأ المصلحة الضيقة، ولا تعترف إلا بقانون الغاب، الذي يقول " إن الغاية تبرر الوسيلة".

وأخيراً رغم جعجعة المستكبرين، وغطرسة الظالمين، إلا أن اليقين يزداد رسوخا بعون الله ثقة في موعود رب العالمين " وكان حقا علينا نصر المؤمنين" ولن يبقي الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام وأهله وذلا يذل الله به الكفر وأهله ," ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله" فالأمل الأمل والعمل العمل يا أمة الأمل والعمل.
 

صليل القلم
  • صليل القلم
  • مختارات
  • الصفحة الرئيسية