اطبع هذه الصفحة


عدنان إبراهيم ..والمسيح الدجال

بدر بن سليمان العامر


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

عدنان إبراهيم ..والمسيح الدجال (1)
بدر العامر
12 / 7 / 1433 هــ


كثيراً ما يحتاط الدكتور عدنان إبراهيم لنفسه حين يريد تقرير أو تمرير قضية التي يريد ، ولكن احتياطه يكون " ناقصاً " ، بحيث يحاول قطع الطريق فقط على خصمه من خلال " التمويه " على قضية هي في حقيقتها نقضاً لفكرته الأساسية ، فيقدمها حتى يسلم منها ..

حين سمعت خطبته عن " المسيح الدجال .. تدجيل أم تغفيل " لفت انتباهي انه بدأ بالحديث عن " الشيطان " ، مختزلاً الشيطان وقصته في القرآن بـ (
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ) ، وخلص من هذا إلى أن الشيطان حقيقة ليس له سلطان إلا على الذين يريدون اتباعه .. فلماذا قدم بهذه المقدمة ؟

كانت بداية كلام الدكتور عن الدجال من خلال تساؤل عقلي : إذا كان الدجال بهذه القدرة الفائقة على " الإضلال " ، أوليس الناس معذورون باتباعه ؟ أليس من يحمل هذه الصفات فتنة يريد من قدّر خروجه وهو" الله تعالى " ان يضل الناس ويفتنهم عن دينهم ؟ وأن الآيات إنما تأتي" تخويفاً " فقط وليست إضلالاً وتكفيراً للناس ؟ إن الله لا يمكن أن يفعل هذا ، فإن قال قائل بأن " إبليس " نفس الحكاية ، قال لا ، إبليس لا يملك لقدرة على هذا ..والنتيجة : الدجال تدجيل وتغفيل .

هذه القضية الكلية هي التي انطلق منها الدكتور عدنان إبراهيم ، ومن ثم بدأ يسرد ما ورد في أحاديث الدجال من تناقضات كثيرة عنده ، ولأن أحاديث الدجال وردت في " الصحيحين " البخاري ومسلم وغيرهما من الصححاح ، فلا بد كعادته أن يهيئ النفوس للطعن في أحاديث الصحيحين بقضايا يدرك المختص أنها داخلة في " التجديف المعرفي " لا الكلام العلمي كما سيأتي إن شاء لله ..

نعود إلى أصل القضية .. المقارنة بين ( إبليس والدجال ) والتي أفضت إلى إنكار الآخر بناء على أن ابليس ليس له سلطان على الناس ، فكيف يخرج الله في آخر الزمان من يكون له سلطان على الناس يجعلهم يعبدونه ويكفرون بالله ؟

إذن فالقضية عنده هي قضية " لا يقبلها عقله" ، وهي مصادمة كذلك للقرآن .. وماهي إلا تقولات وتخرصات وخرافات .


ماهي المشكلة الأساسية ؟


- إن المشكلة الأساسية في هذا البحث المعرفي لدى عدنان إبراهيم الاعتماد على مقدمات خاطئة ، توصل بلا ريب إلى نتائج كارثية وخاطئة كذلك ، وهي كذلك نتائج توصل إلى متتالية من "الإنكارات " التي هي في حقيقتها متلازمة متراصة ، فمن ينكر الدجال حتماً سينكر المسيح ، ومن ينكر نزول المسيح حتماً سينكر المهدي ، ولو أثبت أحدها سيقع حتماً بالتناقض والذي يحاول الفرار منه بعملية " كنس " لكثير من هذه القضايا التي تحدث عنها وقدمها على أنه نتيجة لكد معرفي ، وتحرر فكري ، وإعمال للعقل .

* تبسيط الشيطان من خلال آية :

إذا قال عدنان إبراهيم كيف يمكن أن يخرج المسيح الدجال بهذا الكم من القدرة على الإضلال يمكن ببساطة أن يقال : كيف يمّكن الله مخلوقاً يقال له " إبليس " على أن يحيا منذ خلق الله الخلق إلى أن يبعثون وهو يضل الناس بصفات كثيرة هي اعظم من حقيقة الدجال وإضلالة .

فإن كان الدجال منظوراً موصوفاً للناس ، فإن أبليس لا يرى ، بل حكى الله عنه أنه يقول عن مهمته العظيمة : (
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) ، فبسبب هذا المكر لا يكون أكثر الناس شاكرين لله .

ثم قال : (
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ - إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) فقال الله تعالى [في سورة الإسراء] إقراراً لهذا ( قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا )، فهو إقرار بأن القضية ليست فقط إغواء ، بل تبعية لمخلوق سخره الله تعالى لهذه المهمة ؟ أوليس من يريد أن يسير على طريقة عدنان إبراهيم أن يقول : هل الله الرحيم بعباده ، العظيم في علاه ، الشفيق على من عصاه يسخر مخلوقاً مثل إبليس ليكون سبباً في إضلال الناس ؟ كيف يعطيه هذه القدرة من البقاء إلى قيام الساعة ، وكثرة الأتباع ، والقدرات الخارقة التي تجعله يتسلل إلى عقل الإنسان وبصيرته فيوسوس له ، ويزين له الكفر والشرك والعصيان ؟ أليس هذا هو نفس المنطق الذي انطلق منه الدكتور عدنان لإنكاره للمسيح الدجال ؟

- وإن كان " الدجال" يأتي من خارج الذات ليضل الناس ، أليس الذي يأتي ليتمثل " ضمير "الإنسان فيوسوس له ويغريه بلا شعور أعظم من شخص يدرك العاقل المؤمن أنه دجال أفاك بصفاته وطريقته وما بيّن النبي من حاله ؟

- وإن كان الدجال يغوي أناساً في " آخر الزمان " حين انقضاء الآجال ، واقتراب الارتحال من الدنيا ، ألا يكون من أخذ على نفسه العهد ، وسار بإذن الله الخالق أن يكون همه الإغواء والذي أردى الملايين المملينة من البشر منذ خلق آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أعظم عملاً وفتنة ؟ حتى أنه سيعين الدجال على الإغواء والإضلال بتزيين فعله ، وتعمية عقول الناس عن تلمس حقيقة فتنتنه ؟ أليس ما يرد على الدجال من تساؤل يرد على إبليس الذي بسط الدكتور عدنان أمره في أول الحديث ليسلم له الاعتراض في نهايته ؟

إن السبل التي رسمها الله تعالى لعباده المؤمنين في الخلوص من الشيطان الرجيم ، من وسوسته ، وتزيينه للمنكر ، وإضلاله للناس كانت في ترسيخ ( حقائق الإيمان ومعرفة وصف الشيطان ومنهجه وطريقته في الإضلال ) ، والطريقة التي رسمها النبي صلى الله عليه وسلم لتوقي فتنة الدجال هي ذات الطريقة في ترسيخ ( حقائق الإيمان ، ومعرفة الله وأسمائه وصفاته ، والتحذير منه ووصف طريقته في الإضلال والأغواء ) ، إلا أن المهمة في التعامل مع الشأن المحسوس المشاهد أهون من التعامل مع أمر لا يرى ولا يدرك ولا يمكن أن يحتاط الإنسان منه في كل أحواله ..إلا أن يقال في الشيطان – وهي النتيجة التي نخشى أن تكون من متتاليات الدكتور القادمة – والتي قالها بعض الماديين الذين نكسوا الايات والأحاديث لتتوافق مع" عقولهم " زعموا بان الشيطان لا وجود له على الحقيقة وإنما هو كناية عن الشر في الارض .. كما كان آدم كناية عن الخير في الارض . ولا شي بعيد!

- وإذا كان الله تعالى قال في شان الشيطان (
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ) ، فيقال في شأن " لدجال " ، إنه لا سلطان له على الذين آمنوا واستبصروا حقيقته بخبر الصادق وعرفوا حجم فتنته وضعفه وتخييله وقدرته على الإيهام ، وإنما يكون سلطانه على الذين لم يستبصروا حقيقته ، فغابت النذر عن أذهانهم فسقطوا في وبال فعلهم مع رقة دينهم وضعف تمسكهم بكلام نبيهم ...

هذا الشيطان الذي يقول الدكتور أنه لا سلطان له علينا بطريقة تبسيطية هو الذي يقول الله تعالى عنه : (
إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) .

وهو الذي يخذل الانسان (
وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا ) ، وإن كان قد أغوى آدم أبو البشر فأخرجه من الجنة ألا يغوي من دونه ؟ (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ - وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ - فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ ..الآيات ) .

بل حتى أن الشيطان يوحي لأوليائه بطريقة جدال أهل الحق وهو أمر لم يفكر به الدجال : (
إِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ۖ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ) . وغيرها من مكائده العظيمة التي يتسلل بها إلى النفس الإنسانية ، بالوعد بالفقر ، وتزيين الفواحش ، والتفنن في أسلوب الغواية حتى بنزع الانسان عن العلم او تقليل موجبات تقواه وغيرها مما يطول الحديث عنه .. أليس السؤال نفس السؤال ؟ والتفريق بين المتماثلات لا يصح عقلاً ولا شرعاً ؟؟

في الحلقة القادمة ستتم مناقشة منهجية الدكتور العلمية في إنكار أحاديث الدجال .. وبيان حجم المغالطات العلمية والمنطقية في قوله.


ودمتم سالمين ..

 



عدنان إبراهيم ..والمسيح الدجال (2)

بدر العامر
19 / 7 / 1433 هـ


في الحلقة الأولى من مناقشة الدكتور عدنان إبراهيم حول قضية إنكاره لخبر " المسيح الدجال " تمت مناقشة فكرته حول معارضة أخبار المسيح الدجال للقرآن ، وان أصل المعارضة كان لوجود السلطان العظيم للمسيح الدجال ، وكان سؤاله العقلي : كيف يمكن لشخص أن يحمل هذه الصفات إلا أن يضل الناس ، وهل الله يتعمد إضلال الناس بإعطاء عباده القدرة على هذا الإضلال ، ولكن أصل الفكرة تم نقضها من خلال إمكانيات "إبليس " على الإضلال ، وتم بيان بأن إبليس هو أعظم إضلالاً من الدجال من خلال أمرين :

الاول : الزمن المتطاول الذي جعله يحيا مع كل الأمم منذ خلق آدم إلى أن يقوم الناس لرب العالمين ، وهذا الزمن المتطاول صار فيه من الإضلال والكفر وصرف الناس عن التوحيد ما يعادل ملايين ما يمكن أن يقع من الدجال الذي لا يعيش إلا " أربعين سنة " على القول الأكثر ، وإلا فقد قيل أربعين يوماً ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل عن الشياطين : (إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين فحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ) من حديث عياض بن حمار كما في الحديث الصحيح ، فالشياطين لهم دور كبير في إضلال الناس وصرفهم عن التوحيد ، وإدخالهم الشرك وتحليل ما حرم الله تعالى .

الثاني : أن الشيطان يوصل الإنسان إلى الشرك والضلال والكفر من خلال حرفة وطريقة ليست مكشوفة ، يتسلل من خلالها إلى النفس البشرية فيغريها ويلبس الحق عليها بالباطل ، بينما الدجال ينكشف للناس بدعوة صريحة بادعاء الربوبية الأمر الذي لا يقبله الموقن المؤمن ، بل يقبله الشاك المرتاب ، فلا يتبع الدجال إلا كل منافق ومنافقة وكافر وكافرة ، اما من آمن بالله ، وصدق بالرسالة فهذا يحصنه بعد توفيق الله من اتباع الدجال كما يوفق الله عباده الموقنين بعدم اتباع سبيل الشيطان وطريقته في الغواية والإضلال .

والآن .. دعونا ننتقل من الحجج العقلية ودعوى معارضة خبر الدجال للقرآن إذ لا يوجد في القرآن من الدلائل العقلية والنقلية ما يحيل وقوع مثل "فتنة الدجال " إلا عند من التبس عليه الأمر ، واستسلم لفكره دون تحقيق ونظر ، وإن كان الدجال لم يذكر في القرآن مباشرة ، فلا يعني ذلك أن الأخبار والأحكام مقتصرة على ما يورد في القرآن ، ففرق بين " معارضة القرآن " معارضة صريحة لا تقبل التأويل والجدل ، وبين " توهم " البعض بأن بعض الأخبار والأحكام تعارض القرآن ، وما تعجل المتعجلون في نفي الأخبار إلا من خلال عدم القدرة العلمية والذهنية على " التوفيق " بين ما ياتي من صحيح الأخبار ، وبين ما يقرره القرآن ، وعدم التفريق بين استحالة العقل الصريح للامر وبين " مقررات العقل النسبي " الذي يتفاوت الناس فيه بناء على تفاوتهم بالفهم والتأمل والعلم ففرق بين ما "
يحيله العقل .. وبين ما يعجز العقل عن إدراكه "وهي قاعدة نفيسه لمن تأملها .

منطلقات الدكتور في إنكاره لأخبار الدجال :

ينطلق الدكتور عدنان إبراهيم من إنكاره للمسيح الدجال من قاعدة قررها أولاً وهي أن في أخبار الدجال غرائب وعجائب وأكاذيب ، وان هناك خوارق للعادات لإضلال الناس ، وأن في الكتب الصحيحة أحاديث ضعيفة ، وأن هناك ضعفاء في الصحيحين وغيرها من القضايا التي من خلالها حكم على " فتنة الدجال " بالخرافة .
ومن المنطلقات التي انطلق منها أن هناك " تعارضاً " في الأحاديث التي وردت في خبر الدجال ، وبعضها يكذب بعضاً أو يخالف بعضاً ، وهذا دليل على كذب ما وردفيه .

أين المشكلة في تأصيل الدكتور عدنان إبراهيم لهذه القضية :

أولا :
لم يفرق الدكتور بين ورود الأخبار " المتواترة " في إثبات ( حقيقة الإخبار عن الدجال ) ، وبين الأحاديث الواردة في ( صفات الدجال وتفاصيل خبره ) ، فإثبات حقيقة الدجال شي ، والإيمان بكل ما ورد في صفاته شي آخر منفصل تماماً عنه ، وقد رأينا علماء أهل السنة ، بل علماء الإسلام قاطبة – إلا ما ندر- يضعفون كثيراً من الأخبار الواردة في الدجال ، وما وردفيها من تعارض – ظاهري – في نصوصها حرص العلماء على التأليف بينها بمنهج علمي ، وليس وجود الإشكال في بعض أخبار الدجال يضعف الحقيقة الأصلية أو يقضي عليها كما سيأتي .

الثاني : أشعر أن هناك مشكلة " منهجية " عند الدكتور عدنان إبراهيم في قراءته للتراث الإسلامي كله ، ومشكلته نابعة من ( غياب المنهجية العلمية المحكمة ) ، وقد يظنها هو " تحرراً " من القيود ، واستقلالاً في التفكير ، ولكنه وقع في (التلفيق ) المعرفي ، والذي جعله يمايز بين المتماثلاث ، ولا يمكن أن يطرد رأياً واحداً أبداً ، فهو مرة عقلاني قرآني ، ومرة سلفي أثري ، ومرة متكلم فلسفي ، ومرة يقبل الحديث المطعون فيه ، ومرة يرد الحديث المتواتر ومرة يثني على عالم إن قال قولاً يوافق رأيه ، ومرة يزري عليه بأشد العبارة ، فإن أقره بشي صار شيخ الإسلام ، وإن خالفه صار جاهلاً لا يفهم ، ومن ذلك موقفه من الصحيحين خاصة البخاري ومسلم ، فهو يستشهد بأحاديثهما ويصحح ويضعف ، ولكنه ينسف مصداقية الصحيح كلما أراد أن يقرر مسألة من المسائل ، وهذا مافعله حين أراد إنكار أخبار المسيح الدجال ، فقد قدم بمقدمة تعرض فيها للإمام عثمان ابن أبي شيبة – مع أن أحاديثه ليس فيها تعلق بالمسيح الدجال - ، وكأنه يهيئ وعي المستمع لعدم إنكار رد ما ورد في الصحيحين من أخبار الدجال ، ومثله تعرضه لاسماعيل بن أبي أويس وغيره ، ومن يسمع مثل هذا الكلام يدرك ان هناك مشكلة منهجية علمية في التعامل مع " الأحاديث " ولعل هذه طبيعة من لم يدرس العلم الشرعي دراسة أكاديمية ومنهجية ويعتمد في فهمه فقط لمسائل دقيقة تحتاج إلى كد وعناية فائقة وسنوات طويلة .

ولعلي أبدأ هنا – في هذه الحلقة – في مناقشة إثبات ( خبر المسيح الدجال ) عموماً دون الدخول في تفاصيل الأخبار وتعارضها ومناقشة الخوارق ، فلها إن شاء الله حلقة قادمة :

القراءة الاستردادية :

حين نريد أن نفهم مسألة أو خبراً من الأخبار نحتاج أن نعود إلى الوراء ، في ذلك الزمن الغابر حيث بدأ التدوين لنعرف كيف تم كتابة الأحاديث ، وحتى ندرك أن القضية ليست قضية " أخبار ملفقة ومكذوبة " كما يدعي الدكتور عدنان إبراهيم ، بل لندرك أن الجيل الأول والثاني والثاني في عصر التدوين يدركون أن " الإخبار عن الدجال " هو بمثابة وجود أمريكا في هذا الزمن لا ينكره إلا مهبول أو في عقله دخن ، ولكن أهل العلم حين يريدون إثبات قضايا " السمع" ، فلا طريق لذلك إلا " الأسانيد " المتصلة التي ينقلها الثقات بالاسناد المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهنا مستويان :

المستوى الأولى : شياع الأخبار ومعرفة الناس لها في زمن التدوين ، وهذا مثل معرفة القرون الأولى بوجود شخص اسمه ابو بكر وعمر وعثمان وعلي وعائشة وغيرهم بلا حاجة إلى إسناد ودليل خاص .
المستوى الثاني :
مستوى النقل العلمي عن تفاصيل أقوالهم وأفعالهم ، فالأول تواتر معنوى ، والثاني تواتر أو أخبار علمية .

دعونا نأخذ هذا الدليل على ما أقول :

الأمام مالك بن أنس الأصبحي رضي الله عنه إمام دار الهجرة ولد سنة 93 هــ وتوفي سنة 173 هــ وهو من الأئمة المتبوعين ، والثقات العظام قال الشافعي عن كتابه الموطأ ( ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مالك ) روى في الموطأ حديثاً فقال : حدثني نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (أراني الليلة عند ‏ ‏الكعبة ‏ ‏فرأيت رجلا ‏ ‏آدم ‏ ‏كأحسن ما أنت راء من أدم الرجال له‏ ‏لمة ‏ ‏كأحسن ما أنت راء من اللمم قد ‏ ‏رجلها ‏ ‏فهي تقطر ماء متكئا على رجلين أو على ‏ ‏عواتق ‏ ‏رجلين يطوف ‏ ‏بالكعبة ‏ ‏فسألت من هذا قيل هذا ‏ ‏المسيح ابن مريم ‏ ‏ثم إذا أنا برجل جعد ‏ ‏قطط ‏ ‏أعور العين اليمنى كأنها عنبة ‏ ‏طافية ‏ ‏فسألت من هذا فقيل لي هذا ‏ ‏المسيح الدجال ‏) .

هذا الحديث الذي رواه مالك جاء فيه ذكر المسيح الدجال ، وبين مالك وبين النبي صلى الله عليه وسلم رجلان فقط هما : نافع مولى ابن عمر ثقة ثبت ، يقول الامام مالك: ( إذا قال نافع شيئا فاختم عليه ) ، والبخاري رحمه الله يرى أن أصح الأسانيد إطلاقاً هي رواية مالك عن نافع عن ابن عمر ولا يعرف له خطأ أبداً في جميع ما روى، ( سلسلة ذهبية ) ، ونافع يحدث عمن لازمه وهو ابن عمر بن الخطاب ولا يحتاج إلى تزكية أو كلام ، وهذا الحديث ينميه ابن عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ..ويذكر فيه الدجال .

حسناً .. سوف نقول لعدنان إبراهيم ، دعنا الآن من متن الحديث ولنناقشك عن سنده ، هل ترى أن الكذاب في الحديث هو : مالك بن أنس أمام دار الهجرة الإمام المتبوع التي أجمعت الامة على إمامته وفضله ؟ أم الكذاب هو نافع مولى أبن عمر ؟ أم الذي كذب في الخبر عن الصادق المصدوق هو الصحابي الجليل ابن عمر رضي الله عنهما ؟

لنسلم لك الآن بان هذا الحديث مفترى ومكذوب ، والذي رواه ليس بينه وبين النبي إلا رجلان اثنان فقط .. ماذا تقول حين روي من طرق أخرى ؟ أم ان أهل الحديث هم مجموعة من الأفاكين الكذابين الذين شغلتهم فقط يضعون أحاديث ينسبونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؟ دعنا الآن من حديث مالك .. ماذا تقول في الآتي :

قال مسلم في صحيحه : حدثنا بن نمير حدثنا أبي حدثنا حنظلة عن سالم عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (
رأيت عند الكعبة رجلا آدم سبط الرأس واضعا يديه على رجلين يسكب رأسه أو يقطر رأسه فسألت من هذا فقالوا عيسى بن مريم أو المسيح بن مريم لا ندري أي ذلك قال ورأيت وراءه رجلا أحمر جعد الرأس أعور العين اليمنى أشبه من رأيت به بن قطن فسألت من هذا فقالوا المسيح الدجال ) .

وهذا إمام الأئمة مسلم النيسابوري يحدث بالحديث من طريق آخر ، فلم يروه في الإسناد عن نافع مولى ابن عمر ، بل رواه من طريق سالم عن نافع عن ابن عمر به .. فهل كذلك هذا اسناد ملفق ومفترى وليس بين مسلم وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلا اربعة رجال فقط ؟ وهل يمكن يتواطأ الناس على الكذب بهذه الطريقة ؟ وقد روى في أسانيد أخرى بلفظ الحديث عن جابر بن عبدالله وعمر وغيرهم من الصحابة بنفس الحديث وفيه ذكر الدجال .

وهذا الحديث رواه البخاري في صحيحه قال : دثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً به .

هل هذا فقط ما روي في شأن الأخبار عن " المسيح الدجال " ؟

إن الأسانيد التي رويت في بيان خبره كثيرة جداً ولست هنا أريد تتبع كل الأحاديث التي رويت ، بل لبيان ان خبر الدجال عند الجيل الأول هو من باب القطع بحيث لا يماري فيه أحد ، وكان الجيل الأول بعد الصحابة يعرفون خبر النبي عن الدجال كما يعرفون أسماء الصحابة ، وهو من الانتشار والذياع بحيث لا ينكره أحد .

سأكمل إن شاء الله في الحلقة القادمة مناقشة فكرة " تواتر خبر ذكر المسيح الدجال " حديثياً .. وإثبات ذلك إن شاء الله تعالى .

ودمتم سالمين


 

بحوث علمية
  • بحوث في التوحيد
  • بحوث فقهية
  • بحوث حديثية
  • بحوث في التفسير
  • بحوث في اللغة
  • بحوث متفرقة
  • الصفحة الرئيسية