بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله
وصحبه وسلم .
أما بعد :
للأخلاق حدٌ متى جاوزته صارت عُدواناً ، ومتى قصرت عنه كان نقصاً
ومهانة .
فللغضب حدٌ : وهو الشجاعة المحمودة ، والأنفة من الرذائل
والنقائص ، وهذا كماله . فإذا جاوز حده تعدى صاحبه وجار ، وإن نقص عنه
جبن ولم يأنف من الرذائل .
وللحرص حد : وهو كفاية في أمور الدنيا ، وحصول البلاغ منها ،
فمتى نقص من ذلك كان مهانة وإضاعة ، ومتى زاد عليھ ، كان شَرَهًا ورغبة
فيما لا تحمد الرغبة فيه .
وللحسد حد : وهو المنافسة في طلب الكمال ، والأنفة أن يتقدم
عليھ نظيره ، فمتى تعدى ذلك صار بغياً وظلماً يتمنى معه زوال النعمة عن
المحسود ، ويحرص على إيذائه ، ومتى نقص عن ذلك كان دناءة وضعف همة وصغر
نفس .
وللشهوة حد : وهو راحة القلب والعقل من كد الطاعة واكتساب
الفضائل والإستعانة بقضائها على ذلك ، فمتى زادت على ذلك صارت نهمة
وشبقاً والتحق صاحبها بدرجة الحيوانات ، ومتى نقصت عنه ولم يكن فراغاً
في طلب الكمال والفضل كانت ضعفاً وعجزاً ومهانة .
وللراحة حد : هو إجمام النفس والقوى المدركة والفعالة للاستعداد
للطاعة واكتساب الفضائل وتوفرها على ذلك بحيث لا يضعفها الكد والتعب
ويضعف أثرها ، فمتى زاد على ذلك صار توانياً وكسلاً وإضاعة ، وفات به
أكثر مصالح العبد ، ومتى نقص عنه صار مضراً بالقوى موهناً لها وربما
انقطع به كالمنبتِّ الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى .
والجود له حد بين طرفين : فمتى جاوز حده صار إسرافاً وتبذيراً ،
ومتى نقص عنه كان بخلاً وتقتيراً .
وللشجاعة حد : متى جاوزته صار تهوراً ، ومتى نقصت عنه صار جبناً
وخوراً ، وحدها الإقدام في مواضع الإقدام ، والإحجام في مواضع الإحجام
.
والغيرة لها حد: إذا جاوزته صارت تهمة وظناً سيئاً بالبريء ،
وإذا قصرت عنه كانت تغافلاً ومبادئ دياثةٍ .
وللتواضع حد : إذا جاوزه مان ذلاً ومهانة ، ومن قصر عنه انحرف
إلى الكبر والفخر .
وللعز حد : إذا جاوزه كان كبراً وخلقاً مذموماً ، وإن قصر عنه
انحرف إلى الذل والمهانة .
* وضابط هذا كله العدل : وهو الأخذ بالوسط الموضوع بين طرفي
الإفراط والتفريط ، وعليه بناء مصالح الدنيا والآخرة ، بل لا تقوم
مصلحة البدن إلا به ، فإنه متى خرج بعض أخلاطه عن العدل وجاوزه أو نقص
عنه ذهب من صحته وقوته بحسب ذلك .
وكذلك الأفعال الطبيعية ، كالنوم والسهر والأكل والشرب والجماع والحركة
والرياضة والخلوة والمخالطة وغير ذلك ، إذا كانت وسطاً بين الطرفين
المذمومين كانت عدلاً وإن انحرفت إلى أحدهما كانت نقصاً وأثمرت نقصاً .
فمن أشرف العلوم وأنفعها علم الحدود ، ولا سيما حدود المشروع المأمور
والمنهي ، فأعلم الناس أعلمهم بتلك الحدود ، حتى لا يدخل فيها ما ليس
منها ولا يخرج منها ماهو داخل فيها ، قوله تعالى {الأَعْرَابُ أَشَدُّ
كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : ٩٧ ]
، فأعدل الناس من قام بحدود الأخلاق والأعمال والمشروعات معرفة وفعلاً
.. والله أعلم
-------------------------
* رابط مفيد / كتاب بغداد ذكريات ومشاهدات/ علي الطنطاوي
http://ia601508.us.archive.org/12/items/bgdadbgdad/bgdad.pdf