اطبع هذه الصفحة


وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله"

ابراهيم الدميجي


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ


اللهم لك الحمد, وإليك المشتكى, وأنت المستعان, وبك المستغاث, وعليك التكلان, ولا حول ولا قوة إلا بك. اللهم لك الحمد كلّه, أوله وآخره, علانيته وسره, حق أنت أن تحمد, وأنت للحمد أهل, حق أنت أن تُعبد, لا إله إلا أنت, وأنت على كل شيء قدير. هديتنا للإسلام, ووفقتنا للسنة, وأنزلت إلينا خير كتبك, وأرسلت إلينا خير رسلك, وجعلتنا من خير أمة أخرجت للناس. فلك الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً, ولك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وخليله وكليمه ومصطفاه وخيرته من خلقه, صاحب الجبين الأنور والوجه الأزهر, خيرُ من وطء الثرى, وركب الذّرى, وتسنّم المراتب العُلى. خيرُ المرسلين, وسيدُ ولد آدم أجمعين, وقائدُ الغرّ المحجلين, كلّ بني الإنسان تحت لواء حمده يوم القيامة, آدم ومن دونه, صاحبُ الحوضِ المورود, والمقامِ المحمود, والشفاعةِ العظمى التي يغبطه عليها الأنبياء. بلّغ وبشّر وأنذر, ووعد وأوعد من ربه وحذّر, ترك أمته على الصراط المستقيم, الذي لا يضل عنه إلا المخذول, ولا يتنكب محجّته سوى المحروم, ولا يوفق لهدايته إلا المرحوم. جعلني الله والقارئ ووالدينا والمسلمين من حزبه المفلحين, وأتباعه المسددين, وآمن فزعنا يوم الدين, وآتانا صحفنا غداً باليمين, آمين يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا رب العالمين. اللهم صلّ وسلم, وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:

فإن الله ابتعث محمداً صلى الله عليه وسلم بدين كامل, وشريعة تامة, فكان أعلم الخلق, وأفصح الخلق, وأنصح الخلق للخلق, صلى الله عليه وسلم, ثم لم يقبضه إليه حتى رضي عن بلاغه الوافي, وبيانه الشافي, فكانت الأمة بعده على الصراط المستقيم, والمهيع القويم, لا تضل هداتها عن سنته, ولا تزيغ بصائرهم عن شرعته, كانوا على هذا زمناً حتى أذن الله بابتلاء هذه الأمة المرحومة, وتمييز المؤمنين, واستبانة سبيل المجرمين, فنبتت نابتات سوء, في العصر الأول من الأصحاب, فقاموا لله حق القيام, وصاروا نجوماً في حنادس الظلام, ورجوماً لكل مبطل, وسعوطاً لكل مبدل, ومن قصد البحر استقل السواقيا.

وعلى آثارهم مشى التابعون, ثم الأتباع, فتمّت القرون المفضلة الثلاثة تماماً على الذي أحسن, فدونت السنن, وحفظت الشريعة, وقمع المبتدعون, وحورب المشركون, ودون العُلى ضربٌ يُدمّي النواصيا.

ما لاح برق أو ترنم طائر إلا انثنيت ولي فؤاد شيق

وقامت منارات العلم في حواضر الإسلام بالوحيين تثجّ, وأتتها النفوس الراغبة من كل فجّ, فقرروا في نفوس الناس عظمة توحيد رب العالمين, وخطر ضده من الشرك الذميم, وحذّروهم من البدع بريد الكفر, و من المعاصي بريد النفاق, فأمروهم بالمعروف, ونهوهم عن المنكر, فأطاعهم الصالحون والعامّة ديانة, والفسّاق حياء أو مخافة, فمخرت سفينة الإسلام والإيمان البحر بعزّ وسلام, وكرامة وإقدام, ورحمة وشفقة, ولم تزل مُذ سارت تُسالِمُ وتُسالَم, وتُحارِبُ وتُحارَب, من وَفَى لها وَفَت له, ومن غَدَرَهَا أوقعت به, ثبت فيها فئام, وتساقط منها آخرون, تعاون أهلها على حفظها بحفظ الله لها, كلٌّ على ما يسّر الله له, فالعمل للدين قرين الانتماء إليه. وهذه السفينة هي الإسلام, وهي التوحيد, وهي السنّة, وهي السلفية, وهي إن ركبها الأدعياء! فليس في السلفية الحقّة شيء سوى الإسلام, وليس من الإسلام الأصيل شيء سواها, فباطنها وظاهرها الالتزام والدعوة إلى ما كان عليه نبينا صلوات الله وسلامه عليه, بلا وكس ولا شطط, مع قبول الاجتهاد المنضبط الدائر مع الدليل حيث دار, فهذا المنهاج السلفي هو عقد نظام الدين الصافي, والملة التالدة الخالدة التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على البيضاء, ليلها كنهارها, لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" صححه الألباني.

وهذه الدعوة السلفية كمعادن الطيب النفيس, فكلما ازداد ضربها نصع طيبها وتضوع عبيرها, وهذا عائد لأنها تتضمن حقيقة الإسلام الصافي الذي لم يُشب بلوثة خرافة, أو حوبة زندقة, أو تحريف للكلم عن مواضعه, بل رجعت بالأمر إلى أوله, وهو التوحيد والسنة, وانطلقت منه وانتهجته, فانتظم لها الدين جملة, وانسجمت تصورات العقول مع حاجات القلوب وأعمال الجوارح, فكان من أراد محض الإسلام الذي لم يُشب؛ ناله بأيسر جهد, موافقاً لفطرته السويّة, وعقله الذكيّ, خالياً من الأكدار والتعقيدات والمقدمات والآصار والأغلال, فوجدت الفطرة طريقها السويّ فسكنت, وتاقت إليه الروح ونالته فخشعت, وأطلق العقل عنانه المنضبط في مهيعه وسُمُوِّه, وأظهرت هذه الدعوة للأمة المهديّة المرحومة طريق نبيهم صلوات الله وسلامه عليه, واضحة آثار سيره عليه, محفوظ المسلك, بيّن المعالم, يسير المرء فيه فيراه واضحاً جليّاً, فلا يستوحش ولو سار وحده, لكثرة من يرى مِن سَلَفِهِ الذين قد ساروه وسلكوه, فيرى آثار نبيه صلى الله عليه وسلم, وعلى إثرها الأصحاب والتابعون والأتباع, ومن سار على تلك المحجة القويمة, واستقام على ذلك الصراط المستقيم, ويرى الأئمة فيه بسِيرهم وأقوالهم وفتاويهم يرشدونه حتى لا يضل, ويبصّرونه حتى لا يزيغ, ويعِظُونه حتى لا يتنكّب صراط المُنعَم عليهم, الذي امتن الله به عليه, فتستأنس نفسه في ذلك الطريق المسلوك بمعيّة من ساروا عليه من بدور الدجى وحرّاس الملة وحفّاظ الإسلام, فيرى الواقف في طرف الطريق قوافل الأئمة والصالحين والصديقين والعبّاد والشهداء, يسبقهم نبيهم صلى الله عليه وسلم, قد تركهم في أوله وينتظرهم في آخره. فليس في ذلك الطريق الجميل شرك ولا بدعة ولا فسق, بل توحيد وسنة وطاعة. جعلنا الله جميعاً ممن حقّق ذلك ومات عليه. آمين.

وإذا تولاه امرؤ دون الورى طرّا تولاه العظيم الشَّانِ

وأهل الإسلام "كالجسد الواحد, إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر" متفق عليه, ولهما مرفوعاً: "كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وقد مدحهم ربهم جل وعلا بقوله: "رحماء بينهم"(الفتح: 29) قال أيوب السختياني رحمه الله: "إنه ليبلغني عن الرجل من أهل السنة أنه مات, فكأنما فقدت عضواً من أعضائي". وأهل السنة يعرفون الحق, يرحمون الخلق ويمحضونهم النصح, وهل ذلك إلا بأن تتحقق الشهادتان في النفوس ظاهراً وباطناً. فالحمد لله الذي أكمل لنا الدين ورضيه, قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم" (المائدة: 3) أكمل لهم الدين, فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً, وأتمه فلا ينقصه أبداً, ورضيه فلا يسخطه أبداً.(1) قال أبو ذر رضي الله عنه: "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلّب جناحه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً" رواه أحمد(2) وقال بعض المشركين لسلمان رضي الله عنه: لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة, فقال: "أجل ..." رواه مسلم.

وبأسفٍ؛ فما زال بعض أبناء الملة وأهل القبلة, يغبّشون صفاءها باستحسانات يقدحها الهوى في أفئدتهم, فيبثّونها في العامّة دون الرجوع لحِكْمَةِ وعلم العلماء, لأنهم قد أسقطوهم من مرجعيّتهم, إذ عنّ لهم أنهم رجال وهم رجال, وما الفقه لأحد دون أحد...أمّا الخيام فإنها كخيامهم!.

ومن ثمّ بثّوا شبههم التي ظنوها حججاً, ونفخ بعضهم في كيرها, فطار شررها إلى أطراف خيمة الإسلام, فإن لم يدركها أهل العلم والفضل وإلا فالخوف أن يدرك مارِجُها الأركان, فالشبهة تبدأ هزيلة سقيمة فَتُغَذى بلبان الهوى, وتُنشَر في الأنام كأنها حقيقة مسلّمة, فتُتَلَقّفُ ممن قل نصيبه من الفقه, وما أكثرهم! والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبرُ!.

ظنّوها ثهلان ذا الهضبات ما يتحلحل, فإذا بها سحابة صيف عن قليل تقشّع, حقيقتها برق خُلّب, وإن زخرفوها بحسين الكَلم, ورصفوها مكراً لبادي الرأي, ثُمّ العجب أنهم لها أحنّ من شارف, وعليها أحذر من غراب, كأنهم لم يخلقوا إلا لها, ولن يسألوا عن سواها, فصيروها شعاراً عليه معاقد الولاء والبراء, فمن نبّههم أو أنكر باطلهم ردوا بحالهم ومقالهم: أساجلك العداوة ما بقينا! ثم استقبلهم أبو مرّة بلحيته, وتلفّع لهم بعمامته, فظنوه ناصحاً مشفقاً, وما دروا أنه من أزّهم لذلك, وجمع لهم ما هنالك, والباقعة أنهم ممن عُدَّ من أهل الدين, والفارس لا يغزو قومه, والرائد لا يكذب أهله, ولكن؛ إذا الله سنى عقد أمر تيسرا.

وظلم القريب يغصّ الحلوق ويجري من العين دماً بدمْ

فضيم البعيد أذى قد يداوى وكيد القريب مصاب أطمّْ

إذا قدوة القـوم أمسى لئيماً وباع بأخـراه دنياً أذمْ

فكبّر وسلّم عـلى أمتي فقـبل الوفاة يكون السقمْ

وبالجملةِ؛ فالسُّنة كلّها خير, والبدعة كلّها شرّ مهما تلوّنت وتقلبت وتبهرجت, لذا فكلما رفعت بدعة كاهلها قيّض الله لها دقّاً وكسراً بصوارم السنّة على أيدي الأئمة الحنفاء وهل هم إلا أئمة السلف الصالح, وأتباعهم حملة ذلك العهد الرباني, والنهج النبوي؟ فلا تخلو الأرض من قائم لله بحجة, فلما ارتد من ارتد من العرب, قصفهم الله بصارمه الصديق الأكبر, الذي قاد ألوية الموحدين من مدينة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم لدكّ معاقل الردة, وردّ الأمة لدين الله أفواجاً, ولمّا بث الشيطان سراياه الفكرية الكفرية المبدّلة للدين, والملوّثة للملّة, قام عليهم إمام السنة المبجل أحمد بن حنبل معه أئمة جهابذة, حاربوا الفتن, ورد الله بهم الباطل.

تناثر العلم شهداً من ثغورهمُ أكرم به منبعاً للدين ينسكبُ

ثم هدأ الناس زماناً حتى ثاب بعض من تلوّثَ ببدع القول لمذاهب منبوشة من رفات الفلسفة الإغريقية, إذ لم يكتف بعضهم بتقريرات أئمة السنة ونقضهم لها قرابة ثلاثة قرون منذ عهد أحمد وأقرانه, وراجت تلك المذاهب في بعض المنتسبة للعلم فتخطفت قلوبهم وبصائرهم فصنفوا وخطبوا ما أضلوا به الناس وفتنوا به العامة, وزينوا المنطق والفلسفة, وجعلوا مقدماتها الممتنعة وتقعيداتها المعقّدة شروطاً للإيمان, وضرورة لكل متعلم, ورفعت الرافضة عقيرتها بالدعوة إلى وثنيتها, وتنادت عبدة الموتى لإغواء العامّة, حتى عبّاد الصليب صار لهم طمع في ردة أهل الإسلام! وانتشرت الشّبه بين من رام العلم, وسقط في شباكها الكثير, فعظمت بهم البلية, وتكاملت بهم الرزية, حتى قيض الله للإسلام من هدّ عروشهم, وزلزل صروحهم, وجعل أعاليها أسافلها, ودكّ معاقل إحداثهم وحصون فتنتهم فأوهاها وأسقطها, وفضح شبههم وكشفها وعرّاها, ذاك هو شيخ الإسلام الرباني وإمام السنة الثاني, أحمد بن تيمية الحراني, فما زال يصول بالله ويجول ويقاتل بعلمه وعمله, ولسانه وسنانة هو ومن تابعه من الأئمة وأهل الفضل, فما زال كذلك حتى قَبَضَه في ذات الله سجيناً صابراً راضياً شاكراً, ولا نزكيه على الله, قد جعل الله جنته وبستانه في صدره, فرحل إلى ربه وهو يتلو: "إن المتقين في جنّات ونهر . في مقعد صدق عند مليك مقتدر" (القمر: 54_55) (3) ثمّ حمل الراية تلاميذه وكثير من أقرانه على سننه الحميد وفعله الرشيد, وليس به وحده جدّد الدين لكنه بزّ أهل زمانه في حمل لوائه وفاقهم في عظيم بلائه, وسار الناس على السنن المحمدي سنيّاً, ثم لم يلبث إبليس أن أغرى بعض الطّغام بعبادة الطاغوت جهاراً, وبذبح الحنيفية عند عتبته نهاراً, كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: "إذا انقطع عن الناس نور النبوة وقعوا في ظلمة الفتن, وحدثت البدع والفجور, ووقع الشر بينهم".(4) حتى رحم الله تعالى الأمة بجيل راشد, يقوده إمام هدى, فهبّت صبا نجد بالعلم والإيمان, فكان نسيمها راحة وهداية وبصيرة للراغبين.

خليليّ من نجدٍ قفا بي على الربى فقد هبّ من تلك الديار نسيم

وكانت حصباؤها رغاماً واجتثاثاً لصروح القبوريين, وكما صحّ عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: "إن الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن" فعاد الناس لدينهم, وآبوا لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. فلم يقبض الله الإمام المجدد حتى أقر عينيه برؤية ثمار دعوته وجهاده, وما عند الله خير وأبقى, ولا نزكي على الله أحدا.

عسى جدث يحوي رفاتاً لحِبِّنَا رياض جنان مترعات سواقيا

ثم أتمّ علماء الدعوة السَّنِيِّة السُّنِّيَة ذلك التجديد, فزكت شجرة الإسلام بتيك الكوكبة من العلماءِ الذين قاموا بالحق وبه يعدلون, فأظهرهم الله وأعزهم, على قلة المعين وضعف الناصر, فما برحوا يقيمون الديانة, ويحرسون معالم الملة, ويذودون عن أصول السنّة, ويَجلُون عرائس المعاني لراغبيها, ويزفّون أبكار خرائد المعارف لخاطبيها, فلله هم من أنجم وأقمار, ورواسٍ وأنهار!.

أتاك حديث لا يُملّ سماعه شهيّ إلينا نثره ونظامه

إذا ذكرته النفس زال عناؤها وزال عن القلب المعنّى قتامه

ثم خرج ممن استظلوا بنعمة السنة, وتربّوا في رحاب مدرسة علماء الدعوة, وتخرجوا على علمهم, فأخذوا يناكفونها, زعماً أنهم يقوّمون المنهج ويصوّبون المسار! وما علموا أنهم قد أُخِذُوا بشبهات من سبقهم من مناوئي الدعوة النجدية السلفية, فما هم سوى أبواق سوء, ورُسُل بغْي, لمن خُلِبوا بهم وفُتِنوا, حالهم:

ويقبح من سواك الفعل عندي وتفعله فيحسن منك ذاكا!

ولو أنّهم تريّثُوا وتمهّلوا, وراجعوا أنفسهم وتجردوا, وتدثروا بالتقوى, والتحفوا الورع؛ لأدّاهم ذلك إلى الهدى, "وأتوا البيوت من أبوابها" (البقرة: 189) وقد ركب موجتهم فئام من الأغرار, أو طوائف من الفجار, فتارة يركض معهم المستنوقون "العصرانيون" المنهزمون, وتارة التزويريون "التنويريون" المميعون, ومتأسلمة العلمانيين, ناهيك عن أهل الخرافة من المتصوّفة والمتشيّعة, أو أذناب الكفرة من العلمانيين والليبراليين والمستغربين, وخلف صفوف هؤلاء مجامع الاستشراق ونوادي الفكر الموجه, ودوائر البحوث والدراسات الممنهجة ضد الحق. فحاربوا الدعوة صفّاً واحداً, وتفرقوا إلا عليها, فتنوّعت طرق حربها, وتباينت سبل ضربها, فتارة في إسقاط الرموز باتهامهم في نياتهم.

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالقوم أعداء له وخصوم

كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسداً وبغياً إنه لدميم

وأخرى بضرب المنهج, واتهامه بأنه دخيل على الإسلام, رمتني بدائها وانسلت! وثالثة بافتراء أحداث من وحي الحيال وزاملة الكذب, ولطخها بصفحة تلك الدعوة الصافية, وفي كل عصر لهم جنود مجندة, وشُبَهٌ ملوّنة "ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض" (محمد: 4) وللنار ملؤها وللجنة ملؤها. وتوارد هؤلاء المخذولون, وأولئك الموتورون على الهجوم على الدعوة السلفية أصالة أو نيابة.

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدّق ما يعتاده من توهم

فمن جزافهم وخطلهم؛ قولهم: إن للشيخ محمد بن عبدالوهاب مآرب سياسية ومالية! أو أن حركته خارجية تكفيرية, وأنه يكفّر الأمة بعمومها, أوأنه مبغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم, أو أنه مدع للنبوة, أو أنه مرجئ لا يكفر أحداً مهما غلا كفره. (5) ثم ظهر الآن من يزعم أنه لا يختلف مع الشيخ علمياً لكنه لا يوافقه عملياً في المبدأ الأصيل التكفير والقتال, وهذا من تناقضه فأين الكفر بالطاغوت والبراءة منه؟! وبعضهم يتجاوز الشيخ إلى تلاميذه من علماء الدعوة فيتهمهم بأنهم خالفوا منهج الإمام وأنه لم يكفّر من قامت عليه الحجة, ويتعلق بمتشابه من القول, ويعرض عن المحكم المضطرد, وقد كفانا أئمة الدعوة رد كل شبهة, فقد سطروها في كتبهم وفتاويهم وردودهم.

ومن أولئك المدهنون من ينتسب للسلفية ويخالف منهجها بغموض وغمغمة, يريد بوهمه أن يبقى في المنطقة الرمادية التي حقيقتها "مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً" (النساء:143) كالشاة العائرة بين الغنمين, ولم يعلم أن أصول الدين وثوابت المنهج لا تقبل أنصاف الحلول, فلا منزلة بين المنزلتين ولا طريق بين السبيلين, بل: "وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين" (الأنعام: 55) "فريق في الجنة وفريق في السعير" (الشورى: 7) فنرى ذلك البائس يحبّر الصفحات يظنها ماءً زلالاً, وليست بشيء إنما هي حديث خرافة, وسراب بقيعة:

أظلّت علينا منك يوماً سحابة أضاءت لنا برقاً وأبطا رشاشها

فلا غيمها يجلو فييأس طامع ولا غيثها يأتي فيروى عطاشها

وأصبح تنويريّهم! أوعصرانيّهم! المنتسب للسلفية يُجْمِلُ الخطابَ مداهنة لا مداراة, ولا يبالي بأن نسبته المتمشعرة أو المتصوفة بل والمتشيعة لها! فصار كمن جره القرش لبحره, والعقرب لجحرها "ومن يهن الله فما له من مكرم" (الحج: 18). بل بعضهم ربما والى أهل الصليب وداهنهم في دينه.

أيها المبتلى بحب الكلاب لا يحب الكلاب إلا الكلاب

لو تعريت وسطها كنت منها إنما فقـتها بلبس الثياب

ونحن في زمن اشتدت فيه ضراوة الشّبه, وتخطّف كَلَبُها كثيراً من منتسبة العلم, ففي كل يوم لها صريع أو قتيل, وليتهم لوحدهم بل قد جرّوا معهم فئاماً من الأمة أحسنوا الظن بهم, وعلّقوا بكلامهم الحق, فصاروا رؤوس باطل, ودخان ضلالة, قد رُوِّعُوا وأُخنعوا بعبارات المستغربين وأفراخ المستشرقين وأذنابهم في وصف منهاج النبوة بالراديكالي والمتشدد والمتطرف واليميني والرجعي والظلامي والوهابي (6) فراحوا ينقّبون في الآثار والسير لا ليردّوا عادية أولئك بقوة وعزة وشمم, ولا ليصولوا عليهم ويُخرسوهم بالبراهين والحجج! بل ليجدوا لهزيمتهم النفسية تأويلاً ومخرجاً يلوون به باقي الأدلة لينفوا كلام الأسياد "الخصوم" وينفوا عن الدين الصلابة والشدة والغلظة مع أهلها, فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير. "وضربت عليهم الذلة والمسكنة" (البقرة:61 ) فإن اشتد خطابهم, وأرقلت رواحلهم, وحُدَّت حرابهم؛ فإنما ذلك على إخوانهم...بينما سَلِمَ منهم شر البرية!.

كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا

وحين اتهم مستشرقون الإسلام بأنه قد انتشر بالسيف, قابلهم المنهزمون المخذولون الذين طغت عليهم عقدة المغلوب, وراعتهم صولة الصليب وغَيَاية المادة؛ فنفوا_عن حسن نية, وضعف بصيرة_ القتال في سبيل الله! وصيّروه جهاد الدفع دون الطلب "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم . تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون" (الصف: 10_11). "واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل" (البقرة: 191) "يا أيها الذيم آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين" (التوبة: 123) وهل يجرؤ مسلم على توجيه آية التوبة هذه إلى جهاد الدفع, وهي في غاية الصراحة في الطلب: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" (التوبة: 29) وقال إمام المجاهدين صلوات الله وسلامه عليه: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة وجعل رزقي تحت ظل رمحي, وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري, ومن تشبه بقوم فهو منهم" رواه البخاري معلقاً, ومن لم يثق في الوحي ثقة مطلقة فلا ترجه.

وأقول بعالي الصوت:

إن كان إرهاباً قتال عدونا فليشهد التاريخ أنني أرهابي

ومن الآخيّة عينها دفّت دافة الاعتزال, ونبتت نابتة الإرجاء بل والخرافة في بعضهم, فليتنبه الغيورون لذلك. وهذه نابتة لا بد من قطعها قبل استفحالها, لأنها تُلبس الباطل والإرجاء لباس السنة والسلفية, كما أن من واجب الوقت ردّ صيال الطرف الآخر سليل فكر الخوارج ووارث تعنتهم الفكري وضلالهم المنهجي وغلوّهم في الدين, الذين خرجوا على أهل الإسلام فكفّروهم, واستحلّوا دماءهم وأعراضهم, ولم يعلموا أنهم بذلك قد حكموا على أنفسهم بأن صاروا شر الخلق والخليقة! عياذاً بالله تعالى. وإنما تُرد عاديات هؤلاء وأولئك ببراهين الوحي, ومحكمات الشريعة (7).

لقد ضيع بعض قومنا الثوابت عند ازدحام الأحداث, وكثرةُ مزالق الناس, وكبر سقطاتهم ليست مبرراً لغيرهم إذا سقط, "بل الإنسان على نفسه بصيرة. ولو ألقى معاذيره" (القيامة: 14_15) ولا يصحّ في النّهاية إلا الصحيح "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" (الرعد: 17) والعاقلُ لا يبني قصراً ويهدم مصراً. وبعض هؤلاء متلوّن متقلب, في الصباح يحرّر, ويقرّر, وفي الظهر يصوّر ويبرّر, وفي المغرب ينقض ويكرّر! لا ضابط له ولا تأصيل, تارة يشرّق وأخرى يغرّب, ضالّته حيث حطّت رحلها أم قشعم:

يوماً يمان إذا ما جئتَ ذا يمن وإن لقيتَ معدّيّاً فعدنان

حتى مسألة سيادة الشريعة والحكم بما أنزل الله جدّ فيها عندهم نظر! "ومن يضلل الله فماله من هاد" (الزمر: 36) ناهيك عن التشبه بالكفّار ومسائل الغناء والمعازف والاختلاط والحجاب.... وتبرير ذلك الغثاء بهزال أغثى! "أفي الله شك"(إبراهيم: 10) بل وحتى تهنئة الكفار على كفرهم وجدت لها بين هؤلاء داعياً ومجيزاً, همّ بعضهم تتبع الشذوذات التي تُطرب أشباه الفُسّاق الباحثين عن أي تكأة أو مخرج من قيود الشريعة وحياض الأحكام, ظنّ ذلك المُزيِّف نفسه قد أتت بمسائل وحررت أحكاماً لم يعلمها السلف! أو قصرت عنها أفهامهم! أو علموها فخافوا! حتى صدع بها ديانة وأمانة! اللهم غفراً, كأنّما يقول: هاأنذا فاعرفوني, ثم ماذا ؟! حال بعضهم كمن بال في بئر زمزم, فلما سئل قال: كي يعرفني الناس! وصدق, فقد عرفه الناس بشرّ عمله, وخطيئة قلمه, وسيشهدون عليه بين يدي الديان يوم الحساب حين تضمحل الزيوف, ويبقى ما أُريد به وجه الله, وكان على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو العالية: "كلمتان يسأل عنها الأولون والآخرون, ماذا كنتم تعبدون, وماذا أجبتم المرسلين"(8).

والإسلام منصور بنا أو بغيرنا, والسعيد من ركب تلك السفينة, ورافق أولئك القوم, والله حافظٌ دينه ومعلٍ كلمته ولو كره المشركون, ولو زاغ الزائغون, ودينه كامل لا يقبل التجزئة "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافّة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين"" (البقرة: 208) ولمّا اشترط بعض الناس شروطاً في بيعة الإسلام تناقض ثوابته, ردّ رسول الله صلى اله عليه وسلم ذلك عليهم حتى يدخلوا في السلم كافة, ولما قال عمر لأبي بكر: "يا خليفة رسول الله! تألّف الناس". قال له أبو بكر: "يا ابن الخطاب! أجبّار في الجاهلية، خوّار في الإسلام؟! رجوت نصرك فجئتني بخذلانك! علام أتألفهم، أعلى حديث مفترى؟! أم على شعر مفتعل؟!".

مآرب كانت في الحياة لأهلها عِذاباً فصارت في الممات عَذاباً

ولم يوفّق في الكلام في ذلك بعض الفضلاء, وليتهم إذ لم يعلموا أو اشتبهوا سكتوا, وليتهم إن حسبوا أنهم علموا تريثوا وشاوروا الراسخين ممن تنقطع دونهم أعناق المطي, وقد سهّل الله تواصلهم, ولكن أبت أمُّ الندامة ذلك! وزلّة العالِم زلّة العالَم, ومضروب لها الطبل, ومحمولة عند المناوئين على أسوأ المحامل, فتكلّم بعضهم بكلام غريب, فمهّدوا وجعلوا الكلام في الشريعة وأصول الدين وكبار المسائل كلأً مباحاً لكل دعيٍّ ومتعالم! حتى جعلوا وحي الله وشرعة الخالق المالك ألعوبة بيد عبيده ومماليكه! مراعاة لخواطر أعداء الشريعة وعبدة الصليب "ولا تركنوا إلى الذين كفروا فتمسكم النار"(هود:113) وما ثَمّ إلا توفيق الله "ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً" (الإسراء: 74) "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون" (هود: 113).

يهون علينا أن تصاب جسومنا وتسلم أعراض لنا وعقول

ولابد من تحرير مسألة الأسماء والأحكام في باب الإيمان, وتأصيلِ العامّة عليها _وقد خدمها العلماء والباحثون بحمد الله بمدونات محررة وبكلام محقق_ ومن المهمّات بيان براءة المنهج السلفي من الضلالتين؛ المفْرِطين الغلاة, والمفَرّطين المقصرين, فالبعض من قومنا قد هرب من التكفير بالباطل فوقع في الإرجاء المذموم, وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. وكما أن القول بتكفير المجتمعات قول خطير فكذلك القول بإسلام المشركين الذين قامت عليهم الحجة قول خطير, فكلا القولين خلل منهجي في باب الإيمان, ثمّ جاءنا آخرون بقول شاذ حيث ألمحوا لاتهام الإمام بالإرجاء وأئمة الدعوة بالخروج! وما أعجب فهوم الناس!.

قال مفتي الديار النجدية الشيخ عبدالله أبو بطين رحمه الله: "وقد استزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة, فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت نصوص الكتاب والسنة والإجماع على كفره, وتعدى بآخرين فكفّروا من حكم الكتاب والسنة والإجماع بأنه مسلم, فيا مصيبة الإسلام من هاتين الطائفتين, ومحنته من تينك البليتين" (9). وقال الشيخ إسحاق بن عبدالرحمن بن حسن رحمه الله: "فجنس هؤلاء المشركين وأمثالهم ممن يعبد الأولياء والصالحين, نحكم بأنهم مشركون, ونرى كفرهم إذا قامت عليهم الحجة الرسالية, وما عدا هذا من الذنوب التي هي دونه في المرتبة والمفسدة لا نكفّر بها.....ونبرأ إلى الله مما أتت به الخوارج, وقالته في أهل الذنوب من المسلمين"(10). إذن فلا بد من تكفير من يستحق, بعد اكتمال الشروط وانتفاء الموانع, لا كما يقوله بعضهم: إن الاحتياط أن لا تكفّر أحداً أصلاً! وهل هذا الاحتياط البارد والورع الأعور إلّا عين المضادة للقرآن الكريم, والمشاقة للسنة المطهرة, سواء من الكفار الأصليين, أو المرتدين. وليس من الإسلام في شيء ما يفعله أفراخ ذي الخويصرة وذي الثديّة من تكفير أهل الإسلام, وحرب أهل الإيمان, وشق صف أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال المشايخ عبدالله بن عبداللطيف وإبراهيم بن عبداللطيف وسليمان بن سحمان: "وأما قوله عن الشيخ محمد أنه لا يكفر من كان على قبة الكوّاز ونحوه, ولا يكفر الوثني حتى يدعوه وتبلغه الحجة فيقال: نعم, فإن الشيخ محمداً رحمه الله لم يكفر الناس ابتداءً إلا بعد قيام الحجة والدعوة, لأنهم إذ ذاك في زمن فترة أو عدم علم بآثار الرسالة, ولذلك قال: "لجهلهم, وعدم وجود من ينبههم" فأما إذا قامت عليهم الحجة فلا مانع من تكفيرهم وإن لم يفهموها....ولا يجادل في هذه المسألة ويشبّه بها إلا من غلّب جانب الهوى, ومال إلى المطامع الدنيوية, واشترى بآيات الله ثمناً قليلاً" (11).

فعدم تكفير المجدد لبعض الناس ليس نفياً لحقيقة الكفر عن مرتكب الكفر الأكبر -تكفير الوصف- بل نفي لتكفير المعين -الشخص- قبل إقامة الحجة عليه, فهذه الأفعال مكفرة عند الإمام ولكن لاحتمال وجود الموانع توقف، وهذا مسلك نفيس وهو جادة أهل السنة على امتداد الزمان وهذا مضطرد في كتبهم ورسائلهم.

وقال الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في البراءة من منهج الخوارج الذين يكفّرون بالكبيرة ومحذّراً من ضلالهم: "وأما ما يكذب علينا ستراً للحق, وتلبيساً على الخلق, بأننا نكفر الناس على الإطلاق من أهل زماننا ....فجوابنا سبحانك هذا بهتان عظيم, فمن روى عنا شيئا من ذلك أو نسبه إلينا فقد كذب علينا وافترى" (12). قال الأحنف: ما خان شريف, ولا كذب عاقل, ولا اغتاب مؤمن, وكانوا يحلفون فيحنثون, ويقولون فلا يكذبون. وقال: اثنان لا يجتمعان أبداً؛ الكذب والمروءة. قلت: فأخص صفات المؤمن الصدق, وأخص صفات المنافق الكذب.

وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل

وسبيل علماء الأمة واحد في البراءة من التكفير بغير حق, وفي البراءة من عدم التكفير بإطلاق, والتطبيق فرع عن التنظير. ومن أولى المسائل الكبار التي وقع فيها الاختلاف والتفرق؛ مسائل التكفير والتبديع والتفسيق.

ومؤرخا الدعوة ابن غنام وابن بشر _والأول من تلاميذ المجدد_ قد شاهدا حال الناس إذ ذاك, فهما أعلم بواقع ذلك الزمان وحال أهله من بعض المؤرخين المعاصرين الذين شكّكوا في بعض الأمور.

قال الشيخ سليمان بن سحمان:

فيا أيها الإخوان جدوا وشمروا لنصرة دين الله بالمال واليد

وبيعوا نفوساً في رضا الله واطلبوا بذاك خلوداً في نعيم مؤبد

وبعض الكتّاب يقسّم السلفية لأقسام ويشرذمها لأنواع؛ فهذه سلفية تقليدية, وتلك جهادية, وثالثة علميّة, ورابعة إصلاحية, وخامسة وسادسة...! وهذا باطل, فالسلفية مدرسة واحدة, ومنهج واحد, واضح المعالم, بيّن القَسَمَات, والسلفية اسم مطابق لمعناه, ومعنى موافق لمبناه, فمن كان على ما كان عليه أهل العلم والدين في القرون المفضلة الثلاثة فهو سلفي.

وليس من السلفية في شيء تكفير المجتمعات الإسلامية أو الأفراد بمجرد الكبائر, أو الافتئات على الولاة, أو إيغار صدور شعوبهم عليهم, أو الخروج عليهم بإطلاق, ولا خفر ذمة المسلمين بالغدر بأهل ذمتهم وعهدهم, وإنهار الدماء المعصومة والأنفس المصونة من أمة الإسلام, أو ممن عاهدوهم علي الأمان والمسالمة.

وليس من السلفية في شيء الخنوع للكفرة والمستشرقين والمستغربين, وإقرار الربا والخنا والتغريب, بداية بالتبرير وانتهاءً بالتبديل. "ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون . ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون" (المائدة:80_81). "فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين"(المائدة: 52).

وليس من السلفية في شيء تصيّد عثرات أهل العلم, وإشاعتها على سبيل التّنقّص والشماتة, واستباحة أعراض أهل السنة بغيبتهم وأخذهم بالظّنّ, واعتساف كلامهم, والتحزّب لذات التحزّب, أوالتحزّب هرباً من التحزّب "هو سمّاكم المسلمين" (الحج: 78) والبذاء والإقذاع في الإنكار كيف وذلك على أمور يسوغ فيها الخلاف؟! _ولا يعني هذا ترك الرد على الغلط والخطأ, بل ولا بأس من التسمية إن دعت الحاجة, وسبيل السلف الرد والاحتساب فيه مع ضوابطه المعتبرة_.

أفاطمُ ماللنبع قد أجّ ماؤه وقد كان قبل اليوم عذباً وصافيا

وليس من السلفية في شيء التفريط في حقوق شهادة أن لا إله إلا الله, فيُخرجُ منها أهلها, ويُغفل عظيم حقها وحق أهلها. ولا التفريط في حقوق شهادة أن محمداً رسول الله, فيميّع السنة, ويدخل فيها من وما ليس منها.

وليس من السلفيّة في شيء تطويع أدلة الوحي لهوى السّاسة والسلاطين, وليس من السلفية في شيء تمييع الدين القويم, وتلويث المنهج النقي أو تبديله إما لرغبة حاكم أو حزب أو جمهور, كما قال السفيانان رحمهما الله: "من نجا من فتنة البدع وفتنة السلطان فقد نجا من الشر كلّه"(13).

أيا مبتغي الفردوس عجّل بصارمٍ وكن صادق الإقبال عند التلاقيا

عن تحي عشت العزّ في كل لحظة وإن كانت الأخرى ستلقى المراقيا

واعلم أن هذا الدين محارب من زنادقة دخلوه ليهدموه وينقضوا أساساته وأعمدته ويُبدّلوا مادته من الداخل, ولا زال لهم أفراخ تقتات على لوثات مصنفاتهم الخبيثة, وتقيئها في نوادي الفكر, ومجالس الحوار, ونشرات الثقافة, وقنوات الأثير! وقد فرّخ بعض بيضهم, فبعض الناس أضلته شبهاتهم وتخطّفت قلبه لمّا أعرض عن تعظيم الآثار, وكفى بالخذلان عقوبة, وممن كان له دور في إثارة الشبه وإضلال الأمة:

إبراهيم النظام؛ وهو مزدكي زنديق, على ما قاله العلماء, تظاهر بالإسلام, وتلبس الاعتزال, وبث شبهه بين الناس. ومنهم عدوّ الإسلام المتسمي به ابن الراوندي الذي ألف لليهود كتاباً أسماه الدامغ, يزعم أنه يرد به على القرآن العظيم, أخزاه الله.

ومنهم غيلان الدمشقي, القدري, ويقال: إنه قد أخذ عقيدته من يوحنا أو سوسن الدمشقيين النصرانيين, وهو الذي ناظره الإمام الأوزاعي, ثم أفتى بقتله, فقتله هشام بن عبدالملك.

ومنهم معبد الجهني, وهو أوّل من قال بنفي القدر, وهو الذي توعده ابن عباس رضي الله عنهما أن لو قبض عليه _بعد ما عمي_ أن يعضّ أنفه حتى يقطعه, وأن يدق عنقه, غضباً لله تعالى. وقد قتله الحجاج بن يوسف عام 128.

ومنهم الجعد بن درهم, وهو أول من أظهر القول بخلق القرآن, وقد أخذ هذه العقيدة الضالة من اليهود, ويقال: إنه قد أخذ قالته من أبان بن سمعان, الذي أخذها عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم وختنه, الذي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فما أنتنها من سلسلة ضلال! وأقبِح به من سند كفر, وقد قتله خالد القسري _قصّاب الزنادقة_ عام 128 بناء على فتاوى العلماء.

شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قـربان

وهو مؤدب آخر خلفاء بني أمية مروان بن محمد الذي لقب بالجعدي.

وكان من تلاميذ الجعدِ الجهمُ بن صفوان إمام نفاة الصفات, وهو جبريٌّ في القدر.

عجبت لمن يدعو الناس جهرة إلى النار واشتق اسمه من جهنم

وقد قتله سلم بن أحوز رحمه الله بناء على فتاوى العلماء.

من تلاميذ الجهم أحمد بن أبي دؤاد رأس فتنة القول بخلق القرآن. ومن تلاميذ الجهم بن صفوان بشر المرّيسي؛ وهو يهودي ابن يهودي دخل نفاقاً بشهادة أمِّه؛ حيث قالت: ما دخل دينكم إلا ليفسده, وهو جهمي في الصفات, قدري في القدر, وكان ينكر العلم, وهو الذي ناظره عبدالعزيز الكناني, ورد عليه الإمام الدارمي.

ومنهم محمد بن الحسن النصيري, مدّعي الألوهية, من زعماء النصيرية في جبال اللاذقية، كان يلقب بالمهدي تارة، وتارة يدعى علي بن أبي طالب فاطر السموات والأرض، خرج بالنصيرية فدخلوا جبلة فقتلوا خلقًا من أهلها، وخرجوا يقولون: لا إله إلا علي، ولا حجاب إلا محمد، ولا باب إلا سلمان، وأمر أصحابه بهدم المساجد، واتخاذها خمارات، وكانوا يقولون لمن يأسرونه من المسلمين: قل لا إله إلا علي، واسجد لإلهك المهدي الذي يحيي ويميت، حتى يحقن دمك، فجرّدت إليهم العساكر، فقتل منهم جمع كبير، ونامت فتنتهم.

ومنهم ابن سينا فيلسوف الزنادقة قال ابن القيم عنه: كان ابن سينا كما أخبر عن نفسه قال: أنا وأبي من أهل دعوة الحاكم، فكان من القرامطة الباطنية الذين لا يؤمنون بمعيد ولا معاد، ولا رب خالق ولا رسول مبعوث جاء من عند الله تعالى.

ومنهم النصير الطوسي ولهذا الخبيث مصنفات, قال عنه ابن القيم :ولما انتهت النوبة إلى نصير الشرك والكفر المُلْحد وزير الملاحدة: النصير الطوسي، وزير هولاكو، شفا نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه، فعرضهم على السيف، حتى شفا إخوانه من الملاحدة، واشتفى هو، فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين، واستبقى الفلاسفة والمنجمين، والطبائعيين والسحرة.

ولا زالت عقائد أولئك الفجرة تُتداول في بعض الهيئات العلمية والجامعات الإسلامية على أنها فكر حرّ مستنير من أئمة كبار للمسلمين! هذا وللأسف فبعض متأخري الصّوفية قد أدركتهم موجات كفر وإلحاد, فصار منهم حلولية _يرون حلول الخالق في المخلوق!_ على عقيدة والحلاج وأتباعه القائل: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا...! وما في الجبة إلا الله! وسبحاني سبحاني! واتحادية_يرون الخلق مظاهر للخالق!_ على عقيدة ابن عربي وابن سبعين والقونوي والتلمساني وابن الفارض, قال ابن عربي: من عبد الصنم فقد عبد الصمد! وقال أحد المريدين لشيخ ضلالة يؤصل لهم مذهب الاتحادية ويقرره في نفوسهم: يا شيخ أردت أن أقضي حاجتي فتذكرت قولك: إن الأرض وكل شيء هو الله! فكيف أصنع؟ فقال ذلك الإبليسي الزنديق: وربك أيش إذاً!! الكلّ ربك!!. تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً, وسبحان الله عما يصفون, والآخر يقول مقرراً ومؤصلاً في نفوس الأغرار شرك الربوبية والألوهية معاً: لا يدخل مصر حبة شعير واحدة إلا بإذن السيد البدوي!. وفي قرة العيون للشيخ عبدالرحمن بن حسن: "وأعظم آلهة القبوريين في مصر أحمد البدوي".

وينبغي التنبّه الى اختراق المتصوفة من قبل بعض القبوريين, الذين جعلوهم يتبنّون خرافاتهم وشركياتهم؛ كخرافة التوسل والوساطة والسرّ ونحو تلك الوثنيات (14).

قال العلامة صالح آل الشيخ في كتابه (هذه مفاهيمنا): "وقد جادلت يوماً
ببلدٍ إفريقي أحد المفتونين من كبار العلماء المُحَبَّذين لعبادة القبور والسدنةِ حولها في حالهم، ومعنى العبادة، ومفهوم الشهادتين، فقال: أنا أعلم أنكم على الحق ولكن(سيب) الناس تعيش!".

وللعلم فليس كل المتصوفة يقولون بذلك الكفر, بل هو عند فئة قليلة نسبة إلى جمهورهم الذي يبرأ إلى الله من هذه الأمور, وبعض هؤلاء يحسن الظن ببعض الزنادقة وأئمة الضلال وهو لا يعلم حقيقة مقالاتهم الفاجرة. فمن المتصوفة أهل علم ودين وورع وفضل, انتسبوا جهلاً لطريقة دون سبيل نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم, التي اجتمع فيها كل الخير بحذافيره, ومنهم زنادقة كفرة, أخبث من نطفة إبليس, وأكفر من اليهود والنصارى, وبين هؤلاء وأولئك طوائف.

ذكرت ذلك إيقاظاً لبعض من أحسن الظن بمن لا يستحقه, وليُحذر من تلك المذاهب الخبيثة والنحل الرديئة, وليعلم المحب أن دين الفلاسفة والزنادقة والباطنية والقبورية والحلولية والاتحادية مباين لدين المرسلين, ومزايل لملة محمد وإبراهيم عليهم الصلاة والتسليم, ومناقض لدين المسلمين, وأن بعض من ينتسب إلى الإسلام قد تشرب ذلك الضلال والوثنية, ولقد قابلت بعضاً منهم وصرّحوا بذلك, فما أعظم واجب أهل الحق, وأخطر مسؤوليتهم, وأكبر أمانتهم في كشف الباطل وبيان الحق.

وبالجملة فلا بد من البيان والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة, والجدال بالتي هي أحسن, ونشر التوحيد, والتحذير من ضده, بكل طريقة ممكنة, لرفع الجهل عن الأمة, ونشر إرث النبوة فيها.

ولسان حال بعض الغيورين على ثوابت الإسلام ومحكمات الإيمان والقرآن:

كم من هموم أحرقت كبدي التي بـجوانـحي لكنن أتجلدُ

أواه قلبي لا تبح سري الذي أكنـنته قلباً حـزيناً يكمدُ

لكنما اللوعات حين أوارها تجثوا على القلب القوي فيهمدُ

تتهشّم الأضلاع من رجع الصدى من أنّة مكـلومة تتردّدُ

يا مقلتي ما عدت أقوى صابراً جودي ببحر زاخر يتمددُ

بحر خضم سخّنت أمواجه من نار كبدي والضلوع تقددُ

لكن نقول: دع البكاء على الأطلال والدِّمَنِ....وأصلح نفسك وثنِّ بمن حولك وأتبعهم بمن تطيق من عباد الله (15).

أبشر أخا الإسلام فالنصر قادم وإن أجلب الكفار كل النواديا

تلك مهمات المقال وهذا أوان الشروع في التفصيل, على قلة البضاعة, ولكن من باب المشاركة في نقل كلام أهل العلم والله من وراء القصد, وهو الموفق, وعليه التكلان.

وعناصره على النحو التالي:

1-المقدمة.

2_عظمة التوحيد, وخطر الشرك.

3-تعظيم السنة, وذم البدعة.

4_الأمر بالاجتماع والنهي عن الاختلاف والفرقة.

5_جادة علماء السنة واحدة.

6_الوسطية دين المسلمين.

7_خطر التكفير بغير حق, وخبث مذهب الخوارج.

8_براءة الدعوة السلفية من التكفير بغير حق.

9_لزوم بيعة السلطان المسلم, وتحريم الخروج عليه.

10_خطر القول بعدم تكفير المعيّن بإطلاق, وخبث مذهب المرجئة.

11_الولاء والبراء, شرط الإيمان.

12_براءة الدعوة السلفية من عدم تكفير المعيّن بإطلاق.

13_مسألة العذر بالجهل في أمور الشرك الأكبر.

14_شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

15_الخاتمة.


 

 

"عظمةُ التَّوحيدِ, وَخَطرُ الشّركِ"

توحيد رب العالمين, وإله السماوات ولأرضين, هو تحقيق للشهادتين, وهو أعظم التكاليف بإطلاق, كما قيل: أمرٌ هذا شأنه؛ حقيق أن تُثنى عليه الخناصر, ويُعضّ عليه بالنواجذ, ويقبض فيه على الجمر, ولا يؤخذ بأطراف الأنامل, ولا يؤخذ على فضلة, بل يجعل هو المطلب الأعظم وما سواه إنما يُطلب على الفضلة. ومن لطف الله ورحمته أن جعل حروف لا إله إلا الله كلها لسانية ليس منها حرف شفهي, كي يسهل نطقها على المحتضر, "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" رواه أبو داود (16) وعند الشيخين مرفوعاً:"لله أرحم بعباده من هذه بولدها".

والتوحيد هو حقيقة الإسلام الذي جاء به نبينا صلوات الله وسلامه عليه, قال الإمام المجدد في الأصول الثلاثة: "...وهذا دينه, لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلّا حذرها منه، والخير الذي دلها عليه؛ التوحيد، وجميع ما يحبه الله ويرضاه. والشر الذي حذرها منه؛ الشرك وجميع ما يكره الله ويأباه، بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض طاعته على جميع الثقلين: الجن والإنس".

وكلمة التوحيد قامت بها السماوات والأرض, وخُلق من أجلها الخلق, ونصبت من أجلها الموازين, وقام لأجلها سوق الجنة والنار, وأسست بها الملة, وجردت لأجلها سيوف الملة.

قال الشيخ حمد بن عتيق في إبطال التنديد: "توحيد الألوهية أول واجب على المكلف, وقد أفصح القرآن فيه كل الإفصاح, وأبدى فيه وأعاد, وضرب لذلك الأمثال, وفيه وقعت الخصومة بين الرسل وأتباعهم"(17). وبوّب الإمام المجدد في كتاب التوحيد (باب من حقق التوحيد دخل الجنة بلا حساب ولا عذاب) وفي حاشية الشيخ عبدالرحمن بن قاسم رحمه الله على ذلك الباب: "تحقيق التوحيد قدر زائد على ماهية التوحيد, وتحقيقه من وجهين؛ واجب ومندوب؛ فالواجب تخليصه من شوائب الشرك والبدع والمعاصي, فالشرك ينافيه بالكلية, والبدع تنافي كماله الواجب, والمعاصي تقدح فيه وتنقص ثوابه. والمندوب هو تحقيق المقربين الذين تركوا مالا بأس فيه حذراً مما فيه بأس, وحقيقته انجذاب الروح إلى الله فلا يكون في قلبه شيء لغيره".

والتوحيد هو الصراط المستقيم, قال بعضهم _وأظنه ابن القيم_: "الصراط المستقيم هو ما جمع ثلاثة أمور:

السهولة والسعة والقرب, فهو أقرب الطرق إلى الله, وأوسطها, وأسهلها, ولو اجتمع من في الأرض فيه لوسعهم, وكل الطرق إلى الله مسدودة إلا هو. ومن أعظم مكفرات الذنوب التهليل الذي هو شعار التوحيد, قال شيخ الإسلام: "التهليل يمحو أصول الشرك, والاستغفار يمحو فروعه"(18).

والدعوة إلى التوحيد هي مهمة المرسلين وأتباعهم, ومن أجلها حصل الافتراق العظيم بين الرسل وأقوامهم المكذبين, وقد أفرد لها الإمام في كتاب التوحيد باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله. قال تعالى: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني" (يوسف: 108). قال الإمام ابن باز رحمه الله: "وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله" وقال عليه الصلاة والسلام: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً" خرجهما مسلم في صحيحه. وقال لعلي رضي الله عنه لما بعثه إلى خيبر: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" متفق على صحته.

وفي هذه الأحاديث وما جاء في معناها تنبيه للدعاة إلى الله والمجاهدين في سبيله على أن المقصود من الجهاد والدعوة إلى الله سبحانه هو هداية البشر, وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وانتشالهم من وهدة الشرك, وعبادة الخلق, إلى عز الإيمان ورفعة الإسلام، وعبادة الإله الحق الواحد الأحد, الذي لا تصلح العبادة لغيره، ولا يستحقها سواه سبحانه وتعالى".

وشريعة الإسلام شديدة في التوحيد, سمحة في الأحكام, كما جمعهما حديث: "بعثت بالحنيفية السمحة" رواه أحمد. "حنيفية" أي: في العقيدة ففيها التشديد فقد قال للذي قال: ما شاء الله وشئت: "أجعلتني لله نداً" رواه أحمد والنسائي. "السمحة" أي في التشريع "صلّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً..." رواه البخاري (19).

وفي الدعوة إلى التوحيد قال الحسن البصري رحمه الله بعدما قرأ هذه الآية: "هذا حبيب الله, هذا ولي الله, هذا صفوة الله, هذا خيرة الله, هذا أحب أهل الأرض إلى الله, أجاب الله في دعوته, ودعا الناس إلى ما أجاب فيه من دعوته, وعمل صالحاً في إجابته". رواه عبدالرزاق عن معمر. وقال الشيخ صالح آل الشيخ في شرح كتاب التوحيد: "الشيخ محمد بن عبدالوهاب لم يكتب ليكتب, بل كتب ليدعو, لذا فقد كتب ما يحتاجه الناس". وقال أيضاً: "لما حصل من بعض القرى في زمن إمام الدعوة تردد وشك, كتبوا للشيخ وأغلظوا له القول, واتهموه بأنه يريد كذا وكذا, فأجابهم بكتاب وضح فيه التوحيد وضده, ثم قال: ولو كنتم تعلمون حقيقة ما دعوتكم إليه لكنت أغلى عندكم من آبائكم وأمهاتكم وأبنائكم ولكنكم قوم لا تعقلون".

وقال الشيخ صالح الفوزان في شرح كتاب التوحيد في تعليقه على قول الله تعالى: "فلما اعتزلهم وما يعبدون" (مريم: 49) "لما اعتزل المشركين ولم يكن معهم عوضه الله بذرية أنبياء, ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه, وبعض الجماعات اليوم لا ينبذون المشركين في جماعتهم ماداموا على منهجهم الحزبي" وعند قول الله تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" (الذاريات: 56) قال: لم يبعث الله الرسل ليعلموا الناس الزراعة والتجارة إنما ليعلموهم التوحيد". وقال في تعليقه على قوله تعالى: "وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً" (نوح:23) والمشركون الآن يقولون: لا تذرن الحسن والحسين والبدوي...." قال الإمام ابن القيم:

فلواحد كن واحداً في في واحد أعني طريق الحق والأيمان

فلواحد(الله عز وجل) كن واحداً (موحد ولو كنت لوحدك) في واحد (السبيل المستقيم الواحد).

قال سليمان بن عبدالله رحمه الله: "وذلك هو حقيقة الشهادتين, فمن قام بهما على هذا الوجه فهو من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب" (20).

وشرطا الدعوة؛ الإخلاص والمتابعة. وصفات الداعي؛ الفقه؛ ليعلّم على بصيرة, والرفق؛ وهو أقرب الطرق لنيل المقصود, والحلم؛ للصبر على الأذى في طريق الأنبياء وأتباع الأنبياء. وشرط التمكين للأمة إنما هو التوحيد "يعبدونني لا يشركون بي شيئاً" (النور: 55).

وضده الشرك, وهو أظلم الظلم, وأقبح الذنوب "إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار" (المائدة: 72) وتهوين شأن الشرك الأكبر في غاية الخطورة, فلو أن رجلاً يقوم الليل, ويصوم النهار, ويحج كل عام, ويعتمر كل شهر, ويتصدق بكل ماله, ويجتهد في أعمال البر, ثم وقع في شرك أكبر؛ كدعاء الموتى, والاستغاثة بهم, ونحو ذلك, وقد قامت عليه الحجة الرسالية, فعمله حابط, وجهده خائب, وسعيه مردود, عياذاً بالله تعالى "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً"(الفرقان: 23 ) فالشرك الأكبر إذا طرأ على الإيمان فإنّه ينقضه بتمامه, كما الحدث في الطهارة يبطلها, وقد مثل بذلك الإمام المجدد, قال في القواعد الأربع: "فإذا عرفت أن الله خلقك لعبادته؛ فاعلم أن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة، فإذا عرفت أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها وأحبط العمل وصار صاحبه من الخالدين في النار، عرفت أن أهم ما عليك معرفة ذلك، لعل الله أن يخلصك من هذه الشبكة, وهي الشرك بالله الذي قال الله تعالى فيه: "إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ" (النساء: 48) انتهى.

وليس العمل بنافع مالم يسلم من نواقضه, وأعظمها الردة عن دين الله, لذلك لمّا احتج بعضهم على شيخ الإسلام إبّان دخول التتر الشام بأن التتر مسلمون ويشهدون شهادة التوحيد! رد عليهم الشيخ بأنهم نقضوا ذلك, وقال: إن رأيتموني في ذلك الجانب_أي صف التتار_ وعلى رأسي مصحف منشور فاقتلوني. فمسألة البراءة من المشركين عظيمة الخطر, جليلة القدر, عزيزة المطلب, وأعظم الناصحين للأمة هم من يغرسون أصول التوحيد وتوابعه فيها, ويهدمون الشرك وفروعه, ويحاربونه بالحجة والبيان والسيف والسنان, فإذا استقام توحيد الأمة انتظمت لها بقية الأمور, وساغ الخلاف والاجتهاد فيما دونه مما يعذر فيه المقلدون. لذلك لما أشار بعض تلاميذ شيخ الإسلام عليه أن يصنّف في الفقه _أي العمليّات_ فيما نقله البزار, أجاب بأن أحكام الفقه أمرها قريب, وإذا قلد المرء أحد الأئمة فيه فلا حرج عليه, ولكني رأيت أصول الدين قد تنازعها الناس (21).

فعلى الناصح الحازم أن يعتصم بالعروة الوثقى والحبل المتين, وأن يوقن أنه لا يستقل عن توفيق ربه طرفة عين, فلو وكله الله إلى نفسه ضاع وهلك, والتوحيد أشد الأشياء نزاهة وحساسية, فأقل شوب يجرحه ويشوه صفاءه, قال واعظ الإسلام عبدالرحمن بن الجوزي رحمه الله في المدهش: "وحّد زيد بن عمرو وما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكفر ابن أُبيّ وقد صلّى القبلتين! فيا من هو من عسكر الرسول! أيحسن منك كل يوم هزيمة؟! ومن أراد من العمّال أن ينظر قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه, فيا أقدام الصبر احملي فقد بقي القليل, ويا أيها الراكب قد علمت أين المنزل فاحد لها تسر".

قال الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني الحسني الهاشمي (1099_1182 هـ) في رسالته (تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد) (22) : "...وكذلك تسمية القبر مشهداً, ومن يعتقدون فيه ولياً لا يخرجه عن اسم الصنم والوثن, إذ هم معاملون لها تعامل المشركين للأصنام, ويطوفون بهم طواف الحجاج بيت الله الحرام, ويلتمسونها التماسهم لأركان البيت, ويخاطبون الميت بالكلمات الكفرية, مثل قولهم: على الله وعليك, ويهتفون بأسمائهم عند الشدائد ونحوها, وكل قوم لهم رجل ينادونه....وهو بعينه فعل المشركين في الأصنام.....فإن قلت: أفيصير هؤلاء الذين يعتقدون في القبور والأولياء والفسقة الخلعاء مشركين, كالذين يعتقدون في الأصنام؟ قلت: نعم, قد حصل فيهم ما حصل في أولئك, وساووهم في ذلك, بل زادوا في الاعتقاد والانقياد والاستعباد فلا فرق بينهم فإن قلت: هؤلاء القبوريين يقولون: نحن لا نشرك بالله عز وجلّ ولا نجعل له نداً والالتجاء إلى الأولياء والاعتقاد فيهم ليس بشرك. قلت: نعم "يقولون بأفواههم" (الأعراف: 167) ولكن هذا جهل منهم بمعنى الشرك, فإن تعظيمهم الأولياء, ونحر النحائر لهم شرك....فإن قلت: هم جاهلون أنهم مشركون بما يفعلونه, قلت: قد صرّح الفقهاء في كتب الفقه في باب الردة: أن من تكلّم بكلمة الكفر يكفر, وإن لم يقصد معناها, وهذا دالٌّ على أنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام, ولا ماهيّة التوحيد, فصاروا حينئذ كفاراً كفراً أصلياً....فإن قلت: لا سواء, فهؤلاء قد قالوا: لا إله إلا الله وقد قال صلى الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" وقال لأسامة: "أقتلته بعدما قال : لا إله إلا الله" وهؤلاء يصلون ويصومون ويزكون, بخلاف المشركين. قلت: قد قال صلى الله عليه وسلم"إلا بحقها" وحقّها إفراد الإلهية والعبودية لله تعالى, والقبوريون لم يفردوا هذه العبادة فلم تنفعهم كلمة الشهادة, فإنها لا تنفع إلا مع التزام معناها, ولم ينفع اليهود قولها لإنكارهم الأنبياء....".

هذا ولا بد للحق من قوة مادية تسنده "وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز" (الحديد: 25) وانظر كيف انتهى مشروع شيخ الإسلام الإصلاحي في زمنه, مع سعة علمه, وقوة عارضته, وغزارة تصانيفه, _مع النجاح الباهر في زمنه وعلى امتداد الزمان بعده, بل إن مشروع مجدد الدعوة هو أحد ثمار مشروع شيخ الإسلام_ثم انظر إلى ثمرة مشروع الإمام المجدد وسرعة قطف ثمرته, فإنه لما كان مع المجدد سيف شهير, فتح الله به قلاع الشرك والوثنية من قلوب الناس. فرحم الله أصحاب السيف الشهير الذين حملوا الأمة على التوحيد, ونقضوا عنها صروح الشرك والبدعة.

وما هو إلا الوحي أو حد مرهف تزيل ضباه أخدعي كل مائل

فهذا شفاء للقلوب من العمى وهذا شفاء العي من كل جاهل


 

 

"تعظيمُ السُّنَّةِ, وذمُّ البِدْعَةِ"

دين النبي محمد أخــبار نِعْـم المطـيّة للفتى آثارُ

لا ترغبنّ عن الحديث وأهله فالرأي ليلٌ والحديث نهارُ

ولربما جهل الفتى أثر الهدى والشمس بازغة لها أنوار

قال شيخ الإسلام: "كانوا _أي السلف_يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة. قال مالك رحمه الله: السنة مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك. وهذا حقّ؛ فإن سفينة نوح إنما ركبها من صدّق المرسلين واتبعهم, وأن من لم يركبها فقد كذب المرسلين, واتّباع السنة هو اتّباع الرسالة التي جاءت من عند الله, فتابعُها بمنزلة من ركب مع نوح السفينة باطناً وظاهراً, والمتخلف عن اتباع الرسالة بمنزلة المتخلف عن اتباع نوح عليه السلام وركوب السفينة معه, وهكذا إذا تدبر المؤمن العليم سائر مقالات الفلاسفة وغيرهم من الأمم التي فيها ضلال وكفر, وجد القرآن والسنة كاشفان لأحوالهم, مبينان لحقّهم, مميزان بين حق ذلك وباطله, والصحابة كانوا أعلم الخلق بذلك, كما كانوا أقوم الخلق بجهاد الكفار والمنافقين, كما قال فيهم عبدالله بن مسعود: من كان منكم مستنّاً فليستن بمن قد مات, فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد كانوا أبرّ هذه الأمة قلوباً, وأعمقها علماً, وأقلّها تكلفاً, قوم اختارهم الله لصحبة نبيه, وإقامة دينه, فاعرفوا لهم حقهم, وتمسكوا بهديهم, فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.

فأخبر عنهم بكمال بر القلوب مع كمال عمق العلم, وهذا قليل في المتأخرين .....وأصحاب محمد صلى الله عيه وسلم كانوا مع أنهم أكمل الناس علماً نافعاً وعملاً صالحاً أقلّ الناس تكلفاً, يصدر عن أحدهم الكلمة والكلمتان من الحكمة أو من المعارف ما يهدي الله بها أمة, وهذا من منن الله على هذه الأمة, وتجد غيرهم يحشون الأوراق من التكلّفات والشطحات ما هو من أعظم الفضول المبتدعة والآراء المخترعة, لم يكن لهم في ذلك سلف إلا رعونات النفوس المتلقاة ممن ساء قصده في الدين" (23). وقال الإمام يحيى بن يوسف الصرصري رحمه الله في التحذير من اندراس السنّة:

واهاً لفرطِ حرارة لا تبردُ ولواعجٍ بين الحشا تتردّدُ

في كل يوم سنّة مدروسة بين الأنام وبدعة تتجدّدُ

إيّاك والبدع المضلّة إنّها تهدي إلى نار الجحيم وتورد

وعليك بالسّنن المنيرة فاقفُها فهي المحجةُ والطّريق الأقصدُ

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّاً ثم قال: "هذا سبيل الله" ثم خطّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: "هذه سُبُل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه" ثم قرأ: "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون"(الأنعام: 153). رواه أحمد.

وأهل السنة عند شيخ الإسلام: "هم المتمسكون بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم, وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان" (24). وقال كذلك: "فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة"(25).

وعلى المؤمن التحلي بالتؤدة والأناة والالتفاف حول أهل العلم عند التباس الأمور واختلاط الأفهام, وعدم المشاركة في أمر ليس معه من الله فيه برهان, كما نقل ابن وضاح رحمه في كتابه (البدع) عن ابن مسعود رضي الله عنه: "إنها ستكون أمور مشتبهات, فعليكم بالتؤدة, فإن الرجل يكون تابعاً في الخير, خير من أن يكون رأساً في الشر"(26).

والإسلام المقبول عند الله تعالى ليس شكلاً ومظهراً فقط, بل هو المتضمن الإيمان الباطن مع التسليم الظاهر, فهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله, فالمسلم الحقيقي مستسلم لربه تعالى, قال الإمام الزهري رحمه الله: "من الله الرسالة, وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ, وعلينا التسليم" (27). فالمؤمن يدور مع الحق حيث دار, ويعرف الرجال بالحق, قال شيخ الإسلام: "وليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع, وإنما الحجة النص والإجماع ودليل مستنبط من ذلك تقرّر مقدماته بالأدلة لشرعية لا بأقوال بعض العلماء, فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية لا يحتج بها على الأدلة الشرعية, ومن تربّى على مذهب قد تعوّده واعتقد ما فيه وهو يحسن الأدلة الشرعية وتنازع العلماء, لا يفرق بين ما جاء عن الرسول وتلقته الأمة بالقبول يجب الإيمان به, وبين ما قاله بعض العلماء ويتعسر أو يتعذر إقامة الحجة عليه, ومن كان لا يفرق بين هذا وهذا لم يحسن أن يتكلم في العلم بكلام العلماء" (28).

والمؤمن المتّبع لا يتردّد في قبول كل ما صحّ من الوحي, ولا يردّ ذلك إلى أوهام العقل, أو خيالات النفس, قال شيخ الإسلام: "الرسل تخبر بمحارات العقول, ولا تخبر بمحالات العقول"(29). وكتب عمر بن عبدالعزيز رحمه الله إلى الناس: "إنّه لا رأي لأحد مع سنّة سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم"(30).

وعند أحمد بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟ _وفي رواية: خير_ فقال: "أنا والذين معي, ثم الذين على الأثر, ثم الذين على الأثر". وفي الصحيحين عن أنس رضى الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله متى الساعة قال: "وماذا أعددت لها" قال ما أعددت لها كثير عمل إلا أنني أحب الله ورسوله قال النبي صلى الله عليه وسلم : "المرء مع من أحب" يقول أنس: فما فرحنا بشيء كفرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب" قال: وأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبا بكر و عمر و أرجو الله أن أحشر معهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم. وبرهان الحبّ صدق الاتباع, وحسن الائتساء.

أما البدعة فقد بيّن ضابطها شيخ الإسلام بقوله: "البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله, وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب" (31). وقال الشاطبي رحمه الله: "البدعة هي طريقة في الدين مخترعة, تضاهي الشرعية, يُقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه" (32). وقد قال الله تعالى منكراً كلّ بدعة: "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله" (الشورى: 21). ويكفي في ذم البدع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خُطَبِه: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة ضلالة" رواه مسلم. ولو تأمّل المبتدع أنه ببدعته إنما يتنَقَّصُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم باتهامه غير المباشر أنه لم يبلّغ الدين حق البلاغ لانزجر, فبرهان المحبة له طاعته والتزام سنته بحذافيرها, بدون زيادة أو نقص."قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله" (آل عمران: 31) ومن استهان بالسنّة أو شنأها عاد ذلك عليه وبالاً, وانقلب حامدُه من الناس له ذامّاً, قال شيخ الإسلام: "فلا يوجد من شنأ الرسول صلى الله عليه وسلم إلّا بتره الله, حتى أهل البدع المخالفون لسنته, قيل لأبى بكر بن عياش: إن بالمسجد قوماً يجلسون للناس ويتكلمون بالبدعة. فقال من جلس للناس جُلس الناس إليه, لكن أهل السنة يبقون ويبقى ذكرهم, وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم" (33). ومن كان على الحق فهو الأمة ولو كان لوحده, قال الإمام المجدد رحمه الله تعالى في تفسير قول الله تعالى: "إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين" (النحل: 120) "إنّ إبراهيم كان أمة" حتى لا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين "قانتا لله" لا للملوك ولا للتجار المترفين "حنيفاً" لا يميل يميناً ولا شمالاً, كحال العلماء المفتونين "وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" خلافاً لمن كثّر سوادهم، وزعم أنه من المسلمين".

ولابد في كل عبادة من استيفاء شرطي العمل؛ الإخلاص والمتابعة, فإن تخلّف الإخلاص دخل الشرك, وإن تخلفت المتابعة دخلت البدعة, وقد جمعتهما آخر آية من سورة الكهف: "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً" (الكهف: 110)

وقال شيخ الإسلام: "قال الفضيل بن عياض فى قوله تعالى: "ليبلوكم أيكم أحسن عملاً" (الملك: 2) قال أخلصه وأصوبه, قيل له: يا أبا علي مّا أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل, وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل, حتى يكون خالصاً صواباً, والخالص أن يكون لله, والصواب أن يكون على السنّة. وكان الفضيل رحمه الله يقول: من وقّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام, ومن زوج كريمته لصاحب بدعة فقد قطع رحمها, ومن انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً, وأكثر إشاراته وإشارات غيره من المشايخ بالبدعة؛ إنما هي إلى البدع في العبادات والأحوال, كما قال الله تعالى عن النصارى: "ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم" (الحديد: 27) وقال ابن مسعود: عليكم بالسبيل والسنة, فإنّه ما من عبدٍ على السبيل والسنة ذكر الله خالياً, فاقشعر جلده من مخافة الله إلا تحاتّت عنه خطاياه كما يتحات الورق اليابس عن الشجرة, وما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خالياً فدمعت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار أبداً, وان اقتصاداً فى سبيل وسنّة خير من اجتهاد فى خلاف سبيل وسنة, فاحرصوا أن تكون أعمالكم وإن كانت اجتهاداً أو اقتصاداً على منهاج الأنبياء وسنتهم" (34). وقال شيخ الإسلام في لاميته مزرياً بمن استهانوا بالسنة والآثار واستبدلوها بغثاء أفراخ الفلاسفة:

قبحاً لمن نبذ الكتاب وراءه وإذا استدل يقول قال الأخطلُ

وقال الشاطبي رحمه الله في الاعتصام: "وعن كُميل بن زياد أن علياً رضي الله عنه قال: يا كميل: إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير, والناس ثلاثة: فعالم رباني, ومتعلم على سبيل نجاة, وهمج رعاع أتباع كل ناعق, لم يستضيؤا بنور العلم, ولم يلجؤا إلى ركن وثيق.....أُفٍّ لحامل حق لا بصيرة له, ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة, لا يدري أين الحق, إن قال أخطأ, وإن أخطأ لم يدر, مشغوف بما لا يدري حقيقته, فهو فتنة لمن فتن به" (35). وقال ابن الماجشون: سمعت مالكاً يقول: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة, فقد زعم أنّ محمداً خان الرسالة, لأن الله يقول: "اليوم أكملت لكم دينكم" (المائدة:3) فما لم يكن يومئذٍ ديناً فلا يكون اليوم ديناً" (36).

وقال الإمام ابن الإمام عبدالله بن أبي داود السجستاني في حائيته:

تمسّك بحبل الله واتبع الهدى ولا تك بدعـيّاً لعـلك تفلحُ

ودن بكتاب الله والسنن التي أتت عن رسول الله تنجو وتربحُ

ودع عنك آراء الرجال وقولهم فقول رسول الله أزكى وأشرحُ

وقال سفيان الثوري رحمه الله: "البدعة أحب إلى إبليس من المعصية, المعصية يُتاب منها, والبدعة لا يتاب منها" (37). وحين حذّر ابن مسعود رضي الله عنه من البدع, وأمر بالهرب منها...قيل له: يا أبا عبدالرحمن فإلى أين؟ قال: "إلى لا أين" قال: "يهرب بقلبه ودينه لا يجالس أحداً من أهل البدع" (38). وتأمل قوله الذي يكاد يخرج من مشكاة النبوة: "كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير, ويهرم فيها الكبير, إذا ترك منها شيء قيل: تركت السنة!" قيل متى ذلك يا أبا عبدالرحمن؟ قال: "ذلك إذا ذهب علماؤكم, وكثرت جهالكم, وكثرت قرّاؤكم, وقلّت فقهاؤكم, والتمست الدنيا بعمل الآخرة, وتفقه لغير الدين" (39).

وقال الدكتور عبدالله الدميجي: "أكبر أسباب الابتداع في الدين والانحراف عن المنهج الحق (الوسط) والوقوع في الغلو والإفراط, أو في الجفاء والتفريط, قديماً وحديثاً؛ هو الانحراف في فهم النصوص الشرعية, والتفلّت من فهم السلف لها, ولذلك ظهرت بعض التيارات الفكرية المعاصرة والمنابذة للحق.....ولا بد من التفريق بين ما كان فهماً لبعض السلف وفهم السلف, فالثاني يقتضي إجماعهم, أو اتفاق جمهورهم, مع عدم وجود المخالف منهم, بينما الأول يدخل فيه اجتهاد أفرادهم في بيانهم لبعض الأحكام الجزئية, أو تفسيراتهم لبعض الآيات القرآنية التي اختلفوا فيها وتعددت أقوالهم, أو لم يشتهر ذلك عنهم, أو جانب بعضهم الصواب فيها....وللسلف الصالح من الخصائص والميزات التي لا تجتمع في غيرهم ما يوجب تقديم فهمهم على فهوم المتأخرين؛ كسلامة مصادرهم في التلقي, وحرصهم على العلم وفهمه, والعمل بما علموه, ومشاهدتهم الوحي والتنزيل, مما أورثهم مزيد فهم لا يشاركهم فيه غيرهم, كما أنهم أعظم الناس عقلاً وفهماً وحساً وإدراكاً, وذلك ثمرة قوة إيمانهم وتقواهم" وملخص كلامه حفظه الله: أن الحقّ لا يخرج عن فهم السلف مهما تصرفت مصادره وتعددت موارده. (40).

وخير الأمور السالفات على الهدى وشرّ الأمور المحدثات البدائع

والوضوح والإشهار سمة أهل السنة, والاختفاء والإسرار سمة أهل البدعة, قال الإمام الراشد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: "إذا رأيت قوماً يتناجون في دينهم دون العامّة فاعلم أنهم على تأسيس ضلاله"(41). وقال في ذم الخصومات في الدين: "من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل"(42).


 

 

"الأَمْرُ بِالاجْتِمَاعِ, وَالنَّهْيُ عَنِ الفُرْقَةِ"

قال تعالى: "إنّما المؤمنون إخوة" (الحجرات: 10) فأخوّة الدين في المقام الأرفع في الإسلام, قال الإمام ابن باز رحمه الله تعالى في (رسالة الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة): "...فهو يدعو إلى الأخلاق الفاضلة والأخوة الإيمانية، والجمع بين المسلمين والتأليف بينهم، كما قال جل وعلا: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا" (آل عمران: 103) فدين الله يدعو إلى الاجتماع وإلى السياسة الصالحة الحكيمة، التي تجمع ولا تفرق، تؤلف ولا تباعد تدعو إلى صفاء القلوب، واحترام الأخوة الإسلامية والتعاون على البر والتقوى والنصح لله ولعباده...". وقال أيضاً في رسالة (التضامن الإسلامي): "ومن المعلوم أنه لا يتم أمر العباد فيما بينهم، ولا تنتظم مصالحهم ولا تجتمع كلمتهم، ولا يهابهم عدوهم، إلا بالتضامن الإسلامي الذي حقيقته التعاون على البر والتقوى، والتكافل والتعاطف والتناصح، والتواصي بالحق والصبر عليه، ولا شك أن هذا من أهم الواجبات الإسلامية والفرائض اللازمة، وقد نصت الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، على أن التضامن الإسلامي بين المسلمين - أفراداً وجماعات حكومات وشعوباً - من أهم المهمات، ومن الواجبات التي لابد منها لصلاح الجميع، وإقامة دينهم وحل مشاكلهم، وتوحيد صفوفهم، وجمع كلمتهم ضد عدوهم المشترك.

والنصوص الواردة في هذا الباب من الآيات والأحاديث كثيرة جداً، وهي وإن لم ترد بلفظ التضامن فقد وردت بمعناه وما يدل عليه عند أهل العلم، والأشياء بحقائقها ومعانيها لا بألفاظها المجردة، فالتضامن معناه التعاون والتكاتف، والتكافل والتناصر والتواصي، وما أدى هذا المعنى من الألفاظ، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله سبحانه، وإرشاد الناس إلى أسباب السعادة والنجاة، وما فيه إصلاح أمر الدنيا والآخرة، ويدخل في ذلك تعليم الجاهل، وإغاثة الملهوف، ونصر المظلوم، ورد الظالم عن ظلمه، وإقامة الحدود، وحفظ الأمن، والأخذ على أيدي المفسدين المخربين...".

لقد وردت نصوص عدة تأمر بالجماعة وتثني بالنهي عن الفرقة في موضع واحد مع أن الأمر بالجماعة يستلزم النهي عن الفرقة, والنهي عن الفرقة يستلزم الأمر بالجماعة, وهذا من باب التأكيد والتنويه, ومنها قول الله تعالى: "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ " (آل عمران: 103) قال إمام المفسرين محمد بن جرير الطبري رحمه الله في تأويل قوله تعالى: "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ" يريد بذلك تعالى ذكره: وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به وعهده الذي عهده إليكم في كتابه من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله. وقال الإمام القرطبي رحمه الله في معنى الآية: فإن الله يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة, فإن الفرقة هلكة والجماعة نجاة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما لسماك الحنفي: يا حنفي الجماعة الجماعة! فإنما هلكت الأمم الخالية لتفرقها, أما سمعت الله عز وجل يقول: "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ " (آل عمران:103) قال الحافظ إسماعيل بن كثير رحمه الله : قوله تعالى: "فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ" (الأنعام:153) قال: إنما وحّد سبيله لأن الحق واحد, ولهذا جمع السُّبُل لتفرقها وتشعبها. وقال حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما مفسراً الآية: لا تتبعوا الضلالات. وفي حديث النواس بن سمعان الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران بينهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تتفرقوا، وداع يدعو فوق الصراط، فإذا أراد إنسان فتح شيء من تلك الأبواب قال له : ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه, فالصراط: الإسلام, والستور: حدود الله، والأبواب: محارم الله، والداعي على رأس الصراط: كتاب الله تعالى والداعي من فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم" وحينما سأل أحدهم ابن مسعود رضي الله عنه: ما الصراط المستقيم؟ قال تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه, وطرفه في الجنة, وعن يمينه جوادّ, وعن يساره جوادّ, وثمّ رجال يدعون من مر بهم, فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار, ومن أخذ على الصراط المستقيم انتهى به إلى الجنة. ثم قرأ ابن مسعود : "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (الأنعام:153).

وبلا شك فمن أعظم ما يفرق الأمة هي المحدثات والبدع, والأهواء, والإعجاب بالرأي, والإعراض عن الكتاب والسنّة, وأمراض القلوب, والله الحافظ وهو المستعان. وقال صلى الله عليه وسلم مبيّناً ومؤكداً أهمية الاجتماع وخطر الفرقة والاختلاف: "إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً, وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويكره لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال" رواه مسلم. ومن تأمل حديث الافتراق أصابه الوجل أن لا يكون من الفرقة الناجية, وهي التي قد حُدت معالمها بنص الحديث على من كان على مثل ما عليه رسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم:"افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرَّقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة, كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة" رواه أحمد "وفي روايةٍ للطبراني: "ما أنا عليه اليوم وأصحابي".


 

 

"جَادّةُ عُلَمَاءِ السُّنَةِ وَاحِدَةٌ"

المتتبع لكلام الأئمة وكبار العلماء على مختلف المذاهب يتأكد لديه العلم باتفاقهم على أصول الدين بحمد الله تعالى, وعندهم من الوضوح في العقيدة والتشديد في الإنكار على المبتدعة والبراءة من الرأي المخالف للدليل الكثير, وقد ينقل عن قلّة منهم ما يُنَاقَشُ فيه, وإلا فجلّهم على جادة مستقيمة, وقد كتب العلماء في ذلك وبينوه. ولما كتب شيخ الإسلام رسالته الشهيرة (الواسطية) وحاكمه خصومه, وبعضهم قضاة سوء, فقالوا له: قل هذه عقيدة إمامك أحمد بن حنبل حتى نعدّها مما يسوغ فيها الخلاف! _بزعمهم_ فقال بكل ثبات وقوة: بل هي دين الرسول صلى الله عليه وسلم, ليس لأحمد ولا لغيره اختصاص بها, وأمهل كل من خالفه فيها ثلاث سنين ليثبتوا مخالفتها للقرآن والحديث, فلمّا لم يفلحوا استقرّت مصداقيتها عند المُنْصِفِين. وانظر قصة محاكماتهم ومناظراتهم له ومراسلاته لتلاميذه في مجموع فتاويه. وقال شيخ الإسلام رحمه الله مبيّناً الاتفاق على أن مذهب السلف متفق على صحته وسلامته: "لا عيب على من أظهر مذهب السلف, وانتسب إليه, واعتزى إليه بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق، فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقاً" (43).

قال الإمام المجدد: "...ونختم هذا الكتاب، بكلمة واحدة، وهي أن أقول: يا عباد الله، لا تطيعوني، ولا تفكروا؛ واسألوا أهل العلم من كل مذهب، عما قال الله ورسوله؛ وأنا أنصحكم: لا تظنوا أن الاعتقاد في الصالحين، مثل الزنا، والسرقة، بل هو عبادة للأصنام، من فعله كفر، وتبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا عباد الله: تفكروا، وتذكروا؛ والسلام" (44). وقد كتب الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب رسالة طويلة ضمّنها فصولاً نفيسة عن نماذج من أكابر أئمة الذاهب الأربعة يقررون فيها كفر من فعل بعض الأمور وردته عن الإسلام, حتى وإن تلفّظ بالشهادتين وانتسب إلى الإسلام, وعمل ببعض شرائع الدين, وأن هذا لا يمنع من تكفيره وقتله وإلحاقه بالمرتدين" (45). كما ذكر الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن أمثلة لجمعٍ من علماء المذاهب الأربعة ونقل كلامهم في إنكار الشرك والبدع, مع أمثلة على الشركيات في زمانهم (46). وقال الإمام المجدد: "إنا لا نقاتل إلا على ما أجمع عليه العلماء كلهم, وهو الشهادتان بعد التعريف إذا عرف ثم أنكر, فنقول: أعداؤنا معنا على أنواع...وذكرها"(47).

وقد قال الشيخ عبدالله بن إبراهيم لتلميذه الإمام المجدد: أتريد أن ترى السلاح الذي أعددته للمجمعة؟ قال: نعم. فأراه حجرة مليئة بالمجلدات, وقال: بهذه. فالعلم بدليله الصحيح ودلالته الصريحة, هو قطب رحى الدعوة السلفية.

هم السلف المهدي من كل أمة وهم خير من صلّى وزكّى وكبّرا

وسأسوق هنا جانباً من اتفاق كبار علماء مكة من مختلف المذاهب على عقيدة السلف الصالح أهل السنة والجماعة, بل واتفاقهم مع أئمة الدعوة النجدية على مسألة التكفير والقتال, وإنها من صريح الدين, وليست دخيلة مخترعة.

قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهما الله تعالى في بيانه الشهير :

"بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد: فإنا معاشر غزو الموحدين، لما منَّ الله علينا -وله الحمد- بدخول مكة المشرفة نصف النهار، يوم السبت، في ثامن شهر محرم الحرام، سنة 1218 هـ بعد أن طلب أشراف مكة، وعلماؤها وكافة العامة من أمير الغزو "سعود" الأمان ؛ وقد كانوا تواطؤوا مع أمراء الحجيج، وأمير مكة على قتاله، أو الإقامة في الحرام، ليصدوه عن البيت, فلما زحفت أجناد الموحدين؛ ألقى الله الرعب في قلوبهم، فتفرقوا شذر مذر، كل واحد يعد الإياب غنيمة، وبذل الأمير حينئذ الأمان لمن بالحرم الشريف, ودخلنا وشعارنا التلبية، آمنين محلقين رؤوسنا ومقصرين، غير خائفين من أحد من المخلوقين، بل من مالك يوم الدين, ومن حين دخل الجند الحرم، وهم على كثرتهم مضبوطون، متأدبون، لم يعضدوا به شجراً، ولم ينفروا صيدا، ولم يريقوا دماً إلا دم الهدى، أو ما أحل الله من بهيمة الأنعام على الوجه المشروع. ولما تمت عمرتنا: جمعنا الناس ضحوة الأحد، وعرض الأمير رحمه الله على العلماء ما نطلب من الناس ونقاتلهم عليه؛ وهو إخلاص التوحيد لله تعالى وحده, وعرفهم أنه لم يكن بيننا وبينهم خلاف له وقع إلا في أمرين، أحدهما: إخلاص التوحيد لله تعالى، ومعرفة أنواع العبادة، وأن الدعاء من جملتها، وتحقيق معنى الشرك، الذي قاتل الناس عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، .....والثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي لم يبق عندهم إلا اسمه، وانمحى أثره ورسمه.

فوافقونا على استحسان ما نحن عليه جملة وتفصيلاً، وبايعوا الأمير على الكتاب والسنة، وقبل منهم، وعفى عنهم كافة، فلم يحصل على أحد منهم أدنى مشقة، ولم يزل يرفق بهم غاية الرفق، لا سيما العلماء, ونقرر لهم حال اجتماعهم وقال انفرادهم لدنيا أدلة ما نحن عليه ونطلب منهم المناصحة، والمذاكرة، وبيان الحق.

وعرفناهم بأن صرّح لهم الأمير حال اجتماعهم، بأنا قابلون ما وضحوا برهانه، من كتاب، أو سنة، أو أثر عن السلف الصالح، كالخلفاء الراشدين، المأمورين باتباعهم، بقوله صلى الله عليه وسلم "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" أو عن الأئمة الأربعة المجتهدين، ومن تلقى العلم عنهم، إلى آخر القرن الثالث, لقوله صلى الله عليه وسلم: "خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".

وعرفناهم: أنا دايرون مع الحق أينما دار، وتابعون للدليل الجلي الواضح, ولا نبالي حينئذ بمخالفة ما سلف عليه من قبلنا، فلم ينقموا علينا أمراً، فألحينا عليهم في مسألة طلب الحاجات من الأموات، إن بقي لديهم شبهة؟ فذكر بعضهم شبهة، أو شبهتين، فرددناها بالدلايل القاطعة، من الكتاب والسنة، حتى أذعنوا، ولم يبق عند أحد منهم شك ولا ارتياب، فيما قاتلنا الناس عليه، أنه الحق الجلي، الذي لا غبار عليه.

وحلفوا لنا الإيمان المغلظة، من دون استحلاف لهم، على انشراح صدورهم، وجزم ضمائرهم أنه لم يبق لديهم شك، في أن من قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يا ابن عباس، أو يا عبد القادر، أو غيرهم من المخلوقين، طالباً بذلك دفع شر، أو جلب خير، من كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، من شفاء المريض، والنصر على العدو، والحفظ من المكروه، ونحو ذلك أنه مشرك شركاً أكبر، يهدر دمه، ويبيح ماله ؛وإن كان يعتقد أن الفاعل المؤثر في تصريف الكون، هو الله تعالى وحده، لكنه قصد المخلوقين بالدعاء، متشفعاً بهم، ومتقرباً بهم، لتقضى حاجته من الله، بسرهم، وشفاعتهم له فيها، أيام البرزخ.

وأن ما وضع من البناء على قبور الصالحين صارت في هذه الأزمان، أصناماً تقصد لطلب الحاجات، ويتضرع عندها، ويهتف بأهلها في الشدائد، كما كانت تفعله الجاهلية الأولى, وكان من جملتهم مفتي الحنيفة، الشيخ عبد الملك القلعي, وحسين المغربي مفتي المالكية, وعقيل بن يحيي العلوي, فبعد ذلك أزلنا جميع ما كان يعبد، بالتعظيم والاعتقاد فيه، ويرجى النفع والنصر بسببه، من جميع البناء على القبور، وغيرها، حتى لم يبق في تلك البقعة المطهرة طاغوت يعبد، فالحمد لله على ذلك.

ثم رفعت المكوس، والرسوم، وكسرت آلات التنباك، ونودي بتحريمه، وأحرقت أماكن الحشاشين، والمشهورين بالفجور, ونودي بالمواضبة على الصلوات في الجماعات، وعدم التفرق في ذلك، بأن يجتمعوا في كل صلاة على إمام واحد، ويكون ذلك الإمام من أحد المقلدين للأربعة، رضوان الله عليهم, واجتمعت الكلمة حينئذ، وعبد الله وحده، وحصلت الألفة، وسقطت الكلفة، وأمر عليهم، واستتب الأمر من دون سفك دم، ولا هتك عرض، ولا مشقة على أحد، والحمد لله رب العالمين.

ثم دفعت لهم الرسائل المؤلفة للشيخ محمد في التوحيد المتضمنة للبراهين، وتقرير الأدلة على ذلك بالآيات المحكمات والأحاديث المتواترة، مما يثلج الصدر, واختصر من ذلك رسالة مختصرة للعوام، (قلت: وهي رسالة الأصول الثلاثة للإمام المجدد) تنشر في مجالسهم وتدرس في محافلهم، ويبين لهم العلماء معانيها، ليعرفوا التوحيد فيتمسكوا بعروته الوثيقة، فيتضح لهم الشرك، فينفروا عنه، وهم على بصيرة آمنين.

وكان فيمن حضر مع علماء مكة، وشاهد غالب ما صار حسين بن محمد بن الحسين، الإبريقي الحضرمي، ثم الحياني، ولم يتردد علينا، ويجتمع بسعود وخاصته، من أهل المعرفة، ويسأل عن مسألة الشفاعة، التي جرد السيف بسببها، من دون حياء ولا خجل، لعدم سابقة جرم له.

فأخبرناه بأن مذهبنا في أصول الدين، مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتنا طريقة السلف، التي هي الطريق الأسلم، بل والأعلم والأحكم، خلافاً لمن قال طريق الخلف أعلم.

وهي أنا نقر آيات الصفات، وأحاديثها على ظاهرها، ونكل معناها مع اعتقاد حقائقها إلى الله تعالى, فإن مالكاً وهو من أجلّ علماء السلف لما سئل عن الاستواء، في قوله تعالى: "الرحمن على العرش استوى" (طه :5) قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.

....ونحن أيضاً في الفروع، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولا ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة، دون غيرهم، لعدم ضبط مذاهب الغير؛ الرافضة، والزيدية، والإمامية، ونحوهم, ولا نقرهم ظاهراً على شيء من مذاهبهم الفاسدة، بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة.

ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا أحد لدينا يدعيها، إلا أننا في بعض المسائل، إذا صح لنا نص جلي، من كتاب، أو سنة غير منسوخ، ولا مخصص، ولا معارض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به، وتركنا المذهب، كإرث الجد والإخوة، فإنا نقدم الجد بالإرث، وإن خالف مذهب الحنابلة.

ولا نفتش على أحد في مذهبه، ولا نعترض عليه، إلا إذا اطلعنا على نص جلي، مخالفاً لمذهب أحد الأئمة ، وكانت المسألة مما يحصل بها شعار ظاهر، كإمام الصلاة، فنأمر الحنفي، والمالكي مثلاً، بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال، والجلوس بين السجدتين، لوضوح دليل ذلك, بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة، فلا نأمره بالإسرار، وشتان ما بين المسألتين, فإذا قوي الدليل أرشدناهم بالنص، وإن خالف المذهب، وذلك يكون نادراً جداً، ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض، فلا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد، وقد سبق جمع من أئمة المذاهب الأربعة، إلى اختيارات لهم في بعض المسائل، مخالفين للمذهب، الملتزمين تقليد صاحبه.

ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله، بالتفاسير المتداولة المعتبرة، ومن أجلّها لدينا تفسير ابن جرير، ومختصره لابن كثير الشافعي، وكذا البغوي، والبيضاوي، والخازن، والحداد، والجلالين، وغيرهم. وعلى فهم الحديث، بشروح الأئمة المبرزين؛ كالعسقلاني، والقسطلاني، على البخاري، والنووي على مسلم، والمناوي على الجامع الصغير.

ونحرص على كتب الحديث، خصوصاً الأمهات الست، وشروحها, ونعتني بسائر الكتب، في سائر الفنون، أصولاً، وفروعاً، وقواعد، وسيراً، ونحواً، وصرفاً، وجميع علوم الأمة .....ومما نحن عليه أنا لا نرى سبي العرب، ولم نفعله، ولم نقاتل غيرهم، ولا نرى قتل النساء والصبيان.

وأما ما يكذب علينا ستراً للحق، وتلبيساً على الخلق، بأنا نفسر القرآن برأينا، ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا، من دون مراجعة شرح، ولا معول على شيخ، وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .....وأنا نكفر الناس على الإطلاق أهل زماننا......فجوابنا في كل مسألة من ذلك؛ سبحانك هذا بهتان عظيم, فمن روى عنا شيئاً من ذلك، أو نسبه إلينا، فقد كذب علينا وافترى.

ومن شاهد حالنا، وحضر مجالسنا وتحقق ما عندنا، علم قطعاً أن جميع ذلك وضعه، وافتراه علينا، أعداء الدين، وإخوان الشياطين، تنفيراً للناس عن الإذعان، بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة، وترك أنواع الشرك، الذي نص الله عليه، بأن الله لا يغفره "ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" (النساء :48) .....ولا ننكر الطريقة الصوفية، وتنزيه الباطن من رذايل المعاصي، المتعلقة بالقلب والجوارح، مهما استقام صاحبها على القانون الشرعي، والمنهج القويم المرعي، إلا أنا لا نتكلف له تأويلات في كلامه، ولا في أفعاله، ولا نعول، ونستعين، ونستنصر، ونتوكل في جميع أمورنا إلا على الله تعالى، فهو حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم ." (48). قلت: وهذا البيان الجامع الجميل من كبير علماء الدعوة الإصلاحية في ذلك الوقت, يعدّ بحق رسالة منهجية متكاملة, جديرة بالدراسة والتأمل واستلهام الفوائد والعبر.

وهذا بيان من علماء مكة المشرفة في ذلك الزمان رحمهم الله: "الحمد لله رب العالمين,

نشهد -ونحن علماء مكة، الواضعون خطوطنا، وأختامنا في هذا الرقيم- أن هذا الدين، الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، ودعا إليه إمام المسلمين سعود بن عبدالعزيز، من توحيد الله، ونفى الشرك، الذي ذكره في هذا الكتاب، أنه هو الحق، الذي لا شك فيه، ولا ريب, وأن ما وقع في مكة، والمدينة، سابقاً ومصر، والشام، وغيرهما، من البلاد، إلى الآن، من أنواع الشرك، المذكورة في هذا الكتاب، أنه الكفر، المبيح للدم، والمال، والموجب للخلود في النار, ومن لم يدخل في هذا الدين، ويعمل به، ويوالي أهله، ويعادي أعداءه، فهو عندنا كافر بالله، واليوم الأخر ، وواجب على إمام المسلمين، والمسلمين، جهاده وقتاله، حتى يتوب إلى الله مما هو عليه، ويعمل بهذا الدين.

أشهد بذلك، وكتبه الفقير إلى الله تعالى عبد الملك بن عبد المنعم، القلعي، والحنفي، مفتي مكة المكرمة، عفى عنه، وغفر له.

أشهد بذلك، وأنا الفقير إلى الله سبحانه محمد صالح بن إبراهيم، مفتي الشافعية بمكة، تاب الله عليه.

أشهد بذلك، وأنا الفقير إلى الله تعالى محمد بن محمد عربي، البناتي، مفتي المالكية، بمكة المشرفة، عفا الله عنه وأصلح شأنه.

أشهد بذلك، وأنا الفقير إلى الله محمد بن أحمد، المالكي، عفا الله عنه.

أشهد بذلك، وأنا الفقير إلى الله تعالى محمد بن يحيي، مفتي الحنابلة، بمكة المكرمة، عفى الله عنه آمين.

أشهد بذلك وأنا الفقير إليه تعالى عبد الحفيظ، بن درويش، العجيمي، عفا الله عنه.

أشهد بذلك زين العابدين جمل الليل, شهد بذلك علي بن محمد البيتي.

أشهد بذلك، وأنا الفقير إلى الله تعالى عبد الرحمن جمال، عفا الله عنه.

أشهد بذلك، الفقير إلى الله تعالى بشر بن هاشم الشافعي عفا الله عنه".

وبمثل ذلك شهد وكتب الشريف غالب بن مساعد رحمه الله, وبمثل ذلك شهد وكتب علماء المدينة النبوية: ابن حسين, ومحمد بن صالح رضوان, ومحمد بن إسماعيل (49). رحمهم الله تعالى, وجزاهم عن الإسلام خيراً, وما أعظم شهادتهم بالحق, وأقومها للخلق, فقد نصحوا الناس, ولم يبقوا لمنازع مقالاً.

وحينما نشرت بعض المؤسسات الدعوية السلفية شرح ابن أبي العز للطحاوية, كعّ دون ذلك بعض أكابر الأفغان, قائلاً: تنشرون كتب الوهّابيّة, فناولوه الكتاب وقالوا الماتن حنفي, والشارح حنفي فما يضيرك؟! فسُرّ بذلك وساعدهم في نشره, ونفع الله بهذا الكتاب النفيس في تلك البلاد العزيزة. وهذا ما قصده ابن أبي العز رحمه الله إذ لم ينسب الأقوال في الشرح لأصولها, وجُلّها من كتب شيخ الإسلام, الذي كان مغضوباً عليه ومحارَباً وقت تصنيف ابن أبي العز لشرح الطحاوية, فقد أحسن رحمه الله نشر العلم الصحيح, ولو بإغفال اسم شيخ الإسلام, إذ الغرض نفع الناس لا التباهي والفخر, والله يعلم السرائر والحقائق, وهو يجزي المحسنين. وشبيه بذلك نشر بعض الأفاضل كتب الإمام المجدد مع نسبته إلى جده سليمان وإغفال اسم أبيه دفعاً لحاجز تهمة الوهابية, إذ قد بلغ العداء عند بعضهم لاتهام السلفية كلّها بالوهابية, حتى أن ابن تيمية لم يسلم من تهمة الوهّابية!.

كذلك فعندما دخل الإخوان مكة المكرمة عام (1343) اجتمع علماء نجد بعلماء مكة, وتحاوروا ثم أظهروا للأمة أنهم على عقيدة واحدة وهي عقيدة السلف الصالح, وعلماء نجد الذين حضروا ذلك الاجتماع المبارك هم: عبدالرحمن بن عبداللطيف, عبدالله بن عبدالوهاب بن زاحم, عبدالرحمن بن محمد بن داود (من قضاة الإخوان حين دخلوا مكة) محمد بن عثمان الشاوي( من قضاة الإخوان الذين دخلوا مكة) مبارك بن عبدالمحسن بن باز, إبراهيم بن ناصر بن حسين (من قضاة الإخوان الذين دخلوا مكة وهو من أقدمهم)...ونُشر بيان باجتماعهم واتفاقهم على العقيدة المرضية, وقد نشر ذلك البيان في الجريدة الرسمية (أم القرى) وجمعت مع غيرها في رسالة وطبعت ونشرت بعنوان (البيان المفيد فيما اتفق عليه علماء مكة ونجد من عقائد التوحيد).

قال الإمام ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي رحمه الله في كتابه النفيس إعلام الموقعين كلاماً رائقاً ننقله بطوله للفائدة: "...ولما كانت الدعوة إلى الله والتبليغ عن رسوله شعار حزبه المفلحين، وأتباعه من العالمين، كما قال تعالى: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما انا من المشركين" (يوسف: 108) كان التبليغ عنه من عين تبليغ ألفاظه وما جاء به وتبليغ معانيه كان العلماء من أمته منحصرين في قسمين:
أحدهما: حفاظ الحديث، وجهابذته، والقادة الذين هم أئمة الأنام وزوامل الإسلام، الذين حفظوا على الأئمة معاقد الدين ومعاقله، وحموا من التغيير والتكدير موارده ومناهله، حتى ورد من سبقت له من الله الحسنى تلك المناهل صافية من الأدناس لم تشبها الآراء تغييراً، ووردوا فيها "عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً" الإنسان: 6) وهم الذين قال فيهم الإمام أحمد بن حنبل في خطبته المشهورة في كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم ; فنعوذ بالله من فتنة المضلين.
القسم الثاني: فقهاء الإسلام، ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام, فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب، قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً" (النساء: 59) قال عبدالله بن عباس في إحدى الروايتين عنه وجابر بن عبدالله والحسن البصري وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح والضحاك ومجاهد في إحدى الروايتين عنه: أولو الأمر هم العلماء، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد.

وقال أبو هريرة وابن عباس الرواية الأخرى وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل: هم الأمراء، وهو الرواية الثانية عن أحمد, التحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم; فطاعتهم تبع لطاعة العلماء فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء، وكان الناس كلهم لهم تبعاً، كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين، وفساده بفسادهما، كما قال عبدالله بن المبارك وغيره من السلف: صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس، قيل: من هم؟ قال: الملوك، والعلماء. كما قال: عبدالله بن المبارك رحمه الله:

رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمـانها

وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصـيانها

وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهـبانها


 

 

"الوَسَطِيَّةُ, دِينُ المُسْلِمِينَ"

قال الله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً" (البقرة: 143) أي عدولاً خياراً, لأنهم الشهداء على الأمم, بل هم شهداء نوح عليه السلام حينما يكذّبه قومه بنفيهم تبليغه رسالة ربه, ورسولهم صلى الله عليه وسلم شاهد عليهم. فهم موصوفون بالوسط بمعنى الخيار العدول, فكذلك نهجهم بين الغلاة والجفاة, فهم في موضوع الربوبية وسط بين الملاحدة النفاة, وبين الحلولية والاتحادية, وفي الأنبياء بين مكذبيهم ومؤلهيهم, هكذا اضطرد منهجهم في العقيدة والأحكام والتعاملات, والأخلاق والسلوك, فإذا رأيت طرفي نقيض فثَمّ حق في الوسط, يمثّله أهله من صادقي الاتّباع.

قال تقي الدين رحمه الله تعالى في رسالته الجامعة المانعة (الواسطية) واصفاً منهج أهل السنة والجماعة: "هم الوسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم, فهم الوسط في باب صفات الله تعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة, وهم وسط في باب أفعال الله تعالى بين القدرية والجبرية, وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم, وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج" (50).

فردود الأفعال غالياً لا تتّسم بالانضباط والموضوعية, بل يسوقها الانفعال ويقودها الغضب, فلا تتوقف في رد ما تراه باطلاً عند منطقة الحقّ, بل تتجاوزها إلى الطرف الآخر المخالف, وكلا طرفي قصد الأمور ذميم, وعلى سبيل المثال لما خرجت الوعيدية (الخوارج والمعتزلة) قابلتهم الوعدية (المرجئة). والجبرية ضد القدرية (النفاة), والتعطيل في مقابل التمثيل, والنصب مقابل الرفض, والغلو (المعاصر) في التكفير مقابل الإرجاء (المعاصر), والافتئات ضد السلطان مقابل التهالك عليه...وهكذا.

هذا وإن أول نزاع في الإسلام كان قد وقع في مسألة الوعد والوعيد. وقد اشتمل الوحي بشقيه القرآن الكريم والسنة النبوية, على نصوص الوعد والوعيد, وأهل التوفيق والسعادة هم أهل السنة والجماعة الذين أعملوها جميعاً ولم يكذبوا بشيء منها. ومن تطبيقاتهم العملية لهذا المنهج السلفي المستقيم لتحقيق الوسطية والخيرية حديث الإمام الزهري رحمه الله تعالى؛ فقد حدّث الزهري بحديث الرجل الذي أوصى بنيه بأن يحرقوه بالنار بعد موته ويذرّوا رماده...الحديث متفق علي صحته ثم يردفه بحديث المرأة التي دخلت النار في هرة...الذي رواه مسلم ثم قال رحمه الله مبيناً سبب روايته للحديثين في مجلس واحد: "لئلا يتكل رجل, ولا ييأس رجل". قال الإمام النووي رحمه الله معلقاً: معناه؛ لمّا ذكر الحديث الأول, وما فيه من سعة الرحمة وعظم الرجاء, فضمّ إليه حديث الهرّة الذي فيه من التخويف ضد ذلك؛ ليجتمع الخوف والرجاء....وهكذا معظم آيات القرآن العزيز يجتمع فيها الخوف والرجاء (51).

ومن أشد ما جوبهت به الدعوة السلفية رميها بالتكفير بإطلاق من قبل المرجئة أو ممن تأثر بهم, قال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله:

ونبرأ من دين الخوارج إذ غلوا بتكفيرهم بالذنب كل موحد

وظنوه ديناً من سفاهة رأيهم وتشديدهم في الدين أي تشدد

ومن كل دين خالف الحق والهدى وليس على نهج النبي محمد

وحينما قيل للشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إنكم تكفرون الناس بالمعاصي, قال: "ليس هذا من قولنا بل هذا قول الخوارج الذين يكفرون بالذنوب, ولم نكفر أحداً بعمل المعاصي, بل نكفر من فعل المكفرات كالشرك بالله أن يعبد معه غيره..." (52).


 

 

"خَطَرُ التَّكْفِيرِ بِغَيْرِ حَقٍّ, وَخُبْثُ مَذْهَبِ الخَوَارِجِ"

قال ابن الجوزي رحمه الله: "عُزلة الجاهل فساد, أما عزلة العالم فمعها حذاؤها وسقاؤها". وقد صدق رحمه الله, فمن أكبر أسباب الانحرافات المنهجية العقدية وما يتبعها من انحرافات عملية وسلوكية؛ هو البعد عن توجيه أهل العلم والنصح, وانفراد الشيطان بالمتعبّدة, وإصابتهم بكَلَبِه حتى تتجارى بهم الأهواء بعيداً عن كهف من جمع الله لهم بين العلم والإيمان, وحينما ذهب ابن عباس رضي الله عنهما لمناظرة الخوارج وألزمهم بإلزاميّاته الكبار؛ قشع عن جمهورهم قتار الشبهة وقزع الهوى, فتركوا منظّري الفتنة والخروج إلى حِكمة العلم وسكينة الإيمان, فعاد جلّهم للحق ولم يبق إلا من سحقهم أمير المؤمنين في النهروان. والسنة بريئة ممن انتسب إليها ممن لم يلتزم بها؛ وانتساب الخوارج للسلفية وأهل السنة والجماعة كانتساب الأشاعرة لأهل السنة والجماعة مع أنهم جهمية جبرية مرجئة! والعبرة بالمنهج والبرهان, أما الدعوى فيحسنها كل أحد.

ومسلك الكلام في التكفير شديد الوعورة خطر الخُطا, ومزلة القدم فيه قريبة لمن لم يأخذه بحقّه, وعثرته صعبة الإقالة, إذ يترتب على ذلك حكم بتكفير أو إسلام, قال الشيخ عبدالله بن الإمام المجدد: "وبالجملة فيجب على من نصح نفسه, أن لا يتكلم في هذه المسألة, إلا بعلم وبرهان من الله, وليحذر من اطّراح رجل من الإسلام أو ادخاله فيه, فإن ذلك من أعظم أمور الدين" (53).

قال محمد الطائي: أملى علي أحمد _أي ابن حنبل_ "ومن لقيه مصرّاً غير تائب من الذنوب التي قد استوجب بها الغقوبة, فأمره إلى الله, إن شاء عذبه وإن شاء غفر له, إذا توفي على الإسلام والسنة" (54). قال ابن تيمية رحمه الله: "الخوارج لهم خاصيتان؛ الخروج عن السنة والتكفير بالذنوب" (55).

ومن قواعد أهل السنة والجماعة؛ أن من دخل الإسلام بيقين فلا يُخرج منه إلا بيقين وفي الحديث: "فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة" رواه مسلم. فمن نطق بالشهادة فقد حرم دمه وماله وعرضه, وصار كالمسلمين, له ما لهم وعليه ما عليهم, ما دام لم ينقض ما أبرمه من ميثاقها الغليظ بأن ظهر منه ما يستوجب كفره, وقامت عليه الحجة ممن يحسنها, وهم الراسخون في العلم. قال شيخ الإسلام: "وقد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم, واتفقت الأمة على أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, فبذلك يصير الكافر مسلماً والعدو ولياً والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال, ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان, وإن قاله بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان" (56). وقال أيضاً رحمه الله: "فإن نصوص الوعيد التي في الكتاب والسنة, ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك, لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعيّن, إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع" (57). وقال أيضاً: "لا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله, ولا بخطأ أخطأ فيه, كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة" (58).

وقاعدة من لم يكفر الكفار فهو كافر, قاعدة صحيحة لكنها منضبطة بضوابط واضحة المعالم, وليست منفلته بل مقيده بقيود ثقال. ولا يجوز تكفير المسلم بلا برهان, قال عليه الصلاة والسلام: "أي رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما" متفق عليه. وفي الصحيحين كذلك: "ومن قذف مؤمناً فهو كقتله". فالتكفير ليس مشاعاً لكل أحد بل هو منوط بمن يملك أدواته وهم الراسخون في العلم. وتطبيق الحدود إنما هو للإمام أم نائبة لا لآحاد الناس.

وقال تقي الدين ابن تيمية: "وأما التكفير؛ فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد وقصد الحق فاخطأ لم يكفر, بل يغفر له خطؤه, ومن تبين له ما جاء به الرسول فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر, ومن اتبع هواه وقصر في طلب الحق وتكلم بلا علم فهو عاص مذنب, ثم قد يكون فاسقاً, وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته, فالتكفير يختلف بحسب اختلاف حال الشخص فليس كل مخطئ ولا مبتدع ولا جاهل ولا ضال يكون كافراً, بل ولا فاسقاً, بل ولا عاصياً, لا سيّما فى مثل مسألة القرآن وقد غلط فيها خلق من أئمة الطوائف المعروفين عند الناس بالعلم والدين, وغالبهم يقصد وجهاً من الحق فيتبعه, ويعزب عنه وجه آخر لا يحققه, فيبقى عارفاً ببعض الحق جاهلاً بعضه بل منكرا له, ومن ههنا نشأ نزاعهم" (59).

وقال ابن تيمية أيضاً: "إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر, وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة, استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير, واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر, فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة, كاللص تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته, وهذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة, وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم" (60).

وفي تقريرات أئمة الدعوة ذم مذهب الخوارج, وبيان خبثه, والتحذير منه, والشناعة على أهله, قال الشيخ سليمان بن عبدالله رحمه الله: "....وفي الآية _أي قوله تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" (النساء: 38)_ ردٌّ على الخوارج المكفرين بالذنوب, وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يدخلون النار ولا بد" (61).

والتكفير نوعان:

الأول: التكفير المطلق (الوصفي) وهو الحكم على الفعل أو القول بالكفر, فيقال: من فعل كذا أو قال كذا فقد كفر, دون تنزيل الحكم وإيقاعه على الشخص المعيّن (المحدد).

الثاني: تكفير المعيّن (الشخصي) وهو الحكم بالكفر على الشخص المعين الذي فعل الكفر أو قاله بعد التحقق من توفر الشروط وانتفاء الموانع (62). وللتكفير والحكم به شروط عند أهل السنة, وتنقسم إلى شروط في الفاعل وهي التكليف والقصد والاختيار. وشروط في الفعل أو القول المكفر وهي أن يكون فعله أو قوله قد ثبت بالأدلة الشرعية أنه كفر أكبر أو شرك أكبر, بنص علماء الأمة عليه, وأن يكون الفعل أو القول صريح الدلالة على الكفر بخلاف المحتملات, وكذلك الجزم بوقوع الشخص المعين في ذلك الكفر, كذلك العلم بإقامة الحجة عليه, قال شيخ الإسلام: "لكن من الناس من يكون جاهلاً ببعض الأحكام جهلاً يعذر به فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة كما قال تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً" (الإسراء: 15) (63).

ومن المهمات كذلك انتفاء الموانع من التكفير وهي:

1_ موانع في الفاعل: وهي ما يَعرض له بما يجعله غير مؤاخذ بأفعاله وأقواله شرعاً (عوارض الأهلية).

2_ موانع في الفعل المكفر: لكون الفعل غير صريح في الكفر, أو أن الدليل الشرعي غير قطعي الدلالة.

3_ موانع في الثبوت: كالقدح في شهادة من شهد على المعين بفعل أو قول مكفر.

ومن المعلوم أن الإيمان شُعَبٌ منها ما يزول الإيمان بزوالها أو انتقاضها ككلمة التوحيد ومنها ما ينقصه مع بقاء أصله.

هذا وباب التكفير بالباطل هو الغلو في الدين قال الله تعالى: "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم"(المائدة: 77) وفي مسلم عن ابن مسعود مرفوعاً: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثاً. وعند النسائي بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: "وإياكم والغلو, فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين". كذلك التفريط مذموم "خذوا ما آتيناكم بقوة" (الأعراف: 171).

والرجال إنما يعرفون بالحق وليس الحق معروفاً بالرجال, فالخوارج المارقة وصفهم نبي الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم" متفق عليه, مع وصفه لهم بأنهم "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان" وقال: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" رواه البخاري. وفي مسلم: "هم شر الخلق والخليقة" وعند أحمد والحاكم: "الخوارج كلاب أهل النار".

وقد قابلت أحد من تأثر بمذهب هؤلاء في التكفير بالعموم واللزوم, فلما كشف عن أدلته إذ هي أوهى من بيت العنكبوت, وكان سبب تأخر رجوعه للحق الذي خرج منه؛ أنّ من لوّثوا فكره وغبشوا تصوّره بدأو ذلك بحجزه فكرياً في محيطهم حتى لا يرى الأمور إلا بمنظارهم, ولا يناقش الأفكار إلا على أصولهم, وبعد أن هداه الله للحق فاضت عينه بالدمع _إذ كانت عينه سليمة_ فتذكرت قول الشاعر العربي:

بكت عيني اليمنى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا

وهو يقول ويردد: وكيف اصنع بمن كفرتهم, وكان من ضمن من كفرهم إمام السنة في زمانه ابن باز رحمه الله تعالى! عائذاً بربي من مضلات الفتن.

يا قاصداً ثبج البحار ألا ارعوِ فلكم تجندل في المحيط الضارب

لقد بلغ الضلال بالخوارج حتى تقربوا إلى الله بقتل أفضل وأخير أهل عصره إبان إمارته للمؤمنين أبا الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه, إذ قتله عبدالرحمن بن ملجم المرادي, عليه من الله ما يستحق.

يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن

وقد مدح عمران بن حطان عبد الرحمن بن ملجم بأبيات منها_عائذاً بالله من الضلال_:

يا ضربة من تقي ما أراد بهـا إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناً
إني لأذكـره يوماً فأحسبـه أو في البـرية عنـد الله ميزاناً

وصار الحجاج يطارد عمراناً أيام ولايته بالعراق، فكان عمران يتنقل من حي إلى حي متخفياً ، وقيل: أهدر عبد الملك دمه, وما ان طرقت سمع الفقيه الطبري هذه الأبيات حتى رد عليه قائلاً:

يا ضربة من شقي ما أراد بها إلا ليهدم من ذي العرش أركاناً
إني لأذكـره يوماً فألعنـه وألعن الرجس عمران بن حطاناً

وقال القاشي أبو الطيب طاهر بن عبدالله الشافعي:

إني لأبرأ مما أنت قائله عن ابن ملجم الملعون بهتاناً

وعند الحافظ ابن كثر رحمه الله: لما مات علي رضي الله عنه: طلب ابن ملجم من الحسن أن يطلقه ليقتل معاوية رضي الله عنه, فقال له الحسن: كلا والله حتى تعاين النار، ثم قدمه فقتله، ثم أخذه الناس فأدرجوه في بواري ثم أحرقوه بالنار.

وقد قيل: إن عبد الله بن جعفر قطع يديه ورجليه وكحلت عيناه، وهو مع ذلك يقرأ سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق إلى آخرها، ثم جاؤوا ليقطعوا لسانه فجزع وقال: إني أخشى أن تمر علي ساعة لا أذكر الله فيها، ثم قطعوا لسانه، ثم قتلوه، ثم حرقوه في قوصرة والله أعلم. نعوذ بالله من الضلال.

يا صاحبي إن قد سمعت بمصرعي فانصح لنفسك واعتبر بتجاربي

عن زرّ ‏ ‏عن ‏ ‏عبد الله بن مسعود رضي الله عنه‏ ‏قال‏ ‏قال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم: ‏"يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان‏, سفهاء الأحلام, يقولون من خير قول الناس, يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم, يمرقون ‏من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ‏فمن لقيهم فليقتلهم فإن قتلهم أجر عند الله لمن قتلهم" رواه ابن ماجه وأصله في الصحيحين. قال السندي في شرحه لابن ماجه: قوله "أحداث الأسنان" أي صغار الأسنان فإن حداثة السن محل للفساد عادة. قوله "سفهاء الأحلام" ‏ضعفاء العقول. "‏يقولون من خير قول الناس" أي يقولون قولا هو من خير قول الناس أي ظاهراً قيل أريد بذلك قولهم لا حكم إلا لله حين التحكيم, ولذلك قال علي رضي الله تعالى عنه في حربهم: كلمة حق أريد بها باطل. وقيل: ومثله دعاؤهم إلى كتاب الله. وبالجملة فالمراد أنهم يتكلمون ببعض الأقوال التي هي من خيار قول الناس في الظاهر. ‏قوله "لا يجاوز تراقيهم" ‏أي حلوقهم بالصعود إلى محل القبول أو النزول إلى القلوب ليؤثر في قلوبهم. قوله: "يمرقون" ‏كيخرجون لفظا ومعنى. قوله: "من الرميَّة"هي الرمية يرميها الرامي على الصيد. قوله: "فإن قتلهم أجر" أي ذو أجر.

وقال علي رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً، فوالله لأن أخر من السماء، أحب إلي من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم، فإن الحرب خدعة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج قوم في آخر الزمان، أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة" رواه البخاري.

قال شيخ الإسلام: "قال الله تعالى وتقدس: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون . واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون. ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون. ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم. يوم تبيض وجوه وتسود وجوه". قال ابن عباس وغيره: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة, وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة: "فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون"(آل عمران:106).

وفي الترمذي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج أنهم "كلاب أهل النار" وقرأ هذه الآية: "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه". قال الإمام أحمد بن حنبل: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه. وقد خرجها مسلم في صحيحه, وخرج البخاري طائفة منها. قال النبي صلى الله عليه وسلم "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم, وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم, يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم, يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية _وفي رواية_ يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان".

والخوارج هم أول من كفّر المسلمين. يكفرون بالذنوب, ويكفرون من خالفهم في بدعتهم, ويستحلون دمه وماله. وهذه حال أهل البدع يبتدعون بدعة, ويكفرون من خالفهم فيها. وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة ويطيعون الله ورسوله, فيتبعون الحق, ويرحمون الخلق......ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه, كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة, فإن الله تعالى قال: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله, لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير"(البقرة: 285) وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم.

والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم؛ قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين. واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة, بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم, ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين, فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار. ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم.
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم, فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها, وإن كانت فيها بدعة محققة, فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضا؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ, والغالب أنهم جميعا جهّال بحقائق ما يختلفون فيه.
والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض, لا تحل إلا بإذن الله ورسوله. قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا" وقال صلى الله عليه وسلم "كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه". وقال صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله" وقال: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" قيل: يا رسول الله هذا القاتل, فما بال المقتول؟ قال: "إنه أراد قتل صاحبه" وقال: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" وقال: "إذا قال المسلم لأخيه يا كافر! فقد باء بها أحدهما" وهذه الأحاديث كلها في الصحاح...." وكتب كلاماً رائقاً طويلاً في بيان منهج أهل السنة في التعامل مع الفتن(64).

وقال شيخ الإسلام: "وقد استفاضت الأحاديث الصحيحة في وصفهم وذمهم والأمر بقتلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الإمام أحمد بن حنبل: صحّ الحديث في الخوارج من عشرة أوجه. وقد روى مسلم في صحيحه حديثهم من عشرة أوجه, كأنها التي أشار إليها أحمد بن حنبل فإن مسلماً أخذ عن أحمد. وقد روى البخاري حديثهم من عدة أوجه.

وهؤلاء أولهم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! اعدل فإنك لم تعدل!..."(65). وقال رحمه الله: "الخوارج لهم خاصيتان؛ الخروج عن السنة, والتكفير بالذنوب"(66).

وبحمد الله فقد حفظ الله للأمة بعلمائها الربانيين الناصحين, خرّج الإمام مسلم في صحيحه عن يزيد الفقير أنه قال:" كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج، ثم نخرج على الناس، قال: فمررنا على المدينة، فإذا جابر بن عبد الله رضي الله عنه يُحدِّث القوم، جالس إلى سارية، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ;. قال يزيد: فإذا هو قد ذكر الجهنميين، قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله، ما هذا الذي تحدثون به؟! والله يقول: "إنك من تدخل النار فقد أخزيته" (آل عمران: 192) ويقول: "كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها" (السجدة: 20) فما هذا الذي تقولون؟! فقال جابر: أتقرأ القرآن؟! قلت: نعم. قال: فهل سمعت بمقام محمد صلى الله عليه وسلم _يعني الذي يبعثه الله فيه_ قلت: نعم. قال: فإنه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود، الذي يُخرج الله به من يخرج. قال يزيد: ثم نعت وضع الصراط, ومرَّ الناس عليه. قال: وأخاف أن لا أكون أحفظ ذلك. قال: غير أنه قد زعم أن قوماً يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها. قال: يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم. قال: فيدخلون نهراً من أنهار الجنة، فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس. قال يزيد: فرجعنا فقلنا: ويحكم! أتُرون الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: فرجعنا، فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد"(67).

وقد كتب الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله رسالة بيّن فيها قصة الخوارج مستوفاة, وقال في آخرها: "فعلى من نصح نفسه, وأراد نجاتها أن يعرف طريقة هؤلاء القوم وأن يجتنبها, ولا يغتر بكثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم..."(68). قلت: وقد دون الحافظ ابن كثير رحمه الله أخبارهم في البداية والنهاية, وسجّل عليهم بواقعهم وجرائمهم وخروجهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالسلاح, وذكر طرفاً من خطبهم المليئة بالعاطفة والحماس, المضادة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وللشيخ الدكتور ناصر العقل كتب وبحوث قيمة, درس فيها فكرهم ومنهجهم وسماتهم وبيان خطرهم, جديرة بالعناية فشكر الله له. ومما كتبه: "...وأهمّ سماتهم في نظري ما يلي:
1- قلة الفقه في الدين، أي ضعف العلم الشرعي، أو أخذ العلم علي غير نهج سليم.
2- الغلو في الدين والتنطع، أي التشدد في الدين.
3- الغيرة غير المتزنة (العاطفة بلا علم ولا حكمة).
4- الابتعاد عن العلماء، وجفوتهم، وترك التلقي عنهم والاقتداء بهم.
5- التعالم والغرور، والتعالي على العلماء والناس.
6- حداثة السن، وقلة التجارب.
7- شيوع المنكرات والفساد والظلم في المجتمع، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو التقصير فيه .
8- النقمة على الواقع وأهله.
9- تحدي الخصوم، واستفزازهم للشباب والدعاة (المكر الكبَّار) وكيدهم للدين وأهله.(69).
10- قلة الصبر، وضعف الحكمة في الدعوة .
11- أخذ العلم عن غير أهله، ومن غير أهله، أو على غير منهج سليم "(70).

ومن قلّد دينه الرجال هلك. وصدّق ضلال من استدرجه بقوله عن أصحابه: طريقهمُ بادي السلامة مهيعُ...! ولسان حاله: وما أنا إلا من غزيّة إن غوت..!


 

 

"بَرَاءَةُ الدَّعْوَةِ السَّلَفِيِّةِ مِنْ التَّكْفِيرِ بِغَيْرِ حَقٍّ"

تهمةُ الدعوة السلفية بالتكفير بالعموم وهو ما يسميه بعضهم بتكفير المجتمعات الإسلامية قديمة قدم الدعوة نفسها, وتكاد تكون هذه الفرية هي أول الفِرَى كما أنها من أكبرها كذلك, وقد نفاها الإمام عن نفسه وعن دعوته كذلك تلاميذه وأئمة الدعوة من بعده.

قال الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: "وأما الكذب والبهتان فمثل قولهم أننا نكفّر بالعموم, ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه....ومثل هذا وأضعاف أضعافه, فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله"(71). وقال الإمام أيضاً: وأما القول بأنا نكفر بالعموم, فذلك من بهتان الأعداء الذين يصدون به عن هذا الدين, ونقول سبحانك هذا بهتان عظيم" (72).

وقال أيضاً رحمه الله موضحّاً من يكفّر ومن لا يكفّر: "فإن قال قائلهم: إنهم يكفرون بالعموم, فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم, الذي نكفر الذي يشهد أن التوحيد دين الله ودين رسوله, وأن دعوة غير الله باطلة, ثم بعد هذا يكفر أهل التوحيد ويسميهم خوارج, ويتبيّن مع أهل القبب على أهل التوحيد" (73). قلت: وفي هذا النص من الإمام الرد على الطرفين؛ من اتهموه بالتكفير بالعموم, ومن اتهموه بعدم التكفير بإطلاق, فالشيخ هنا قد كفّر من زايل أهل التوحيد, ووالى أهل الإشراك وعبّاد القبور, وتولاهم ضد الموحدين وناصرهم عليهم, وأن هذا مكفر مخرج من الملة حتى وإن زعم أن التوحيد حق, لأنه قد نقضه بفعله وردته. وللشيخ في مثل هذه كلام كثير وأمثلة وفيرة, ولكم عانى من أمثال أولئك, حتى جاهدهم بلسانه وبنانه وسيفه معه إخوانه على طريق الحق, حتى نصرهم الله, رحمهم الله تعالى.

وقال الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في فضح ذلك التخرص والتخوض في الباطل: "وأما ما يكذب علينا ستراً للحق, وتلبيساً على الخلق, بأننا نكفر الناس على الإطلاق من أهل زماننا ....فجوابنا سبحانك هذا بهتان عظيم, فمن روى عنا شيئا من ذلك أو نسبه إلينا فقد كذب علينا وافترى" (74).

وسئل ابنا مجدد الدعوة والشيخ حمد بن ناصر عما قيل من تكفيرهم لبعض المتقدمين فأجابوا: "ما ذكرت أننا نكفر ناساً من المتقدمين وغيرهم فهذا من البهتان الذي أشاعه عنّا أعداؤنا ليجتالوا به الناس عن الصراط المستقيم.....ونحن لا نكفر إلا رجلاً عرف الحقّ فأنكره بعدما قامت عليه الحجة" (75). وفي موضع آخر حين سئلوا: هل تعتقدون كفر أهل الأرض على الإطلاق؟ أجابوا: "....أما تكفير أهل الأرض كلهم فنحن نبرأ إلى الله منه من هذا".

فهم لم يكفروا بإطلاق, ولم يمتنعوا من التكفير بإطلاق, بل بالحق والإنصاف, لا بالظلم والاعتساف, وبيّنوا أحكام قيام الحجة الرسالية من عدمها, والتوابع التطبيقية لذلك, قال الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: "ولكن في أزمنة الفترات وغلبة الجهل, لا يكفر الشخص المعين بذلك _أي سؤال الميت والاستغاثة به_ حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة ويبين له ويعرف أن هذا هو الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله, فإذا بلغته الحجة وتليت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية, ثم أصرّ على شركه فهو كافر, بخلاف من فعل ذلك جهالة منه, ولم ينه عن ذلك, فالجاهل فعله كفر, ولكن لا يُحكم بكفره إلا بعد بلوغ الحجة إليه, فإذا قامت عليه الحجة ثم أصرّ على شركه فقد كفر ولو كان يشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله, ويصلي ويزكي ويؤمن بالأصول الستة" (76). قلت: وفي كتاب (الأصنام) للكلبي نماذج كثيرة من عبادة وتأله العرب من دعاء واستغاثة وحج وغيره, التي لم تنف عنهم الكفر لعدم التوحيد والإخلاص.

وقال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: "من كان من أهل الجاهلية_أي جاهلية كثير من الناس البعيدين عن حواضر الإسلام قبل دعوة الإمام المجدد وبخاصة في نجد_ عاملاً بالإسلام تاركاً الشرك فهو مسلم, وأما من كان يعبد الأوثان ومات على ذلك قبل ظهور هذا الدين_أي الإسلام الذي جدّده الإمام وأظهره الله على يديه_ فهذا ظاهره الكفر, وإن كان يحتمل انه لم تقم عليه الحجة الرسالية, لجهله وعدم وجود من ينبهه, لأنا نحكم على الظاهر, وأما الحكم على الباطن فذلك إلى الله, والله تعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه كما قال تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً" (الإسراء: 15) وأما من مات منهم مجهول الحال فإنا لا نتعرض له, ولا نحكم بكفره ولا بإسلامه وليس ذلك مما كلف به" (77). وقال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن في رد تلك الفرية: "هذه العبارة تدل على تهور في الكذب, ووقاحة تامة, وفي الحديث: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى؛ إذا لم تستح فاصنع ما شئت" رواه البخاري" (78).

وقال الشيخ السهسواني في دحض ذلك الإفك وغيره: "الجواب على هذه الأقوال كلها أنها على طولها وكثرتها كاذبة خبيثة, فلا تعجبك كثرة الخبيث" (79).

وتأمل الرسالة التي خطها يراع الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن لأحد من تلوّث ببدعة الخوارج والتكفير بغير حق, وفيها: "....ولقد أخبرتهم ببراءة الشيخ من هذا المعتقد والمذهب, وأنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر والكفر بآيات الله ورسله أو بشيء منها بعد قيام الحجة وبلوغها المعتبر .....وأما التكفير بهذه الأمور التي ظننتموها من مكفرات أهل الإسلام, فهذا مذهب الحرورية المارقين الخارجين على علي بن أبي طالب أمير المؤمنين, ومن معه من الصحابة" (80). وقال الشيخ عثمان الشاوي رحمه الله _أحد قضاة الإخوان الذين دخلوا مكة مع خالد بن لؤي في عهد الملك عبدالعزيز رحمهم الله_: "إنا لم نكفر بالعموم, ولا نكفّر إلا من قام الدليل القاطع على كفره, بصرفه حق الله لغيره, ودعائه والتجائه إلى ما لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيره..."(81).

وممن افترى على الدعوة السلفية متهماً أئمتها بأنهم يكفرون بالعموم؛ ابن عفالق, والقباني, وابن سحيم, ومحمد القادري, وحسن الشطّي, والحداد, وعثمان بن منصور, واللكنهوري, والزهاوي, ودحلان, والشيعي المعاصر محمد جواد مغنية, في قافلة سوء, تلقي قالات الزور, وتقذف صحائف البهتان, وتنفخ في بوق تشويه الدعوة, وتخويف العامة منها. "إن ربك لبالمرصاد" (الفجر:14) "والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً" (الأحزاب: 58) " إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كلّ خوان كفور" (الحج: 38) "وإن جندنا لهم الغالبون" (الصافات: 173) "ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز" (الحج: 40) "وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً" (الفرقان: 31). وكان من أوائل أولئك المفترين ابن سحيم, وقد رد عليه الإمام في عدة رسائل (82) وإن تعجب فعجبٌ ترديد بعض القوم في هذا الزمان لمفترياته!.


 

 

"لُزُومُ بَيْعَةِ السُّلْطَانِ المُسْلِمِ, وَتَحْرِيمُ الخُرُوجِ عَلَيْهِ"

درج السلف الصالح على الاهتمام بالمسائل الكبار وتأصيل فقه الأولويات في الأمة, والعناية بالأمور الطارئة على أصول الدين أو جمع كلمة الأمة وحماية بيضتها. وفي الزمان الذي يهتزّ فيه المنهج عند العامة, أو تُغزى أصول الديانة, يتحتم التأكيد وتكرار الحديث حول ذلك الأمر لرد تلك الغارة وكف تيك العادية, وثبيت الناس في الفتن والملمات, ولما خرجت الحرورية صاح العلماء في الأمة بتحذيرها من ضلالهم, كذلك لما ظهرت المرجئة, وبمثلها خروج الزنادقة الحلولية والاتحادية, وابتداع القائلين بخلق القرآن, أو انتشار شبهات القبورية وعبّاد الموتى...وهكذا, فكلما نبتت نابتة سوء تسابق الأئمة لنيل رضوان الله بقطعها قرباناً له, وصيانة لأمتهم من غلوائها, فكذلك في هذا الزمان تتابع العلماء الناصحون للأمة من تحذير الناس من شؤم الخروج على السلاطين المسلمين دون الكفرة الزنادقة, فالفتن إذا أقبلت تزينت وتبهرجت, وخدعت بتبرجها المستعجلين "ولكنكم تستعجلون" (رواه البخاري. وانظر ما ذكره الشيخ العلّامة العثيمين رحمه الله في شرحه لهذا الحديث في رياض الصالحين) أما العلماء فيرون مآلاتها بنفاذهم في لبّها وفرز جوهرها الشين عن بهرجها الزّين.

فهم لازمون لمنهجهم لأنهم يدورون مع نصوص الشريعة حيث دارت "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم" (الأنفال: 24) ويثقون بنصوص الوحي ثقة مطلقة, ويؤمنون بأن الخير بحذافيره في إعمالها لا في إهماله "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً" (الأحزاب: 36) ولا يثنيهم عن ذلك سخرية واستهزاء من قصر فهمه ودنا نظره فاستعجل ثمرة الإنكار بالخروج بالسيف, وهذا على شمل الأمة من أعظم الحيف, فأهل السنة لاينزعون يداُ من بيعة الإمام المسلم, وهذا ظاهر في مصنفات الأئمة المتقدمين والمتأخرين, وهم ينصحونه وينصحون له, وينكرون عليه منكراته سرّاً وهي القاعدة دفعاً لمفاسد من لا يقدر الأمور من الرعاع, وعلانية على قدر الحاجة وهي الاستثناء. ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان قال بعض الناس لأسامة بن زيد رضي الله عنه ألا تنكر على عثمان؟ قال: "أنكر عليه عند الناس؟! _مستنكراً_ لكن أنكر عليه بيني وبينه، ولا أفتح باب شرٍ على الناس". ولقد وقع ما خافه, ففُتح الباب وحدثت مصيبة لا يرقأها كرّ الأيام والليالي, ولله الأمر من قبل ومن بعد.

وقال الشيخ العثيمين رحمه الله: "...ولكن يجب أن نعلم أن الأوامر الشرعية في مثل هذه الأمور لها محالّ، ولا بد من الحكمة ، فإذا رأينا أن الإنكار علناً يزول به المنكر والشر ويحصل به الخير فلننكر علناً، وإذا رأينا أن الإنكار لا يزول به الشر، ولا يحصل به الخير، بل يزداد بغض الولاة للمنكرين وأهل الخير، فإن الخير أن ننكر سراً، وبهذا تجتمع الأدلة، فتكون الأدلة الدالة على أن الإنكار يكون علناً فيما إذا كنا نتوخى فيه المصلحة، وهي حصول الخير وزوال الشر، والأدلة الدالة على أن الإنكار يكون سراً فيما إذا كان إعلان الإنكار يزداد به الشر ولا يحصل به الخير. الواجب أن نناصح ولاة الأمور سراً كما جاء في النص الذي ذكره السائل, ونحن نقول: النصوص لا يكذب بعضها بعضاً, ولا يصادم بعضها بعضاً.

فيكون الإنكار معلناً عند المصلحة، والمصلحة هي أن يزول الشر ويحل الخير، ويكون سراً إذا كان إعلان الإنكار لايخدم المصلحة، أي: لا يزول به الشر ولا يحل به الخير. ونحن نعلم أن ولاة الأمور لا يمكن أن يُرضوا جميع الناس أبداً، حتى إمام المسجد لا يستطيع أن يرضي جميع من يصلي خلفه, فبعضهم يقول: إنه يطيل، وبعضهم يراه مقصراً، وبعضهم يريد التبكير بالصلاة، وبعضهم يريد التأخير، فهذا بالنسبة لإمام المسجد فكيف بولاة الأمور التي ولايتهم أوسع بكثير منه؟ فإذا أعلن النكير على ولاة الأمور استغله من يكره اجتماع المسلمين....فالحاصل أنه يجب على شباب الصحوة أن ينظروا إلى النصوص من جميع الجوانب، وألا يقدموا على شيء حتى ينظروا عاقبته، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" فاجعل هذا ميزاناً لك في كل أقوالك، وكذلك في كل أفعالك، والله الموفق. وقال أيضاً رحمه الله: "....وهناك فرق بين أن يكون الأمير أو الحاكم الذي تريد أن تتكلم عليه بين يديك وبين أن يكون غائباً، لأن جميع الإنكارات الواردة عن السلف كانت حاصلة بين يدي الأمير أو الحاكم، الفرق أنه إذا كان حاضرا أمكنه أن يدافع عن نفسه، ويبيّن وجهة نظره، وقد يكون مصيباً ونحن المخطئون، لكن إذا كان غائباً لم يستطع أن يدافع عن نفسه وهذا من الظلم، فالواجب أن لا يتكلم على أحد من ولاة الأمور في غيبته، فإذا كنت حريصاً على الخير فاذهب إليه وقابله وانصحه بينك وبينه" (83).

قال الإمام أحمد: "ولا يحلّ قتال السلطان, ولا الخروج عليه لأحد من الناس, فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق" (84). وقال حنبل رحمه الله: لما اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبدالله -يعني الامام أحمد رحمه الله، وكان في السجن- وقالوا له: إن الأمر قد فشا، وتفاقم -يعنون إظهار القول بخلق القرآن، وغير ذلك من المصائب والضيق والشدة، والقتل، والسجن- ولا نرضى بإمارته ولا سلطانه. فناظرهم في ذلك، وقال: عليكم بالإنكار في قلوبكم ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم، ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بَرٌّ، ويُستراح مِن فاجر. وقال: ليس هذا -أي الخروج- صواباً، هذا خلاف الآثار) (85).

وروى مسلم في الصحيح فيمن خلع يداً من طاعة وفارق الجماعة بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فمن خرج عن الطاعة، وفارق الجماعةَ، فمات فميتته جاهلية، ومن قاتل تحت رايةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعُصْبَةٍ، أو يدعو لِعُصْبَةٍ، أو ينصر عُصْبَةً، فقتل فَقِتْلَتُهُ جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى عن مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه". وروى مسلم رحمه الله في صحيحه بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله رجل فقال: يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم, ويمنعوننا حقنا! فما تأمرنا؟ فأعرض عنه. ثم سأله؟ فأعرض عنه. ثم سأله في الثالثة؟ فجذبه الأشعث بن قيس، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمِّلتُم". قال العلامة القرطبي المالكي رحمه الله: يعني أن الله تعالى كلّف الولاة العدل، وحسن الرعاية، وكلف المُولَى عليهم الطاعة، وحسن النصيحة، فأراد أنه إذا عصى الأمراءُ اللهَ فيكم، ولم يقوموا بحقوقكم، فلا تعصوا الله أنتم فيهم، وقوموا بحقوقهم، فان الله مجازٍ كل واحد من الفريقين بما عمل" (86).

وقال حذيفة رضي الله عنه كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم" . قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم، وفيه دخن" قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر" قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها" قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: "هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا" قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضّ بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك". رواه البخاري. وفي حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة، المضطجع فيها خير من الجالس، والجالس فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت أو وقعت، فمن كانت له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، ومن لم يكن له شيء من ذلك فليعمد إلى سيفه، فيدقّ على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء، اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت" (87). وفي حديث أنس رضي الله عنه وقد حسّنه الذهبي رحمه الله: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا" ومن أعظم الفتن فتن الدماء وسفكها بغير حق. (88).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه, فليصبر عليه, فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية" متفق على صحته. قال الحافظ في شرحه: "قال ابن أبي جمرة: المراد بالمفارقة السعيُ في حلّ عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير, ولو بأدنى شيء, فكنّى عنها بمقدار الشبر لأن الأخذ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء بغير حق" (89).

وقال شيخ الاسلام ابن تيمية الحراني رحمه الله: "فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمور لله، فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية فإن أعطوه أطاعهم، وان منعوه عصاهم، فماله في الآخرة من خلاق. وقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم؛ رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع رجلاً سلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو غير ذلك، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنيا، فان أعطاه منها وَفى، وان لم يعطه منها لم يفِ" (90).

وقال الحافظ ابن القيم رحمه الله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله, فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله؛ فإنه لا يسوغ إنكاره, وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله, وهذا كالإنكار على الملوك والولاة في الخروج عليهم, فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر"(91).


 

 

"خَطَرُ القَوْلِ بِعَدَمِ تَكْفِيرِ المُعَيَّنِ بِإِطْلَاقٍ, وَخُبْثُ مَذْهَبِ المُرْجِئَةِ"

الإرجاء في لغة العرب هو التأخير، قال تعالى: "قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ" (الأعراف:111). أي أمهله وأخره.

ولقبوا بالمرجئة لبدعتهم لمّا أرجأوا العمل عن الإيمان، أي أخروه, فأخرجوا العمل عن مسمّى الإيمان, وهذا هو جامعهم, وهذا مخالفة لصريح القرآن والسنة وخرق لإجماع السلف الصالح, وقد أشبع العلماء هذه القضية بحثاً, والدلائل متواترة في كون العمل داخلاً في مسمى الإيمان, وأن الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.

وبعضهم يلتزم بلازم القول بإخراج العمل عن مسمّى الإيمان؛ فيزعم أن الإيمان لا تضره معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة! وإن كانت هذه المقولة لا يمكن نسبتها إلى فرقة معينة من فرق المرجئة, كما بيّن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.

وأشهر أقوال المرجئة في الإيمان ثلاثة؛ الأول: أن الإيمان مجرد تصديق القلب ومعرفته، وهو قول الجهمية ومن وافقهم. الثاني: أن الإيمان مجرد قول اللسان فقط, وإن لم يكن معه اعتقاد قلب, وهو قول الكرامية, وقد اندثر. الثالث: أن الإيمان قول اللسان، وتصديق القلب، وهو قول مرجئة الفقهاء، فعمل الجوارح خارج عند جميع المرجئة عن مسمى الإيمان، والإيمان عندهم مستوىً ثابت لا يزيد ولا ينقص, ويلزم من ذلك أن إيمان شر الخلائق كإيمان خيرهم!.
أما أهل السنة والجماعة فيعتقدون أن الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. والقسمة في القول والعمل رباعية: قول القلب وعمله, وقول الجوارح وعملها, فقول القلب كأركان الإيمان الستة, وعمل القلب كالحب والبغض والرضا والتوكل, وقول الجوارح أي باللسان كالذكر والدعاء والأذان وقراءة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وعمل الجوارح كالصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد. نسأل الله حسن المعتقد وسلامة العمل, ونعوذ به من مضلات الفتن.

قال إبراهيم النخعي رحمه الله محذّراً من بدعة هؤلاء: "لفتنة المرجئة على هذه الأمة أخوف عندي من فتنة الأزارقة" (92). والأزارقة هم طائفة من عتاة الخوارج.

وقال سفيان الثورري رحمه الله: "دين محدث دين الإرجاء" (93). ومن الإرجاء؛ القول بعدم تكفير المعيّن بإطلاق حتى مع قيام الحجة الرسالية, بشبهة احتمال كونه مؤمناً باطناً.

ومن أسباب ضلال المرجئة حصرهم التوحيد في الربوبية فقط, وأنه الواجب على المكلف, ومن ثم قصرت تصوراتهم لحقيقة الشرك المناقض للتوحيد, فحصروا الشرك في الربوبية كمن يعتقد أن الخلق والتدبير لغير الله ونحو ذلك, أما علماء الدعوة وسلفهم الصالح, فقد تصوروا التوحيد والشرك تصوراً تاماً, وفهموهما وفقهوهما على التفصيل.

ومن موارد الزلل عند المرجئة أو من تأثر بهم؛ إدخال بعض أهل المكفرات الكبرى في دائرة الإسلام بحجة أنها لا تُخرج منه بصفتها كبائر أو صغائر بل زعم بعضهم أنها مستحبات مشروعات كمسألة التوسل الشركي "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" (الزمر: 3) فغفلوا عن أن هذا عين دين أبي جهل وأبي لهب, الذي بعث لنقضه الأنبياء "ومن يضلل الله فماله من هاد" (الزمر: 36) وصار التوحيد الذي أقر به مشركو العرب هو توحيد هؤلاء "ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون" (يونس: 31).

وسبب انحرافهم أنهم لم يعلموا الحد الفاصل بين المكفرات المخرجة من الإسلام الناقضة للملة, وبين ما دونها, فهم لم يتصوروا حقيقة التوحيد تصوراً كاملاً سليماً, ولذلك غَبَشَ الشركُ بصيرتهم وأعماها, فلم يتبينوا حده ومنتهاه. وقد تعلق المرجئة بتقسيم بعض العلماء الكفر إلى اعتقادي أكبر وعملي أصغر, دون معرفة لمعنى الكفر العملي الذي ذكره أولئك العلماء, وأنهم لم يقصدوا أن كل الأفعال والأقوال داخلة في الكفر الأصغر.

ومن أسباب ضلالهم إلفهم عوائد الأسلاف, فلم يجرؤ بعضهم أن يعتقد أن فلاناً المقرب إلى قلبه قد فعل فعلاً وُصف في محكم التنزيل بالشرك والكفر, فيبحث عن المتشابه ما يطرُد عنه ذلك الوارد المرير الناصح, ويرد المحكم إلى المتشابه فيضل ويضل. "بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون" (الزخرف: 22).

ومنها التقليد الأعمى لمن جلّ في عينيه وكبر في فؤاده, فالحق عنده ما قاله فلان, والباطل ما أنكره, فيعرف الحق بالرجال ويقيسه عليهم, ويخاطر بمصيره وفرصته الوحيدة, مع إلغاء عقله وإبعاد تفكيره وتهميش ترجيحه "بل الإنسان على نفسه بصيره . ولو ألقى معاذيره" (القيامة: 14_15) قال علي رضي الله عنه: "إياكم والاستنان بالرجال, فإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة, ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار!...فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء" (94). وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً إن آمن آمن, وإن كفر كفر, فإنه لا أسوة في الشر, ومن كان مستناً فليستن بمن قد مات, فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة".

وقد تكاثر المضلون وتوارد المخذولون على إقرار الشرك في الناس, ونسج المبررات لفعلهم الوخيم. نعوذ بالله من الخذلان, ونبرأ إليه من دين أهل النيران.

قال الشيخ صالح آل الشيخ: "مما تميزت به دعوة الإمام أنه يدعو للتوحيد بالتفصيل, فهي دعوة تفصيلية وليست إجمالية, أما إجمالاً فأكثر العلماء حتى في عصره كانوا مقرين به, لذلك فإنه لما عرض دعوته على علماء الأمصار, قال: وافقوني على ما قلت, وخالفوني في مسألتين؛ التكفير والقتال, وذلك لأنهما متفرعتان عن الدعوة لأَفراد التوحيد والنهي عن أفراد الشرك تفصيلاً"(95). وشيخ الإسلام رحمه الله سلّ السيف على الكفار الذين يدّعون الإسلام كالتتار والنصيرية وأفتى بكفرهم. وقد أطال الحديث عن الجهاد بأنواعه بالبيان والسنان, ومن أعلاه القتال في سبيل الله. (96).

والقول بعدم تكفير المعين مطلقاً مطية تعطيل حكم الردة, وزاملة إلغاء البراءة من المشركين, ودعوة للزنادقة ليجاهروا بالكفر والوثنية وإظهار دين أبي جهل وأبي لهب والصابئة والمجوس واليهود والنصارى وسائر الضلال. كما أن التجاسر على تكفير الناس بلا برهان حفرة كبرى من النار, قال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن رحمه الله: "والتجاسر على تكفير من ظاهره الإسلام من غير مستند شرعي ولا برهان مرضي, يخالف ما عليه أئمة العلم من أهل السنة والجماعة, وهذه الطريقة هي طريقة أهل البدع والضلال" (97).

والتساهل في الأقوال والأعمال قد يؤدي إلى الكفر وإن لم يقصد صاحبه ذلك المآل المظلم. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر كَفَرَ بذلك, وإن لم يقصد أن يكون كافراً, إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله" (98).

وقال الإمام المجدد: "فما معنى الباب الذي ذكره العلماء في كل مذهب (باب حكم المرتد) وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه, ثم ذكروا أنواعاً كثيرة, كل نوع منها يكفّر المسلم ويحل دم الرجل وماله, حتى أنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه, أو كلمة يذكرها على وجه المزاح واللعب" (99).

وقال أيضاً: "ولنختم الكلام إن شاء الله تعالى بمسألة عظيمة مهمة تفهم مما تقدم، ولكن نفرد لها الكلام لعظم شأنها ولكثرة الغلط فيها فنقول: لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً. فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما، وهذا يغلط فيه كثير من الناس، ويقولون هذا حق، ونحن نفهم هذا ونشهد أنه الحق، ولكنا لا نقدر أن نفعله، ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم، أو غير ذلك من الأعذار، ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار قال تعالى: "اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا" (التوبة: 9) وغير ذلك من الآيات كقوله: "يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ" البقرة: 146) فإن عمل بالتوحيد عملا ظاهراً وهو لا يفهمه أو لا يعتقده بقلبه فهو منافق، وهو شر من الكافر الخالص "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ" (النساء: 145) وهذه المسألة مسألة كبيرة طويلة, تتبين لك إذا تأملتها في ألسنة الناس ترى من يعرف الحق ويترك العمل به لخوف نقص دنيا أو جاه أو مداراة لأحد. وترى من يعمل به ظاهراً لا باطناً، فإذا سألته عما يعتقد بقلبه فإذا هو لا يعرفه. ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله: أولاهما قوله تعالى: "لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ" (التوبة: 66) فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع الرسول صلى الله عليه وسلم كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به خوفاً من نقص مال أو جاه أو مداراة لأحد أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها. والآية الثانية قوله تعالى: "مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ" (النحل: 106_107) فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان، وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه، سواء فعله خوفاً أو مداراةً أو مشحّةً بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله، أو فعله على وجه المزح، أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره، فالآية تدل على هذا من جهتين: الأولى قوله: "إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ" (النحل: 106) فلم يستثن الله تعالى إلا المكره. ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل. وأما عقيدة القلب فلا يكره عليها أحد. والثانية قوله تعالى: "ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ" (النحل: 107) فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البغض للدين أو محبة الكفر ، وإنما سببه أن له في ذلك حظا من حظوظ الدنيا فآثره على الدين. والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (100).

وقال الإمام المجدد مؤكداً ضابط عدم قيام الحجة على الجاهل: "كيف تشكون في هذا وقد وضحت لكم مراراً أن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام, أو الذي نشأ ببادية بعيدة" (101). إذن فالشيخ وتلاميذه وأئمة الدعوة وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه ومن سبقهم من السلف جادتهم واحدة واضحة جلية, فمن رام غير جادتهم فلا ينتسب لهم ولا ينسبهم إلى رأيه. فمن موانع التكفير عندهم؛ حديث العهد بالإسلام, ومن نشأ بمكان بعيد عن المسلمين, ومن نشأ في أمكنة أو أزمنة عمّ فيها الجهل واندرست فيها معالم الإسلام وآثار النبوة (102). قال الإمام ابن باز رحمه الله: "من يعذر بالجهل كالذي ينشأ في بادية بعيدة عن الإسلام في أطراف الدنيا, أو لأسباب أخرى كأهل الفترة ونحوهم ممن لم تبلغهم الرسالة, فهؤلاء معذورون بجهلهم" (103). ويرى بعض أهل العلم المعاصرين حمل كلام الشيخين ابن تيمية وابن القيم علي الفهم التام المفصل وهذا غير ظاهر.

قال المشايخ عبدالله بن عبداللطيف وإبراهيم بن عبداللطيف وسليمان بن سحمان: "وأما قوله عن الشيخ محمد أنه لا يكفر من كان على قبة الكوّاز ونحوه, ولا يكفر الوثني حتى يدعوه وتبلغه الحجة فيقال: نعم, فإن الشيخ محمداً رحمه الله لم يكفر الناس ابتداءً إلا بعد قيام الحجة والدعوة, لأنهم إذ ذاك في زمن فترة أو عدم علم بآثار الرسالة, ولذلك قال: "لجهلهم, وعدم وجود من ينبههم" فأما إذا قامت عليهم الحجة فلا مانع من تكفيرهم وإن لم يفهموها....ولا يجادل في هذه المسألة ويشبّه بها إلا من غلّب جانب الهوى, ومال إلى المطامع الدنيوية, واشترى بآيات الله ثمناً قليلاً" (104). فكلام الإمام مستقيم ومضطرد ويصدق ويفسر بعضه بعضاً, ومن سبر مصنفاته واستقرأ كلامه وتتبع فتاويه استبان له ذلك, ومن ذلك: "فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه, وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل, وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله" (105).

وقال الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في بيانه المكي المشهور: "....هذا ما نحن عليه مخاطبين من له عقل وعلم, وهو متصف بالانصاف, خال عن الميل إلى التعصب والاعتساف, ينظر إلى ما يقال, لا إلى من قال. وأما من شأنه لزوم مألوفه وعادته, سواء كان حقاً أم غير حق فقلد من قال الله فيهم: "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون" (الزخرف: 23) عبادته وجبلته أن يعرف الحق بالرجال لا الرجال بالحق, فلا نخاطبه وأمثاله إلا بالسيف, حتى يستقيم أوده, ويصح معوجه, وجنود التوحيد بحمد الله منصورة, وراياتهم بالسعد والإقبال منشورة "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" (الشعراء: 227) "إن حزب الله هم الغالبون" (المائدة: 56) "وإن جندنا لهم الغالبون" (الصافات: 173) "وكان حقاً علينا نصر المؤمنين" (الروم: 47) "والعاقبة للمتقين" (الأعراف: 128).

قال الدكتور سفر الحوالي في شرحه القيّم للطحاوية: "لما أتى التتار بقانونهم الكفري (الياسق) أفتى شيخ الإسلام بكفرهم, فاضمحل ذلك الأمر".

قلت: وهذا من بركة التكفير بحق, إذ لما علم الناس كفر هذا الطاغوت سقط من صدورهم ثم من واقعهم بحمد الله, وانظر كيف نفضت الأمة يديها من الجهمية ومنهم المعتزلة حينما أفتى الأئمة كأحمد بكفر مقالة القول بخلق القرآن, وقبل ذلك _وهو أحسم تكفير بحق علي مستوى الأمة_ تكفير أبي بكر والصحابة للمرتدين أتباع مسيلمة وسجاح وطليحة, وكذلك تكفيرهم لمن قاتل دون بذل شعيرة الزكاة على الصحيح, واستدلال الصدّيق بعين الحديث الذي واجهه به بعض الصحابة "إلا بحقها" حتى شرح الله صدورهم جميعاً على ذلك, فحفظ الله بهم الإسلام. فما من دليل صحيح يُحتج به في باطل إلا وفيه ما يبطل شبهته, كما ذكره شيخ الإسلام, لذاك قال السلف: حفظ الله الأمة بأبي بكر يوم الردة وبأحمد يوم المحنة. قلت: وبابن عبدالوهاب زمن القبورية.

وعلى امتداد الزمان حُفظ الإسلام من التيارات المبدِّلة والأفكار المُحدثة بمثل تلك الأحكام الحازمة؛ كحكم الردة, والإفتاء بتكفير وقتل المرتدين والزنادقة؛ كالحلاج ومعبد والجعد وغيلان, ناهيك عما سوى ذلك من الجلد والسجن والزجر والهجر ونحو ذلك من وسائل تحصين الأمة وحمايتها من هؤلاء, واقتلاع بدعهم, وحماية الناس من وضر شرهم, حتى لا يتبدل دين الرسول صلى الله عليه وسلم. والعبرة مما سِيق تأمّل حال ابن آدم, وأنّه قد يخرج من ربقة الدين وينسلخ من ثياب الملة بأمر هين في عينيه.

ولكن الخوف من جراءة وتسابق سفهاء الأحلام حدثاء الأسنان على التخوّض في أوحال التكفير بغير حق, والانطلاق مع لهيب الحماس بلا ضوابط شرعية ولا حِكَمٍ مصلحية, فينطلقون وقد قفزوا وتجاوزوا علم المشايخ وحكمة العلماء فتقع الداهية وتحلّ الكارثة!.

لذلك فللأهمية القصوى أقول: إن هذا الكلام الكبير في الحكم بالكفر والإيمان؛ إنما هو من لدن علماء رسخت أقدامهم في آثار الرسالة وميراث النبوة, قد حازوا آلة الأصلَين ومعادن العلم وذخائر الحكمة, فلا يأتين أحد ليس معه آلتهم العلمية؛ فيعنق في حرمة أديان الناس, ويتخوّض في خطر دمائهم, ويهتك غليظ أعراضهم, بحجة أن السلف ومنهم علماء الدعوة يقولون بالتكفير والقتال، فالتنظير والتقرير شيء والإعمال والتطبيق شيء آخر، فأولئك الأجلّة من فحول العلم و جهابذة الدعوة قد ابتلاهم الله بأمور عظام تناطحت أمامهم فوّفقهم الله تعالى وثبّتهم.

وعلى كل حال, فنحن ننظر لهذه المسألة ونحن نعيش الأمن والسلم والرغد, وقد نرى أموراً وتخفى عنا أمور, أو خلفيّات, أو وقائع, أو أحداث, أمّا هم فكانوا يعانون ويلات الحروب, ويصطلون بنارها, ويكتوون بحرّها, وتدهمهم الأمور الكبار, وتتطاحن بين أيديهم وعن أيمانهم وشمائلهم الفتن العميّة, فصدروا عن ذلك بفتاوى حاسمة, وبمسؤولية تامّة, إذ هم قد بلغوا من العلم بالشرع والحال ما يؤهلهم للقيام بهذه المهمات الجسام, رحمهم الله تعالى.

فعلماء الدعوة قد عُنوا بتحقيق المناط وهو التحقق من تطبيق النص على الجزئيات, أي إثبات العلة في ذلك الفرع, وقد احتاطوا وَوُفِّقوا. فقد تأملّوا حال وواقع الناس الذين استحقوا تلك الأوصاف والأفعال والجهاد والقتال، ولما ورد أمراؤهم موارد علمهم صدروا عنهم بعطن ورواء ويقين، وهل يعدل العلم والإيمان شيء؟ كلا وربي! أما من سواهم فليحمد الله على العافية وليقنع بها, قبل أن تُرفع عنه فيرومها فلا يُفلح ويتمناها فلا تسنح! والعافية لا يعدلها شيء, والمعافى من عافاه الله, فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصِبْ دماً حراماً" رواه البخاري, وقال عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا" رواه النسائي, ولأحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ثكلتْهُ أُمُه رجلٌ قتلَ رجلاً متعمداً يجيء يومَ القيامة آخذاً قاتله بيمينه أو بيساره وآخذاً رأسه بيمينه أو شماله تشخبُ أوداجه دماً في قبل العرش يقول: يا رب سَلْ عبدك فيم قتلني؟" وروى النسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: "يجيء المقتول متعلقاً بالقاتل تشخب أوداجه دماً فيقول: أي رب سَلْ هذا فيم قتلني؟" وعند ابن ماجه والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده، وأوداجه تشخب دماً فيقول: يا رب سَلْ هذا فيم قتلني؟ حتى يدنيه من العرش" وقال عليه صلوات الله وسلامه: "أولُ ما يُحاسَبُ به العبدُ الصلاةُ، وأولُ ما يُقضَى بينَ الناسِ الدماءُ" رواه البخاري, وعند أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس من عبد يلقَى اللهَ لا يشرك به شيئاً، ولم يتند بدم حرام إلاّ دخل من أي أبواب الجنة شاء" ومعنى "ولم يتند": أي لم يصب من الدم الحرام شيئاً. وقال صلى الله عليه وسلم: "أبغض الناس إلى الله ثلاثة: مُلْحِدٌ في الحَرَم، ومُبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية، ومُطّلب دم امرىء بغير حق ليهريق دمه" رواه البخاري, وله عن جندب رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ أول ما ينتن من الإنسان بطنه فمن استطاعَ أنْ لا يأكل إلاّ طيباً فليفعل، ومن استطاع أنْ لا يحال بينه وبين الجنة ملء كف منْ دم أهراقه فليفعل". وعند أبي داود عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل مؤمناً فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً". عائذاً بالله من موجبات غضبه, وموارد عقابه.

وكيف لا يفزع المرء من قتل المؤمن, والجبار جل جلاله قد توعد قاتله في محكم التنزيل بعقوبات أولاها جهنم وخامستها العذاب العظيم, وما ظنّك بعذاب وصفه الجبار بالعظيم؟!. ونحن_أخا الإيمان_ في زمان كثرت فتنه, وطمّت محنه, قد رقّق بعضها بعضها, حتى يقول المؤمن: هذه مهلكتي!.

والخلاصة؛ أن أعداء الدعوة قد حاولوا أن يقطعوا كلام ومنهج أئمة الدعوة عن شيخهم المجدد في التكفير والقتال, كما حاول من سبقهم قطع منهج المجدد عن منهج المجدد السابق شيخ الإسلام ابن تيمية ومنهج ابن القيم, كما فعل ابن عفالق وسليمان بن عبدالوهاب _أخو الشيخ ويقال: إنه رجع آخراً_ وداود بن جرجيس وعثمان بن منصور, وقد أجاب الأئمة عن ذلك الافتراء وكشفوا ذلك التلبيس (106).

قال الإمام المجدد في تكفير من لم يكفر من عبد من دون الله وهو راض: "بل لا يصح دين الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم, كما قال تعالى: "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها" (البقرة: 256). ولإمام الدعوة رسالة نفيسة بعنوان (مفيد المستفيد بكفر تارك التوحيد) وضح فيها أن المعيّن يكفر بشروط وانتفاء موانع, ومثّل على ذلك بأمثلة كثيرة, وانظر كذلك (ست مسائل في السيرة) للمجدد, وفي رسالة نواقض الإسلام لم يستثن الإمام إلا المكره دون الجاهل أو المتأول.

والمنصف العدل هو من يُعمِل قاعدة رد المتشابه إلى المحكم, والمجمل إلى المفصل, والمبهم إلى المبيّن. ولا يكون انتقائياً. وصرّح المجدد رحمه الله بتكفير ناس بأعيانهم بعدما تأكد من وقوعهم في الشرك الأكبر, وتحقق من إقامة الحجة عليهم, فقال: "بل العبارة صريحة واضحة في تكفيره مثل ابن فيروز, وصالح بن عبدالله, وأمثالهما كفراً ظاهراً ينقل عن الملة....وليس في كلامي هذا مجازفة, بل أنت تشهد به عليهم, ولكن إذا أعمى الله القلب فلا حيلة فيه...." (107). وقال الشيخ حسن والشيخ عبدالله ابنا الشيخ محمد رحمهم الله في جواب لهما: "من مات من أهل الشرك قبل بلوغ هذه الدعوة, فالذي يحكم عليه أنه إذا كان معروفاً بفعل الشرك ويدين به ومات على ذلك على ذلك؛ فهذا ظاهره أنه مات على الكفر, ولا يُدعى له ولا يتصدق عنه وأما حقيقة أمره فإلى الله تعالى, فإن كان قد قامت عليه الحجة في حياته وعاند فهذا كافر في الظاهر والباطن, وإن لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله....المسألة الثالثة والعشرون: أن صاحب البردة وغيره ممن يوجد الشرك في كلامه والغلو في الدين وماتوا؛ لا يحكم بكفرهم وإنما الواجب إنكار هذا الكلام وبيان أن من اعتقد هذا على الظاهر فهو مشرك كافر, وأما القائل فيرد أمره إلى الله سبحانه, ولا ينبغي التعرض للأموات لأنه لا يعلم هل تابوا أم لا, وأما شعر ابن الفارض فإنه كفر صريح لأنه شاعر الاتحادية الذين لا يفرقون بين العابد والمعبود والرب والمربوب, وهو من طائفة ابن عربي الذين قال فيهم ابن المقري الشافعي: من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر" (108). إذن فلا تلازم بين الحكم الظاهر والحقيقة الباطنية. وسيأتي قريباً إن شاء الله (109).

قال الشيخ عبداللطيف بن حسن رحمه الله: "وهذان الشيخان ابن تيمية وابن القيم يحكمان أن من ارتكب ما يوجب الكفر أو الردة يحكم عليه بمقتضى ذلك, وبموجب ما اقترف كفراً أو شركاً أو فسقاً, إلا أن يقوم مانع شرعي من هذا الإطلاق, وهذا له صور مخصوصة لا يدخل فيها من عبد صنماً أو قبراً أو بشراً أو مدراً لظهور البرهان وقيام الحجة بالرسل" (110). وشيخا الإسلام ابن تيمية وابن عبدالوهاب في استثنائهما الجهلة في أمور الشرك الظاهرة؛ إنما عنيا من لم تبلغه الدعوة, وقد نصّ على ذلك الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن. (111). وأهل الفترة لهم حكمهم يوم القيامة, وأمثل الأقوال فيهم أنهم يمتحنون.

وقد صنف الشيخ إسحاق بن عبدالرحمن بن حسن رسالة في الرد على من زعم أن شيخي الإسلام ابن تيمية وابن عبدالوهاب يطلقان الكفر على الفعل دون فاعله في شيء من مسائل الشرك الظاهرة (112). وقال شيخ الإسلام في معرض حديثه عن الاستغاثة بغير الله: "ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضاً كافر, إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها" (113).

وقال الشيخ إسحاق بن عبدالرحمن بن حسن معلقاً على كلام ابن تيمية "فيمن اعتقد في بشر أنه إله أو دعا ميتاً وطلب منه الرزق والنصر والهداية وتوكل عليه وسجد له؛ بأنه يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه" _ونحوها مما يكثر في كلام شيخ الإسلام_ قال "وأن هذا هو عين كلام شيخ الإسلام فيُستتاب فإن تاب وإلا قتل بضرب عنقه, ولم يقل: يعرّف, ولا قال: ما يكفر حتى يعرّف كما ظن ذلك من لا علم عنده, ومن هو مدخول عليه في أصل دينه" (114).

وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله مجيباً على سؤال مفاده: أن بعضهم يقول: إن كان مراده كذا فهو كافر, فما قولكم؟ فأجاب عليه الرحمة والرضوان: "مراد هؤلاء أنه لا يكفر إلا المعاند فقط, وهذا من أعظم الغلط, فإن أقسام المرتدين معروفة, منم من ردته عناد وبعضهم لا, وفي القرآن يقول الله عز وجل: "ويحسبون أنهم مهتدون" (الأعراف: 30) وحسبانهم أنهم على شيء لا ينفعهم, وبعضهم يقول: إن كان مرادهم كذا, وهذه شبهة عدم تكفير المعين, وصريح الكتاب والسنة يرد هذا" (115). وهذا الحكم إنما هو في الألفاظ الصريحة غير المحتملة التي تدل على الكفر, أما المحتملة فلا بد من الاستفصال, وغني عن القول أنه لا يكفر من قالها خطأً بدون قصد, كمن أراد قول شيء فجرى على لسانه شيء آخر.

وهذا الحكم الحاسم الجلي في هذه المسألة ليس من مفردات الحنابلة بل هو بالاتفاق بين علماء السنة. وانظر كلام القونوي الحنفي في شرحه للفقه الأكبر (116) وكلام القاضي عياض المالكي فيما نقله عنه ابن حجر في الفتح (117) وكلام ابن حجر الشافعي في الفتح (118).

كما أن القتال يشرع لأمور منها؛ قتال الكفار للإسلام, وقتال الممتنعين عن إقامة شعائر الإسلام الظاهره وقد أكثر تقي الدين الأمثلة على الأخير في ثنايا كتبه, وتضاعيف فتاويه.

قال الإمام _الملك_ عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل رحمه الله في رسالة له: "....عند ذلك اشتدت غربة الإسلام, واستحكم الشر والبلاء, وطمست أعلام الهدى, وجاء من ينكر ويحذر منه ويعدّه خارجياً, قد أتى بمذهب لا يعرف, لأنهم لا يعرفون إلا ما ألفته طباعهم"(119).

إذا المبادئ لم تُحـمل مكرمةً على الرقاب فلا تستعجل الإربِ

ووجود العلماء في محِلّةٍ ما لا يمنع من ظهور الشرك بها, وليس في ذلك حجة إقرار, ولذلك أجوبة, وانظر ما كتبه الإمام الصنعاني في (تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد) في كشف تلك الشبهة.

وفي رد الشيخ عبدالرحمن بن حسن على من أنكر عليهم تنزيل آيات المشركين على المسلمين قال: "ومعلوم أن القرآن نزل بأسباب فإن كان لا يستدل به إلا في تلك الأسباب بطل الاستدلال بالقرآن, وهذا خروج من الدين, وأيضاً فمازال العلماء من عصر الصحابة ومن بعدهم يستدلون بالآيات التي نزلت في اليهود وفي غيرهم على من يعمل بها" (120).

هذا, وقد صنّف الإمام المجدد أحسن كتابين كُتبا منذ قرون_فيما أحسب_ في تقرير توحيد الألوهية, ودفع ما يضاده, الأول في تأصيله وتقريره والدعوة إليه, وهو كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد, والثاني لدفع الشبه عنه وهو كشف الشبهات. ومن توفيق الله تعالى للحكومة السعودية_وعسى الدول الإسلامية أن تقتدي بها في هذا النصح لعقيدة الأمة_ أن قررت رسالته المختصرة (الأصول الثلاثة) للمرحلة الابتدائية و(كتاب التوحيد) للمرحلة المتوسطة, و(الواسطية لشيخ الإسلام) للمرحلة الثانوية, وياليتها تضيف رسالة (كشف الشبهات) للمرحلة الثانوية, أو الجامعية_بأن تُعتمد كمتطلب جامعي إلزامي_ لحاجة الأمة اليوم للتحصين من سيل الشبه الذي صرع الكثير من أبنائها, علماً بأن الشبه التي كشفها ودحضها الإمام في هذه الرسالة المختصرة المباركة هي الشبه الكبار للقبورية من لدن قوم نوح عليه السلام, وهي الشبه التي إذا تمكن العامي من صدّها ودفعها فما سواها أهون, وهي منتشرة على نطاق واسع, في الإعلام المرئي والمسموع والمقروء, ولا أظنّها من الشبه التي يرجى موتها وتلاشيها بالسكوت عنها.

وقد تكاثرت رسائل الإمام وفتاواه في تقرير العقيدة الصافية وتنقيتها من شوائب الخرافة وظلام الفلسفة, وكشف الشبه المضللة, كذلك من بعده أبناؤه وتلاميذه أئمة الدعوة النجدية السلفية (121).

قال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن رحمه الله: "وأما تكفير من أجاز دعاء غير الله.....وغير ذلك من أنواع عباداتهم فكلامهم _أي العلماء_ فيه, وفي تكفير من فعله أكثر من أن يحاط به ويحصر, وقد ذكر الإجماع عليه غير واحد ممن يقتدى به ويرجع إليه من مشايخ الإسلام والأئمة الكرام, ونحن قد جرينا على سننهم في ذلك, وسلكنا مناهجهم فيما هنالك, لم نكفر أحداً إلا من كفره الله ورسوله, وتواترت نصوص أهل العلم على تكفيره ممن أشرك بالله وعدل به سواه..." (122).

وقد أجاد وأفاد الشيخ علوي السقاف في كتابه (التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول والفعل والاعتقاد) حيث ذكر فتاوى ما يزيد على مئة عالم من علماء الأمة من التابعين حتى المعاصرين, من مختلف المذاهب الفقهية, على أن الكفر الأكبر يكون بالقول والفعل وليس بمجرد التكذيب كما هو مذهب المرجئة.

والخلاصة أن الطريق الوسط والصراط المستقيم هو التكفير بحق, بدون تفريط المرجئة الوعدية, ولا إفراط الخوارج الوعيدية.


 

 

"بَرَاءَةُ الدَّعْوَةِ السَّلَفِيَّةِ مِنْ عَدَمِ تَكْفِيرِ المُعَيَّنِ بِإِطْلَاقٍ"

تقرير مسائل التكفير إنما هو من حيث الإطلاق, أما من جهة التعيين (تكفير المعين) فهذا مناطه العلم اليقيني بحال المعين (تحقيق المناط) وهو مبني على مدى تحقق شروط التكفير وانتفاء الموانع. وهذا منهج السلف الصالح الذي سارت عليه هذه الدعوة الإصلاحية التجديدية.

قال الإمام المجدد موضحاً كلام شيخ الإسلام: "وهذه صفة كلامه في كل موضع وقفنا عليه, لا يذكر عدم تكفير المعين إلا ويصله بما يزيل الإشكال, وأن المراد التوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة, وإما إذا بلغته الحجة حكم عليه بما تقتضيه تلك المسأله من تكفير أو تفسيق أو معصية" (123).

وقد رُميت الدعوة بشبهة تنزيل آيات المشركين على المسلمين, وممن رماها بذلك سليمان بن عبدالوهاب, وعلوي الحداد, واللكنهوي, وزيني دحلان, والزهاوي, ومحمد نجيب سوقية وغيرهم من أهل الإفك.

ولما سئل مفتي الديار النجدية العلامة عبدالله أبا بطين عمن ارتكب شيئاً من المكفرات جهلاً. أجاب رحمه الله: "....فلا عذر لأحد بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم في عدم الإيمان به وبما جاء به بكونه لم يفهم حجج الله وبيناته, لأن الله تعالى أخبر عن الكفار بعدم الفهم, فقال تعالى: "وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً" (الأنعام: 25) "إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون" (الأعراف: 30) "صم بكم عمي فهم لا يعقلون" (البقرة: 171) والآيات في وصفهم بغاية الجهل كثيرة معلومة, فلم يعذرهم الله تعالى بكونهم لم يفهموا, بل صرح بتكفير هذا الجنس وأنهم من أهل النار, كما قال تعالى: "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً . الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً" (الكهف: 103_105) وقوله: "ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون" (الأعراف: 179).....إنا لو لم نكفر إلا العارف المعاند لزمنا ألا نكفر اليهود والنصارى وهذا من أبطل الباطل ....._ثم علق على كلامٍ لشيخ الإسلام, وتأمل ارتباط أئمة الدعوة بهذا الإمام الفذ وخبرتهم في منهجه وعلمه_ فانظر إلى تفريقه _أي ابن تيمية_ بين المقالات الخفية والأمور الظاهرة, فقال في المقالات الخفية التي هي كفر: "قد يقال: إنه مخطئ ضال, لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها" ولم يقل ذلك في الأمور الظاهرة, بل قال: "ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا في هذه الأمور فكانوا مرتدين" فحكم بردتهم مطلقاً, ولم يتوقف في الجاهل. فكلامه ظاهر في التفرقة بين الأمور المكفرة الخفية كالجهل ببعض الصفات ونحوها فلا يكفر بها الجاهل كقوله للجهمية: "أنتم عندي لا تكفرون, لأنكم جهال" وقال فيمن ارتكب بعض أنواع الشرك جهلاً: "لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم" ولم يقل: لم يمكن تكفيرهم لأنهم جهال كما قال في المنكر لبعض الصفات جهلاً.....وقال تقي الدين: "ومن زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم....فلا ريب في كفر قائل ذلك, بل من شك في كفره فهو كافر" فانظر تكفيره الشاك مع القطع بأن سبب الشك هو الجهل, وقال أيضاً_أي تقي الدين_: "فكل من غلا في نبي أو رجل صالح.....فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل" ولم يخص القتل بمن تحقق منه الفساد, ولم يقل في هؤلاء وأشباههم: لم يكفروا لأنهم جهال كما قال في الجهمية, وهذا كثير في كلامه رحمه الله, وقال_أي ابن تيمية_: "لما استحل طائفة من الصحابة والتابعين الخمر كقدامة وأصحابه, وظنوا أنها تباح لمن آمن وعمل صالحاً على ما فهموه من آية المائدة؛ اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما على أنهم يستتابون فإن أصرّوا على الاستحلال كفروا, وإن أقروا به جلدوا, فلم يكفروهم ابتداءً لأجل الشبهة حتى يتبين لهم الحق, فإن أصروا كفروا".....فحجة الله قائمة على عباده ببلوغ الحجة لا بفهمها, فبلوغ الحجة شيء وفهمها شيء آخر, لهذا لم يعذر الله الكفار بعدم فهمهم بعد أن بلغتهم حججه وبيناته, وهذا ظاهر بحمد الله" (124).

وقال أيضاً رحمه الله: "وأما قول من يقول: إن الآيات التي نزلت بحكم المشركين الأولين, فلا تتناول من فعل فعلهم, فهذا كفر عظيم, فهل يقول: إن الحدود المذكورة في القرآن والسنة كانت لقوم انقرضوا؟! فلا يُحد الزاني, ولا تقطع يد السارق ونحو ذلك, مع أن هذا قول يستحي من ذكره, أفيقول هذا: إن المخاطبين بالصلاة والزكاة وسائر شرائع الإسلام انقرضوا وبطل حكم القرآن؟!" (125).

والأصوليون يقولون: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب, وقد أكد الإمام المجدد ذلك مراراً وعاب على من عابه بذلك القول, وأثبت تناقض أولئك وتهافت شبهتهم تلك.

وقال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن: "وربما سمع بعضهم قول بعض المفسرين: هذه نزلت في عباد الأصنام, هذه في النصارى.....فيظن الغر أن ذلك مختص بهم وأن الحكم لا يتعداهم, وهذا من أكبر الأسباب التي تحول بين العبد وبين فهم القرآن والسنة" (126). وقال الشيخ السهسواني رحمه الله: "نعم قد استدل الشيخ رحمه الله على كفر عباد القبور بعموم آيات نزلت في الكفار, وهذا لا محذور فيه, إذ عبّاد القبور ليسوا بمؤمنين عند أحد من المسلمين" (127).

وقال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: "ومن عجائب دحلان وأمثاله أنهم يظنون أن ما بينه القرآن من بطلان شرك المشركين خاص بهم لذواتهم, وليس بحجة على من يفعل ذلك منهم, كأنّ من وُلد مسلماً يباح له الشرك لجنسيته الإسلامية!" (128).

وقد أوردت في الفقرة السابقة نقولاً عن أئمة الدعوة تنقض تلك التهم المتهافتة التي لو ألقيت على غيرهم ممن لم يجردوا سيوف التوحيد لقتال أهل الإشراك والتنديد لكان لها عند بعض الناس صدى, أما أن يأتي إلى مثل هؤلاء بمثل تلك الفرية فهذا مما يضحك الثكلى, ولله الأمر من قبل ومن بعد.
 

"الوَلاءُ وَالبَرَاءُ, شَرْطُ الإِيمَانِ"

إن من المهمات والأصول لدين المسلمين؛ الولاء والبراء, والولاء هو المحبة والنصرة, والبراء هو الكراهية والعداوة, وهما من شروط الإيمان بنص القرآن العزيز:" لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله" (المجادلة: 22 ) وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أحمد: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله" قال أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي: "إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان؛ فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع, ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك, وإنما انظر إلى مواطأتهم لأعداء الشريعة" (129). وقال الله جلّ وعزّ: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم"(المائدة:51) فالكفر ملة واحدة سواء كان كفراً أصلياً أم ردة.

والناس في الولاء والبراء على ثلاثة أقسام:

قسم ليس لهم من الولاء شيء بل يعاملون بالبراء, وهم الكفرة وأهل الشرك, فهم شر البريّة. ولا يدخل في ذلك الإحسان إلى الكافر بقصد التأليف, بل ذلك من أخلاق الإسلام, وهو شيء خارج عن المودة والموالاة.

وقسم لهم الولاء التام, وهو المسلمون الذين أظهروا الإسلام ولم يتبين منهم خلافه, فالمؤمنون هم خير البرية.

وقسم بين تينك الفئتين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً, فللعمل الصالح ما يقابله من الولاء, وللسيء ما يقابله من البراء, ومنهم من يكون الولاء في حقه أكثر ومنهم من يكون البراء أكثر بحسب قربه وبعده عن الدين "قد جعل الله لكل شيء قدراً"(الطلاق: 3) ويبيّن ذلك حديث شعب الإيمان, فالشعب مراتب ولكل شعبة ما يقابلها من الحقوق, بشرط أن لا تزول شعب الأصول التي يزول الإيمان بزوالها, لذلك فقد أخطأ من قال بالبراءة التامة ممن تلبس ببدعة, فما دامت كلمة التوحيد في نفسه لم تُنقض فله حقها من الولاء, وما أعظمه! وإن كان يُستحب في بعضهم تغليظ الإنكار عليه وزجره وإعمال الهجر معه؛ بحسب المصلحة الشرعية, لا بالهوى والتعسف, تأديباً له وتحذيراً لغيره كما صنع الأئمة, صيانة للأمة من مضلّات الفتن, وهل بابها إلا الابتداع والإحداث؟!.

والأصل في الإنكار الرّفق والرحمة واللين لا العنف والشدة, فالرفق هو القاعدة, والعنف هو الاستثناء عند الحاجة, فلا منكر أعظم من الشرك ومع ذلك فرسولنا صلوات الله وسلامه عليه رفق بهم واستأنى, حتى دخلوا دين الله أفواجاً, ورفق بهم بعدما دخلوا الدين, فيتحتّم على الدعاة نشر التراحم والرفق واللين بين الناس تنظيراً وتطبيقاً, بحسب المصلحة الشرعية, والضوابط الفقهية, وقد أثنى ربه جل شأنه على نبيه بقوله: "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك" (آل عمران: 159) قال ابن جرير الطبري رحمه الله: "حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: "فبما رحمة من الله لنت لهم" يقول: فبرحمة من الله لنت لهم. وأما قوله: "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك" فإنه يعني بـ"الفظ" الجافي، وبـ"الغليظ القلب" القاسي القلب، غير ذي رحمة ولا رأفة. وكذلك كانت صفته صلى الله عليه وسلم، كما وصفه الله به "بالمؤمنين رءوف رحيم" (التوبة: 128) فتأويل الكلام: فبرحمة الله، يا محمد ،ورأفته بك وبمن آمن بك من أصحابك "لنت لهم" لأتباعك وأصحابك، فسهلت لهم خلائقك، وحسنت لهم أخلاقك، حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه، وعفوت عن ذي الجرم منهم جرمه، وأغضيت عن كثير ممن لو جفوت به وأغلظت عليه لتركك ففارقك ولم يتبعك ولا ما بعثت به من الرحمة، ولكن الله رحمهم ورحمك معهم، فبرحمة من الله لنت لهم. كما حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك" أي والله، لطهره الله من الفظاظة والغلظة، وجعله قريبا رحيماً بالمؤمنين رؤوفاً, وذكر لنا أن نعت محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة: "ليس بفظ ولا غليظ ولا صخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح"(130). فإن كان المنكر لا يغيَّر إلا بنوع من الخشونة فلا بأس باستعماله، ولو كان مع المسلمين، ألا ترى أن الله أباح القتال لذلك، وهو غاية العنف، فقال سبحانه: "وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ" (الحجرات: 9) قال الإمام ابن باز رحمه الله: "ولا شك أن الشريعة الإسلامية الكاملة جاءت بالتحذير من الغلو في الدين، وأمرت بالدعوة إلى سبيل الحق بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ولكنها مع ذلك لم تهمل جانب الغلظة والشدة في محلها حيث لا ينفع اللين والجدال بالتي هي أحسن، كما قال سبحانه: "يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهم" (التوبة: 73 , التحريم:9) وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ" (التوبة: 123) وقال تعالى: "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم" (العنكبوت: 46) فشرع الله سبحانه لعباده المؤمنين الغلظة على الكفار والمنافقين حين لم تؤثر فيهم الدعوة بالحكمة واللين. والآيات وإن كانت في معاملة الكفار والمنافقين دالات على أن الشريعة إنما جاءت باللين في محله حين يرجى نفعه، أما إذا لم ينفع واستمر صاحب الظلم أو الكفر أو الفسق في عمله ولم يبال بالواعظ والناصح، فإن الواجب الأخذ على يديه ومعاملته بالشدة، وإجراء ما يستحقه من إقامة حد أو تعزير أو تهديد أو توبيخ حتى يقف عند حده، وينزجر عن باطله....وما أحسن ما قاله الشاعر في هذا المعنى:

دعا المصطفى دهراً بمكة لم يجب وقد لان منه جانب وخطاب

فلما دعا والسيف صلت بكفه له أسلموا واستسلموا وأنابوا

والخلاصة: أن الشريعة الكاملة جاءت باللين في محله، والشدة في محلها، فلا يجوز للمسلم أن يتجاهل ذلك، ولا يجوز أيضاً أن يوضع اللين في محل الشدة، ولا الشدة في محل اللين، ولا ينبغي أيضاً أن ينسب إلى الشريعة أنها جاءت باللين فقط، ولا أنها جاءت بالشدة فقط، بل هي شريعة حكيمة كاملة صالحة لكل زمان ومكان، ولإصلاح جميع الأمة. ولذلك جاءت بالأمرين معاً، واتسمت بالعدل والحكمة والسماحة فهي شريعة سمحة في أحكامها وعدم تكليفها ما لا يطاق، ولأنها تبدأ في دعوتها باللين والحكمة والرفق، فإذا لم يؤثر ذلك وتجاوز الإنسان حده وطغى وبغى أخذته بالقوة والشدة وعاملته بما يردعه ويعرفه سوء عمله(131).
 

"مَسْأَلَةُ العُذْرِ بِالْجَهْلِ فِي أُمُورِ الشِّرْكِ الأَكْبَرِ"

قال ابن عباس رضي الله عنهما: "من بلغه القرآن فهو له نذير" (132). وروى ابن جرير الطبري بسنده عن محمد بن كعب قال: "من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم" (133).

وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "لو عُذر الجاهل لأجل جهله, كان العلم خيراً من الجهل!". وقال القرافي رحمه الله: : "واعلم ان الجهل نوعان:

الأول؛ نوع تسامح صاحب الشرع عنه, فعفا عن مرتكبه, وضابطه؛ أن كل ما يتعذر الاحتراز عنه عادة فهو معفو عنه. الثاني؛ جهل لم يتسامح صاحب الشرع عنه, فلم يعف عن مرتكبه....وهذا النوع يضطرد في أصول الدين وأصول الفقه وبعض أنواع الفروع" (134). وبنحوه قال الحافظ ابن رجب (135).

"وليس كل شبهة ولا تأويل يعذر صاحبها, فمن تأول أن تعظيم الرب يقتضي عدم الدخول عليه إلا بالوسائط والشفعاء كحال الملوك فهو مشرك ولا يعذر بتأويله لأنه من قبيل مالم يسوّغه الشرع, وإن زعم أن قصده تعظيم الرب تعالى فهو في زعمه لم يقصد الاستهانة بجناب الربوبية " (136).

أما عن عذر من اشتبهت عليه الأمور الدقيقة من الدين, فقد قال شيخ الإسلام في معرض كلامه عن الرازي والآمدي: "...لكن لم يعرف هؤلاء حقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم, وحصل اضطراب في المعقول به, فحصل نقص في معرفة السمع والعقل, وإن كان هذا النقص هو منتهى قدرة صاحبه لا يقدر على إزالته, فالعجز يكون عذراً للإنسان في أن الله لا يعذبه إذا اجتهد الاجتهاد التام, هذا على قول السلف والأئمة في أن من اتقى الله ما استطاع إذا عجز عن معرفة بعض الحق لم يعذب به" (137). وقال أيضاً: "الوعيد المطلق في الوحي مشروط بتحقق الشروط وانتفاء الموانع" (138). فالعذر بالجهل عند شيخ الإسلام لمن كان في بلاد الإسلام إنما هو في المسائل الخفية؛ كمسألة القول بخلق القرآن (139).

وقد يجتمع في الشخص الواحد إيمان وكفر أصغر, وتوحيد وشرك أصغر, وأعني مطلق الإيمان لا الأيمان المطلق, لأنه لا يكمل مع وجود الكفر الأصغر, كذلك التوحيد مع الشرك الأصغر. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وهذا من أعظم أصول أهل السنة, وخالفهم فيه غيرهم من أهل البدع؛ كالخوارج والمعتزلة والقدرية, ومسألة خروج أهل الكبائر من النار وتخليدهم فيها مبنية على هذا الأصل" (140). وقال ابن القيم أيضاً رحمه الله: "وأما أهل البدع الموافقون لأهل الإسلام ولكنهم مخالفون في بعض الأصول كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم فهؤلاء أقسام:

أحدها: الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له, فهذا لا يكفر ولا يفسق ولا تُرَدُّ شهادته إذا لم يكن قادراً على تعلم الهدى .....القسم الثاني: المتمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق ولكن يترك ذلك اشتغالاً بدنياه ورئاسته وغير ذلك, فهذا مفرّط مستحق للوعيد....وحكمه حكم أمثاله من تاركي الواجبات. القسم الثالث: أن يسأل ويطلب ويبين له الهدى ويتركه تقليداً أو بغضاً أو معاداة لأصحابه فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقاً وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل" (141).

وسأبسط الكلام قليلاً في مسألة العذر بالجهل لأمرين؛ الأول: بيان خطر الخروج من الملة وأنه قريب لمن لم يحفظه الله.

الثاني: اختلاف التعامل مع أمثال هؤلاء يختلف بتصور هذه المسألة, لأنهم مترددون حسب القولين إلى كفرة فجرة مباحين, أو مسلمين مصونين معصومين.

وقد بيّن علماء الدعوة أنه ليس من شروط إقامة الحجة أن يفهمها المُخَاطَبُ على التفصيل, فقد قال الإمام المجدد موضحاً كلام شيخ الإسلام في قيام الحجة: "فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة, ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وبين فهم الحجة, فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم, كما قال تعالى: "أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً" (الفرقان: 44) (142).

وقال الشيخ حمد بن ناصر بن معمّر رحمه الله _وهو من تلاميذ المجدد_: "كل من بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قامت عليه الحجة, كما قال تعالى: "لأنذركم به ومن بلغ" (الأنعام: 19) وقد أجمع العلماء على أن من بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أن حجة الله قائمة عليه" (143).

وقال الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن أبو بطين: "فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة.....فقول الشيخ تقي الدين رحمه الله: "إن التكفير والقتل موقوف على بلوغ الحجة" يدل آخر كلامه على أن هذين الأمرين وهما التكفير والقتال؛ ليسا موقوفين على فهم الحجة مطلقاً, بل على بلوغها, ففهمها شيء وبلوغها شيء آخر, فلو كان هذا الحكم موقوفاً على فهم الحجة لم نكفر إلا من علمنا أنه معاند خاصة, وهذا بيّن البطلان. بل آخر كلامه يدل على أنه يعتبر فهم الحجة في الأمور التي تخفى على كثير من الناس, وليس فيها مناقضة للتوحيد والرسالة كالجهل ببعض الصفات" (144).

وهل عُبدت الأوثان إلا بالاستحسان والتأويل: "إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً" (النساء: 62). وقال الشيخ إسحاق بن عبدالرحمن رحمه الله: "كل من سمع بالرسول صلى الله عليه وسلم, وبلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة, وهذا ظاهر في كلام شيخ الإسلام" (145).

وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: "قال شيخنا الشيخ عبداللطيف رحمه الله: وينبغي أن يُعلم الفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة, فإن من بلغته دعوة الرسل فقد قامت عليه الحجة إذا كان على وجه يمكن به العلم, ولا يشترط في قيام الحجة أن يفهم عن الله ورسوله ما يفهمه أهل الإيمان..."أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً" (الفرقان: 44) وقال تعالى: "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة" (البقرة: 7). قلت: _أي الشيخ سليمان_ ومعنى قوله: "إذا كان على وجه يمكن معه العلم" ألّا يكفّر من عديم العقل والتمييز كالصغير والمجنون, أو يكون ممن لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له" (146).

فالمكفرات القولية والعملية ليست مقيدة بالمعاند, فلا يعذر مرتكب الكفر الأكبر الظاهر الذي لا يخفى على عامة المسلمين إذا كان متأولاً أو مجتهداً أو مخطئاً أو مقلداً, قال الشيخ أبو بطين: "فقد جزم رحمه الله _أي شيخ الإسلام_ في مواضع كثيرة بكفر من فعل ما ذكره من أنواع الشرك, وحكى إجماع المسلمين على ذلك ولم يستثن الجاهل ونحوه, قال تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" (النساء: 116) وقال عن المسيح: "إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار" (المائدة: 72) فمن خص ذلك الوعيد بالمعاند فقط فأخرج الجاهل والمتأول والمقلد فقد شاق الله ورسوله, وخرج عن سبيل المؤمنين, والفقهاء يصدرون باب حكم المرتد بمن أشرك ولم يقيدوا ذلك بالمعاند" (147).

وقال الشيخ عبدالرحمن بن حسن: "وكل كافر فقد أخطأ, والمشركون لا بد لهم من تأويلات, ويعتقدون أن شركهم بالصالحين تعظيم لهم ينفعهم ويدفع عنهم, فلم يعذروا بذلك الخطأ, ولا بذلك التأويل" (148).

هذا, وقد رد علماء الدعوة على داود بن جرجيس حين نسب لشيخ الإسلام اشتراط فهم الحجة في مسائل الشرك الأكبر, وممن رد عله ذلك الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن في كتابه (منهاج التأسيس والتقديس) (149) كذلك الشيخ سليمان بن سحمان في كتابه (الضياء الشارق) (150) وقد وضح ذلك مراراً إمام الدعوة (151).

والحكم إنما هو على الظاهر دون الباطن ومن الأدلة؛ "أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله" رواه البخاري. وقوله "...إني لم أؤمر أن أنقب قلوب الناس ولا أشق بطونهم" رواه البخاري. قال الإمام النووي رحمه الله: معناه؛ إني أمرت أن أحكم بالظاهر, والله يتولى السرائر. (152). لهذا حكم صلوات الله وسلامه عليه على ظاهر الذين تخلفوا عنه في تبوك, كذلك سيرته مع المنافقين, قال شيخ الإسلام: "الإيمان له مبدأ وكمال وظاهر وباطن, فإذا علقت به الأحكام الدنيوية من الحقوق والحدود, كحق الدم والمال والمواريث والعقوبات الدنيوية علقت بظاهره, ولا يمكن غير ذلك إذ تعليق ذلك بالباطن متعذر"(153).

والخلاصة كما ذكرها الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: أن بلوغ الحجة يكون بشرطين:

1_ أن يكون من بَلَغَتْهُ يفهمها لو أراد.

2_ أن يكون ذلك في الأمور الظاهرة دون الخفية(154).

قلت: وسبب سوء فهم بعضهم, لعبارة شيخ الإسلام أنهم ألحقوا الأمور الظاهرة _التي لم يقصدها_ بالأمور الخفية المشتبهة, وهي التي عناها رحمه الله, أما الظاهرة فهي المعلومة من الدين بالضرورة ويعلم عامة المسلمين أنها من دينهم في العلميات والعمليات.

إذن ففي مسألة قيام الحجة هناك فرق بين الأمور التي تخفى والأمور الواضحة الجلية, قال مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: "إن الذين توقفوا في تكفير المعين في الأشياء التي يخفى دليلها, فلا يكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية من حيث الثبوت والدلالة, فإذا أوضحت له الحجة بالبيان الكافي كفر, سواء فهم أو قال: ما فهمت, أو فهم وأنكر, ليس كفر الكفار كله كفر عناد, وأما ما عُلم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاربه وخالفه فهذا يكفر بمجرد ذلك ولا يحتاج لتعريف, سواء في الأصول أو الفروع ما لم يكن حديث عهد بإسلام" (155).

قال الشيخ ابن باز رحمه الله: "أما من بلغه القرآن أو بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم, فلم يستجب فقد قامت عليه الحجة كما قال تعالى: "وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ" (الأنعام: 19). فقد قامت عليه الحجة, وقال تعالى: "ولينذروا به" (إبراهيم: 52). فمن بلغه القرآن ثم لم يدخل فيه له حكم الكفرة, وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار" أخرجه مسلم في الصحيح" (156).

وفي فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء: "من عاش في بلاد يسمع فيها الدعوة بالإسلام وغيره ثم لا يؤمن ولا يطلب الحق من أهله فهو في حكم من بلغته الدعوة الإسلامية وأصرّ على الكفر, أما من عاش في بلاد في بلاد غير إسلامية ولم يسمع عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولا عن القرآن, فهذا على تقدير وجوده حكمه حكم أهل الفترة"(157).

ويرى بعض العلم والفضل "أن في خلاف العلماء في مسألة العذر بالجهل, وهل يكفي البلاغ أو لا بد من الفهم؛ أن هذا الخلاف في حقيقته إجمال موهم, وأن القولين في حقيقتهما متقاربان, وقد لا يكون بينهما تعارض, وذلك أن الذين اكتفوا ببلوغ القرآن قصدوا بذلك البلاغ التام الواضح الذي لا يبقى معه لبس وأن ذلك راجع لشيئين:

1_وضوح القرآن في ذاته وبخاصة في الكليات الاعتقادية.

2_أن المبلّغ والمقيم للحجة هم العلماء." (158).

قلت: وكلامه هذا يؤول إلى ردّ البلاغ إلى الفهم, وهذا غير جيّد, فلكل منهما حقيقة منفصلة عن الآخر, ولا يمكن الجمع بينهما بإطلاق وإن اجتمعا في بعض الصور, وعلماء الدعوة قد أدركوا ذلك وعللوا الاكتفاء بالبلاغ بعلتين: أولاهما؛ أن من الناس من تقوم عليه الحجة وهو لم يفهم بنص القرآن العزيز. الثانية؛ أن القول باشتراط الفهم يؤول إلى أن لا يكفّر إلا المعاند فقط وهو باطل بداهة.

لذلك فالصواب _والله أعلم_: أنه لا يشترط الفهم الذي يكشف جميع اللبس بل إذا بلغته الحجة إجمالاً مما يخاطب به العامة ممن يحسنها فقد قامت عليه, حتى وإن لم يفهم تفاصيلها كفهم أهل الاختصاص فضلاً عن أن يترجح لديه أنها حق "ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه" (الإسراء: 97).

قال الشيخ حمد بن معمر رحمه الله: "وليس المراد بقيام الحجة أن يفهمها الإنسان فهماً جلياً كما يفهمها من هداه الله ووفقه وانقاد لأمره" (159). أي يكفي أن يتصور المراد تصور العامة بدون تفصيلات أهل العلم.

ولعل التقسيم المناسب الذي يزيل اللبس بين الفهم البلاغ؛ هو أن نُصَنّف مراتب البلاغ إلى أربع مراتب على النحو التالي:

المرتبة الأولى: البلاغ المطلق, وإن لم تحصل حقيقة البلاغ بفهم المقصود وتصور المراد, كمن تُلي عليه القرآن وهو لا يفهم العربية, وهذه المرتبة لا تقوم بها الحجة الرسالية "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" (النساء: 165).

المرتبة الثانية: البلاغ الذي يفهمه عامّة الناس, فيُبلغَّ كليات الدين, ويتصورها تصور العامّة, وبهذا تقوم الحجة الرسالية, وقد يعبر عنها بالفهم _أي فهم العامة_ "لأنذركم به ومن بلغ" (الأنعام: 19).

المرتبة الثالثة: الفهم المفصّل, الذي يستغرق فيه المُبَلَّغ في تفاصيل الخطاب والبلاغ, وهذا شيء زائد عن الحد الأدنى الكافي للحجة الرسالية, والحجة قائمة عليه أكبر من الذي قبله.

المرتبة الرابعة: أن يترجح للمُبَلّغ وجه الحق من الباطل, ويقتنع بأصول الملة الإسلامية, وهذا ليس بلازم في إقامة الحجة, والقول باشتراطه مشاقة للقرآن العظيم. "فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون" (فاطر:8).

ولا شك أن كفر المعاند من أقبح الكفر "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً فانظر كيف كان عاقبة المفسدين" (النمل: 14).

قال ابن القيم: "إن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص, فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان, وفي بقعة وناحية دون أخرى, كما أنها تقوم على شخص دون آخر, إما لعدم عقله وتميزه كالصغير والمجنون, وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئاً, ولا يتمكن من الفهم" (160). وقال شيخ الإسلام: "كل من عبد عبادة نهي عنها ولم يعلم النهي لكن هي من جنس المأمور به مثل أن صلى في أوقات النهي, وبلغه الأمر العام بالصلاة ولم يبلغه النهي...أثيب على ذلك...بخلاف ما لم يشرع جنسه مثل الشرك فإن هذا لا ثواب فيه, وإن كان لا يعاقب صاحبه إلا بعد بلوغ الرسالة, كما قال تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً" (الإسراء: 15) لكنه وإن كان لا يعذب فإن هذا لا يثاب بل هذا كما قال تعالى: "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً" (الفرقان: 23) قال ابن المبارك: هي الأعمال التي عملت لغير الله" (161). وهذه العبارة جارية على نمط بقية كلامه ومنسجمة مع منهجه رحمه الله, فالشرك الذي يعذر صاحبه عند الشيخ؛ إن كان أكبر ظاهر؛ فصاحبه معدود من أهل الفترة, أو ممن لم تبلغهم الحجة الرسالية ونحو ذلك, وإن كان خفياً أو أصغر فقد يقع لمن هو بين أظهر المسلمين, والله أعلم. ومن أمثلة القُرَبِ التي لم يشرع جنسها الاستغاثة بالموتى والعكوف على القبور ودعاء الجن والذبح لغير الله ونحو ذلك.

والحجة الرسالية إنما يقيمها العلماء قال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن: "....إنما يشترط فهم المراد للمتكلم والمقصود من المخاطب لا أنه الحق.....وقال الله في كتابه: "لأنذركم به ومن بلغ" (الأنعام: 19) ومن الذي يبلّغ وينقل نصوص الكتاب والسنة غير أهل العلم ورثة الرسل؟" (162).

وقال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: "ويقيم الحجة عالم يعلم كيف يقيم الحجة ويزيل الشبهة, ولهذا يقول العلماء: الحجة الرسالية, أي التي يقيمها الرسل أو ورثة الرسل ممن يحسن إقامة الحجة" (163).


"شَعِيرَةُ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ, وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ"

عدّ بعض أهل العلم هذه الشعيرة الجليلة الركن السادس للإسلام, وهي الفريضة الغائبة بين كثير من الناس, وهي من فروع الجهاد في سبيل الله. وإن المؤمن ليوجل قلبه ويخاف كلما سمع آية المائدة: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة" (الأنفال: 25) وهو يرى الشرك والبدع والربا والمظالم والتغريب والمجاهرة بالمعاصي. وأهل الإيمان نعتهم ربهم في القرآن بأنهم: "يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (التوبة: 71) بينما وصف أهل النفاق بأنهم: " يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (التوبة: 67).

قال سفيان الثوري رحمه الله: "إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر أخيك, وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق". وكان بعض السلف إذا رأى منكراً ولم يطق تغييره بال الدم من الغضب لله والحزن مما رأى. وفي الصحيحين من حديث زينب رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم, إذا كَثُرَ الخَبَث". ومما أُثر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قوله: "كان يُقال: إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصَّة ولكن إذا عُمِل المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلهم" ووجود المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر في الأمة سبب حفظ لها بإذن الله تعالى, قال تعالى: "وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ" (هود: 117) ولم يقل صالحون. وفي قصة أصحاب السبت في سورة الأعراف ذكر الله نجاة الذين نَهَوا عن المنكر, وذكر عذاب أهل الذنب, وسكت عن الساكتين, وهذا في غاية التخويف من السكوت على المنكرات.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأمور الكبار والمهام العظيمة للأمة, وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند أحمد وأبي داود والترمذي يقول عليه الصلاة والسلام: "لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم, فلم ينتهوا فجالسوهم وآكلوهم وشاربوهم, فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم ببعض, ثم لعنهم على لسان أنبيائهم داود وعيسى بن مريم "ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ" (البقرة:61) وفي لفظ آخر: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تفعل من المعاصي ثم يلقاه في الغد فلا يمنعه ما رآه منه أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض ثم لعنهم". فعلينا أن نحذر من أن يصيبنا ما أصاب أولئك.

ومن قام بالمعروف والنهي عن المنكر مكَّنه الله في الأرض ونصره, قال سبحانه وتعالى: "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز . الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ" (الحـج: 40-41).

قال سفيان الثوري: "ينبغي للآمر الناهي أن يكون رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه، عدلاً فيما يأمر به، عدلاً فيما ينهى عنه، عالماً بما يأمر به، عالماً بما ينهى عنه ".‏ فقبل الأمر والنهي يكون العلم بالحكم وبواقع الحال, وفي أثناء الأمر والنهي يستصحب الرفق واللين, وبعد الأمر والنهي يستعين بالصبر والصلاة, وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين, والله تعالى لما نوّه بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر قال في ذكر كلام لقمان ووصاياه لابنه: "يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور" (لقمان: 17) وكفى بهذه الآية عزاءً لكل آمرٍ وناهٍ.

قال الأمام ابن باز رحمه الله تعالى في كلمة بعنوان (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر): "وقد أوضح الله جل وعلا في كتابه العظيم منزلته في الإسلام، وبيّن سبحانه أن منزلته عظيمة، حتى إنه سبحانه في بعض الآيات قدمه على الإيمان، الذي هو أصل الدين وأساس الإسلام، كما في قوله تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" (آل عمران:110) ولا نعلم السر في هذا التقديم، إلا عظم شأن هذا الواجب، وما يترتب عليه من المصالح العظيمة العامة، ولا سيّما في هذا العصر، فإن حاجة المسلمين وضرورتهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شديدة؛ لظهور المعاصي، وانتشار الشرك والبدع في غالب المعمورة.....والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، ومع ذلك قدمه في هذه الآية على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فقال سبحانه: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (التوبة:71) فقدم هنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقام الصلاة، مع أن الصلاة عمود الإسلام، وهي أعظم الأركان بعد الشهادتين، فلأي معنى قدم هذا الواجب؟

لا شك أنه قُدم لعظم الحاجة إليه وشدة الضرورة إلى القيام به. ولأن بتحقيقه تصلح الأمة، ويكثر فيها الخير وتظهر فيها الفضائل وتختفي منها الرذائل، ويتعاون أفرادها على الخير، ويتناصحون ويجاهدون في سبيل الله، ويأتون كل خير ويذرون كل شر.

وبإضاعته والغفلة عنه تكون الكوارث العظيمة، والشرور الكثيرة، وتفترق الأمة، وتقسو القلوب أو تموت، وتظهر الرذائل وتنتشر، وتختفي الفضائل ويهضم الحق، ويظهر صوت الباطل، وهذا أمر واقع في كل مكان وكل دولة وكل بلد وكل قرية لا يؤمر فيها بالمعروف ولا ينهى فيها عن المنكر، فإنه تنتشر فيها الرذائل وتظهر فيها المنكرات ويسود فيها الفساد، ولا حول ولا قوة إلا بالله....أما الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لأغراض أخرى؛ كرياء وسمعة، أو حظ عاجل أو أسباب أخرى، أو يتخلفون عن فعل المعروف، ويرتكبون المنكر، فهؤلاء من أخبث الناس، ومن أسوئهم عاقبة.

وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يؤتي بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه -أي أمعاؤه- فيدور في النار كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع عليه أهل النار فيقولون مالك يا فلان؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قال فيقول لهم بلى, ولكني كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه".

هذه حال من خالف قوله فعله -نعوذ بالله- تسعر به النار، ويفضح على رؤوس الأشهاد، يتفرج عليه أهل النار، ويتعجبون كيف يلقى في النار. هذا ويدور في النار كما يدور الحمار بالرحى، وتندلق أقتاب بطنه، يسحبها، لماذا؟ لأنه كان يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه....وورد في الحديث أيضاً عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "يقول الله عز وجل: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أستجيب لكم وقبل أن تسألوني فلا أعطيكم وقبل أن تستنصروني فلا أنصركم" وفي لفظ آخر من حديث حذيفة يقول عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم" رواه الإمام أحمد.


 

"الخَاتِمَةُ"

لا بد للداعي إلى الله تعالى من وسيلة توصل علمه إلى الناس, وأياً تكن هذه الوسيلة فلابد في الغالب من حوار أو إنكار أو مدارسة أو تعليم أو مكاتبة ونحو ذلك, لذا فهذه بعض المهمات التي كتبتها لنفسي ولإخوتي, فمن المهمات بين الإخوة في المحاورة والمدارسة تجريد النية للعليم الخبير سبحانه, وتصفيتها من شوائب الرياء وعوالق السمعة وحبائل التصدر وغوائل الظهور, وقاني الله وإياك ذلك, وجعلنا من المخلِصين المخلَصين, فكل شيء لغير الله يضمحل, وقد كان الإمام النووي رحمه الله تعالى يكتب ويحرّر المطوّلات فإذا كلّ ألقى القلم وهو يتمثل:

لئن كان هذا الدمع يجرى صبابة على غير ليلى فهو دمع مضيّع

وقد قيل: تخليص الأعمال مما يفسدها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.

ومن المهمات مراعاة المتابعة للسنّة, ومن لوازم المتابعة الرفق_إلا في حالات خاصة كالمعاند المستكبر_ ومراعاة أحوال المخاطبين, والتدرج, قالت عائشة رضي الله عنها: "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام, ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر؛ لقالوا: لا ندع الخمر أبدا, ولو نزل: لا تزنوا؛ لقالوا: لا ندع الزنا أبدا". قال ابن حجر في الفتح "أشارت إلى الحكمة الإلهية في ترتيب التنزيل، وأن أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد، والتبشير للمؤمن والمطيع بالجنة، وللكافر والعاصي بالنار، فلما اطمأنت النفوس على ذلك أنزلت الأحكام، ولهذا قالت: ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر؛ لقالوا: لا ندعها؛ وذلك لما طبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف"(164). وقال المجدد الثاني عبدالرحمن بن حسن رحمه الله في تعليقه على عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "بل نعلم أنه نهى عن هذه الأمور كلها, وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, ولكن لغلبة الجهل وقلّة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبيّن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه" قال: ذكر رحمه الله تعالى ما أوجب له عدم إطلاق الكفر عليهم على التعيين خاصة, إلا بعد البيان والإصرار, لأنه قد صار أمة وحدة, لأن من العلماء من كفره بنهيه لهم عن الشرك في العبادة, فلا يمكن أن يعاملهم بمثل ما قال, كما جرى لشيخنا محمد بن عبدالوهاب في ابتداء دعوته فإنه إذا سمعهم يدعون زيد بن الخطاب, قال: الله خير من زيد, تمريناً لهم على نفي الشرك بلين الكلام نظراً إلى المصلحة وعدم النفرة"(165).

ومن المهمات بين الإخوة تحرير محل النزاع قبل الخوض فيه, وتحرير معاني الكلم قبل إلقائها في خضم التدافع, وفي الردود تحرير محل النزاع وتحديد محور النقاش ونقطة البحث وعدم الخروج عنها إلا بعد إنهائها, والإشارة لذلك, دفعاً لخلط الفهم عند القارئ أو السامع, وفائدة ذلك أن لا يتشعّب الحديث في شجون لا علاقة لها بصلب النقاش.

وتحرير معاني الألفاظ والمصطلحات عند أهل الفن الداخل تحت مظلته النقاش يختصر الكثير, قال شيخ الإسلام: "فاللفظ المشتبه المجمل إذا خص في الاستدلال وقع فيه الضلال والإضلال وقد قيل: إن أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء" (166).

ومن المهمات؛ إحسان الظن بأخيك, وحمل كلامه على أحسن محامله, فإن لم تجد فقل: لعل له عذراً لا أعلمه.

تأنّ ولا تعجل بلومك صاحباً لعلّ له عذراً وأنت تلومُ

ومن المهمات؛ الفرح بالحق حيث كان, ولو ممن تدارسه والحذر من آكل الحسنات الحسد, فافرح بالحق ولو جاءك على صفة المناظرة, فالمدارسة والمناقشة من طرق التحصيل والتثبيت للعلم لمن أصلح الله حالهم. والرحمة بالخلق سيما المؤمنين, ومن محاكّ الصدور الفرح بالحق من فيّ الخصم, وهذا من خلق السادات, وعادات السادات سادات العادات, وممن اشتهروا بذلك الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.

ومن المهمات؛ الحلم والصفح وقول الحُسنِ واختيار رقيق اللفظ وليّن العبارات "وقولوا للناس حسناً" (البقرة: 83) "وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم" (الإسراء: 53) قال ابن الجوزي رحمه الله: "إذا خرجت من فيّ عدوك لفظة سفه, فلا تلحقها بمثلها تلقحها, فنسل الخصام مذموم".

ومن المهمات؛ تذكر زوال الدنيا وأن كل شيء هالك إلا وجهه, سبحانه وبحمده, وان الأجل أقرب مما نتصوّر:

وأبرح ما يكون الشوق يوماً إذا دنت الديار من الديار

وقد كان إمام السنة أحمد كثيراً مايتمثل بـ:

وما هي إلا ساعة ثم ساعة ويوم إلى يوم وشهر إلى شهر

مطايا يقربن الجديد إلى البلى ويدنين أشلاء الصحيح إلى القبر

ومن المهمات الهرب الصادق واللجأ والاعتصام من موجبات غضب الله تعالى, كالشرك والبدع والذنوب, كما قال ابن القيم: "فهذا منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه, ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه, فاعزلوا عن هذا طريق هذا السيل بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح" (167).

ومن المهمات الصبر على طريق الهدى والحق, وإن كنت وحدك فإبراهيم الخليل عليه السلام كان أمة وحدة, وإذا عظم المطلوب قل المساعد, واصبر هنيهة فعن قريب تنقضي, فمن استطال السفر ضعف مسيره.

ومن المهمات رد الخلاف إلى الله (لكتابه) ولرسوله (لسنته). قال شيخ الإسلام: "وهكذا مسائل النزاع التي تنازع فيها الأمة في الأصول والفروع, إذا لم تُردّ إلى الله و الرسول لم يتبين فيها الحق, بل يصير فيها المتنازعون على غير بيّنة من أمرهم, فإن رحمهم الله أقرّ بعضهم بعضاً ولم يبغ بعضهم على بعض, كما كان الصحابة في خلافة عمر و عثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد فيقرّ بعضهم بعضاً ولا يعتدي عليه, وإن لم يُرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم, فبغى بعضهم على بعض إمّا بالقول مثل تكفيره وتفسيقه, وإما بالفعل مثل حبسه وضربه وقتله, وهذه حال أهل البدع و الظلم" (168).

ومن المهمات؛ مراقبة الله تعالى في التعامل مع المخالف مهما كان حاله, قال شيخ الإسلام: "ما جزيت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" (النخل: 128) وقال تعالى: "وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط" (آل عمران: 120)" (169).

ويشتموا فترى الألوان مسفرة لا صفح ذل ولكن صفح أحلام

ومن المهمات؛ تعلّم أصول المدارسة والحوار والمناظرة؛ ومن ذلك حسن الاستماع, ومن لم يحسن الاستماع لم يحسن القول, والإيجاز, وحسن الإيجاز؛ أن لا تبطئ ولا تخطئ, وترك التكرار إلا لحاجة, فتكراره إلى أن يفهمه من يفهمه يكون قد مله من فهمه, وخير الكلام ما لم يحتج بعده لكلام, وخير الكلام ما قلّ ودلّ ولم يطل فيمل, ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق, ويكفي متين القول عن حواشيه, ومنها عدم الاغترار بكثرة الحجج إن لم يكن لها حقيقة.

إن كان في العيّ آفات مقدرة ففي البلاغة آفات تساويها

تكلم رجل عند معاوية رضي الله عنه فهذر_أي: خلط وتكلم بما لا ينبغي_ ثم قال: أأسكت يا أمير المؤمنين؟ فقال: وهل تكلمت؟!. وقال أحدهم: رأيت عورات الناس بين أرجلهم, وعورة فلان بين فكيه.

رأيت اللسان على أهله إذا ساسه الجهل ليثاً مغيراً

ومنها؛ ترك ما يموت بتركه من الباطل, قال حاتم الطائي: إذا كان الشيء يكفيكه الترك؛ فاتركه. وبعض الرد وتكراره يحيي الشبه في النفوس, التي ربما همدت ونُسيت بترك طَرْقها.

ومنها؛ الأناة والهدوء, حتى ينتهي مقال أخيك سواء شفاها أو كتابة, فضيق العطن والعجلة ليست من سيما أهل العلم, وتكلّم بعلم, أو اسكت بحلم.

ومنها؛ ترك الظن الباطل, وهو العريّ عن برهانه, كما قيل: ثبت العرش ثم انقش.

ومن المهمات؛ أن يعلم أن كلامه المكتوب والمسموع والمشاهد معدود من عمله, ومحفوظ في سجلات الكرام الكاتبين, ومنها؛ أن يعمل بقوله قدر طاقته, قال زبيد اليامي: اسكتتني كلمة ابن مسعود عشرين سنة: من كان كلامه لا يوافق عمله فإنما يوبخ نفسه.

ومنها؛ أن يقول الحق لا تأخذه فيه لومة لائم, ولمّا تكلم جلساء معاوية رضي الله عنه والأحنف ساكت, فقال معاوية: يا أبا بحر, مالك لا تتكلم؟ فقال: أخافكم إن صدقت, وأخاف الله إن كذبت. وقد قال الأول: إذا لم تقل الحق فلا تقل الباطل. وكلّ كلمة لها من الله طالبٌ فمعتق أوموبق. "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" وجماع ذلك: "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد" (ق:18).

ومنها؛ ألا يعتقد ثم يستدل, حتى لا يزيغ البصر فتتبعه البصيرة. والذنوب كلها شؤم "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم".

ومنها؛ أن لا يُبدي ولا يبدأ في الإسلام رأياً ليس له فيه إمام, بل يتبع ولا يبتدع فقد كفي.

ومن المهمات؛ أن يحرّر كلامه قبل نقله, وأن يكون عنده ميزان وبصيرة بالمقولات التي بين يديه, حتى لا يكون إمّعةً, قال رجل لعلي: أترى أننا نظن أنك على الحق وفلاناً على باطل؟ فقال علي: "ويحك يافلان! الحق لا يعرف بالرجال, اعرف الحق تعرف أهله" وانظر جواب الشيخ أبا بطين رحمه الله لما سئل: لو كان هذا حقاً ما خفي على فلان..."(170).

ولا للاصطفاف على غير علم, والتخندق على غير حلم, والنصر الأعمى بلا حكمة, بل لابد من النضج الخلقي والعلمي.

ومنها؛ اللين في الخطاب, والحكمة في الموعظة, والسهولة في الأسلوب, والتعريض دون التصريح عند الحاجة, فإن لم ينجع فبما بال أقوام, وآخر العلاج الكي. "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك" (آل عمران: 159). والعامة تقول: الكلام الليّن يغلب الحق البيّن.

ومنها؛ اعتبار اختلاف الرأي لا يفسد الود فيما يسوغ فيه الخلاف, وهذا حال السلف الصالح. ومما يلحق بذلك؛ أن لا يشترط قبول الطرف المقابل لرأيه واجتهاده, بل يكفيه أن يستمع له ويفهمه, والحوار الهادف المنضبط هو من قبيل تدارس العلم، ومن أسباب نمائه وتثبيته ونشره, فهو مأجور من هذه الحيثيّة.

ومنها؛ أن لا يردّ البدعة بأختها, بل بالسنة. قيل لإمام دار الهجرة مالك رحمه الله تعالى: الرجل يأمر بالسنة؟. قال: نعم. قيل: أيجادل عنها؟ قال: لا. ونبيّنا صلوات الله وسلامه عليه زعيم بيت في ربض الجنّة لمن ترك المراء وإن كان محقاً.

ومنها الحذر من أن تأخذه العزة بالإثم, قال ابن مسعود رضي الله عنه: من قيل له: اتق الله, فقال: انشغل بنفسك, فقد أخذته العزّة بالإثم, وما أقلّ من يسلم من ذلك في مضائق المناظرات. ومن توابع تيك المنقبة؛ اعتبار الرجوع عن الخطأ فضيلة -عملياً- وعدم التردد في ذلك, وأن يتحلّى بالفروسية في مُسايفة الكلم ومُثاقَفَةِ الخُطب, وأن التواضع للحق, وكسر نخوة النفس, خير في العقبى والأولى من الإعناق في باطل مشوب بتأويل.

وبالجملة؛ فمِن حُسنِ سياسة الناس في التعليم والمدارسة والمناظرات والمحاورات لين الجانب وبسط الوجه وبشاشة العبارات وإرادة الخير للمقابل ظاهراً وباطناً, وهناك خيط رفيع بين الحوار "المدارسة" وبين المراء "المهاترة" وإرادة العلو في الأرض, وهي مذمومة ولو كانت بحق, ناهيك عن كونها بالباطل!.

فإن كانت المدارسة هكذا وإلا فلتكسر الأقلام ولتمزق الصحائف، فكل حزب بما لديهم فرحون، قد تلبّس الشيطان أفئدتهم فأوحى إليها زخرف القول غروراً، فتناولت العزة بالإثم أناملهم فكرعت في الكبر, وخاضت في الباطل.

جعلنا الله جميعاً طلاب حق, وأخذ بأيدينا وهدانا سبيل المنعم عليهم، وأبعدنا عن موارد الغضب ومواطن الضلال، آمين.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


 

 

 

إبراهيم بن عبدالرحمن الدميجي

16/ 2/ 1433

@aldumaiji


 
................................................................
(1) (تفسير ابن جرير الطبري: 9/518).
(2) (المسند: 5/153, 162).
(3) قال الحافظ الذهبي رحمه الله: "لم يأت قبل ابن تيمية بخمسمئة سنة مثله, أي: بعد الإمام أحمد المتوفى سنة 241هـ.
قال الإمام ابن باز رحمه الله معلقاً: ولا نعلم إلى عصرنا هذا من قد أتى مثله, رحمه الله.
قلت: فمنذ 1190 سنة لم يأت أحد كهذا الإمام المجدد الصدّيق, فهل يُلام من أحبه ووثق بنصحه وعلمه.
بادٍ هواك صبرتَ أم لم تصبرا وبُكاك إن لم يجر دمعك أو جرى
ونقول فيه كما قال ابن عمر رضي الله عنهما في ابنه سالم:
يَلُومُونَنِي فِي سَالِمٍ وَأَلُومُهُمْ وَجِلْدَةٌ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالأَنْفِ سَالِمُ
ومن طعن في الإمامين ابن تيمية أو ابن عبدالوهاب فاتهمه على الإسلام, فقد قاما بالدين حق القيام, وجدد الله بهما ما اندرس من معالم الإسلام. قال الشيخ عبدالكريم الخضير في شرحه لبلوغ المرام, كتاب الصلاة: "وقد سئل الشيخ محمد رشيد رضا عن شيخ الإسلام ابن تيمية؛ هل هو أعلم من الأئمة الأربعة أم هم أعلم منه؟ فأجاب بجواب موفق فيما أحسب، قال: باعتبار أن شيخ الإسلام تخرّج على كتب الأئمة الأربعة, وكتب أتباعهم فلهم الفضل عليه من هذه الحيثية، وباعتباره جمع بين ما قالوه وأحاط بما كتبوه، يعني إحاطة بشرية لا يعني هذا أن شيخ الإسلام أحاط بكل ما كتب أو ما قيل، نعم، فهو من هذه الحيثية أشمل منهم علماً، هذا كلامه, وهناك أمر ينبغي أن نتنبه له وهو فضل علم السلف".
ولد شيخ الإسلام سنة 661 ومات سنة 728 وله 67 سنة و10 أشهر, رحمه الله. ولا فضل إلا بالتقوى وتمامها العلم والإيمان: وهؤلاء الأئمة سلمان والحسن البصري وابن سيرين وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد, كلهم من فارس "لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء".متفق عليه.
(4) مجموع الفتاوى (17/310).
(5) وانظر: (دعاوى المناوئين) د. عبدالعزيز العبداللطيف. وإذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع. وانظر (عقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأثرها في العالم الإسلامي) د.صالح عبدالله العبود.
(6) عن مصطلح الوهابية قال الأمير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود: "إن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ليست منهجاً جديداً, وليست فكراً جديداً، وأكرر هنا المناداة بأن من يستطيع أن يجد في كتابات الشيخ ورسائله أي خروج على الكتاب والسنة وأعمال السلف الصالح, فعليه أن يبرزه ويواجهنا به. لذا أدعو الكُتّاب والباحثين إلى عدم الانسياق وراء من ينادي بالوقوع في فخ مصطلح "الوهابية" وأنه مجرد مصطلح, بينما يتناسى هؤلاء الهدف الحقيقي من وراء نشر هذا المصطلح للإساءة إلى دعوة سلفية صحيحة ونقية, ليس فيها مضامين تختلف عما جاء في القرآن الكريم وما أمر به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, بخاصة أن هذا التشويه جاء من جهات متعددة لا يروق لها ما تقوم به تلك الدعوة الصافية من جهة، وما أدت إليه من قيام دولة إسلامية تقوم على الدين أولاً وتحفظ حقوق الناس وتخدم الحرمين الشريفين، وهي الدولة السعودية التي مكنها الله في هذه البلاد لتخدم المسلمين جميعاً وتحافظ على هذا الدين، لأنها قامت على أساسه ولا تزال". (عن جريدة الحياة اللندنية. الأربعاء 14 جمادى الأولى 1431هـ).
(7) وانظر (ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي) و(شرح الطحاوية) للدكتور سفر الحوالي فقد أجاد وأفاد جزاه الله خيراً.
والشرع في هذا الزمان يطلق ويراد به أحد ثلاثة معان: شرع منزل؛ وهو الكتاب والسنة, وشرع متأول؛ وهو موارد الاجتهاد التي تنازع فيها العلماء, وشرع مبدل؛ مثل الأحاديث الموضوعة والتأويلات الفاسدة والأقيسة الباطلة والتقليد المحرم. وانظر: (مجموع الفتاوى: 11/430_431).
(8) (مجموع الفتاوى: 15/105).
(9) (فتاوى الأئمة النجدية: 3/336).
(10) (الدرر السنية: 1/522).
(11) (الدرر السنية: 10/434_435).
(12) (الهدية السنية: 40) عن (دعاوى المناوئين: 127).
(13) (الفتاوى: 5/118).
(14) وانظر: (التوسل والوسيلة, والرد على البكري, والرد على الأخنائي لابن تيمية, والصارم المنكي لابن عبدالهادي, وكشف الشبهات للمجدد).
(15) وانظر في تاريخ نشأة البدع (منهاج السنة النبوية 1/ 306). وانظر (شرح الطحاوية. د. الحوالي).
(16) وقد قيدت كلمة التوحيد بالقيود الثقال (تيسير العزيز الحميد: 88_91).
(17) قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن: (كتاب التوحيد) للشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله صار علماً للموحدين وحجة على الملحدين.
(18) (الفتاوى: 11/697).
(19) كما ذكر ذلك الدكتور عبدالله الدميجي في (شرح كتاب التوحيد).
(20) (تيسير العزيز الحميد: 99).
(21) ينظر: شرح باب الخوف من الشرك من (تيسير العزيز الحميد) للشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد رحمه الله (114_122).
(22) (تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد: 24_37) الإمام الصنعاني.
(23) (مجموع الفتاوى:4/ 137_138).
(24) (الفتاوى: 3/375).
(25) (الفتاوى: 3/346).
(26) (البدع لابن وضاح رحمه الله: 80).
(27) (شرح السنة للبغوي:1/217).
(28) (مجموع الفتاوى: 26/202).
(29) مجموع الفتاوى (17/244). وانظر (الحموية) لشيخ الإسلام, وكذلك (درء التعارض) بتمامه.
(30) (السنّة لمحمد بن نصر المروزي: (94).
(31) (الفتاوى: 4/107_108).
(32) (الاعتصام: 1/37).
(33) (مجموع الفتاوى: 13/172).
(34) (مجموع الفتاوى: 11/600).
(35) (الاعتصام: 545).
(36) (الاعتصام للشاطبي: 1/28).
(37) (شرح السنة للبغوي: 1/216).
(38) (شرح اعتقاد أهل السنة: 1/121).
(39) (البدع لابن وضاح: 34, 89).
(40) (فهم السلف الصالح للنصوص الشرعية. د.عبدالله الدميجي: 97_99).
(41) (جامع بيان العلم وفضله: 2/93).
(42) (جامع بيان العلم وفضله: 2/93). وللاطلاع على نماذج من رجوع بعض مشاهير العلماء الذين كانوا رؤوساً للمبتدعة إلى السنة ينظر (الحموية) لشيخ الإسلام.
(43) (الفتاوى: 4/149).
(44) (الدرر السنية :1/ 78).
(45) (الدرر السنية: 10/149_239).
(46) (الدرر السنية: 1/387_439).
(47) (الدرر السنية: 11/ 317).
(48) (الدرر السنية: 1/222_241).
(49) (الدرر السنية: 1/302_306).
(50) وانظر: (مجموع الفتاوى: 3/370_375) (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح عليه السلام:1/59_71) (2/133_136) (3/100_125) (شرح الواسطية) الشيخ العثيمين: 438_448) (التعليقات المختصرة على متن الطحاوية) الشيخ صالح الفوزان: 258_267) (تسهيل فهم شرح الطحاوية) د.خالد الغامدي (607_610).
(51) (المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج: 17/372).
(52) (الدرر السنية: 8/204).
(53) (الدرر السنية: 8/97).
(54) (طبقات الحنابلة: 1/310).
(55) (الفتاوى:19/72).
(56) (عن تيسير العزيز الحميد: 127).
(57) (الفتاوى: 10/372) وانظر: (12/488).
(58) (الفتاوى: 10/372).
(59) مجموع الفتاوى (12/ 180).
(60) (الفتاوى: 28/208). وانظر كلام الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ في (مجموعة الرسائل النجدية :2/137). وفي التحذير ممن التكفير بالعموم ينظر (التعليقات المختصرة على متن الطحاوية) الشيخ صالح الفوزان(139_151) (معارج القبول: 3/1215_1222).
(61) (تيسير العزيز الحميد: 116).
(62) وانظر: (ضوابط تكفير المعيّن عند الشيخين ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب) أبو العُلا راشد الراشد (44 وما بعدها).
(63) (الفتاوى: 11/ 406).
(64) (الفتاوى: 3/ 278_292).
(65) (مجموع الفتاوى: 19/ 86).
(66) (الفتاوى: 19/72).
(67) (كتاب الإيمان. باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها. رقم (191).
(68) (الدرر السنية: 9/ 212_232).
(69) وهذه المجرمة أمريكا, قد افترت على المسلمين بما فعلته في 23جمادى الثانية 1422هـ (11/9/2001) من أجل إيجاد مبرر لها لغزو المسلمين ونهبهم, تلك المؤامرة الرهيبة, والجريمة القبيحة, إما بالمباشرة أو الاختراق والتحريك غير المباشر, وقابل ذلك بعض السذج من أبنا المسلمين, فوقعوا في شَرَكِهِم.
ولكن مع ذلك فأمريكا في الحقيقة قد حفرت قبرها بيدها, واستعجلت حتفها بمكرها, وعاد جلّ مقصودها عليها, فقد انشرخ اقتصادها, وانكشف خبث سياستها, ودخل الناس في دين الله أفواجاً في عقر دارها, كما صَحَتْ شعوب من غفلتها واستيقظت من نومها ووثبت من سباتها, وتباينت الصفوف واستبانت سبيل المجرمين, وظهر الحق الأبلج المستبين, فمن الناس من آثر الذلة والخنوع, ومنهم من تهور وتخوض في الدم المعصوم, تارة على أهله, وأخرى على ذي عهده, ولكن الفئة الظاهرة المنصورة بقيت بحمد الله ظاهرة عزيزة ببيانها وقوة حجته وبرهانها, وغداً بإذن الله بقوة سيفها وقناها, لذلك فلا مندوحة لكل مسلم عن المساهمة في نصرة دين الله في نفسه أولاً بإصلاحها, ثم بما يطيقه في مجتمعه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن, ولزوم غرز العلماء الراسخين الناصحين, وأن لا يطير مع كل مطيّر, وأن يتهم رأيه قبل غيره قال عمر رضي الله عنه: "اتهموا الرأي على الدين, فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي, وما ألوم عن الحق" رواه البزار. وقال ‏ ‏سهل بن حنيف رضي الله عنه: ‏"يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم لقد رأيتني يوم ‏‏أبي جندل ‏ ‏ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏عليه لرددته, وما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه...". رواه البخاري.
وبالجملة؛ فتلك المكيدة الصهيونية بشقيها اليهودي والصليبي ضد الإسلام الحقيقي _الذي يعطي كل ذي حق حقه من والموالاة والمعاداة, ولا يغفل الأمور الكلية والتفصيلية في الشريعة_ قد ردّها الله خائبة كسيرة حسيرة, حتى وإن غنموا بعض الأسلاب المادية, فإن الناظر للبعيد استشرافاً وتوقعاً وقياساً _والعلم عند الله_ يرى تباشير نصر الإسلام وعز أمة محمد صلى الله عليه وسلم. واعتبر ذلك بشدة ضراوة تلك الحملة الفاجرة على كل ما هو سلفي _حتى وإن شطحت بعض الأفعال أو التصرفات ببعض أبنائها_ ثم انظر إلى النتائج التي تثلج الصدر, والثمرات التي تبهج نفس الموحد المؤمن. فظهرت السلفية بين العامّة باعتبارها الأصيل المنتسب إلى السلف الصالح في كل ما يأتي ويذر, وليس لرجل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما علا كعب فضله, فنبذ كثير من الناس البدع المحدثات, وعظموا السنة والآثار, وأظهروا التوحيد, وأبطنوا التجريد, وطرحوا الطواغيت وصرعوا السدنة, فلله الحمد وهو للحمد أهل.
الله أكبر قد ذلت نواصيها وأرغم الله دانيها وقاصيها
الله أكبر لا قلّت لهم إحن ولا أطال أمناً في نواحيها
حق على الله ما نالت علاً أممٌ إلا وأوضع بعد العز عاليها
وراية الكفر إن طالت سلامتها لا تيأسنّ فإن الكسر لاقيها
وكل صوت بها يهذي بملحمة أقول صبراً فيوم القدس نرويها
والحمد لله إذ قد ذلَّ أمريكا وأبدل الكأس مرّاً بعد حاليها
لكم أذاقت بلاداً ألف مظلمة وكم أبادت شعوباً من أهاليها
كم من بريء أحالت رأسه قطعاً وكم قتيل إلى الديان يشكيها
ذل الصليب ومن تحت الصليب بدا خوف الربيبة إذ قد خاف حاميها
رأس الصليب ورأس الكفر أجمعه قد أصلتته زماناً علّ يجديها
(70) (الخوارج) د. ناصر العقل (31_36).
(71) (مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب: 3/11).
(72) (مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب: 5/100) وانظر ما سطره مؤرخ الدعوة الشيخ حسين بن غنّام في (روضة الأفكار: 1/33).
(73) (الدرر السنية: 1/63).
(74) (الهدية السنية: 40) عن (دعاوى المناوئين: 127).
(75) (الدرر السنية: 3/20).
(76) (الدرر السنية: 10/274).
(77) (الدرر السنية: 10/336).
(78) (مجموعة الرسائل والمسائل: 1/47).
(79) (صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان: 485). وللمزيد من بيانهم لخطر التكفير بغير حق ينظر: ما كتبه الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن (الدرر السنية: 10/422). وانظر كلام الشيخ محمد بن عبداللطيف بن عبدالرحمن وغيره من المشايخ: (الدرر السنية: 10/451, 470, 4784).
(80) (الدرر السنية: 1/522).
(81) (القول الأسدّ الشيخ الشاوي: 5).
(82) انظر: (مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب: 5/100).
(83) (لقاء الباب المفتوح: 2/39). وانظر: (صفحة مطوية من تاريخ الجزيرة العربية: معركة السبلة, ومأساة الانشقاق).
(84) (السنة للالكائي: 1/161).
(85) الآداب الشرعية لابن مفلح (196-195/1).
(86) (المفهم شرح صحيح مسلم (55/4).
(87) صححه الألباني في(صحيح الجامع: 2430).
(88) وانظر كلام شيخ الإسلام في بيان مفاسد الخروج على الولاة: (منهاج السنة: 4/527_549).
(89) (فتح الباري:13/7) (عن قطف الجنى الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني للشيخ عبدالمحسن العباد البدر: 70).
(90) (مجموع الفتاوى (17-16/35).
(91) (إعلام الموقعين: 3/15).
(92) (السنة للخلال: 1/444).
(93) (السنة للخلال: 1/444).
(94) (الاعتصام للشاطبي: 545).
(95) (شرح كتاب التوحيد).
(96) وانظر كلامه عنه في (الفتاوى: 28/350 وما بعدها).
(97) (الدرر السنية: 10/ 423).
(98) (الصارم المسلول: 178).
(99) (مجموعة التوحيد النجدية: 93_94).
(100) (كشف الشبهات: 45_46).
(101) (مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب: 7/159).
(102) وانظر تفصيل ذلك في (مجموع الفتاوى: 6/61, 11/408, 35/165).
(103) (فتاوى الشيخ عبدالعزيز بن باز: 2/528).
(104) (الدرر السنية: 10/434_435).
(105) (مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب: 7/156).
(106) انظر: (مجموع مؤلفات الشيخ: 1/ 185, 297) (مجموعة الرسائل والمسائل: 4/473) (منهاج التأسيس) عبدالرحمن بن حسن (فتح البيان تتمة منهاج التأسيس) علّامة العراق محمود شكري الآلوسي (القول السديد) محمود شويل (مصباح الظلام فيمن كذب على الشيخ الإمام) (دعاوى المناوئين) عبدالعزيز العبداللطيف.
(107) (الدرر السنية: 10/63_64).
(108) (الدرر السنية: 10/142_148).
(109) ومن أمثلة الشرك الأكبر الذي كان بنجد ما ذكره الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن في (الدرر: 1/379_386). وفي بيان خطر الشرك ووقوع بعض الناس فيه ينظر: رسالة للإمام المجدد (2/43_48) (2/129). ولبيان أن الحكم على الظواهر دون البواطن؛ انظر: قول الشاطبي في (الموافقات: 2/271).
(110) (فتاوى الأئمة النجدية: 3/300).
(111) انظر كلامه في (مجموع الرسائل النجدية: 3/135).
(112) وانظرها في (فتاوى الأئمة النجدية: 3/116_130).
(113) (الفتاوى: 5/306).
(114) (فتاوى الأئمة النجدية: 3/132_133).
لطيفة: لما طعن بعضهم في الإمام المجدد من جهة انتسابه لبني تميم ولنجد في جملة طعون فندها الشيخ عبدالرحمن بن حسن رحمه الله وكشف زيفها, ثم قال: "ومعلوم أن رؤساء عباد القبور الداعين إلى دعائها وعبادتها لهم حظ وافر مما يأتي به الدجال, وقد تصدى لهم رجال من تميم وأهل نجد, للرد على دجاجلة عباد القبور الدعاة إلى تعظيمها مع الله, وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم إذا قلنا: إن "أل" للجنس لا للعهد, وإن قلنا إنها للعهد كما هوالظاهر فالرد على جنس الدجال توطئة وتمهيد لجهاده ورد باطله, فتأمله فإنه نفيس جداً" (منهاج التأسيس والتقديس: 61). ولمّا قال له بعض الأزهريين ساخراً: مسيلمة من خير نجدكم! أجابه على البديهة: وفرعون اللعين رأس مصركم! فبهت.
(115) (فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم: 12/1991) وانظر: (ضوابط التكفير عند الشيخين: 68_88).
(116) (شرح الفقه الأكبر: 421).
(117) (فتح الباري:6478).
(118) (الفتح: 12/315).
(119). (الدرر السنية: 1/594).
(120) (الدرر السنية: 8/ 294_295).
(121) ينظر: (مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب: 3/66, 5/229) (مجموعة الرسائل والمسائل: 4/592_611) (الدرر السنية: المجلدات الثلاث الأول).
(122) (مجموعة الرسائل والمسائل: 3/221).
(123) (الدرر السنية: 9/405_406).
(124) (الدرر السنية: 10/352_360) وانظر: (10/364_371, 387_398, 416_419).
(125) (الدرر السنية: 8/ 237).
(126) (دلائل الرسوخ: 44) بتصرف بسيط.
(127) (صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان: 487). عن (دعاوى المناوئين: 231).
(128) (تعليق على صيانة الإنسان: 487) عن (دعاوى المنائين: 232).
(129) (الآداب الشرعية لابن مفلح: 1/268).
(130) (تفسير ابن جرير الطبري: 8119_8120).
(131) (الموقع الرسمى لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز: من إملاءات الشيخ).
(132) (تفسير ابن جرير: 7/163).
(133) (تفسير ابن جرير: 11/291).
(134) (الإعلام بقواطع الإسلام للقرافي: 76).
(135) (جامع العلوم والحكم: 83).
(136) (الجهل بمسائل الاعتقاد) عبدالرزاق طاهر أحمد معاش. وانظر: (الواسطة بين الخلق والحق) لشيخ الإسلام وهي ضمن المجلد الأول من مجموع الفتاوى, ورسالة (كشف الشبهات) للمجدد, و(محاسن التأويل: 5/1295_1319) جمال الدين القاسمي.
(137) (مجموع الفتاوى: 5/563).
(138) (الفتاوى: 10/330).
(139) (الفتاوى: 12/180).
(140) (الصلاة لابن القيم: 60).
(141) (الطرق الحكمية: 174).
(142) (مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب: 3/159_160). (وانظر كلاماً لشيخ الإسلام في العذر بالجهل: (مجموع الفتاوى: 11/407).
(143) (فتاوى الأئمة النجدية: 3/240).
(144) (الدرر السنية: 10/360_375).
(145) (فتاوى الأئمة النجدية: 3/124).
(146) (فتاوى الأئمة النجدية: 3/ 243_244).
(147) (الدرر السنية: 10/40).
(148) (الدرر السنية: 11/446).
(149) (منهاج التأسيس والتقديس: 102_105).
(150) (الضياء الشارق: 290_291).
(151) على سبيل المثال: (رسالة تكفير المعين: 11_12).
(152) (المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج: 7/228).
(153) (الإيمان: 404). .(وانظر قول الشاطبي في (الموافقات: 2/271).
(154) (هامش ضوابط تكفير المعين عند الشيخين ابن تيمية وابن عبدالوهاب: 61) أبو العلا راشد الراشد, تقديم الشيخ صالح الفوزان.
(155) (فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم: 1/74).
(156) (فتاوى الشيخ ابن باز: 2/282_284).
(157) (فتاوى اللجنة الدائمة: 2/96_99).
(158) (الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه: 226_227 عبدالرزاق طاهر أحمد معاش).
(159) (النبذة الشريفة: 116).
(160) (طريق الهجرتين لابن القيم: 414).
(161) (مجموع الفتاوى: 20/31_32).
(162) (مصباح الظلام: 123).
(163) (شرح كشف الشبهات: 45).
(164) (الفتح: 9/40).
(165) (الدرر السنية: 2/210_211).
(166) (مجموع الفتاوى: 5/ 217).
(167) (الفوائد: 66).
(168) (مجموع الفتاوى: 17/311).
(169) (مجموع الفتاوى: 3/246).
(170) (الدرر السنية: 10/400).


 

بحوث علمية
  • بحوث في التوحيد
  • بحوث فقهية
  • بحوث حديثية
  • بحوث في التفسير
  • بحوث في اللغة
  • بحوث متفرقة
  • الصفحة الرئيسية