اطبع هذه الصفحة


وللهداية النبوية إعجازها الباهر في الجوانب الأمنية الوقائية

أ.د. ناصر احمد سنه/ كاتب وأكاديمي من مصر

 
لا يظنُ ظانٌ أن الإسلام ـ قبل وأثناء وبعد ـ إنشاء الدولة، والإسلام دين ودولة، دعوة وسلطان، شعائر وشرائع، عبادات ومعاملات الخ، قد أقامها خبط عشواء، حشاه. لقد كان المسلمون الأوائل الأفذاذ قد نهلوا من قرآن ربهم، وهداية رسولهم. لقد تربوا علي: كيف يعدون لكل شيء عُدته؟، وكيف يأخذون بالأسباب ثم يتوكلون علي رب الأسباب؟، وكيف يتحسبون لكل حدث وحديث؟، وكيف وأين يضعون أقدامهم، ويحددون وجهتهم؟، وكيف يمزجون بين التحلي بإيمانهم وشجاعتهم مع تبصرهم وحذرهم وحيطتهم؟، وكيف يحسنون اختيار مَن تقدم لهم الدعوة أولاً؟، وما هي الأساليب التي يتم التعامل بها مع المستجيبين؟ وكيف يتم إبلاغ الدعوة إلى العامة؟ وكيف ينجزون مهمتهم، ويقومون نتائجهم، ويعدلون خطتهم؟. وهل تخرج قواعد وأصول الفنون الإدارية والسياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية الحديثة عن تلك؟. والسطور القادمة تشير ـ علي عجالة وبإيجازـ لإعجاز الهداية النبوية، وتربيتها الصحابة علي الوعي والدراية بالجوانب الأمنية الوقائية (من بدء الدعوة، وحتى الهجرة النبوية الشريفة).

الوعي والدراية بالجوانب الأمنية الوقائية.. استجابة لضرورة واقعية ودعوية.

-لقد اقتضت سنة الله في خلقه التدافع بين أهل الحق، وأهل الباطل، وبين أصحاب الرسالات والدعوات، وأهل الغي والضلالات. فمرحلة البدء تتميز بتحلي أهل الحق والدعوة بالحيطة والحذر والتكتم, ذلك لأن أهل الباطل ـ خشية علي مصالحهم وأهوائهم وأفكارهم الباطلةـ سيقفون لهم بالمرصاد، وسيحاولون القضاء على المعتقدات وأصحابها، والأفكار الجديدة وأهلها، وهم لما يشتد عودهم، ولم يكثر أتباعُهم بعد (راجع د. إبراهيم علي محمد أحمد: في السيرة النبوية..قراءة لجوانب الحذر والحماية، كتاب الأمة ،العدد:54، رجب 1417هـ).‏
- بدأ رسول الله صلي الله عليه وسلم دعوته سرًا، وكان دقيقًا في كل خطواته، وحذرًا يقظًا في كل تعاملاته، وبهذا التخطيط والتنظيم استطاع أن ينتصر على جميع أعداء الإسلام.‏
- المتتبع لسيرته صلى الله عليه وسلم يجد أن جانب الحذر والتحوط واضحًا بادياً طوال المرحلة الأولي من بدء الدعوة الإسلامية. و(لا ريب أن تكتم النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته خلال السنوات الأولى، لم يكن بسبب خوفه على نفسه، فهو حينما كُلِّف بالدعوة ونزل عليه قوله تعالى: (يا أيها المدثر)، علم أنه رسول الله إلى الناس، وبذا كان يؤمن بأن الإله الذي ابتعثه وكلّفه قادر على أن يحميه ويعصمه من الناس.‏ لكن الله عز وجل ألهمه، ¬والإلهام للرسول وحي،¬ أن يبدأ الدعوة في فترتها الأولى بسرية وتكتم، وأن لا يلقي بها إلا إلى مَن يغلب على ظنه أنه سيصغي لها، ويؤمن بها، تعليمًا وإرشادًا لمن بعده إلى مشروعية الأخذ بالحيطة والأسباب الظاهــرة، وما يقرره التفكير والعقل السليم من الوسائل التي ينبغي أن تتخذ من أجل الوصول إلى غايات الدعوة وأهدافها.‏ (د. محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة، دار الفكر ، ط 2،1400هـ، ص 94). ‏

مراعاة الجوانب الأمنية الوقائية في بدء الدعوة الإسلامية
-كان صلى الله عليه وسلم يجيد اختيار من يدعوهم (نوعاً وأهلية)، متحرياًً الدقة المتناهية، والحيطة. ذلك لأن أولئك المستجيبين للدعوة آنذاك، هم الذين تقع عليهم أعباؤها ومسؤولياتها، فلابد أن يكونوا من خيار المجتمع.. صدقًا، واعتدالاً، ومروءة، ونخوة، واستقامة، ليكونوا أهلاً للقيام بتبليغ الدعوة، وتحمل تبعاتها بكل تجرد وإخلاص لله تعالي.‏
- وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم يعلم أن أي خلل في التصرف، أو تسرب معلومة، يمكن أن يؤدي إلى نتائج سلبية من شأنها التأثير على مستقبل الدعوة. إن أول من دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم: زوجه السيدة خديجة، وعليّ بن أبي طالب، ومولاه زيد بن حارثة، وحاضنته أم أيمن(البخاري، باب بدء الوحي، ج1،ص:2-3)، رضي الله عنهم أجمعين.. والمتأمل في هؤلاء النفر الكريم، يجدهم تضمهم أسرة واحدة، هي أسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.‏ هم أقرب الناس إليه، وأعرفهم به، وبصدقه، وإخلاصه، وحسن سيرته، لعشرتهم له، وهذا مما يجعلهم يؤمنون عن اقتناع ويقين، وهو ما حدث فعلاً.. وهذا النوع من الإيمان هو ما تتطلبـه المرحلة، فهـؤلاء يكتمـون السـر ولا يفشونه، ويساعدونه في تحمل أعباء الدعوة، ويخففون عنه وطأة معاناتها، ولا يثقلون كاهله بأعباء ثانوية.‏
- ومما يدلل علي حسن الاختيار ذلك الموقف الباهر للسيدة خديجة عند بداية نزول الوحي علي رسول الله صلي الله عليه وسلم: (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي... لقد خَشِيتُ على نفسي)، كان ردها رضي الله عنها : (كلا، والله ما يُخْزِيكَ اللهُ أبدًا، إنك لَتَصِلُ الرَّحِم، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ الـمَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ على نوائبِ الحق) (ابن هشام: السيرة النبوية، ج1، ص:238).. ولم تكتف بذلك، بل انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، الذي طمأن رسول الله صلى الله عليه و سلم، وهدأ من روعه، وأخبره بأن الذي يأتيه هو الناموس الذي كان ينزل على موسى(الطبقات الكبرى، لابن سعد، ج1،ص:142).. موقف أعان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزاده ثقة أن ما يأتيه حق، فمضي في طريقه بعزم وحزم.. فضلاً عن مواساتها رضي الله عنها للرسول، بمالها وجاهها.‏ وأما زيد فقد خرج معه إلى الطائف، وكان رفيقه، ومؤازره في تلك الرحلة، وكان يقيه بنفسه من حجارة الصبية، والسفهاء(البداية والنهاية لابن كثير،ج 3،ص:174).‏ أما علي فقد نام على فراشه عند الهجرة، وهو \"عمل فدائي\" عمِّي على قريش، وخدعهم أيما خدعة.
- هذا النفر الكريم كانوا أول نواة للدعوة، (مما حقق تأمين جبهته الأسرية الداخلية، فلا أحد سيسرب معلومات عن تحركات، ولقاءات من يترددون عليه، وقد يكون البيت موضع الوثائق الخاصة بالدعوة) مما ساعد على الانطلاق من البيت إلى خارجه، وفوت على الأعداء سلاح كان يمكن أن يستخدموه ضده، عندما يعرض الدعوة عليهم، فيقولوا له مثلاً : اذهب وقوّم بيتك أولاً، ثم ائتنا ثانيًا!‏
وكانت هدايته الباهرة في اختيار دار الأرقم
- وقع اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم على دار الأرقم، لتكون مقرًا غير معلن للمستجيبين من المؤمنين (ما يربو على الثلاثين.. لزمهم تعلم أمور دينهم، ولقائهم بنبيهم الخ)، وذلك لتفردها بعدة صفات، وميزات منها:‏
1- اختار الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأرقم ابن أبي الأرقم، لوقوعها بمعزل أسفل جبل الصفا، وكانت غير مكشوفة لأعين الطغاة ومجالسهم ومراقبتهم (السيرة النبوية لابن هشام، ج1،ص:253)، وهي محاطة بالسرية، ولا تحتاج عملية الوصول إليها، أو الخروج منها، إلى كبير عناء، أو احتياطات معقّدة، مع صعوبة رصد ومراقبة القادمين إليها والخارجين منها.‏
2- ليس بالدار موضع قد يستغله أعداء الدعوة، فيطلعوا من خلاله على ما يدور بداخلها، وهذا مما يجعل ما بداخلها بعيدًا عن أعين الأعداء.. يضاف إلى ذلك، أن صاحبها الصحابي (الأرقم)، لا يمكن أن يبوح بسر إعطائه هذه الدار للمؤمنين، هذا بخلاف ما إذا كانت الدار لكافر.‏
3- لم يكن الأرقم معروفًا بإسلامه، ولم يعلنه بعد، فما كان يخطر ببال قريش أن يتم لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بداره. فضلاً عن أنه كان فتى عند إسلامه (في حدود 16 من العمر). ولا يتوقع أن تبحث قريش في بيوت الفتيان من أصحاب الرسول، بل يتجه تفكيرها إلى كبار الصحابة رضي الله عنهم. هذا إلى جانب أن الأرقم من بني مخزوم، التي كانت تحمل لواء الحرب ضد بني هاشم، فلو كان الأرقم معروفًا بإسلامه، لصعب أن يكون اللقاء في داره، لأن هذا يعني أنه يتم في قلب صفوف العدو(منير محمد الغضبان: المنهج الحركي للسيرة النبوية، مكتبة المنار، ط 6، ص49).‏
4- لم يرد ¬أن قريشًا داهمت ذات يوم هذا \"المقر السري\"، بل أقصى ما توصلت إليه هو شكها أن يكون اللقاء في دارٍ عند الصفا. ومما يدل على ذلك، أن قياديًا مثل \"عمر بن الخطاب\"، رضي الله عنه، عندما أراد إعلان إسلامه، لم يعرف مكان النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كانت تلك الدار معلومة لدى قريش، لما سأل عنها، بل لذهب إليها مباشرة.. وهذا يظهر مدى حرص الصحابة رضي الله عنهم على إخفاء خبر هذه الدار، فلم يبوحوا بها إلى أحد سوى المسلمين فقط.‏
5ــ كانت براعة عملية تنظيم الدخول والخروج (وهي تعد من أخطر الجوانب الأمنية، التي يؤدي إغفالها إلى كشف ومعرفة المقر) قد ساعدت على الاحتفاظ بسرية المقر. وهذه الدقة البارعة، تتبدي من خلال موقفين: ‏الأول، لسيدنا \"علي\" مع سيدنا \"أبي ذر\"، رضي الله عنهما. فعندما أراد سيدنا عليّ أخذ سيدنا أبي ذر إلى دار الأرقم، لمقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم، اتفق معه على مصطلح معين في حالة وجود مراقبة، أو متابعة من قِبَل الأعداء، فقال له : (إن رأيت أحدًا أخافه عليك، قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي)، وفي لفظ : (كأني أريق الماء، فامض أنت) (ابن الجوزي: تاريخ عمر بن الخطاب، مطبعة التوفيق، مصر، ص:10). بذا يتجلى الاهتمام بعملية الذهاب إلى المقر، فهو يدل على أن عليًا بن أبي طالب، رضي الله عنه، كان يراقب الأعداء أثناء ذهابه، فإذا رأى من يراقبــه غيَّر وجهتــه، وأمـــر أبا ذر ¬هنا¬ أن يغير وجهته، بقوله: (فامض أنت).‏ أما الموقف الثاني، فلأم جميل مع سيدنا أبي بكر رضي الله عنهما. فعندما أخذت أم جميل وأم الخير سيدنا أبا بكر رضي الله عنه، إلى دار الأرقم، قال ابن كثير: (فأمهلتا ¬أي أم جميل وأم الخير¬ حتى إذا هدأت الرِّجْلُ، وسكن الناس، خرجتا به، يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم)(ابن كثير، البداية والنهاية، ج3، ص:30)..‏
6- ومن جوانب الحماية التي روعيت في دار الأرقم، تصميم الباب الذي ترك فيه شقوق / فتحات¬ (عين سحرية) يمكن من خلالها مشاهدة مَن بالخارج، ومعرفة هويته، ومن ثم يتم التصرف، وفقًا لذلك. يظهر لنا ذلك في قصة إسلام سيدنا عمر رضي الله عنه، حين طرق الباب، فقبل أن يُفتح له، نظر أحد الصحابة من خلل الباب، فتأكد من هوية الطارق، بأنه عمر، جاء متقلدًا سيفه فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه و سلم (ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3،،ص:86، دار بيروت للطباعة).‏
7- التصرف السليم إبان حالات الطوارئ، ضروري وهام، ومكملاً للالتزام بالمنهج الأمني، فما قام به النبي صلى الله عليه وسلم تجاه سيدنا عمر، حينما دخل دار الأرقم، يعد تصرفًا مهمًا ودقيقًا.. فأخذ بمجامع ثوب عمر، وحمائل سيفه، وقال له: (ما أنت بمنته يا عمر، حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزله الله بالوليد؟) (علي برهان الدين: السيرة الحلبية، المطبعة الزهرية،1320هـ، ج1،ص:36)‏. فمنعه صلي الله عليه وسلم من استخدام سلاحه، وسهل ردعه وترهيبه.

مراعاة الجوانب الأمنية الوقائية عبر تكوين مجموعات دعوية صغيرة

- قام الرسول صلى الله عليه وسلم بإنشاء ما يعرف بالمجموعات الصغيرة (ثلاثة أو خمسة أشخاص). ذلك لأن فترة بدء الدعوة تستلزم قلة الاجتماعات والمجتمعين.. حفاظًا عليهم وحماية لدعوتهم، ومنعًا لتسرب المعلومات، ومما يجعل ترتيب اللقاء أمرًا ميسورًا، وذلك لسهولة الحصول على المقر. كذلك فإن هذا العدد الصغير ليس ملفتًا للنظر، ولا مثيرًا للشبهات.
- تلكم المجموعات الصغيرة غايتها: تلقي تعاليم ومناهج الدعوة وممارسة شعائرها، وتحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع المسلم. ولقد لجأ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إرسال بعض الدعاة إلى الأسر المؤمنة ليعلموهم القرآن الكريم، وينقلوا إليهم أخبار وتوجيهات الرسول صلى الله عليه و سلم.. يتضح ذلك فيما رواه ابن إسحاق عن قصة إسلام عمر في حديث طويل جاء فيه : (فرجع عمر عامدًا إلى أخته وخَتَنِه، وعندهما خباب بن الأَرَت، معه صحيفة فيها مطلع سورة طه يُقرئهما إياها..) (ابن الأثير: الكامل في التاريخ:ج2، ص:15، بيروت).‏فهذه المجموعة تتكون من ثلاثة أشخاص يقوم فيها سيدنا خباب بتعليم سعيد وزوجته فاطمة رضي الله عنهم القرآن.‏
- إن أداء الصلاة جماعة في مكان عام واحد باستمرار، وانتظام، ملفت للانتباه في هذه المرحلة الأولية، مما قد يؤدي إلى كشف الجماعة المسلمة، وتفاديًا لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه يؤدون الصلاة في شكل جماعات صغيرة متفرقة، قال ابن إسحاق:(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى شِعاب مكة وخرج معه عليُّ بن أبي طالب ¬وفي رواية زوجه خديجة¬ مستخفيًا من أبيه أبي طالب، ومن جميع أعمامه، وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها) (سيرة ابن هشام، ج1،ص:246). فهذه جماعة من جماعات الدعوة، تضم قائدها، وابن عمه، وزوجه لتأدية شعيرة الصلاة. (وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا إلى الشعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم). وقال ابن إسحاق : (فبينما سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يؤدون الصلاة..) (سيرة ابن هشام، ج1،ص:282).‏.
- أورد صاحب السيرة الحلبية في قصة إسلام سيدنا عمر رضي الله عنه، التي رواها سيدنا عمر بنفسه حيث قال : (..وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما، عند رجل به قوة يكونان معه، يصيبان من طعامه) (علي برهان الدين: السيرة الحلبية، المطبعة الزهرية، ج1،ص358).‏ ولا غرابة أن يوزع الرسول صلى الله عليه و سلم فقراء المسلمين على هذه المجموعات، وهو عمل تقتضيه ظروف المرحلة، كي لا يكون الفقر سببًا وعائقًا يحول دون دخول الناس في الإسلام، وتسد هذه الثغرة أمام الأعداء، حتى لا يستغلوا فقر المسلمين.‏

الجوانب الأمنية الوقائية لدي الصحابة الأبرار

- الحس الأمني لابد منه لكل فرد من أفراد الأمة، في كل أمر من أمور حياته، الخاصة منها والعامة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كلَّ ذي نعمةٍ محسود) (السيوطي في الجامع الكبير)، فإذا كان الكتمان في الحوائج الشخصية المادية مطلوب، مأمور به، ففي الحوائج العامة المتعلقة بمصير الأمة هو من باب أولى.‏

الحس والحذر لدى أم جميل رضي الله عنها

-عندما أراد سيدنا أبو بكر رضي الله عنه الحصول على المعلومة الخاصة بمكان الرسول صلى الله عليه وسلم عقب الأذى الجسيم الذي تعرض هو له من قِبل أعداء الدعوة، طلب من والدته أم الخير، الذهاب إلى أم جميل، لمعرفة مكان الرسول صلى الله عليه وسلم منها : (فخرجت ¬أمُّ الخير¬ حتى جاءت أمَّ جميل، فقالت : إنّ أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله؟ فقالت أم جميل: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك فعلت. قالت : نعم. فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعًا دنفًا(ثقيل المرض يُشرف علي الموت). فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت : والله إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم. قال : فما فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ قالت : هذه أمك تسمع. قال : فلا شيء عليك منها. قالت : سالم صالح. قال : أين هو؟ قالت : في دار الأرقم. قال: فإن لله عليّ ألا أذوق طعامًا ولا شرابًا، أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فأمهلتا، حتى إذا هدأت الرِّجْل، وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم).‏

موقف يتسم بوضوح الحس الأمني لأم جميل، الذي برز في عدة تصرفات، من أهمها: ‏

1- إخفاء الشخصية والمعلومة عن طريق الإنكار: ‏عندما سألت أمُّ الخير أمَّ جميل، عن مكان الرسول صلى الله عليه وسلم، أنكرت أنها تعرف أبا بكر ومحمد بن عبد الله.. فهذا تصرف حذر سليم. إذ لم تكن أم الخير وقتئذ مسلمة، وأم جميل كانت تخفي إسلامها، ولا تود أن تعلم به أم الخير.. وفي ذات الوقت أخفت عنها مكان الرسول صلى الله عليه وسلم مخافة أن تكون عينًا لقريش.‏
2- استغلال الموقف لإيصال المعلومة: ‏فأم جميل أرادت أن تقوم بإيصال المعلومة بنفسها لسيدنا أبي بكر رضي الله عنه، وفي ذات الوقت لم تظهر ذلك لأم الخير، إمعانًا في السرية والكتمان، فاستثمرت الموقف لصالحها، قائلة: (إن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك فعلت). وقد عرضت عليها هذا الطلب بطريقة تنم عن الذكاء وحسن التصرف، فقولها: (إن كنت تحبين) ¬وهي أمه¬، وقولها : (إلى ابنك)، ولم تقل لها إلى أبي بكر، كل ذلك يحرك في أم الخير عاطفة الأمومة، فغالبًا ما ترضخ لهذا الطلب، وهذا ما تم بالفعل، حيث أجابتها بقولها: (نعم). وبالتالي نجحت أم جميل في إيصال المعلومة بنفسها.‏
3- استثمار الموقف في كسب عطف العدو: ‏يبدو أن أم جميل حاولت أن تكسب عطف أم الخير، فاستثمرت وضع سيدنا أبي بكر رضي الله عنه، الذي يظهر فيه صريعًا دنفًا، فأعلنت بالصياح، وسبت من قام بهذا الفعل: (إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر). فلا شك أن هذا الموقف من أم جميل يشفي بعض غليل أم الخير، من الذين فعلوا ذلك بابنها، فقد تُكِنّ شيئًا من الحب لأم جميل، وبهذا تكون أم جميل كسبت عطف أم الخير، وثقتها، الأمر الذي يسهل مهمة أم جميل في إيصال المعلومة إلى سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه.‏
4-الاحتياط والتأني قبل النطق بالمعلومة: ‏لقد كانت أم جميل في غاية الحيطة والحذر من أن تتسرب هذه المعلومة الخطيرة، عن مكان قائد الدعوة، فهي لم تطمئن بعد إلى أم الخير، لأنها مازالت مشركة آنذاك، وبالتالي لم تأمن جانبها، لذا ترددت عندما سألها سيدنا أبو بكر عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له: هذه أمك تسمع؟ فقال لها : لا شيء عليك منها. فأخبرته ساعتها بأن الرسول صلى الله عليه و سلم سالم صالح، وزيادة في الحيطة، والحذر، والتكتم، لم تخبره بمكانه إلا بعد أن سألها عنه قائلاً : أين هو؟ فأجابته: في دار الأرقم.‏
5- تخيّر الوقت المناسب لتنفيذ المهمة: ‏حين طلب سيدنا أبو بكر رضي الله عنه الذهاب إلى دار الأرقم، لم تستجب له أم جميل على الفور، بل تأخرت عن الاستجابة، حتى إذا هدأت الرِّجْل وسكن الناس، خرجت به ومعها أمه يتكئ عليهما. فهذا هو أنسب وقت للتحرك وتنفيذ هذه المهمة، حيث تنعدم الرقابة من قبل أعداء الدعوة، مما يقلل من فرص كشفها، وقد نفذت المهمة بالفعل دون أن يشعر بها الأعداء، حتى دخلت أم جميل وأم الخير بصحبة أبي بكر إلى دار الأرقم، وهذا يؤكد أن الوقت المختار كان أنسب الأوقات.‏

الجانب الأمني الوقائي لدي نعيم بن عبد الله رضي الله عنه
-حين خرج سيدنا عمر متوشحًا سيفه، لقيه نعيم بن عبد الله فقال له : أين تريد يا عمر؟ قال : أريد محمدًا هذا الصابئ، الذي فرّق أمر قريش، سفَّه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها فأقتله. قال له نعيم : والله قد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدًا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال : وأي أهل بيتي؟ قال : خَتَنك وابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما، وتابعا محمدًا على دينه(سيرة ابن هشام ح1،ص: 344).‏ فبالإمكان الخروج بالملاحظات الآتية: ‏
1- إخفاء الشخصية عن العدو: لم يكن سيدنا عمر رضي الله عنه يعلم بإسلام نعيم، لأنه كان يخفي إسلامه(سيرة ابن هشام ح1،ص: 343)، فحسبه سيدنا عمر مشركًا، مما سهل مهمة نعيم.. وإمعانًا في إخفاء الشخصية، قال سيدنا نعيم : محمــدًا ولم يقــل رسول الله، مع العلم أن الصحابة لا ينادون الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه، وإنما يقولون رسول الله، ونبي الله، ولكن المقام هنا يتطلب من نعيم أن يقول محمدًا، كي يطمئن له عمر، أكثر ويحدثه بما ينوي عمله، وهذا ما تم فعلاً.‏
2-الحصول على المعلومة: ‏استوقف(أمنياً ووقائياً) سيدنا نعيم سيدنا عمر لما رآه متوشحًا سيفه استوقفه، وسأله عن وجهته بقوله : أين تريد يا عمر؟ فحصل سيدنا نعيم من ثمّ على معلومة في غاية الخطورة، تتمثل في نية عمر قتل قائد الدعوة. فهذا تصرف في غاية الحكمة والذكاء، إذ استطاع سيدنا نعيم الحصول على هذه المعلومة التي جعلته يتخذ أساليب أمنية دقيقة وعاجلة.‏
3- درء خطر العدو وصرفه عن هدفه: ‏بعد أن علم نعيم نية عمر رضي الله عنهما، عمل على درء هذا الخطر، فاستخدم معه أسلوب الترهيب، حيث هدده، إن هو أقدم على قتل محمد، فإنه سوف يُقتــل هو أيضًا من قِبـــل بني عبــد منــاف، ولم يكتف سيدنا نعيم بذلك، بل أخبره بأمر لم يستطع سيدنا عمر معه صبرًا، وذلك حين أخبره بإسلام ابن عمه وأخته، فغيَّر عمر رضي الله عنه وجهته مباشرة، وبدل أن يتجه لقتل محمد صلى الله عليه وسلم اتجه نحو بيت أخته. وبذلك يكون سيدنا نعيم رضي الله عنه قد نجح فعلاً في درء خطر العدو، وهذا تصرف في غاية الدقة والإحكام.‏
4- التضحية بأفراد من أجل المصلحة العامة: ‏لا شك أن معرفة سيدنا عمر وعلمه بإسلام أخته وابن عمه يشكل خطورة كبيرة عليهما، ولكن إذا قورنت بخطورة قتل قائد الدعوة، كانت أخف وأقل، لذا حاول سيدنا نعيم أن يضحي بأفراد من أجل المصلحة العامة، فإذا لحق ضرر بسعيد وفاطمة فهو أخف وأهون بكثير مما يمكن أن يلحق بقائد الدعوة. هذا إلى جانب أن سيدنا نعيم راعى الناحية العاطفية التي تربط بين عمر وابن عمه وأخته، فهي يمكن أن تخفف من شدة الغضب لدى سيدنا عمر، وبالتالي تخف وطأة العقاب على سعيد وفاطمة، وهذا ما تحقق، فعندما رأى سيدنا عمر الدم ينزل من وجه أخته، تحركت فيه العاطفة، ورقّ قلبه، فكان ذلك من أسباب إسلامه.‏

الجوانب الأمنية الوقائية لدى \"خَبَّاب\"، و\"سعيد\"، و\"فاطمة\" رضي الله عنهم أجمعين

- سار سيدنا عمر إلى منزل ابن عمه سعيد، كان بداخل المنزل سعيد وخباب بن الأرتّ وفاطمة زوج سعيد، فلمّا سمعوا صوت عمر، تغيب خباب في مخدع لهم، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة، وجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما، فلما دخل قال : ما هذه الهينمة (الكلام غير الواضح)؟ قالا : ماعدا حديث تحدثناه بيننا(سيرة ابن هشام، ج1، ص:344).. وهنا يمكن أن التعرف علي ما يلي: ‏
1- سرعة وسلامة التصرف حيال الطوارئ : ‏سرعة التصرف وعدم الارتباك من الأمور الهامة والضرورية، لتفادي الحالات الطارئة، التي قد يتعرض لها أهل الدعوة، فمتى ما كان التصرف سليمًا وسريعًا، أمكن تفادي الخطر، وكانت النتائج إيجابية غالبًا.‏ لذا كان تصرف المجموعة الدعوية المكونة من سعيد، وخباب، وفاطمة، سريعًا وسليمًا، حيث تغيب خباب في المخدع، وأخفت فاطمة الصحيفة، وتصدى سعيد لمقابلته وفتح الباب له، وذلك عندما علموا أن القادم عمر، وما أدراك ما عمر؟، المعروف بشدته ضد الدعوة والدعاة.‏
2- إخفاء الأثر من العدو: ‏إخفاء الأثر من العدو، أمر لابد منه، فالأثر كالخيط والدليل الذي يقود الأعداء إلى مبتغاهم، لذا يجب إخفاء وإزالة أي أثر يمت إلى الدعوة، أو المدعوين بصلة، وهذا ما فعلته فاطمة رضي الله عنها حين جعلت الصحيفة تحت فخذها، وهو موضع لا يتطرق إليه الشك، وبالتالي تكون قد أخفت وثيقة خطيرة عن أعين عمر بن الخطاب، بالرغم من أن عمر اطلع عليها فيما بعد، ولكن العبرة بالتصرف السليم في إخفاء الأثر.‏
3- اختفاء خباب رضي الله عنه: ‏إن اختفاء خباب رضي الله عنه، لم يكن عن جبن أو خوف، بل هو تصرف أمني تمليه ظروف الزمان والمكان، ويتطلبه الموقف، فإذا وجد سيدنا عمر خباب مع سعيد وفاطمة، فإن هذا يؤدي إلى كشف معلومة خطيرة وبالغة الأثر على سير الدعوة في مثل هذه المرحلة، حيث كان خباب يقرئ سعيدًا وفاطمة القرآن، وهي خطة وضعت لتعليم المسلمين في تلك الظروف الصعبة، فإذا علم سيدنا عمر بذلك أخبر قريشًا، وربما نتج عن ذلك مراقبة دقيقة لمنع مثل هذا النوع من الاجتماعات، وبالتالي تخسر الدعوة وسيلة هامة وفعالة في تعليم المستجيبين.. وحتى لا يتحقق ذلك، اختفى سيدنا خباب رضي الله عنه.‏
4- خفض الصوت أثناء الاجتماع: ‏لقد كان سيدنا خباب يقرئ سعيدًا وفاطمة القرآن بصوت منخفض، لدرجة أن الذي بالباب لم يستطع أن يتبينه، حيث وصفه سيدنا عمر (بالهينمة) ¬وهي صوت كلام لا يفهم¬ وهذا تصرف أمني ضروري.‏
5-التعريض والتورية: عندما سأل سيدنا عمر عن الصوت غير المفهوم، كانت الإجابة بعبارة تحمل في ظاهرها خلاف ما يريده قائلوها، وهذا نوع من التورية، فهم لم ينكروا أن هناك صوتًا، بل اعترفوا بأنه حديث دار بينهم، وهو حس أمني عال لسعيد وفاطمة، فعادة الحديث الذي يدور بين اثنين يكون بصوت منخفض، لا يميزه من يكون على مقربة منهم، لذا يمكن أن يوصف بالهينمة. فهم لم ينكروا، وإلا لتأكد لعمر أنهم يكذبون ويخفون عنه الحقيقة، وذلك لسماعه الصوت، لكنهم اعترفوا دون أن يصرحوا بما في أنفسهم، وهو نوع من التعريض، المطلوب في مثل هذا الموقف.‏
6-استثمار الفرصة لكسب العدو: ‏يظهر ذلك عندما طلب سيدنا عمر من فاطمة أن تعطيه الصحيفة، فاستغلت فاطمة الفرصة السانحة، فطلبت منه أن يغتسل، ففعل، ثم قرأ، فخشع قلبه، وهنا خرج سيدنا خباب بعد أن سمع ثناء سيدنا عمر على القرآن، فاستغل ذلك الموقف، فقال : أبشر يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: (اللهم أيد الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي الحكم بن هشام)، فالله الله يا عمر(السيرة الحلبية، ج1،ص:36). من ذلك يتضح مدى اليقظة التي كان يتمتع بها كل من خباب وفاطمة، والقدرة على اغتنام الفرص، لكسب العدو، وكان نتاج ذلك أن أسلم سيدنا عمر رضي الله عنه.‏
الحس والحذر لدى \"علـي\" و\"أبـي ذَرٍّ\"، رضي الله عنهما
- قدم أبو ذر الغفاري إلى مكة باحثًا عن الدين الجديد، الذي ظهر بها، وكان ينوي مقابلة الرسول صلى الله عليه و سلم، وهو لا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، فاستضافه سيدنا علي ثــلاث ليال، قــال له بعــدها: ما أمــرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ فأجابه أبو ذر بقوله : إن كتمت عليّ أخبرتك. وفي رواية: إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا أن ترشدني أخبرك، قال : فإني أفعل، قال : بلغنا أنه خرج هاهنا رجل يزعم أنه نبي الله، فأرسلت أخي يكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه. فقال علي : أما إنك قد رشدت، وهذا وجهي إليه، أدخل حيث أدخل، فإن رأيت أحدًا أخافه عليك قمت إلى الحائط، كأني أصلح نعلي، وفي رواية : كأني أريق الماء، فامض أنت، فسار علي وأبو ذر خلفه، حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم(البخاري، قصة إسلام أبي ذر، ج1،545).‏يتبين مما سبق عدة جوانب هامة، من أبرزها: ‏
1- التأني والتريث في الحصول على المعلومة: ‏لقد تأنى سيدنا أبو ذر الغفاري في السؤال عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لما يعرفـــه من كراهيــة قريش لكــل من يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا التأني تصرف أمني تقتضيه حساسية الموقف. فلو سأل عنه، لعلمت به قريش، وبالتالي قد يناله من العذاب الشيء الكثير أو يطرد، ويخسر بالتالي مهمته، التي من أجلها حضر، وتحمل في سبيلها مصاعب ومشاق السفر.‏
2-الاحتياط والحذر قبل النطق بالمعلومة: ‏حين سأل سيدنا عليُّ أبا ذر عن أمره، وسبب مجيئه إلى مكة، لم يخبره، بالرغم من أنه استضافه ثلاثة أيام، إمعانًا في الحذر، فاشترط عليه قبل أن يخبره أن يكتم عنه، وفي ذات الوقت أن يرشده، فهذا غاية في الاحتياط، وبذا يكون قد ضمن السرية والكتمان لأمره، وفي الوقت ذاته الحصول على المعلومة، التي يبحث عنها، وهذا ما تم بالفعل.‏
3-التغطية الأمنية للتحرك: ‏تم الاتفاق بين عليٍّ وأبي ذر على إشارة، أو حركة معينة، كأنه يصلح نعله، أو كأنه يريق الماء، وذلك عندما يرى سيدنا علي من يترصدهم، أو يراقبهم، فهذه تغطية أمنية لتحركهم تجاه المقر (دار الأرقم)، هذا إلى جانب أن أبا ذر كان يسير على مسافة من علي، فيُعد هذا الموقف احتياطًا، وتحسبًا لكل طارئ، قد يحدث أثناء التحرك.‏ يالها من براعة ودراية وتفوق من الصحابة رضي الله عنهم في الجوانب الأمنية، بينما نجد في المقابل أن الحس الأمني لدى الكفار كان ضعيفًا.

ضعف الحس الأمني لدي كفار قريش

- لقد كان الفشل حليف كفار قريش في عدة مواقف منها: عدم معرفة المقر الخاص (دار الأرقم) للمسلمين، فلو كانت المراقبة اللصيقة متوفرة، لأمكن معرفة الدار. وكذلك عدم معرفتهم، لكثير من الذين دخلوا في الإسلام حتى من قبل أقربائهم، فسيدنا عمر رضي الله عنه، لم يكن يعلم بإسلام أخته وابن عمه. فهذا دليل أيضًا على عدم المراقبة اللصيقة حتى لأقرب الأقربين.‏
- لم ينتبه سيدنا عمر لأمر نعيم بن عبد الله رضي الله عنهما عندما أخذ منه المعلومة، ثم صرفه عن هدفه.. وكذلك والدة سيدنا أبي بكر رضي الله عنهما، لم يكن لديها الحس، الذي يمكنها من التعرف على أن أم جميل مسلمة، وتعلم بمكان النبي صلى الله عليه وسلم (البداية والنهاية لابن كثير،ج3، ص:29).
- لم تكن رقابة الكفار إلى الوافدين لمكة وتحركاتهم متوفرة في تلك الفترة، فسيدنا أبا ذر رضي الله عنه جاء وجلس ثلاث ليال في الحرم، يبحث عن الرسول صلى الله عليه وسلم (البخاري، قصة إسلام أبي ذر، ج1،544-545)، حتى أخذه سيدنا \"علي\" معه إلى منزله واستضافه عنده، حني وصل للنبي صلي الله عليه وسلم. ‏
وثمة سؤال يُطرح: مــا دام أهــل مكــة لا يهتمون بالجوانب الأمنية، فمن أين اكتسب الصحابة رضي الله عنهم هذه الجوانب، وما هم سوى أفراد من ذلك المجتمع المكي؟‏.
لعل الإجابة تكمن في أن هذا الجانب، كان من ضمن ما يتلقونه ويتأسون به من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ربما يعلل اختلاف التصرفات للصحابة بعد الإسلام. ومما يؤكد تلقي الصحابة لهذه التربية الأمنية من النبي صلى الله عليه وسلم، الأحاديث التي تؤيد ذلك ومنها: (استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود) (السيوطي في الجامع الكبير).‏
جوانب الحماية للدعوة إبان الفترة الجهرية
- ثمة فوارق كبيرة في الوضع الأمني بين الفترتين، السرية والجهرية. إنه انتقال الدعوة من السرية إلى العلنية، من الاختفاء إلى الظهور، من القلة إلى الكثرة الخ. ولعل شعار هذه المرحلة: الاستعداد لكل الاحتمالات، التي يمكن أن تحدث، والاجتهاد في وضع الحلول المناسبة لها في حال وقوعها، والتحسب لكل الاحتمالات.‏
- في هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وتعامله مع هذه المرحلة عظات وعبر. فقد أعد ـ صلي الله عليه وسلم ـ العدة، وأهتم بالعدد، ووضع المناهج، وأعد الكوادر، وتحسب لكل الاحتمالات.

مقاومة وإحباط أساليب قريش العدوانية

- للحيلولة دون دخول الناس في الإسلام، والقضاء على الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته.. استخدمت قريش عدة أساليب عدوانية في هذه المرحلة العلنية. فقد استخدمت أسلوب الحرب النفسية، ولجأت إلى الاضطهاد، ثم اعتمدت أسلوب المفاوضات، المباشرة وغير المباشرة، ثم ضربت حصارًا صارمًا على المسلمين ففشلت.

الحرب النفسية ومقاومة المسلمين لها

- في كل زمان ومكان..تُعد الحرب النفسية ومن يقف خلفها من أخطر أنواع الحروب، التي تواجه العقائد والحركات الإصلاحية. فهي تستهدف الأفكار، والتعاليم الناشئة، وتلجأ إلى التشويش عليهما لتحول بينها وبين الوصول إلى العقول، والرسوخ في القلوب. كما تبذر بذور الفرقة والانقسام، وتعمل في الظلام، وتطعن من الخلف، وتخلق الأقاويل والإشاعات، وتنشر الإرهاب، وتتبع وسائل الترغيب والترهيب، مما يجعل هذه الحرب أشد خطورة من المواجهة العسكرية في ميادين القتال(علي حسني الخربوطي: الرسول صلي الله عليه وسلم، والحرب النفسية، ص:2، مكتبة الأنجلو المصرية).‏
- كانت الحرب النفسية وإثارة الإشاعات، أول أسلوب جابهت به قريش الدعوة في مرحلتها الجهرية. فقد اجتمعت قيادة قريش، لتتفق حول كلمة (واحدة) يقولونها عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم للعرب في موسم الحج، فقال الوليد: (فأجمعوا فيه رأيًا واحدًا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولُكم بعضُه بعضًا). فخرجوا بأن يقولوا: \"(ساحر)، جاء بقول هو سحر، يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته\"(السيرة النبوية لابن هشام،ج1، ص:271).‏ إشاعة مُحكمة (غير متعددة الكلمات) عن قائد الدعوة ووصفه بالسحر، وفي موسم الحج، مما يجعل هذه الإشاعة تنتشر في جميع أصقاع الجزيرة العربية عن طريق وفود الحجيج.. حتى إن الرجل يأتيه صاحبه من مصر أو اليمن، فيأتيه قومه أو ذوو رَحِمِه، فيقولون له: (احذر فتى قريش لا يفتنك) (دلائل النبوة للبيهقي،ج2،ص:442).‏
- أقدموا على السخرية، والتحقير، والاستهزاء، والضحك، قصدوا من ذلك تخذيل المسلمين، وتوهين قواهم المعنوية، فرموا صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم (بالجنون) (فتح الباري لابن حجر، ج1،ص:32، الطبعة السلفية)، (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) (الحجر: 6). ‏
- عندما سأل هرقل أبا سفيان عــن رسول الله صلى الله عليه وسلم: \"هل جربتم عليه الكذب؟ قال: لا. فقال هرقل: ما كان يدع الكذب على الناس ويكذب على الله\"(ابن الجوزي: الوفاء بأحوال المصطفي،ج2،447، وكذلك د.احمد نوفل: الإشاعة، ص:33، دار الفرقان، الأردن).‏ هم يوقنون في قرارة أنفسهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصدق الناس، وأبرهم. ومع ذلك أشاعت قريش أنه (كاذب).
- كانوا يضحكون من المؤمنين، ويسخرون منهم، ويغمز بعضهم بعضًا عند مرورهم بين أيديهم، قال تعالى: (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين، وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون، وما أرسلوا عليهم حافظين) (المطففين : 29¬33).‏
- كثفت قريش من أساليب الحرب النفسية، ما تمثل في تشويه تعاليم الإسلام، وبخاصة القرآن الكريم (وهو المصدر الأول من مصادر الإسلام التشريعية، فأي شبهة حوله ربما نتج عنها شك في الإسلام كله)، بحيث لا يبقى للعامة مجال في تدبر القرآن، فنسبوا ما جاء فيه إلى أساطير وأكاذيب الأولين، التي تملى على سيدنا محمـد صلى الله عليه وسلم صباح مساء:(وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) (الفرقان:5).. كما زعموا أن القرآن مفترى من قِبَل محمد صلى الله عليه وسلم، وأعانه عليه قوم آخرون: (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه، وأعانه عليه قوم آخرون) (الفرقان: 4). وكانوا يقولون:(إنما يعلمه بشر) (النحل: 103). يحاولون ـ هم وغيرهم في عصرنا الراهن ـ إرجاع القرآن إلى مصدر (بشري) لا إلهي، قال السيوطي فيما رواه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم قينًا بمكة اسمه (بلعام) وكان أعجمي اللسان، وكان المشركون يرون النبي صلى الله عليه وسلم يدخل ويخرج من عنده، فقالوا إنما يعلمه (بلعام) (لباب النقول في أسباب النزول للسيويط، هامش تفسير الجلالين، ص:505،دار المعرفة، بيرو ت).
-قاموا بالصياح، واللغط أثناء قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن، عَلَّه يسكت عنها، أو يحولون بين سماع الناس له، قال تـعالى:(وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) (فصلت : 26).‏
- ذهب \"النضر بن الحارث\" إلى الحيرة، ليتعلم أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم، واسفنديار، من أجل أن يعارض القرآن. غكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا للتذكير بالله تعالي، خلفه النضر قائلاً: والله ما محمد بأحسن حديثًا مني، ثم يحدثهم عن ملوك فارس، ورستم، واسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثًا مني؟(سيرة ابن هشام،ج1، ص:299).‏
- كانت حادثة الإسراء والمعراج، من أكبر الحوادث، التي استغلتها قريش في شن حرب نفسية على الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته. فبعد عودته من تلك الرحلة، جلس في الحرم ينوي إخبار قريش بالأمر، فمر به أبو جهل، فقال له: هل من خبر؟ فقال : (نعم). قال: وما هو؟ فقال: (إني أسري بي الليلة إلى بيت المقدس). قال: إلى بيت المقدس؟ فقال: (نعم). قال أبو جهل: (هيا معشر قريش)، وقد اجتمعوا من أنديتهم. فقال: أخبر قومك بما أخبرتني به. فقص عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، وأنه جاء بيت المقدس وصلى فيه، فإذا بالقوم بين مصفق ومصفر، تكذيبًا له، واستبعادًا لخبره، وطار الخبر بمكة، وارتد ناس ممن كان آمن به من ضعاف القلوب، وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقال قولته المشهورة : إن كان قال ذلك فقد صدق(ابن كثير: البداية والنهاية،ج3،ص:111).‏ لقد تحصلت قريش من الحادثة علي ارتداد بعض ضعاف الإيمان. لكنها لم تكتف بذلك، بل حاولت استغلالها لإحداث فُرقة بين النبي صلى الله عليه وسلم، وصديقه أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولكنها باءت بالفشل.‏
- لولا الحس الأمني العالي لدى النبي صلى الله عليه وسلم، لكانت تلك الحادثة سببًا في ارتداد كثير من الناس، وذلك بتقديمه لأدلة قاطعة على رحلته تلك. فذكر مكان عير لقريش، حينما ند عنهم بعير، وكذلك شرب من إناء مغطى، فشرب كل ما فيه وتركه مغطى، وقد حدد لقريش مكان وزمان فعله هذا، حين دلهم على اسم الوادي الذي دل فيه العير على البعير، والمكان الذي شرب فيه الماء(سيرة ابن هشام،ج1، ص:402). جاءت العير فأثبتت صدق ما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم. فتثبت المؤمنون، وبطلت دعاية قريش، ومحولتها الفاشلة خلخلة أسس الدعوة.‏

القرآن بلسم شافي يواجه أساليب قريش في الحرب النفسية.
- عندما لجأت قيادة قريش إلى أسلوب السخرية والاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه، جاءت آيات القرآن مواسية لهـم، وسلوي للرسول الأكرم، وأوضحت مصير الساخرين والمستهزئين، وأن الغلبة للحق وأهله، قال تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون) (الأنعام: 10)، فهذه الآية بينت أن هذا الأسلوب استخدم مع سالف الرسل عليهم صلوات الله وسلامه، وفي ذلك سلوى للرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه. ثم وضحت، وفي ذلك إعطاء أمل للمسلمين ليصبرون، ويتحملون. وفي ذات الوقت تهديد ووعيد للكفار، الأمر الذي ربما يكون له أثره النفسي عليهم.‏
- رد القرآن الكريم على شبهة الكفار، التي زعموا فيها أن الذي علم الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن بَشَر،¬ فقــال تعالى: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عـــربي مبين) (النحـل: 103) ، فـفنـد تلك الشبهــة بصـورة قاطعة، حيث بيّن أن(بلعام) أعجمي اللسان، بينما القرآن عربي اللسان، فأُسقط في أيدي الكفار.‏

مقاومة المسلمين لأسلوب الاضطهاد
- جربت قريش الأساليب السالفة في الحرب النفسية، ففشلت، فلجأت إلى التعذيب والتنكيل بالرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه رضي الله عنهم وكوّنت لذلك لجنة (خمسة وعشرين رجلاً من سادة قريش)، يتزعمها \"أبو لهب\" عم النبي صلى الله عليه وسلم، فاتخذت قرارًا حاسمًا: ألا تألو جهدًا في محاربة الإسلام، وإيذاء قائد الدعوة وصحبه، والتعرض لهم بألوان النكال والإيلام(سيرة ابن هشام،ج1، ص:317).‏

قيادة قريش تقوم بتعذيب قائد الدعوة صلى الله عليه وسلم
- تم وُضع سِلا الـجَزُور عليه صلي الله عليه وسلم وهو ساجد.. وتفل \"عقبة ابن أبي مُعَيْط\" في وجهه الشريف. ووضعوا رداءه في عنقه، ثم جروه به حتى وجب النبي صلى الله عليه وسلم ساقطًا. هذا إلى جانب ما كان يضعه جيرانه من القاذورات والأشواك أمام بابه(ابن الجوزي: الوفاء بأحوال المصطفي، ج 1، ص:190، ط 1، دار الكتب الحديثة، وكذلك: السيرة النبوية لابن حبان، ص:84، والكامل في التاريخ لابن الأثير، ج2، ص:70). أرادوا ثني النبي صلى الله عليه وسلم أو تعطيله عن دعوته، فثبت النبي صلى الله عليه وسلم، وصبر، مما كان له كبير الأثر في نفوس المؤمنين، فتحملوا العذاب بصبر وجَلَد، تأَسيًّا به.‏
هذه بعض صور التعذيب التي تعرض لها أفراد الدعوة من قِبَل \"الجهاز القرشي\"، وهي تتفاوت من شخص لآخر، شدة ولينًا، طولاً وقصرًا.‏
- التعذيب بحرارة الشمس (الرمضاء): تولى وأشرف \"أمية بن خلف\" علي تعذيب ‏سيدنا بلال بن رباح، رضي الله عنه، حيث جعل في عُنقه حبلاً، ودفعه إلى الصبيان يجرونه، ثم يُذْهَب به إلى رمضاء مكة، ويـُلُقى على ظهره، وتُوضع على صدره صخرة عظيمة، ويقولون له: لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فكان جوابه: أحدٌ أحدٌ. فمر به سيدنا أبو بكر، رضي الله عنه يومًا، وهو على هذه الحالة، فقال: يا أمية أما تتقي الله في هذا المسكين، حتى متى تعذبه؟ قال : أنت أفسدته، فأنقذه مما ترى، فاشتراه وأعتقه(محمد الخضري، نور اليقين: ص:56).‏
- التعذيب بالنار: ‏عذبت قريش أسرة \"¬آل ياسر¬\" بأكملها بالنار، فمات الشيخ \"ياسر\" تحت التعذيب، وقتلت \"سمية\" بطعنة رمح، فكانت أول شهيدة في الإسلام، أما \"عمّار\" فتلفظ بكلمة الكفر مكرهًا، فرُفع عنه العذاب إلى حين، وفيه نزل(59) قولـه تعــالى:(من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) (سورة النحل: 106).‏ كما عُذب بالنار أيضًا سيدنا \"خباب بن الأرت\" رضي الله عنه، فكانت مولاته تعذبه بالنار، فتأتي بالحديدة المحماة، فتجعلها على ظهره ليكفر، فلا يزيده ذلك إلا إيمانًا.. وممن عذب بالنار كذلك، سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه(الرحيق المختوم، لصفي الرحمن، ص:101، السيرة النبوية للندوي،ص:107).‏
- قصدت قريش من هذا التعذيب، فتنة المسلمين، وصدهم عن دينهم ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، بدليل أن سيدنا عمّارًا لـمّا تلفظ بكلمة الكفر تركوه، وأما الذين صمدوا وصبروا، فإما قتلوا تحت التعذيب، أو أعجزوا قريش صبرًا وتحملاً.‏ وفي موقف عمّار ملحظ له دلالاته.. فحين اشتد عليه العذاب، تلفظ بسب النبي صلى الله عليه وسلم مكرهًا، وقد جاء القرآن مستثنيًا من الكفر هذا التصرف، بل قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن عادوا فعد).. وعلى ذلك يجوز للمسلم المداراة في حالة الإكراه، بشرط أن يبقى قلبه مطمئنًا بالإيمان، لكن ليس ذلك على إطلاقه، فإذا كان التلفظ ببعض الكلمات يلحق ضررًا بالغاً بالدعوة والمدعوين، ففي هذه الحالة، الصبر والثبات أولى.. والضرورات تقدر بقدرها.‏

مجابهة المسلمين لاضطهاد قريش
-ثمة عوامل كانت وراء هذا الثبات العظيم، والصبر الجميل، على الأصناف والألوان المختلفة من العذاب، لعل من أهمها: ‏
- دور الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد الإيمان القاطع بالله، إذ ضرب لهم المثل بنفسه، فناله ما ناله من عذاب في سبيل الله، وفي ذلك سلوى للمسلمين، فعندما ينظرون إلى عذاب سيد البشر صلى الله عليه وسلم، يهون عليهم عذابهم، مما يدفعهم إلى الصبر والثبات تأسيًا به صلى الله عليه و سلم.‏
- ومما أعان الصحابة رضي الله عنهم على الصبر والتحمل، دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، فكان عندما يمر عليهم وهم يُعذبون، يدعو لهم، ويحثهم على الصبر، مبشرًا إياهم بالجنة، فكان يقول لآل ياسر: (صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة، اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت) (البداية والنهاية، لابن كثير، ج3، صك5:).
- وتارة كان النبي صلى الله عليه وسلم يعد صحابته بالنصر والتمكين، ضاربًا لهم المثل من الذين خَلَوْا من قبلهم، فعندما جاءه خباب رضي الله عنه، وسأله أن يدعو الله لهم كي يخفف عنهم هذا العذاب، فقال:(كانَ الرَّجُلُ فيمَن قبلكم، يُحفرُ له في الأرض، فيُجعلُ فيه، فيُجاءُ بالمِنشارِ، فيُوضَعُ على رَأسِهِ، فيُشَقُّ باثنتين، وما يصدُّهُ ذلك عن دينه، ويُمشطُ بأمشاط الحديدِ ما دونَ لحمه من عظمٍ أو عَصَبٍ، وما يصدُّهُ ذلك عن دينه، واللهِ ليُتِمَّنَّ هذا الأمرَ، حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حَضْرَمَوْت [وفي رواية : إلى مكة] لا يخافُ إلاَّ اللهَ، أو الذئبَ على غَنَمِه، ولكنَّكم تستعجلون) (البخاري في مناقب الأنصار، ج1، 543).‏
- مما ساعد المسلمين على اجتياز هذه المحن، التي أوقعهم فيها كفار قريش، الشعور بالمسؤولية، التـــي لا يمكن الحياد عنها، فالعواقب التي تترتب على الفرار من تحملها أشد ضخامة، وأكبر ضررًا عما هم فيه من الاضطهاد والعذاب(لرحيق المختوم ، لصفي الرحمن، ص:143).‏
- لد نزل القرآن الكريم يهون المتاعب التي أحسها الصحابة أثناء التعذيب. فهذا الابتلاء، من طبيعة الطـريـق، لتمييز الصـــادق من الكــاذب: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) (البقرة: 214)، ويقول تعالي: (آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ـ ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ).(العنكبوت : 1¬3)‏

من الحرب النفسية، إلي التنكيل، إلي المفاوضات .. فشل بعد فشل بعد فشل

- قيادة قريش تجري \"مفاوضات غير مباشرة وأخري مباشرة\": ذهبوا إلى أبي طالب \"خط الدفاع الأول\" عن الرسول صلى الله عليه وسلم وفد من قريش عدة مرات وعرضوا عليه عدة خيارات ومن ثم تهديد ووعيد، وبعث \"أبو طالب\" إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكلمه فقال له: يا ابن أخي! إن قـومـك جـاءونـي، فقالـوا لـي كـذا وكـذا، فأبـق علـيَّ وعـلى نفسـك، ولا تحملني من الأمر مالا أطيق، فظن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء، أنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال : (يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته).. ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى، ثم قام، فلمـا ولَّى نــاداه أبو طالب، فقـــال: أقبــل يا ابن أخي! فأقبـل عليــه، فقال : اذهب يـا ابن أخي، فقــل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا\"( السيرة النبوية لابن هشام،ج1،ص:266).‏
- إقدام قريش على المفاوضات المباشرة: عن طريق عتبة بن ربيعة،‏ فذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي في المسجد، فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرَّقت به جماعتهم، وسفهت أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني، أعرض عليك أمورًا، تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها، فقال عليــه الصــلاة والسـلام : (قل يا أبا الوليد، أسمع). قال: يا ابن أخي! إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً، جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفًا سوَّدناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان الذي يأتيك رئيًا من الجن لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوى.‏ فلما فرغ عتبة، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (أقد فرغت يا أبا الوليد؟) قال : نعم. قال : (فاسمع مني). قال : أفعل. فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات من أول سورة فصلت إلى السجدة. فلما سمع عنه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليها، يسمع م نه، فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها سجد، ثم قال : (قد سمعت يا أبا الوليـد ما سمعت، فأنت وذلك) (68).‏ فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض، يحلف بالله : لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال : ورائي أني قد سمعتُ قولاً، والله ما سمعتُ مثله قطُّ، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة.. يا معشر قريش! أطيعوني، فاجعلوها بي، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لكلامه الذي سمعتُ نبأ، فإن تصبه العرب كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فعزه عزكم. فقالوا : لقد سحرك محمد. قال : هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم(70).‏
- لإحكام العرض، نوّعت قيادة قريش الخيارات للمصطفى صلى الله عليه وسلم، من مال، وسيادة، وملك، وهي المطالب التي عادة ما يمكن أن يضمرها أصحاب الدعوات الجديدة، والمنادون بالثورة والإصلاح. لكن فات على قريش جوهر وحقيقة دعوة الإسلام، المغايرة لسائر الدعوات الوضعية، هي مرتبطة بالسماء، غايتها وأهدافها سامية، لذا كــان الــرد قاطعــًا وحاسمًا مــن قائـد الدعــوة : (ما بي ما تقولـون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم..)، إنما هدفه وغايته إخراج الناس من الظلمات إلى النور.‏
ربما تساءل بعض الناس: لماذا لم يرض رسول صلى الله عليه و سلم ¬من باب الحكمة والسياسة¬ الزعامة، أو الملك، على أن يقرر في نفسه اتخاذ الملك والزعامة وسيلة إلى تحقيق دعوة الإسلام فيما بعد، خصوصًا وأن للسلطان والملك تأثيرًا قويًا في النفوس؟
- لم يرض أن النبي صلى الله عليه وسلم سلوك هذه السياسة، لأن ذلك ينافي مبادئ دعوته نفسها، ولأن المساومة كانت للعدول عن الدعوة، وفي الإسلام \"الغاية لا تبرر الوسيلة\". فالله سبحانه وتعالى تعبَّدَنَا بالوسائل كما تعبَّدَنا بالغايات، قال تعالى : (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا) (الكهف : 110).‏ وهذا مبدأ هام من مبادئ الإسلام.. فإذا كانت بعض المواقف في الشدة والمحنة، تحتاج إلى مداراة، فعلى المسلم أن يكون حذرًا في ذلك، غير متجاوز حدود الشرع.‏

قريش تساوم على التنازل عن بعض الإسلام‏

- قام وفد من قيادة قريش، يتكون من الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب، وأمية ابن خلف، قاموا بتقديم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليعبد آلهتهم عامًا ويعبدون إلهه عامًا، فقال: (معاذ الله أن أشرك به غيره)، فأنزل الله سورة (الكافرون) (أسباب النزل للواحدي،343).‏ وجاء وفد آخر ليقدم عرضًا آخر للتنـازل عن بعض مـا في القرآن، فطلبـوا من النبـــي صلى الله عليه وسلم أن ينـــزع مــن القـــرآن ما يغيظهم من ذم آلهتهم، فأنزل الله لهم جوابًا حاسمًا، قال تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إليّ إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) (يونس: 15).‏ ‏وفي هذا درس للدعاة بأن لا تنازل عن الإسلام، ولو كان هذا التنازل شيئًا يسيرًا، فالإسلام دعوة ربانية، ولا مجال فيها للمساومة مهما كانت الأسباب، والمبررات، قال تعال : (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ) (البقرة : 8 5).‏

لجوء قريش إلى عروض تعجيزية ‏
- عمدت قريش لعروض تعجيزية للضغط على قائد الدعوة، وفي حالة عدم تحققها تكون قريش قد حفظت ماء وجهها، ومما قالوا له: (يا محمد! فإن كنت غير قابل منا شيئًا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدًا، ولا أقل ماءً، ولا أشد عيشًا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فيسير عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهارًا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه شيخ صدق، فنسأله عما تقول، أحق هو أم باطل؟ فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدّقناك، وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولاً كما تقول).‏ فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (ما بهذا بُعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أُرسلتُ به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم بيني وبينكم) (سعيد حوي: الرسول، ص،96، وكذلك السيرة النبوية لابن هشام،ج 1، ص: 296).‏ قال تعالى : (ولو فتحنا عليهم بابًا من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون) (الحجر : 14-15) .‏ ولقد بين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه الطلبات ليس لها صلة بما أرسل به، وأنها خروج عن \"محل النزاع\"، والخوض فيها مضيعة للوقت، ومنعًا لهذا الجدال كان رد الرسول صلى الله عليه وسلم واضحًا وحاسمًا : (ما بهذا بُعثت إليكم).‏

حصار قريش وموقف المسلمين منه

- ائتمرت قريش بينهم أن يكتبوا كتابًا يتعاقدون فيه على مقاطعــة وحصار بني هـاشــم، وبني عبـد المطلب، علـى أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا، ولا يبتاعوا منهم، ولا يدعوا سببًا من أسباب الرزق يصـــل إليهـــم، ولا يقبلــوا منهم صلحــــًا، ولا تأخذهــم بهـم رأفــة، ولا يخالطوهم، ولا يجالسوهم، ولا يكلموهم، ولا يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله للقتل، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدًا على أنفسهم(السيرة النبوية لابن هشام، ج1، ص:350).‏ اتفاقية أحكمت بنودها، ولم تدع فيها ثغرة يمكن النفاذ من خلالها، فقد وُضعت بعد مداولات ومشاورات مكثفة.
موقف المسلمين من الحصار‏: لم تحقق المقاطعة مع هذا الإحكام المتقن، والتنفيذ الدقيق، طوال السنوات الثلاث، الغاية التي من أجلها وضعت، وذلك لصلابة المسلمين في الحق، وعدم تنازلهم عنه مهما كانت النتائج، مما فوت على قريش الفرصة في الظفر بتسليم محمد صلى الله عليه وسلم لقتله. وقد كان للصبر والثبات الذي واجه به المسلمون الحصار، أثر عظيم في توهين المشركين، الذين بدأوا ينقسمون على أنفسهم، وشرع فريق منهم يعمل على إبطال هذه المقاطعة، ونقض الصحيفة التي حوت بنود المقاطعة الظالمة(السيرة النبوية لابن هشام، ج 1،ص:375).‏
- كل بلد مسلم في الأمة الإسلامية عليه أن يضع في حسبانه احتمالات الحصار والمقاطعة من أهل الباطل، فأحفاد قريش مستمرون، ويتحكمون في كثير من مقدرات الأمم الأخرى. وعلى الدعاة تهيئة أنفسهم وأتباعهم لمثل هذه الظروف، وعليهم وضع الحلول المناسبة لها، إذا حصلت، والتفكير بمقاومة الحصار بالبدائل المناسبة، كي تتمكن الأمة من الصمود في وجه أي نوع من أنواع الحصار.‏

جوانب الحماية والوقاية للدعوة خارج مكة
- الهجرة إلي الحبشة: لما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه، قال لهم : (لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم مخرجًا مما أنتم فيه). فخرج عند ذلك المسلمون متسللين سرًا(السيرة النبوية لابن هشام، ج 1،ص:322).‏ إن اختيار الحبشة عن سواها، إنما كان لميزات تمتاز بها، لعل من أبرزها:
1- وجود الملك العادل، الذي لا يظلم عنده أحد.. وهذا العدل بدا عندما عملت قريش على إرجاع المهاجرين، فوجدت أنها لا تستطيع ذلك دون أن يتحرى الملك في أمرهم، قبل أن يصدر حكمًا عليهم. الأمر الذي جعله يسمع حجة الخصم قبل إصدار الحكم، فلو كان الملك ظالمًا جائرًا، لظفرت قريش بما تريد.‏
2- أنها أرض صدق ورسالة سماوية، فهم أقرب إلى المسلمين من سواهم. فالرسالات السماوية منبعها واحد، وأصولها واحدة، وقد يسهل إقناع هؤلاء بالحق بخلاف أهل الشرك، وهو ما تم عندما تلا جعفر رضي الله عنه آيات من الذكر الحكيم على مسامع النجاشي وقساوسته، فاضت أعينهم من الدمع تأثرًا بما سمعوا: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا من الشاهدين * وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين * فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين) (المائدة : 83-85).‏
3- ثمة نقطة إستراتيجية هامة، تمثلت في معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بما حوله من الدول والممالك، فكان يعلم عادلها من ظالمها، الأمر الذي ساعده على اختيار دار آمنة لهجرة أصحابه. وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حال قائد الدعوة، من إلمام دقيق بما يجري حوله، حتى إذا اتخذ قرارًا، يكون القرار مبنيًا على علم سابق مدروس، فتكون غالبًا نتائجه طيبة، بخلاف ما لو بناه على عدم معرفة.‏
4- أما جانب الحماية في كيفية الخروج، فيتمثل في كونه تم تسللاً وخفية، كى لا تفطن له قريش فتحبطه، وكان على نطاق ضيق لم يزد على 16 فردًا (فقه السيرة، للغزالي، ص:118، وكذا السيرة النبوية لابن هشام، ج 1،ص:322). عدد لا يلفت النظر حال تسللهم فردًا أو فردين، فالركب يتوقع المطاردة والملاحقة في أي لحظة.‏ ولعل السرية المضروبة على هذه الهجرة، فوتت على قريش العلم بها، وحين قامت في إثرهم لتلحق بهم، أخفقت في ذلك، فعندما وصلت البحر لم تجد أحدًا.
قيادة قريش تعمل على إعادة المهاجرين من الحبشة : ‏تخيروا لهذه المهمة \"عمرو بن العاص\"، و\"عبد الله بن أبي ربيعة\"، وقيل \"عمارة بن الوليد\"( السيرة النبوية لابن هشام، ج 1،ص:334). ثم أرسل النجاشي إلى الصحابة، وقبل أن يحضروا اتفقوا على أن يقولوا الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ممثلهم \"جعفر بن أبي طالب\" رضي الله عنه، فأجاب على أسئلة النجاشي وبين له الحقيقة، فرد النجاشي وفد قريش دون أن يسلمهم المهاجرين.‏ ونستخلص أمرين هامين، هما دهاء قيادة قريش، وتفوق المهاجرين عليها. ويظهر ذلك من خلال الملاحظات التالية : ‏
- دقة في اختيار ممثلي الوفد، فعمرو بن العاص يعد داهية من دهاة العرب، يمتاز بالذكاء، وحسن التصرف، ولا يقل عنه في ذلك عبد الله بن أبي ربيعة، فهما من أهل الرأي والمشورة في قريش. مع الاتفاق المسبق على كيفية التخاطب، وكيف يتم الحوار، فهم اختاروا أحب الهدايا للنجاشي، ثم قدموا هدايا لجميع البطارقة، وطلبوا منهم أن يشيروا على النجاشي بتسليم المهاجرين، وكان هذا الاتفاق قبل مقابلة النجاشي.‏ كما أن تخير الوفد للألفاظ التي وُصف بها المهاجرون، بكونهم غلمان سفهاء قد فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دين الملك، إنما كان لإثارة الغضب والسخط على المهاجرين من قِبَل الملك وبطارقته، بحيث يصبحون مهيئين تمامًا لقبول طلب التسليم.‏
تفوق المهاجرين على مكائد قريش : ‏وقع الاختيار على جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، ليمثل المهاجرين أمام الملك، فكان اختيارًا موفقًا، وظهر ذلك في فصاحته ولباقته، ومن خلال الحس الأمني العالي الذي امتاز به سيدنا جعفر، أثناء مخاطبته للنجاشي.‏ فأول ما فعله جعفر، أن عدد للنجاشي عيوب الجاهلية، وعرضها بصورة تنفِّر منها السامع، وقصد بذلك تشويه صورة قريش في عين الملك، وفي ذات الوقت إبراز محاسن الإسلام، التي هي نقيض لأفعال الجاهلية، إضافة إلى ذلك، فقد نفى التهمة التي لفقتها عليهم قريش، وقد نجح أيما نجاح، بدليل أن النجاشي طلب منه أن يقرأ عليه شيئًا من القرآن، فاختار سورة مريم، الأمر الذي أثَّر على النجاشي وبطارقته.. واختيار جعفر لسورة مريم، يظهر بوضوح حكمة وذكاء مندوب المهاجرين، فسورة مريم تتحدث عن مريم وعيسى عليهما السلام ، فأثرت في النجاشي وبطارقته، حتى بكوا جميعًا. وبعد ذلك أصدر قراره في صالح المسلمين بعدم تسليمهم أبدًا.‏ وكان هذا الرد جعل النجاشي يضرب يده بالأرض، ويأخذ عودًا، ثم يقول: (والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلتَ هذا العود!)، وقال لهم : (اذهبوا فأنتم شيوم -أي آمنون- بأرضي) (الس يرة النبوية لابن هشام، ج 1،ص:337).‏

جوانب الحيطة والحذر في الخروج إلي الطائف

- صمم النبي صلي الله عليه وسلم على الخروج إلى الطائف، وربما اختارها عن سواها، لميزات تفضلها عن غيرها، كقربها من مكة، وكان له فيها خؤولة، كما أنه رضع في بني سعد، وهم بمقربة من الطائف، وفيهم مراضعه وحواضنه، والطائف تلي مكة في الأهمية واتساع العمران، ورفاهية السكان. وكـــانــت الطائف مستقر عبادة اللات -صنم يُعبد، ويُحج إليه- وكانت تضارع في ذلك مكة، التي كانت مستقر عبادة (هُبَل)، صنم قريش الأكبر.
- خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ماشيًا على قدميه ذهابًا وإيابًا، معه مولاه \"زيد بن حارثة\" رضي الله عنه، وكان كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام، فلم تجبه إليه واحدة منها. وبنهاية الرحلة الشيفة أكبَّ الفتي \"عدَّاس\" ُعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبَّل رأسه ويديْه وقَدَميْه.‏ ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، حتى إذا ما دنا منها، مكث بحراء، وبعث رجلاً من خزاعة إلى الأخنس بن شريق ليجيره، فاعتذر ، ثم إلى سهيل بن عمرو فاعتذر، ثم إلى المطعم بن عدي فأجاره، ودخل مكة في جواره(السيرة النبوية لابن هشام،ج1،ص:419).‏
- كان اختيار النبي صلى الله عليه وسلم للطائف، كان اختيارًا مبنيًا على أسس أمنية هامة، فكون الطائف قريبة من مكة، يجعل الوصول إليها سهلاً قليل المخاطر، كما أن وجود خؤولة له فيها ربما ضمن له جانبًا من الحماية وفق أعراف الجاهلية، وقرب ديار بني سعد، ربما أعانه على السير، لأنهم أخواله من الرضاعة، فلربما يكونون مأموني الجانب.‏
- خروج الرسول صلى الله عليه وسلم ماشيًا، يعد أيضًا تصرفًا حكيمًا، فعندما تراه قريش على هذه الحالة ماشيًا على قدميه، لا يخطر ببالها إطلاقًا أنه ينوي الخروج من مكة، أما لو خرج راكبًا فذلك مما يثير الشبهة والشكوك، وأنه ينوي الخروج والسفر إلى جهة ما، مما قد يعرضه للمنع من الخروج من قِبَل قريش، ولكن خروجه ماشيًا ضمن له مغادرة مكة دون اعتراض من أحد.‏
- اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم زيدًا كي يرافقه في رحلته، فيه جوانب أمنية، فزيد هو ابن رسول صلى الله عليه وسلم بالتبني، فإذا رآه معه أحد، لا يثير ذلك أي نوع من الشك، لقوة الصلة بينهما، كما أنه صلى الله عليه و سلم عرف زيدًا عن قرب، فعلم فيه الإخلاص والأمانة، والصدق، والوفاء، فهو إذن مأمون الجانب، فلا يفشي سرًا، ويعتمد عليه في الصحبة، وهذا ما ظهر عندما كان يقي النبي صلى الله عليه و سلم الحجارة بنفسه، حتى أصيب بشجاج في رأسه.‏
- اتصاله صلى الله عليه وسلم برؤساء ثقيف قبل غيرهم، حين دخوله إلى الطائف، تصرف سليم، يتطلبه الموقف، وذلك لأن الأمر أمر نصر وتأييد، وهذا ما لا يتأتى إلا من سادات القوم لا من عوامهم، فإذا وافق هؤلاء كان الآخرون تبعًا لهم، لذا بدأ بهم الرسول صلى الله عليه وسلم دون غيرهم.‏ وعندما كان رد هؤلاء النفر ردًا قبيحًا مشوبًا بالاستهزاء والسخرية، تحمله الرسول صلى الله عليه و سلم ولم يغضب أو يثور، بل طلب منهم أن يكتموا عنه، فهذا تصرف غاية في الحيطة، فإذا علمت قريش بهذا الاتصال، فإنها لا تسخر منه فحسب، بل ربما شددت عليه في العذاب والاضطهاد، وحاولت رصد تحركاته داخل وخارج مكة.‏
- في حواره مع عداس، ظهرت براعته صلى الله عليه وسلم في كيفية إدارة الحوار، مما ترتب عليه أن أصبـح عــداس يســأل عن المعلومــة من الرسول صلى الله عليه و سلم والإنسان حين يسأل عن المعلومة، فإنه يهتم بها، ويعي مضمونها، بخلاف ما لو أُلقيت عليه دون أن يطلبها، لذا كان أثر تلك المعلومة على عداس واضحًا، فنجم عن ذلك أن قبّل رأس ويدي وقدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلن إسلامه(البداية والنهاية لابن كثير،ج 3،ص:134).‏
- حين عاد الرسول صلى الله عليه و سلم من الطائف إلى مكة، لم يدخلها، بل ذهب إلى غار حراء وجلس فيه، حيث يعد ذلك تصرفًا أمنيًا تمليه الظروف والملابسات، فالرسول صلى الله عليه وسلم أدرك أن قريشـــًا علمت بخروجـــه لا سيما وقد مكث في الطائف عشرة أيام.‏

الرسول صلى الله عليه و سلم يستفيد من قوانين وأعراف الجاهلية: ‏

كانت للجاهلية أعراف وقوانين تقدسها وتحترمها، ولعل في مقدمتها أعراف وقوانين الجوار أو الحماية. فَقَبْلَ أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة عائدًا من الطائف، حاول الاستفادة من هذا القانون أو العرف (الجوار)، فأرسل إلى من يأخذ له الجوار من أحد أشراف مكة، وقد وفق في ذلك، حيث أجاره المطعم ابن عدي، فدخل مكة.‏
- استفاد الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا الجوار أيما فائدة، فقد عاد إلى دعوة الناس لدين الله، كما كان يفعل في جوار عمه أبي طالب.. ولولا أن هيأ الله له هذا الجوار، لما كان من اليسير عليه القيام بأمر الدعوة في تلك الظروف الحرجة، حيث تعد تلك الفترة من أحرج فترات الدعوة، وكانت تحتاج لوجود النبي صلى الله عليه وسلم داخل مكة في هذا الوقت بالذات، والذي كان من ثمراته الاتصال بأهل المدينة، وتوقيع بيعة العقبة الكبرى.‏
- أما الجانب الأمني في إرسال رجل من خزاعة دون زيد بن حارثة، ليؤمن الجوار لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن زيدًا مسلم معلوم الإسلام، فهذا يقف حجر عثرة أمام قيامه بمهمة كهذه المهمة الحساسة. أضف إلى ذلك رفقته لرسول الله صلى الله عليه و سلم، فربما قبضت عليه قريش بمجرد دخوله مكة، مما ينتج عنه فشل المهمة، وقد يتمكنوا من خلاله الوصول إلى مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتحاشيًا لهذه الاحتمالات، لم يرسل الرسول صلى الله عليه و سلم زيدًا في هذه المهمة.‏ أما صاحب خزاعة، فهو رجل مجهول لدى قريش، مما سهل مهمة اتصاله بمن أرسل إليهم دون أن يعترضه أحد، أو أن يحول بينه وبين مهمته حائل. وهذا ما تم بالفعل، حيث تمكن من أخذ الجوار لرسول الله صلى الله عليه و سلم، دون أن يشعر به أحد.‏
جانب الحماية والأمن في الدعاء: ‏ الدعاء من أعظم العبادات، وهو سلاح فعّال في مجال الحماية للإنسان وتحقيق أمنه، فمهما بلغ العقل البشري من الذكاء والدهاء، فهو عرضة للزلل والإخفاق، وقد تمر على المسلم مواقف يعجز فيها عن التفكير والتدبير تمامًا. فليس له مخرج منها سوى أن يجأر إلى الله بالدعاء، ليجد له فرجًا ومخرجًا.‏ فعندما لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف الأذى والطرد والسخرية والاستهزاء، وأصبح هائمًا على وجهه، لجأ إلى الله قائلاً: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت ربي ورب المستضعفين). فما أن انتهى من الدعاء، حتى جاءت الإجابة من السماء مع جبريل وملك الجبال(صحيح مسلم،باب مالقي النبي صلي الله عليه وسلم من أذي المشركين والمنافين، ج 2، ص:101). كانت لهذه الإجابة أثرها الكبير على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الناس قد تنكّروا له، وآذوه، وطردوه، فإن الله معه، ناصره ومعينه، وبذا وجد الرسول صلى الله عليه وسلم تأييدًا ربانيًا، أعطاه دفعة معنوية كان أحوج ما يكون إليها في مثل تلك الظروف الحرجة.‏

جوانب الحماية والأمن في عرض الدعوة علي القبائل وإرسال الدعاة

- أمست بيئة مكة طاردة للدعوة، فبدأ بالبحث عن موضع آخر وقبيلة أخرى تقوم بدور الحماية للدعوة، وتتحمل تبعاتها، فعرض نفسه صلى الله عليه وسلم على القبائل بمختلف أسمائها، وذلك ما بين السنة الرابعة من النبوة إلى آخر موسم قبل الهجرة.. قال الزهري : (وكان ممن يسمى لنا من القبائل، الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم وعرض نفسه عليهم : بنو عامر بن صعصعة، محارب بن خصفة، وفزارة، وغسان، ومرة، وبنو حنيفة، وسليم، وعبس، وبنو نضر، وبنو البكاء، وكِندة، وكَلْب، والحارث بن كعب، وعذرة، والحضارمة، فلم يستجب منهم أحد)(السيرة النبوية لابن هشام،ج1،، ص:424).‏
أساليب قيادة قريش لصد القبائل عن الدعوة : ‏تارة تبعث مندوبها خلف الرسول صلى الله عليه وسلم يشوه شخص الرسول ودعوته، قال ربيعة بين عباد الديلي : (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: (قولوا لا إله إلا الله، تفلحوا) والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيئ الوجه أحــول، ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فقالوا : عمه أبو لهب).‏ وتارة أخرى تتعقبه قريش إلى القبائل التي يتحدث إليها، وقد أوشك أن يؤثر في بعضها، فتحذر من مغبة التأثر به وتصديقه، بدليل ما جرى مع قبيلة بكر، التي تأثرت، بل وأوشكت أن تعتنق الإسلام عقب ملاقاة الرسول صلى الله عليه و سلم وحديثه معهم.‏ لكن قبل أن تختمر الفكــرة في عقــلها، مــر عليهم أبو لهب، قالوا له: (هل تعرف هذا الرجل؟ قال : نعم، هذا في الذروة منا، فعن أي شيء تسألون؟ فأخبروه بما دعاهم إليه، وقالوا زعم أنه رسول الله. قال : ألا لا ترفعوا برأسه قولاً، فإنه مجنون يهذي من أم رأسه، قالوا : قد رأينا ذلك حين ذكر من أمر فارس ما ذكر) (البداية والنهاية لابن كثير،ج 3،ص:138).‏
أساليب الحماية المضادة لأساليب قريش : ‏عندما ظهر للنبي صلى الله عليه وسلم تأثير مكائد قريش على القبائل، رأى أنه لابد من اتخاذ أساليب حماية مضادة لما تقوم به، وكان من أهم تلك الأساليب ما يلي: -مقابلة القبائل في الليل: ‏في الليل تهدأُ الحركةُ وتَسْكُنُ الرِّجْلُ، وتندر أو تنعدم المراقبة من قِبَل المشركين على رسول الله صلى الله عليه و سلم. لذا اتجه الرسول صلى الله عليه وسلم لأسلوب مقابلة القبائل ليلاً: (وكان من حكمته صلى الله عليه وسلم أنه كان يخرج إلى القبائل في ظلام الليل، حتى لا يحول بينه وبينهم أحد من المشركين). وقد نجح هذا الأسلوب المضاد، واتصل الرسول صلى الله عليه وسلم بالأوس والخزرج ليلاً، ومن ثمَّ كانت بيعة العقبة الأولى والثانية ليلاً.‏
-ذهاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى القبائل في منازلهم: فأتى كلبًا وبني حنيفة وبني عامر في منازلهم. وبالتالي يستطيع أن يتفاوض معهم دونما تشويش أو تشويه من قريش.‏
- اصطحاب الأعوان: ‏كان أبو بكر وعلي رضي الله عنهما يرافقا الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض مفاوضاته مع بعض القبائل، وربما كانت هذه الرفقة لأجل ألا يظن المدعوون أنه وحيد، ولا أعوان له من أشراف قومه وأقاربه، هذا إلى جانب معرفة أبي بكر رضي الله عنه بأنساب العرب(البداية والنهاية لابن كثير،ج3، ص:140)، الأمر الذي يساعد الرسول صلى الله عليه وسلم في التعرف على معادن القبائل، فيختار أفضلها، لتحمل تبعات الدعوة.‏
- التأكد من حماية القبيلة: ‏بسؤاله صلى الله عليه وسلم عن المنعة والقوة لدى القبائـــل قبل أن يوجــه إليهم الدعـــوة، قــال ابن عباس في حديث طويل : فأتى بكر بن وائل فقال: (ممن القوم؟) قالوا: من بكر بن وائل. قال: (فكيف المنعة؟) قالوا: لا منعة. جاورنا فارس لا نمتنع منهم ولا نجير عليهم... قالوا: ومن أنت؟ قال: (أنا رسول الله)، ثم انطلق.

جوانب الحذر والحماية في إرسال دعاة خارج مكة ‏

الإسلام رسالة عالمية، جــاءت للبشر كافة، فلا تحدها حدود، ولا تقيدها قيود.. وتتطلب هذه العالمية أن ينتشر دعاة الإسلام في الأرض، ولهذا أرسل قائد الدعوة صلى الله عليه وسلم، دعاة خارج مكة منذ بداية الدعوة، وكان صلى الله عليه وسلم يراعي جوانب أمنية معينة وصفات محددة في أولئك الذين كان يختارهم ويرسلهم في مهمات خارج مكة، لعل من أبرزها : ‏
- أن يكون من أهل المنطقة المبتعث إليها. ‏
- أن يكون على خلق ودين وعلم. ‏
- أن يمتاز بقدر من الذكاء والحكمة. ‏
- أن يكون مدركًا وملمًا بالناحية الأمنية للدعوة. ‏

جوانب الحذر والحماية في بيعة العقبة

- كانت بيعة العقبة ثمرة من ثمرات \"الأساليب المضادة\" التي استخدمها الرسول صلى الله عليه وسلم ضد مكر قريش، والتي كانت في غاية من السرية والكتمان، وهذه إشارات سريعة للتدليل علي ذلك:
-‏الاتفاق المسبق على زمان ومكان البيعة: ‏ حيث واعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجتمعوا أوسط أيام التشريق في الشعب، الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى، وأن يتم هذا الاجتماع ليلاً(سيرة ابن هشام:ج1، ص:440).‏
- طالبهم بكتمان الخبر: ‏طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الأنصار كتمان الخبر عن المشركين، كى لا يتسرب خبر البيعة إلى قريش، فتقوم بإحباطها. يقول كعب بن مالك رضي الله عنه: (وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا) (البداية والنهاية لابن كثير،ج 3،ص:157). وقد ظهرت أهمية هذا الكتمان عندما جاءت قريش لتتقصى الخبر من صبيحة البيعة، فتولى الرد عليها مشركو الأنصار، وأقسموا على نفي حدوث البيعة، ولولا هذا الكتمان لانكشف الأمر برمته.‏
- الاحتياط في الحضور إلى مكان البيعة: ‏وضع الرسول صلى الله عليه وسلم خطة مأمونة ودقيقة للحضور إلى مكان البيعة، فطلب من الأنصار أن يأتوا أفرادًا لا جماعة، وأن يكون ذلك بعد مضي ثلث الليل الأول، وأمرهم ألا ينبهوا نائمًا، ولا ينتظروا غائبًا(الكامل في التاريخ لابن الأثير، ج2،ص:98). وقد نفذ الأنصار هذه الخطة تمامًا، يقول كعب: (فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه و سلم نتسلل مستخفين تسلل القطا) (ابن الجوزي:الوفاء بأحوال المصطفي:ج2،ص:225)، أي أفرادًا.‏
-التصرف السليم حيال الطوارئ: ‏حين صرخ الشيطان بأعلى صوته من رأس العقبة قائلاً : (يا أهل الجباجب -المنازل- هل لكم في مُذَمَّم والصُّبَاة معه قد اجتمعوا على حربكم)، حينها أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الأنصار بالانصراف والرجوع إلى رحالهم(سيرة ابن هشام:ج1، ص:441).‏ هذا الأمر بالانصراف فور سماع صوت الشيطان، الذي كشف أمر الاجتماع، يعد تصرفًا أمنيًا، اقتضته ظروف وملابسات الحدث، لأن قريشًا غالبًا ما تكون بعد سماعه في حالة استنفار تام، وقد تقوم بمسح شامل للمنطقة، لتتأكد من هذه المعلومة.. وحتى يُفوِّت الرسول صلى الله عليه وسلم الفرصة على قريش أمر أصحابه بالانصراف، فانصرفوا إلى رحالهم، وأصبحوا مع قومهم.‏
-الأمر بانتخاب النقباء: ‏طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الأنصار انتخاب نقباء من بينهم، فهو لا يريد أن يفرض عليهم أشخاصًا من غير شوراهم، كما أنه لم يسبق له التعرف عليهم حتى يعلم معادنهم.‏
- توفر الحس الأمني لدى بعض من شهدوا البيعة: ‏تجلى الحس الأمني لدى العباس بن عُبادة بن نَضْلة الأنصاري وأسعد بن زرارة، في تأكيدهما على خطورة البيعة على قومهم، فقال العباس بن عُبادة: (إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهِكَتْ أموالُكُم مُصيبة، وأشرافُكم قتلاً، أسلمتموه، فمن الآن)، فأجابوه: (فإنا نأخذه على مُصيبة الأموال وقتل الأشراف)،‏ وقال أسعد قبيل البيعة:(رويدًا يا أهل يثرب.. وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما تصبرون على ذلك فخذوه، وإما تخافون على أنفسكم خيفة فذروه)(سيرة ابن هشام:ج1، ص:440).‏ وهذا مما يبرز مدى حرص العباس وأسعد على الاحتياط لأمر الدعوة، وقائدها، ونتائج تلك البيعة ومتطلباتها، لذلك حرصوا على التحقق من استعداد قومهم للتضحيـة في سبيل الله.‏

جوانب الحيطة والحذر في الهجرة النبوية الشريفة

- لقد ذُكر الكثير عن الهجرة النبوية وجوانبها المتعددة، بيد أنه في عجالة يمكن الإشارة إلي بعض النقاط الهامة ذات الصلة بموضوعنا هذا.
- بعد أن تيقن الرسول صلى الله عليه وسلم من أن مكة لم تعد تصلح أن تكون أرضًا تؤوي الدعوة وتحميها، بل باتت تهدد وجودها، كان لابد لدعوة الإسلام من أرض جديدة تقف عليها، وتنطلق منها حتى يتسنى لها الانتشار ومجابهة الباطل.. كان لابد لهذه الأرض من أن تتوافر فيها بعض السمات، ولعل من أبرزها: أن تكون تلك الأرض ذات قدرات اقتصادية، وتمتاز بموقع طبيعي حصين، وتتمتع بمنافذ وقنوات اتصال خارجية، وبها أنصار وحماة لدعوة الإسلام، يضحون في سبيلها بالنفس والمال.. هذه هي أبرز الصفات التي امتازت بها المدينة المنورة، وقد كان حسن الاختيار (المتعدد الجوانب ) كسابقه في اختيار الحبشة لهجرة الصحابة الأولي.

جوانب الحماية والأمن للهجرة إلى المدينة المنورة.‏

- تغلب المسلمون على أساليب قريش وتمكنهـم من الهجـرة إلى المدينـة عقب الفشل الذي منيت به قيادة قريش، في عدم مقدرتها على منع توقيع البيعة بين الرسول صلى الله عليه وسلم والأنصار.
- عمِلت قيادة قريش جاهدة للحيلولة دون خروج مَن بقي من المسلمين إلى المدينة، ولقد اتبعت في ذلك عدة أساليب منها:
- ‏أسلوب التفريق بين الرجل وزوجه وولده: ‏تقول أم سلمة رضي الله عنها: (لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحّل لي بعيره، ثم حملني عليه وحمـــل معي ابني سلمة ابن أبي سلمة في حجري، ثم خرج يقود بي بعيره، فلما رأته رجالُ بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، قاموا إليه فقالوا : هذه نفسك غَلَبْتَنَا عليها، أرأيت صاحبتك هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت : فنزعوا خِطَامَ البعير من يده فأخذوني منه. قالت : وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رَهْط أبي سلمة، فقالوا : لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا، قالت : فتجاذبوا بُنَيَّ سلمة بينهم، حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحَبَسَنِي بنو المغيره عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة) (سيرة ابن هشام:ج1، ص:469).‏
- أسلوب التجريد من المال: لما أراد صهيب رضي الله عنه الهجرة، قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب : أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟ قالوا : نعم. قال : فإني قد جعلت لكم مالي. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : (ربح صهيب، ربح صهيب) (سيرة ابن هشام:ج1، ص:477)‏.
- أسلوب الحبس: ‏لجأت قريش إلى الحبس داخل أحد البيوت/ داخل حائط بدون سقف (كما فعل مع عياش وهشام بن العاص، رضي الله عنهما)/ وضع اليد والرجلين في القيد/ فرض رقابة وحراسة مشددة، حتى لا يتمكن المسلم من الهجرة.‏
- أسلوب الاختطاف: ‏قامت قريش بتنفيذ عملية اختطاف أحد المهاجرين . حيث قام أبو جهل، والحارث، وهما إخوة عياش من أمه، فاختلق أبو جهل حيلة لعلمه بمدى شفقة ورحمة عياش بأمه، والذي ظهر جليًا عندما أظهر موافقته على العودة معهم.. كما تظهر الحادثة الحس الأمني العالي الذي كان يتمتع به عمر رضي الله عنه، حين صدقت فراسته في أمر الاختطاف، وحين أعطى عياشًا رضي الله عنه ناقته النجيبة.‏

فشل خطة قريش لاغتيال قائد الدعوة

اجتمعت قيادة قريش في دار الندوة للتشاور في أمر القضاء على قائد الدعوة. كان الرأي، الثالث الذي وافق عليه الحاضرون وعلى رأسهم إبليس، ولم يعترض عليه أحد، وحظي بالإجماع.. يتلخص في أن يؤخذ من كل قبيلة فتى شابًا جلدًا نسيبًا، وسيطًا في قومه، فيعطى كل فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلونه، فيتفرق دمه في القبائل جميعًا، فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب جميع القبائل فيرضوا بالدية، وقد حددوا مكان وزمان تنفيذ العملية(السيرة النبوية لابن هشام،ج1،ص:480-482)، وقد رافق مؤامرتهم هذه اتخاذ بعض الإجراءات الأمنية منها: التكتم التام على الاجتماع، والتوقيت المناسب لتنفيذ العملية، و إحكــام الخطـة.
الترتيبات الوقائية، وتدخل العناية الإلهية : ‏
-على الرغم من كل هذه الاحتياطات الأمنية العالية، فقد وفَّق الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم لإفشال خطة قريش لإغتياله.. وبالطبع تدخُّل العناية الإلهية يأتي بعد الأخذ بالأسباب، وإعداد العدة، وعدم التواكل الخ.
جوانب من الحذر والحيطة في الإعداد للهجرة الشريفة
- فيما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم من اختيار الوقت المناسب لإيصال المعلومة لصديقه الوفي أبا بكر رضي الله عنه ليصحبه معه، اختار لذلك وقت الظهيرة، وهي ساعة لم يكن قد اعتاد المجيء فيها إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه. قالت عائشة رضي الله عنها : (بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر : هذا رسول الله متقنعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها) (البخاري: 1، ص:553).‏
- إخفاء الشخصية أثناء تنفيذ المهمة: جاء الرسول صلى الله عليه وسلم متلثمًا لبيت أبي بكر رضي الله عنه(دلائل النبوة للبيهقي،ج2،ص:473)،.‏
- التأكد والتثبت قبل النطق بالمعلومة: ‏حينما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم بيت أبي بكر رضي الله عنه، وقبل أن يخبره خبره، طلب منه أن يخرج مَن معه من البيت، فقال: (أَخْرِجْ عني من عندك) (145)، وهذا احتياط أمني ضروري، لخطورة الأمر، فأي تسرب لهذه المعلومة، ستكون عواقبه وخيمة على الدعوة وقائدها.ذلك لأن أمر الهجرة ما يزال في طوره الأول.‏ كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعط سيدنا أبا بكر المعلومة كاملة أمام أسرته، فأخبره بالهجرة فقط، دون أن يذكر له مكانها ووجهتها بدليل أن أسماء رضي الله عنها عندما سمعت الصوت القائل: ‏
جزي الله رب الناس خير جزائه رفيقين حلا خيمتي أم معبد
قالت (أسماء): (فلما سمعنا قوله، عرفنا أن وجهه كان إلى المدينة المنورة).‏ فالأعداء غالبًا ما يلجأون إلى أسر الدعاة للحصول على المعلومة منهم..ترغيباً أو ترهيباً، وهذا ما حدث من قريش، قالت أسماء رضي الله عنها: (أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل، فوقفوا على باب أبي بكر، فقالوا: أين أبوك؟ فقل : لا أدري، فرفع أبو جهل يده فلطم خدي لطمةً طرح قُرْطي) (الكامل في التاريخ لابن الأثير،ج2،ص:104-106).‏
- التمويه في مبيت علي رضي الله عنه في فراشه صلى الله عليه وسلم : ‏قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: (نم في فراشي، وتسج ببردي هذا، الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام(148).‏
- اختيار الدليل: ‏من مستلزمات الإعداد للهجرة، الخبرة الكافية بالطريق لذا استأجر الرسول صلى الله عليه وسلم دليلاً ماهرًا عالمًا بآمن وأقصر الطرق بين مكة والمدينة المنورة، وهو عبد الله بن أريقط، وكان على دين قريش(السيرة النبوية لابن هشام، ج1،ص:485). إن العبرة هنا في التعامل مع المشركين، وتسخيرهم لخدمة الدعوة بمقدار ما أمن جانبهم. إن المنطق الظاهري يقتضي عدم اختيار عبد الله بن أُريقط دليلاً لأخطر هجرة في تأريخ الدعوة، لأنه مشرك، ولكن تقدير الرسول صلى الله عليه وسلم لشخصه بأنه أمين وصادق، لا يمكن أن يبوح بهذا السر، جعله يسند له تلك المهمة الخطيرة، هذا ما حدث فعلاً، فلم يخبر قريشًا بالأمر، على الرغم من الإغراء المادي الضخم، الذي قدمته قريش لمن يدل على محمد صلى الله عليه وسلم.. وهذا دليل على نقاء معدن الرجل، وصِدْقِ فِرَاسة الرسول صلى الله عليه وسلم.
- كتم خبر هجرته الشريفة: ‏لقد كتم النبي صلى الله عليه وسلم أمر الهجرة عن أصحابه إلا عن قلة قليلة، قال ابن إسحاق : (ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلا عليّ وأبو بكر وآل أبي بكر) (السيرة النبوية لابن هشام، ج1،ص:482). وهذه القلة كانت لها أدوار معينة تقوم بها، ولولا ذلك لما أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأمرها.

جوانب الحيطة والأمن فيـما قـام به أبو بكـر رضي الله عنـه
- تهيئة وإعداد الوسيلة المناسبة للهجرة. ‏
- تموين الهجرة: ‏تلك مهمة اضطلع بها أبو بكر وأهل بيته رضي الله عنهم.. قالت عائشة رضي الله عنها: (فجهزناهما أحث(أسرع) الجهاز، ووضعنا لهما سفرة في جراب، فقطعتْ أسماء بنت أبي بكر من نِطَاقِها فأوكأت به الجراب)(السيرة النبوية لابن حبان،ص:128)، وكانت أسماء تأتيهما من الطعام، إذا أمست، بما يصلحهما.‏
- تسخير الأسرة لأمر الهجرة: وقع اختيار أبي بكر رضي الله عنه، على أفراد أسرته، للقيام بهذه الأدوار المتنوعة، من إعداد الطعام، وإخفاء الأثر، ونقل أخبار العدو أولاً بأول، فباتت أسرة أبي بكر كلها تعمل من أجل إنجاح الخطة المرسومة للهجرة، فقام كل فرد فيها بأداء الدور المنوط به خير قيام.‏

من الدار حتى دخول الغار
كانت بداية الهجرة من بيت أبي بكر رضي الله عنه(158)، ومن ثم التوجه إلى الغار، ومنذ البداية يظهر لمن يتتبع وقائع الهجرة الاحتياط الأمني والتخطيط الدقيق والتنفيذ المتقن، مما يجعل هذه المرحلة من الهجرة تنطوي على عدة جوانب أمنية، من بينها: ‏
1- التوقيت المناسب للخروج: ‏غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته في ليلة سبع وعشرين من شهر صفر، وأتى دار رفيقه أبي بكر رضي الله عنه، ثم غادراها من باب خلفي، ليخرجا من مكة على عجل، وقبل أن يطلع الفجر(السيرة النبوية لابن هشام، ج1،ص:483)،
وكون هذا التحرك تم قبل الفجر، ربما كان على تقدير أن قريشًا لن تكشف حقيقة الأمر إلا بعد طلوع الفجر، بعد قيام عليّ رضي الله عنه عن فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما حدث فعلاً.
2- الخروج إلى الغار سيرًا على الأقدام: ‏وفي ذلك اعتبارات أمنية ظاهرة، فسيرهم على الأقدام يجعل أثرهم أقل وضوحًا مما لو كانا راكبيْن، إضافة إلى أن الركوب على الدواب في مثل هذا الوقت من الليل ملفت للنظر، وربما تنبهت قيادة قريش للأمر، فتفسد الخطة، كما أن حركة الرواحل في الغالب يصدر عنها صوت، مما يجعل الركب عرضة لإثارة فضول قريش فتسأل الركب، أو تستوقفــه لتستوضــح أمــره، بعكــس السيـر على الأقـدام فلا يحدث صوتًا، وبخاصة إذا كان السير على أطراف الأصابع، كما كان يسير الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا السير يزيد من فرص نجاح المهمة.‏
3- التمويه في الخروج إلى الغار: ‏يقع غار (ثور) جنوبي مكة المكرمة، بينما يقع الطريق المؤدي إلى المدينة شمال مكة المكرمة، وهنا تبدو دقة التخطيط، والاحتياط الأمني. قال المباركفوري: (ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشًا ستجدّ في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيس المتجه شمالاً، فقد سلك الطريق الذي يضاده تمامًا، وهو الطريق الواقع جنوبي مكة، والمتجه نحو اليمن، سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ جبلاً يعرف بجبل ثور) (الرحيق المختوم،لصفي الرحمن، ص:194).

الاحتياطات الأمنية أثناء الإقامة بالغار
-تدخل العناية الإلهية: ‏على الرغم من كل الجهد البشري في التمويه والاختفاء والسرية، استطاعت قيادة قريش أن تصل إلى مكان الغار، سواء أكان ذلك عن طريق تتبع الأثر، أو المسح الشامل لجبال مكة بحثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وكانت قريش قاب قوسين أو أدنى من بغيتها، حتى قال سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: (يا نبي الله! لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا) (البخاري، باب هجرته صلي الله عليه وسلم).‏ وهنا تدخلت العناية الإلهية، فرأت قريش على باب الغار نسج عنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فرجعت قريش عن الغار(الأمام احمد،وقال ابن كثير:وهذا إسناد حسن).‏ فحين يبلغ الجهد البشري مداه المطلوب، وحين تستنفد الطاقة البشرية، فإن الله تعالى يرحم عبده المؤمن، ويحفظه من كيد الأعداء.‏
- التجسس ورصد تحركات قيادة قريش: أمر سيدنا \"أبو بكر\" رضي الله عنه ابنه \"عبد الله\" أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى، بما يكون في ذلك اليوم من الخبر. وقد قام عبد الله بهذا الدور خير قيام:(..يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح بمكة مع قريش كبائت بها، فلا يسمع أمرًا يُكاد به، إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام) (السيرة النبوية لابن حبان:ص:130).‏
-إعفــاء الأثــر: ‏لابد أن مجيء وذهاب عبد الله بن أبي بكر، سيخلف وراءه آثار أقدامه، الأمر الذي ربما قاد قريشًا إلى مكان ركب الهجرة، وبخاصة أن أسماء كانت هي الأخرى تأتي يوميًا إلى الغار لتحضير الطعام. وحتى يستبعد هذا الاحتمال كان عامر بن فُهيرة مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما يتبع أثرهما بالغنم كي يعفي الأثر(البداية والنهاية لابن كثير،ج3،ص:182)، ونلاحظ أن إزالة الأثر عن طريق الغنم تُعد أنسب وسيلة، لأن آثار الغنم في تلك الجبال، أمر مألوف لقريش، فلا يُثير شكًا ولا ريبة.‏

- الإمداد بالتموين في الغار: ‏إن الإقامة في الغار ثلاثة أيام، تحتاج لزاد معد وجاهز، لأن أي محاولة لإشعال نار لإعداد الطعام تعتبر قرينة قوية، ربما قادت قريش إلى الغار، فالنار ينبعث منها الدخان نهارًا، والضوء ليلاً، وهذا يشكل خطورة كبيرة، وبخاصة في ذلك الزمان الذي يمتاز فيه العرب بدقة الملاحظة، لذا نجد أن طعامهما كان يأتيهما معدًا جاهزًا من بيت أبي بكر الصديق، تحضره أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.. يقول ابن إسحاق : (وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما).. كما أن عامر بن فُهَيْرَة كان يحلب لهما اللبن من غنم أبي بكر رضي الله عنه.. تقول عائشة رضي الله عنها: (..ويرعى عليهما عامر بن فُهَيْرَة مولى أبي بكر مِنْحَةً من غنمٍ، فَيُريحُها عليهما، حين تَذْهَبُ ساعة من العِشَاءِ، فيبيتَانِ في رِسْلٍ ¬وهو لبنُ مِنْحَتِهِما وَرَضِيفِهِما¬) (البخاري باب هجرة النبي صلي الله عليه وسلم).‏
- الإقامة في الغار ثلاثة أيام: ‏قال ابن الأثير: (فأقاما في الغار ثلاثًا)، وهذا تصرف أمني اقتضته ظروف الزمان، فهذه المدة الزمنية ربما كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمعلومات المقدمة من عبد الله بن أبي بكر، التي تشير إلى خفة الطلب عليهما بعد هذه الأيام الثلاثة، كما أن الاستمرار أكثر من ذلك قد يلفت النظر من قِبَل قيادة قريش، حين يتكرر المرور عليهما والذهاب إليهما، من قِبَل أسماء وعبد الله وعامر بن فهيرة. أضف إلى ذلك أن هذه المدة تعد كافية لتدرك قريش أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد أفلت منهم، وأنها كافية لابتعاده عنهم مسافة تمكنه من الوصول إلى مأمن، أو الالتحاق بقبيلة أخرى، فيدب اليأس في نفوسهم، ويتراخون عن مطاردته، وبالتالي تسنح الفرصة للإفلات منهم.
- فشل محاولة قريش لمنع الهجرة: ‏لقد بذلت قيادة قريش عدة محاولات لإفشال الهجرة منها: استخدامها لأسلوب التعذيب من أجل الحصول على المعلومة، كان ذلك مع عليٍّ رضي الله عنه، والسيدة أسماء رضي الله عنها، قامت قريش بتعذيبهما، فأنكرا علمهما بجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما أنها قامت باقتفاء أثر ركب الهجرة، حتى وصلت إلى الغار. كما لجأت إلى أسلوب الإغراء المادي، فجعلت دية الحصول على ركب الهجرة مائة من الإبل، ولكن رغم هذه الجهود المبذولة، أخفقت قريش في منع الهجرة.‏
وفي هذا دروس وعبر .. ‏
من الغار إلي المدينة المنورة
بعد أن خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش، وهدأت ثائرات قريش، بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى، تهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه للخروج إلى المدينة المنورة. ولقد صاحب هذا التحرك العديد من جوانب الحيطة والحذر، منها.‏
- الحذر أثناء السير على طريق الهجرة:كان التمويه في التحرك من الغار حيث أن أول ما سلك بهم عبد الله بن أريقط، بعد الخروج من الغار، أنه أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم غربًا نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس، اتجه شمالاً على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وسلك طريقًا لم يكن يسلكه أحـــد إلا نـادرًا(183)، ومــا ذلك إلا إمعانًا في التمويه، ومزيدًا من الحيطة والحذر.‏
- السرعة في السير عقب الخروج من الغار: ‏عيون قريش منتشرة، والمطاردة لم تنته بعد، لذا أسرع النبي صلى الله عليه وسلم عقب خروجه من الغار، واستحث رواحلهم لقطع أكبر مسافة ممكنة في أقل زمن ممكن.
- حادثة \"سراقة\" وتدخل العناية الإلهية: ‏بعد كل التحوطات والتخطيط الدقيق المحكم، تمكنت قريش من تلقي معلومة تفيد أن ركب الهجرة يجد في السير تجاه المدينة بطريق الساحل المهجور. وهنا تبرز عدة جوانب، منها: الحس الأمني لسراقة، وقدرته البارعة في اقتفاء الأثر وشخص بهذه المواصفات، كان يمكن أن يشكل خطورة كبيرة على ركب الهجرة المبارك، خاصة وأنه حاول استغلال تلك الصفات حتى كان قاب قوسين أو أدنى من اللحاق بركب النبوة، ولكن تدخلت العناية الإلهية، فحالت بينه وبين النيل من الركب المأمون.‏ كما تظهر أيضًا مدى حنكة وحكمة المصطفى صلى الله عليه وسلم في استغلال عدوه كي يصبح عونًا له في صد الطلب عنهما، وذلك من قوله لسراقة: (أَخْفِ عَنَّا)، فرجع سراقة، فوجد الناس في الطلب، فجعل يقول: قد استبرأت لكم الخبر، قد كفيتم ما هاهنا.. وكان أول النهار جاهدًا عليهما، وآخره حارسًا لهما(زاد الميعاد لابن القيم،ج2،ص:53).‏
الحس الأمني لأبي بكر الصديق رضي الله عنه
- لما كان سيدنا أبو بكر معروفًا لدى معظم سكان الطريق، لاختلافه إلى الشام بالتجارة، ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يمر بالقوم فيقولون: من هذا الذي بين يديك يا أبا بكر؟ فيقول : هذا الرجل يهديني الطريق(البخاري:ج1،ص:556).. وفي ذلك تورية من أبي بكر رضي الله عنه، فطالما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم هو الهدف لقريش، ورصدت لمن يعثر عليه مائة ناقة، وهي ثروة طائلة تجعل كل من يسمع بهذه الجائزة يجتهد في البحث عن النبي صلى الله عليه وسلم، بغية الحصول على تلك الثروة.. وتقديرًا للموقف لم يكشف أبو بكر رضي الله عنه عن شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، بل اكتفى بالتورية، دون أن يكذب.‏
ويظهر الحس الأمني لسيدنا أبي بكر، في موضع آخر، حين قال : (فضربت بصري هل أرى ظلاً نأوي إليه، فإذا أنا بصخرة، فأهويت إليها، فنظرت فإذا بقية ظلها فسويته لرسول الله صلى الله عليه و سلم، وفرشت له فروةً، وقلت : اضطجع يا رسول الله! فاضطجع، ثم خرجتُ أنظر هل أرى أحدًا من الطلب، فإذا أنا براعي غنم، فقلت : لمن أنت يا غلام؟ فقال : لرجل من قريش، فسمَّاه فعرفتُه، فقلت : هل في غنمك من لبن؟ قال : نعم. قلت : هل أنت حالب لي؟ قال : نعم. فأمرته فاعتقل شاة منها، ثم أمرته فنفض ضَرْعَها من الغبار، ثم أمرتُه فنفض كفيه من الغبار، ومعي إداوة على فمها خِرقة، فحلب لي كُثْبَةً ¬أي قليلاً¬ من اللبن، فصببت على القَدَح حتى برد أسفله، فقلت : اشرب يا رسول الله! فشرب حتى رضيت، ثم قلت : هل آن الرحيل؟ فارتحلنا) (191).‏

هذا النص يؤكد حرص واهتمام أبي بكر بعدة جوانب لتحقيق الحماية والأمن، من أبرزها استكشاف مكان الاستراحة، حيث ذهب إلى الصخرة، وتيقن من خلوها، فنظفها وفرش لرسول الله صلى الله عليه و سلم الفروة ليستريح عليها، فهذا تصرف في غاية الحكمة، فالظل في الصحراء مطلب كل سائر على الطريق، ليحتمي به من حر الشمس الحارقة، كما أن الصخرة ربما يكون مختبأ وراءها أحد أفراد قريش ممن يطلبون ركب الهجرة، أو أحد عابري السبيل، الأمر الذي قد يعرّض الركب النبوي للخطر، وحتى ينتفي هذا الاحتمال، ذهب أبو بكر، وتأكد من خلو الصخرة من البشر.‏

.‏

جوانب الحذر والحيطة في اختيار طريق الهجـرة وعدد أفراد الركب ودخول المدينـة

- طريق الهجرة كان أقصر الطرق الموصلة إلى المدينة، ولم يكن من الطرق المألوفة، ولا يخفى ما في ذلك من أبعاد للحماية.
- عدد أفراد الركب: ‏من المعلوم أن قريشًا كانت تريد إلقاء القبض على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وعلى هذا فهي تحاول التركيز على أي ركب يتألف من شخصين، وتعده هدفًا لها، ولكن حنكة وحكمة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه، جعلت من أفراد الركب أربعة أشخاص، حيث انضم إليهما الدليل عبد الله بن أُريقط، وعامر بن فُهيرة. وهذا العدد يبعد الشبهة إلى حد كبير عن الركب، لأنه يتكون من أربعة، بينما التركيز في الغالب على الركب الذي يتكون من اثنين.‏
- دخـول الركب المدينـة المنـورة حين دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة، مر ¬تقريبًا¬ بجميع بطون قبيلتي الأوس والخزرج، فقد مر ببني عمرو بن عوف، وبني سالم، وبني بياضة، وبني ساعدة، وبني الحارث، وبني عدي بن النجار، وكان يرد عليهم حين يطلبون منه النزول بقوله: (دعوها فإنها مأمورة) (تاريخ ابن خلدون،ج2،ص:16).‏ فمرور الرسول صلى الله عليه وسلم ببطون الأوس والخزرج، يكشف عن بُعد أمني هام في الحفاظ على تماسك ووحدة الجبهة الداخلية للمدينة المنورة، فأشهر سكان المدينة كانوا من الأوس والخزرج، وكانت الحروب تقوم بينهما لأسباب واهية، وكان لليهود الـدور الأكبـر في إيقادها. فلو مـر الرسول صلى الله عليه وسلم / أو نزل علي قبيلة دون أخرى، ربما استغل ذلك اليهود، وأشاعوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يفضل هذه القبيلة على تلك، مما قد يؤدي إلى نشوب حرب أهلية بين القبيلتين. كما جعل أمر النزول إلهيًا، وليس اختيارًا ، فيرضى الجميع به، ويوقنون أنه أمر إلهي يجب التسليم به، فلا يحدث نزوله ساعتها حساسية في نفوس الذين لم ينزل عليهم.

خلاصة القول:
إنها بعض الملامح الأمنية الوقائية، ووسائل تأمين الحماية للدعوة في مسيرة الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم، وصحابته الأبرار (من بداية الدعوة وحتى الهجرة النبوية الشريفة) لتكون محلاً التأسي والاقتداء. فما أحوجنا لمثل تلك الجوانب بعد أن أصبح للأمن أهمية بالغة في زوال واستمرار الحضارات. كما أصبحت له مدارسه الخاصة وتقنياته المتقدمة، وأساليبه ووسائله المتطورة، وأجهزته المستقلة، وميزانياته ذات الأرقام الكبيرة. وأضحت المعلومات وبخاصة الأمنية، تباع بأغلى الأثمان، ويضحى في سبيل الحصول عليها بالنفس إذا لزم الأمر. فعلى المسلمين الاهتمام بتلك الجوانب، حتى لا تصبح قضايانا مستباحة للأعداء، وأسرارنا في متناول أيديهم. ولابد أن يكون كلامنا موزونًا، فرب كلمة يقولها عابر سبيل في مقهى، أو سيارة أو نادي يتلقفها جاسوس، أو عميل تؤدي إلى نكبة قاصمة للظهر، وخسائر فادحة. فينبغي التوعية بتلك الأمور الهامة عبر وسائل الإعلام المسموعة، والمقروءة، والمشاهدة، وعبر المؤسسات التعليمية على مختلف مراحلها.‏ وتبقى العناية الإلهية هي الملاذ الأخير حيث لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، وآخر دعوانا أن ال حمد لله رب العالمين.

للتواصل من الكاتب ا.د./ ناصر أحمد سنه عبر العنوان التالي:
Nasenna62@hotmail.com

 

بحوث علمية
  • بحوث في التوحيد
  • بحوث فقهية
  • بحوث حديثية
  • بحوث في التفسير
  • بحوث في اللغة
  • بحوث متفرقة
  • الصفحة الرئيسية