اطبع هذه الصفحة


سنة المباهلة

سامح محمد عيد محمد
أبو محمد الفاتح


بسم الله الرحمن الرحيم

 
المباهلة: الملاعنة، والابتهال: الاجتهاد في الدعاء، وإخلاصه بإنزال اللعنة على الكاذب من المتلاعنَين([1]).
وهيئتها: أن يحضر هو وأهله وأبناؤه وهم يحضرون بأهلهم وأبنائهم ثم يدعون الله تعالى أن ينزل عقوبته ولعنته على الكاذبين([2])
قال الألوسي: (وإنما ضم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى النفس الأبناء والنساء مع إن القصد من المباهلة تبين الصادق من الكاذب وهو يختص به وبمن يباهله؛ لأن ذلك أتم في الدلالة على ثقته بحاله، واستيقانه بصدقه، وأكمل نكاية بالعدو، وأوفر إضراراً به لو تمت المباهلة)([3])

صيغة المباهلة:

ليس للمباهلة صيغة معينة عند أهل السنة والجماعة فهي تقال بأية صيغة، حيث يدعو المتلاعنين بالدعاء بإنزال اللعنة على الكاذب فيهما([4]).

شروط المباهلة:

وللمباهلة عدة شروط مستنبطة منها:
1- إخلاص النية لله سبحانه وتعالى وألا يكون الانتصار لهوى النفس أو لأمر من أمور الدنيا.
2- أن يترتب عليها مصلحة شرعية كإحقاق الحق، وإقامة الحجة، وكشف الباطل.
3- صحة ما عليه المباهل وصدقه فيه.
4- تقديم النصح قبلها ومحاولة إزالة الشبه([5])
 
حكم المباهلة:

المباهلة سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حق من أصر على العناد من أهل الباطل والفساد وذلك بعد إقامة الحجة والبرهان عليهم.
قال ابن القيم: (إن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله، ولم يرجعوا، بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة، وقد أمر الله سبحانه بذلك رسوله، ولم يقل: إن ذلك ليس لأمتك من بعدك)([6]).
 
الأدلة:

أولاً: الكتاب:
1- قال تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 94-95]
قال الطبري: (وهذه الآية مما احتج الله بها لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم. وذلك أن الله جل ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى قضية عادلة بينه وبينهم، فيما كان بينه وبينهم من الخلاف. كما أمره الله أن يدعو الفريق الآخر من النصارى - إذ خالفوه في عيسى صلوات الله عليه وجادلوا فيه - إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة.
وقال لفريق اليهود: إن كنتم محقين فتمنوا الموت، فإن ذلك غير ضاركم، إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله. بل إن أعطيتم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم، فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها، والفوز بجوار الله في جنانه، إن كان الأمر كما تزعمون: من أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا. وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا، وانكشف أمرنا وأمركم لهم. فامتنعت اليهود من إجابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، لعلمها أنها تمنت الموت هلكت، فذهبت دنياها، وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها. كما امتنع فريق النصارى - الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى ، إذ دعوا إلى المباهلة - من المباهلة.
فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم في النار ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا))([7]))([8]).
 2- وقال تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءك مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[آل عمران: 61]
قال ابن كثير: ({نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} أَيْ: نُحْضِرهُمْ فِي حَال الْمُبَاهَلَة، {ثُمَّ نَبْتَهِل} أَيْ: نَلْتَعِن، {فَنَجْعَل لَعْنَة اللَّه عَلَى الْكَاذِبِينَ} أَيْ: مِنَّا وَمِنْكُمْ)([9]).
وقال عبد الرحمن السعدي: (فوصلت به وبهم الحال، إلى أن أمره الله تعالى أن يباهلهم، فإنه قد اتضح لهم الحق، ولكن العناد والتعصب منعاهم منه)([10]).
3- وقال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَـةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنْـداً}[مريم: 75]
قال ابن كثير: (وهذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون أنهم على هدىً فيما هم فيه)([11]).
 4- وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة: 6]
قال ابن كثير: (فهم - عليهم لعائن الله - لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى، دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم، أو من المسلمين. فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد أنهم ظالمون؛ لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك، فلما تأخروا علم كذبهم)([12]).

ثانياً: السنة:

عن حذيفة رضي الله عنه قال: (جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه فقال احدهما لصاحبه لا تفعل ،لا تفعل فو الله لو كان نبيا فلاعنا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعث معنا إلا أمينا :فقال لا بعثن معكم رجلا أمينا حق أمين، فأستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أمين هذه الأمة)([13])
قال ابن حجر: (وفيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة)([14])

ثالثاً: الآثار:

1- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (من شاء لاعنته -أي: باهلته - لأنزلت سورة النساء القصرى بعد الأربعة الأشهر وعشرا)([15])
2- عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنه قال: (من شاء باهلته أنه ليس للأمة ظهار)([16])
3- وعنه أيضاً رضي الله عنهما: (من شاء باهلته أن المسائل لا تعول)([17])  
4- وعن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {وَمَن ْيَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نؤتِها أجْرَهَا مَرَّتَيْنِ واعتدنا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} [الأحزاب: 31-34 ] قال: (من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي)([18])
 
عموم المباهلة:

المباهلة ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم بل هي عامة لجميع الأمة، كما أنها ليست خاصة مع النصارى أو اليهود، بل هي عامة مع كل مخالف يصر على ضلاله وعناده ، ولا يرجع إلى الحق رغم وجود الحجة والبرهان.
قال ابن القيم: (إن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله، ولم يرجعوا، بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة، وقد أمر الله سبحانه بذلك رسوله، ولم يقل: إن ذلك ليس لأمتك من بعدك)([19]).
قال صديق حسن خان: (والمباهلة جائزة بعد النبي صلى الله عليه وسلم في أمر مهم شرعاً وقع فيه اشتباه وعناد لا يتيسر دفعه إلا بها، وقد باهل بعض السلف كالحافظ ابن القيم في مسألة صفات الباري والحافظ ابن حجر وغيرهما جماعة من المقلدة فلم يقوموا بها وانهزموا ولله الحمد، ومن منع منها الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصب ولم يأت بدليل وكأنه جاهل بمسائل الدين)([20])
وسئلت اللجنة الدائمة هل هي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ وإن لم تكن كذلك، فهل هي خاصة مع النصارى؟
فأجابت: (ليست المباهلة خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم مع النصارى، بل حكمها عام له ولأمته مع النصارى وغيرهم؛ لأن الأصل في التشريع العموم، وإن كان الذي وقع منها في زمنه صلى الله عليه وسلم في طلبه المباهلة من نصارى نجران فهذه جزئية تطبيقية لمعنى الآية لا تدل على حصر الحكم فيها)([21]).
وقد طلب المباهلة من العلماء المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين كثير؛ منهم: الأوزاعي([22])، وابن تيمية([23])، وابن قيم الجوزية([24])، وابن حجر([25])، ومحمد بن عبدالوهاب([26])، وصديق حسن خان([27])، وثناء الله الأمر تسـري([28])، وأبو مشاري الكويتي([29])، ومحمد بن سليمان البراك([30])، ومحمد بن عبدالرحمن الكوس([31]).

الممتنع من المباهلة:

الممتنع من المباهلة يعتبر مبطلاً مهزوماً غير عالمٍ أنه على الْحق.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - في امتناع النصارى عن مباهلة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن دعاهم لها -: (والنصارى لما لم يعلموا أنهم على الحق نكلوا عن المباهلة)([32]).
 
عاقبة المباهلة:

ذكر بعض العلماء بأن عاقبة المباهلة تقع عاجلا بأحد المتباهليْن، أو في مدة لا تتجاوز الشهرين.
قال ابن حجر: (ومما عرف بالتجربة أن من باهل وكان مبطلا ً لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة، ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة فلم يقم بعدها إلا شهرين)([33])
وهو أمر لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء؛ فلا داع لتحديد مدة معينة فلعل وقوعها يكون على الفور، ولعله يقع بعد شهرين، ولعله يقع بعد سنة أو أكثر، ولعله يقع في الآخرة وليس في الدنيا.
ونظراً لخطورة الدعوة إلى المباهلة أو قبول الدعوة إليها، فالأولى عدم التوسع في هذا الباب والخوض فيه، إلا لمن تيقن له بأنه لا طريق سواها في جلب مصلحة شرعية أو درء مفسدة قائمة؛ حيث إن المقصود الرئيسي منها هو استبيان الحق ومعرفة الخطأ وإقامة الحجة على المخالف..
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
 

كتبه
سامح محمد عيد محمد
أبو محمد الفاتح
باحث علمي وشرعي
 

----------------------------------
([1]) ((مختار الصحاح)) (مادة: ب هـ ل)، وانظر: ((تحرير ألفاظ التنبيه)) للنووي (ص: 247)
([2]) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) لعبدالرحمن السعدي (2/49).
([3]) ((روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني)) (3/189).
([4]) وذهب الروافض إلى أن لها صيغة معينة وهي: (اللهم رب السموات السبع ورب الأرضين السبع، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، إن كان (ثم يذكر الشخص اسمه) جحد حقا وادعى باطلا؛ فأنزل عليه حسبانا من السماء أو عذابا أليماً، وإن كان فلان (ثم يذكر اسم الشخص الذي يريد مباهلته) جحد حقا أو ادعى باطلا؛ فأنزل عليه حسبانا من السماء أو عذابا أليماً) ((رسائل الشيعة)) لمحمد بن الحسن الحر العاملي (7/135) ومثل هذا الدعاء لا يثبت، والأمر كما ذكرنا بالمتن.
([5]) انظر: ((توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم)) لأحمد بن إبراهيم بن عيسى (1/37)
([6]) ((زاد المعاد في هدي خير العباد)) لابن قيم الجوزية (3/643).
([7]) رواه أحمد (1/248) (2225)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (6/308) (11061)، وأبو يعلى (4/471) (2604). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/231): رجال أبي يعلى رجال الصحيح، وقال ابن حجر في ((العجاب)) (1/287): إسناده صحيح، وصححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (7/872)
([8]) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) (2/361-362)
([9]) ((تفسير القرآن العظيم)) (2/49).
([10]) ((تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)) لعبدالرحمن السعدي (2/49).
([11]) ((تفسير القرآن العظيم)) (2/49).
([12]) ((تفسير القرآن العظيم)) (5/258).
([13]) رواه البخاري (4380) واللفظ له، ومسلم (2420).
([14]) ((فتح الباري)) (8/95)
([15]) رواه أبو داود (2307)، وابن ماجه (1663)، والبيهقي (7/430) (15872).
والأثر سكت عنه أبو داود، وقال الشوكاني في ((فتح القدير)) (5/347): روي نحو هذا عنه من طرق وبعضها في ((صحيح البخاري))، وصححه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).
([16]) رواه الدارقطني في ((السنن)) (3/318) (267)، والبيهقي (7/383) (15644).
([17]) ذكره ابن قدامة في ((المغني)) (7/25). وحسنه الألباني في ((إرواء الغليل)) (1706).
([18]) ((تفسير القرآن العظيم)) (6/411).
([19]) ((زاد المعاد في هدي خير العباد)) لابن قيم الجوزية (3/643).
([20]) ((حسن الأسوة بما ثبت من الله ورسوله في النسوة)) (ص62)
([21]) ((فتاوى اللجنة الدائمة)) (1/4/203-204)
([22]) حيث طلبها من سفيان الثوري. انظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/95)
([23]) حيث طلبها من بعض خصومه. ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/82).
([24]) حيث طلبها من المعطلة. ((توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم)) لأحمد بن إبراهيم بن عيسى (1/31)
([25]) حيث طلبها من ابن الأمين المصري. انظر: ((الضوء اللامع)) للسخاوي (6/186).
([26]) انظر: ((الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) (1/55).
([27]) حيث طلبها من بعض مخالفيه ((عون الباري لحل أدلة صحيح البخاري)) (5/334).
([28]) حيث طلبها من ميرزا غلام أحمد القادياني ((القاديانية دراسات وتحليل)) لإحسان إلهي ظهير  (ص154-159)
([29]) حيث طلبها من الرافضي حسن شحاتة.
([30]) حيث طلبها من الرافضي علي آل محسن.
([31]) حيث طلبها من الرافضي ياسر بن يحيى.
([32]) ((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)) لابن تيمية (4/57)
([33]) ((فتح الباري)) (8/95)

 

بحوث علمية
  • بحوث في التوحيد
  • بحوث فقهية
  • بحوث حديثية
  • بحوث في التفسير
  • بحوث في اللغة
  • بحوث متفرقة
  • الصفحة الرئيسية