اطبع هذه الصفحة


الدرُّ النضيد من فروق وتقاسيم القول المفيد على كتاب التوحيد (1)

سامي المسيطير
@Smusaiteer


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ


الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد ،،
فقد منّ الله تعالى على كاتب السطور بقراءة كتاب :" القول المفيد على كتاب التوحيد " للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ، فأعجبني وتعجبتُ من شرح الشيخ وما منّ الله تعالى عليه من حسن التعليم ، وبيان الشرح ، وإيصال العلم بأيسر طريق وأجمل أسلوب ، فيفهم شرحه ويستفيد من عرضه طالبُ العلم والعاميُ ، بل وحتى البليد .
وقد كنت أركز على التقاسيم والفروق التي يذكرها الشيخ رحمه الله أثناء شرحه لأبواب كتاب التوحيد ، وأسجلها على طرّة الكتاب ، فاجتمع لي فيها خير كثير .
فرأيت أن أجمع هذه الفروق والتقاسيم البديعة - كل باب على حِدة - ليسهل حفظ بعض مقاصد الباب ، ويتيسر ضبطها .
وسأشير إلى رقم الصفحة ليسهل في ذلك مراجعة المسألة وفهمها - إن لم تتضح -، فقد يكون للمسألة ذيول تلحق بها ، ولا بد من ضبطها وحفظها .
وليس لي من ذلك إلا الجمع والترتيب .
والله تعالى الموفق .

والعذر عند أصحاب الفضل مأمول .
ولا غنى لي عن نصحكم وتوجيهاتكم .

تنويه :
الطبعة التي أعتمدت عليها في المراجعة : طبعة دار ابن الجوزي 1421

إعتذار :
العنوان مقتبس من عدة كتب منها :
1- الدر النضيد شرح كتاب التوحيد تأليف الشيخ أحمد بن حسن النجدي .
2- الدر النضيد في شرح كتاب التوحيد - تأليف الشيخ سليمان بن عبدالرحمن بن حمدان (وأثنى على هذا الشرح الشيخ بكر أبوزيد حفظه الله فقال : لهذا كان شرحه"الدر النضيد" من أنفس شروح كتاب التوحيد ) .
3- الدر النضيد على كتاب التوحيد للشيخ سعد بن عبدالعزيز الجندول .
4- الدر النضيد في تخريج كتاب التوحيد للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي .

المرجع في اقتباس العنوان : كتاب عناية العلماء بكتاب التوحيد للشيخ /عبدالإله بن عثمان الشايع .

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى في مقدمة شرحه لكتاب التوحيد :
كتاب التوحيد :
أقسامه:
ينقسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام:
1- توحيد الربوبية .
2- توحيد الألوهية .
3- توحيد الأسماء والصفات .

وقد اجتمعت في قوله تعالى: (رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمياً) [مريم: 65] .
(ج1/9)
-----
القسم الثاني :
توحيد الألوهية : ويقال له: توحيد العبادة باعتبارين :
- فاعتبار إضافته إلى الله يسمى: توحيد الألوهية .
- وباعتبار إضافته إلى الخلق يسمى توحيد العبادة.
(ج1/14)
-----
والعبادة تطلق على شيئين:
الأول: التعبد: بمعنى التذلل لله - عز وجل - بفعل أوامره واجتناب نواهيه؛ محبة وتعظيماً .
الثاني: المتعبد به؛ فمعناها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة".

مثال ذلك: الصلاة؛ ففعلها عبادة، وهو التعبد، ونفس الصلاة عبادة، وهو المتعبد به.
(ج1/14)

القسم الثالث:
توحيد الأسماء والصفات: وهو إفراد الله - عز وجل - بما له من الأسماء والصفات .
وهذا يتضمن شيئين:

الأول: الإثبات، وذلك بأن نثبت لله - عز وجل - جميع أسمائه وصفاته التي أثبتها لنفسه في كتابه أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
الثاني: نفى المماثلة، وذلك بأن لا نجعل لله مثيلاً في أسمائه وصفاته؛ كما قال تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) [الشورى: 11].

فدلت هذه الآية على أن جميع صفاته لا يماثله فيها أحد من المخلوقين؛ فهي وإن اشتركت في أصل المعنى، لكن تختلف في حقيقة الحال :
- فمن لم يثبت ما أثبته الله لنفسه؛ فهو معطل ، وتعطيله هذا يشبه تعطيل فرعون .
- ومن أثبتها مع التشبيه صار مشابهاً للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره .
- ومن أثبتها بدون مماثلة صار من الموحدين .

(ج1/17)
-----
- فالتحريف في النصوص .
- والتعطيل في المعتقد .
- والتكييف في الصفة .
- والتمثيل في الصفة، إلا أنه أخص من التكييف ؛ فكل ممثل مكيف، ولا عكس ،.

فيجب أن تبرأ عقيدتنا من هذه الأمور الأربعة .
(ج1/18)
 
قال الشيخ رحمه الله تعالى :
كتاب التوحيد :
الآية الثانية قوله تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [النحل: 36].
وتطلق الأمة في القرآن على أربعة معانٍ:
أ- الطائفة: كما في هذه الآية .
ب- الإمام، ومنه قوله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله) [النحل: 120].
ج- الملة: ومنه قوله تعالى: (إنا وجدنا آباءنا على أمة) [الزخرف: 23].
د- الزمن: ومنه قوله تعالى: (وادكر بعد أمة) [يوسف: 45].

(ج1/27)
----
والتوحيد لا يتم إلا بركنين، هما:
1- الإثبات .
2- النفي .

إذ النفي المحض تعطيل محض ، والإثبات المحض لا يمنع المشاركة.
مثال ذلك:
- زيد قائم ، يدل على ثبوت القيام لزيد، لكن لا يدل على انفراده به .
- ولم يقم أحد ، هذا نفي محض .
- ولم يقم إلا زيد ، هذا توحيد له بالقيام ؛ لأنه اشتمل على إثبات ونفي.
(ج1/29)
-----
الآية الثالثة قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه...) الآية .
قوله: (قضى) قضاء الله - عز وجل - ينقسم إلى قسمين:
1- قضاء شرعي .
2- قضاء كوني .

فالقضاء الشرعي : يجوز وقوعه من المقضي عليه وعدمه ، ولا يكون إلا فيما يحبه الله . مثال ذلك: هذه الآية: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) [الإسراء: 23]؛ فتكون قضى بمعنى: شرع ، أو بمعنى: وصى ، وما أشبههما .
والقضاء الكوني : لابد من وقوعه، ويكون فيما أحبه الله، وفيما لا يحبه. مثال ذلك: قوله تعالى: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً) [الإسراء: 4] فالقضاء هنا كوني؛ لأن الله لا يشرع الفساد في الأرض، ولا يحبه.
(1/30)

قال الشيخ رحمه الله تعالى :
إذا قيل: ثبت أن الله قضى كوناً ما لا يحبه ؛ فكيف يقضي الله ما لا يحبه؟ فالجواب: أن المحبوب قسمان:
1- محبوب لذاته .
2- محبوب لغيره .

فالمحبوب لغيره قد يكون مكروهاً لذاته ، ولكن يحب لما فيه من الحكمة والمصلحة ؛ فيكون حينئذ محبوباً من وجه ، مكروهاً من وجه آخر .
مثال ذلك: الفساد في الأرض من بني إسرائيل في حد ذاته مكروه إلى الله ؛ لأن الله لا يحب الفساد ، ولا المفسدين ، ولكن للحكمة التي يتضمنها يكون بها محبوباً إلى الله - عز وجل - من وجه آخر .
ومن ذلك: القحط ، والجدب ، والمرض ، والفقر ؛ لأن الله رحيم لا يحب أن يؤذي عباده بشيء من ذلك ، بل يريد بعباده اليسر ، لكن يقدره للحكم المترتبة عليه ؛ فيكون محبوباً إلى الله من وجه ، مكروهاً من وجه آخر . قال الله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) [الروم: 41].
(1/30)
-----
أقسام العبودية:
تنقسم العبودية إلى ثلاثة أقسام :
1- عامة : وهي عبودية الربوبية ، وهي لكل الخلق ، قال تعالى: (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً) [مريم: 93]، ويدخل في ذلك الكفار .
2- عبودية خاصة : وهي عبودية الطاعة العامة ، قال تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً) [الفرقان: 63]، وهذه تعم كل من تعبد لله بشرعه .
3- خاصّة الخاصّة : وهي عبودية الرسل عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى عن نوح: (إنه كان عبداً شكوراً) [الإسراء: 3]، وقال عن محمد: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) [البقرة: 23]، وقال في آخرين من الرسل: (وأذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار) [ص: 45]. فهذه العبودية المضافة إلى الرسل خاصة الخاصة ؛ لأنه لا يباري أحد هؤلاء الرسل في العبودية .
(1/33)

بابٌ فَضْلُ التَّوحِيدِ ومَا يُكَفِّر من الذُّنُوبِ


وقول الله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) الآية [الأنعام: 82].
والظلم أنواع :
1- أظلم الظلم ، وهو الشرك في حق الله .
2- ظلم الإنسان نفسه؛ فلا يعطيها حقها، مثل أن يصوم فلا يفطر، ويقوم فلا ينام.
3- ظلم الإنسان غيره، مثل أن يتعدى على شخص بالضرب، أو القتل، أو أخذ مال، أو ما أشبه ذلك.
(1/61)
----
قوله: (وهم مهتدون)، أي: في الدنيا إلى شرع الله بالعلم والعمل .
- فالاهتداء بالعلم : هداية الإرشاد .
- والاهتداء بالعمل: هداية توفيق .
(ج1/62 )
----
قوله: "من شهد أن لا اله إلا الله" : الشهادة لا تكون إلا عن علم سابق ، قال تعالى: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) [الزخرف: 86]، وهذا العلم :
- قد يكون مكتسباً .
- وقد يكون غريزياً
.

فالعلم بأنه لا إله إلا الله غريزيٌ، قال صلى الله عليه وسلم: "كل مولودٍ يولد على الفطرة"(2).
وقد يكون مكتسباً، وذلك بتدبر آيات الله، والتفكر فيها.
(ج1/ 63 )
----
فالمعاصي من حيث المعنى العام أو الجنس العام يمكن أن نعتبرها من الشرك .
وأما بالمعنى الأخص؛ فتنقسم إلى أنواع :

1- شرك أكبر.
2- شرك أصغر .
3- معصية كبيرة.
4- معصية صغيرة.


وهذه المعاصي منها :
- ما يتعلق بحق الله .
- ومنها ما يتعلق بحق الإنسان نفسه .
- ومنها ما يتعلق بحق الخلق.

(ج1/66 )

قال الشيخ رحمه الله تعالى :
ولهذا كان أولئك الغلاة ليلة المولد إذا تلى التالي "المخرّف" كلمة المصطفى قاموا جميعاً قيام رجل واحد، يقولون: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حضر مجلسنا بنفسه، فقمنا إجلالاً له، والصحابة رضي الله عنهم أشدّ إجلالاً منهم ومنا، ومع ذلك إذا دخل عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو حيٌ يكلمهم لا يقومون له، وهؤلاء يقومون إذا تخيلوا أو جاءهم شبح إن كانوا يشاهدون شيئاً، فانظر كيف بلغت بهم عقولهم إلى هذا الحد! فهؤلاء ما شهدوا أن محمداً عبدالله ورسوله .
وهؤلاء المخرفون مساكين :
- إن نظرنا إليهم بعين القدر ؛ فنرق لهم، ونسأل الله لهم السلامة والعافية .
- وإن نظرنا إليهم بعين الشرع ؛ فإننا يجب أن ننابذهم بالحجة حتى يعودوا إلى الصراط المستقيم .
(ج1/69-70)
-----
فالمبتدعون قد يقال :
- إنهم يثابون على حسن نيتهم إذا كانوا لا يعلمون الحق ، ولكننا نخطّئهم فيما ذهبوا إليه .
- أما أئمتهم الذين علموا الحق ، ولكن ردّوه ليبقوا جاههم ؛ ففيهم شبه بأبي جهل ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن المغيرة ، وغيرهم الذين قابلوا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بالرد إبقاءً على رئاستهم وجاههم .


أما بالنسبة لأتباع هؤلاء الأئمة ؛ فينقسمون إلى قسمين: -
- القسم الأول : الذين جهلوا الحق ، فلم يعلموا عنه شيئاً ، ولم يحصل منهم تقصير في طلبه ، حيث ظنّوا أن ما هم عليه هو الحق ؛ فهؤلاء معذورون .
- القسم الثاني: من علموا الحق ، ولكنهم ردّوه تعصّباً لأئمتهم ؛ فهؤلاء لا يعذرون ، وهم كمن قال الله فيهم: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم مهتدون) [الزخرف: 22].

(ج1/71)
----
فشريعة من قبلنا لها ثلاث حالات :
- الأولى: أن تكون مخالفة لشريعتنا ؛ فالعمل على شرعنا.
- الثانية: أن تكون موافقة لشريعتنا ؛ فنحن متبعون لشريعتنا .
- الثالثة: أن يكون مسكوتاً عنها في شريعتنا ،
وفى هذه الحال اختلف علماء الأصول: هل نعمل بها، أو ندعها؟ والصحيح أنها شرع لنا، ودليل ذلك : قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) [الأنعام: 90].
(ج1/72)
----
وأعلم أن ما أضافه الله إلى نفسه ينقسم إلى ثلاثة أقسام : - الأول : العين القائمة بنفسها ، وإضافتها إليه من باب إضافة المخلوق إلى خالقه .
وهذه الإضافة :
- قد تكون على سبيل عموم الخلق؛ كقوله تعالى: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه) [الجاثية: 13]، وقوله تعالى: (إن أرضي واسعة) [العنكبوت: 56].
- وقد تكون على سبيل الخصوص لشرفه ، كقوله تعالى: (وطهر بيتي للطائفين) [الحج: 26]، وكقوله تعالى: (ناقة الله وسقياها) [الشمس: 13]، وهذا القسم مخلوق .

الثاني: أن يكون شيئاً مضافاً إلى عين مخلوقة يقوم بها ، مثاله قوله تعالى: (وروح منه) [النساء: 171]؛ فإضافة هذه الروح إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى خالقه تشريفاً ؛ فهي روح من الأرواح التي خلقها الله، وليست جزءً أو روحاً من الله؛ إذ أنّ هذه الروح حلت في عيسى عليه السلام، وهو عين منفصلة عن الله، وهذا القسم مخلوق أيضاً .

الثالث: أن يكون وصفاً غير مضاف إلى عين مخلوقة، مثال ذلك قوله تعالى: (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) [الأعراف: 144]، فالرسالة والكلام أضيفا إلى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، فإذا أضاف الله لنفسه صفة؛ فهذه الصفة غير مخلوقة .

وبهذا يتبين أن هذه الأقسام الثلاثة :
قسمان منها مخلوقان ، وقسم غير مخلوق .
- فالأعيان القائمة بنفسها والمتصل بهذه الأعيان مخلوقة .
- والوصف الذي لم يذكر له عين يقوم بها غير مخلوق ؛ لأنه يكون من صفات الله ، وصفات الله غير مخلوقة
.
(ج1/75)
-----
قوله: "أدخله الله الجنة" .
إدخال الجنة ينقسم إلى قسمين :
- الأول: إدخال كامل لم يسبق بعذاب لمن أتمّ العمل .
- الثاني: إدخال ناقص مسبوق بعذاب لمن نقص العمل .


فالمؤمن إذا غلبت سيئاته حسناته إن شاء الله عذّبه بقدر عمله، وإن شاء لم يعذّبه، قال الله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 116].
(ج1/76)

قال رحمه الله تعالى :
ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسي فروق كثيرة :
1- منها : أن الحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته ، بمعنى أن الإنسان لا يتعبد لله تعالى بمجرد قراءته ؛ فلا يثاب على كل حرف منه عشر حسنات ، والقرآن يتعبد بتلاوته بكل حرف منه عشر حسنات .
2- ومنها : أن الله تعالى تحدى أن يأتي الناس بمثل القرآن أو آية منه ، ولم يرد مثل ذلك في الأحاديث القدسية .
3- ومنها : أن القرآن محفوظ من عند الله تعالى ؛ كما قال سبحانه: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر: 9] ، والأحاديث القدسية بخلاف ذلك ؛ ففيها الصحيح والحسن ، بل أضيف إليها ما كان ضعيفاً أو موضوعاً ، وهذا وإن لم يكن منها لكن نسب إليها وفيها التقديم والتأخير والزيادة والنقص .
4- ومنها : أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين ، وأما الأحاديث القدسية ، فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبوي بالمعنى والأكثرون على جوازه .
5- ومنها: أن القرآن تشرع قراءته في الصلاة ومنه ما لا تصح الصلاة بدون قراءته ، بخلاف الأحاديث القدسية .
6- ومنها : أن القرآن لا يمسه إلا طاهر على الأصح ، بخلاف الأحاديث القدسية .
7- ومنها : أن القرآن لا يقرؤه الجنب حتى يغتسل على القول الراجح ، بخلاف الأحاديث القدسية .
8- ومنها : أن القرآن ثبت بالتواتر القطعي المفيد للعلم اليقيني ، فلو أنكر منه حرفاً أجمع القراء عليه ؛ لكان كافراً ، بخلاف الأحاديث القدسية ؛ فإنه لو أنكر شيئاً منها مدعياً أنه لم يثبت ؛ لم يكفر ، أما لو أنكره مع علمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ؛ لكان كافراً لتكذيبه النبي صلى الله عليه وسلم .

(ج1/ 82)
----
وليس الخلاف في هذا كالخلاف بين الأشاعرة وأهل السنة في كلام الله تعالى ؛ لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى ؛
- فأهل السنة يقولون : كلام الله تعالى كلام حقيقي مسموع يتكلم سبحانه بصوت وحرف .
- والأشاعرة لا يثبتون ذلك ، وإنما يقولون : كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه وليس بحرف وصوت ، ولكن الله تعالى يخلق صوتاً يعبر به عن المعنى القائم بنفسه ، ولا شك في بطلان قولهم ، وهو في الحقيقة قول المعتزلة ،
لأن المعتزلة يقولون : القرآن مخلوق ، وهو كلام الله .
وهؤلاء يقولون: القرآن مخلوق، وهو عبارة عن كلام الله ، فقد اتفق الجميع على أن ما بين دفتي المصحف مخلوق
.
(ج1/83)

بابٌ مَنْ حَقَّقَ التَّوحيدَ دَخَلَ الجنَّةَ بغيرِ حِسَاب
قال رحمه الله تعالى :
وتحقيق التوحيد: تخليصة من الشرك ، ولا يكون إلا بأمور ثلاثة :
الأول: العلم ؛ فلا يمكن أن تحقق شيئاً قبل أن تعلمه ، قال الله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) [محمد: 19].
الثاني: الاعتقاد ، فإذا علمت ولم تعتقد واستكبرت ؛ لم تحقق التوحيد ، قال الله تعالى عن الكافرين : (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب). [ص:5] ؛ فما اعتقدوا انفراد الله بالألوهية.
الثالث: الانقياد ، فإذا علمت واعتقدت ولم تنقد ؛ لم تحقق التوحيد ، قال تعالى: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون* ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون) [الصافات: 35/36] .
فإذا حصل هذا وحقق التوحيد ؛ فإن الجنة مضمونة له بغير حساب ، ولا يحتاج أن نقول إن شاء الله ؛ لأن هذا حكاية حكم ثابت شرعاً ، ولهذا جزم المؤلف رحمه الله تعالى بذلك في الترجمة دون أن يقول: إن شاء الله . أما بالنسبة للرجل المعين ؛ فإننا نقول: إن شاء الله.
( ج1/91 )
------
الآية الأولى: قوله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة...) الآية.
قوله: (أمة)، أي: إماماً ، وقد سبق أن أمة تأتي في القرآن على أربعة أوجه :
1- إمام .
2- ودهر .
3- وجماعة .
4- ودين .

(ج1/92)
-----
ويجب أن نعلم أن ثناء الله على أحد من خلقه لا يقصد منه أن يصل إلينا الثناء فقط، لكن يقصد منه أمران هامان:
الأول : محبة هذا الذي أثنى الله عليه خيراً ، كما أن من أثنى الله عليه شراً ، فإننا نبغضه ونكرهه ، فنحب إبراهيم عليه السلام ؛ لأنه كان إماماً حنيفاً قانتاً لله ولم يكن من المشركين ، ونكره قومه ؛ لأنهم كانوا ضالين ، ونحب الملائكة وإن كانوا من غير جنسنا ؛ لأنهم قائمون بأمر الله ، ونكره الشياطين ، لأنهم عاصون لله وأعداء لنا ولله ، ونكره أتباع الشياطين ؛ لأنهم عاصون لله أيضاً وأعداء لله ولنا .
الثاني : أن نقتدي به في هذه الصفات التي أثنى الله بها عليه ؛ لأنها محل الثناء ، ولنا من الثناء بقدر ما اقتدينا به فيها ، قال تعالى: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) [يوسف: 111] ، وقال تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه) [الممتحنة: 4]، وقال تعالى: (لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) [الممتحنة:6].
وهذه مسألة مهمة ؛ لأن الإنسان أحياناً يغيب عن باله الغرض الأول ، وهو محبة هذا الذي أثنى الله عليه خيراً ، ولكن لا ينبغي أن يغيب ؛ لأن الحب في الله ، والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان .
(ج1/94)
-----
فائدة أخرى :
قال الإمام أحمد : ثلاثة ليس لها أصل :

1- المغازي .
2- والملاحم .
3- والتفسير .

فهذه الغالب فيها أنها تذكر بدون إسناد ، ولهذا ؛ فإن المفسرين يذكرون قصة آدم ، (فلما آتاهما صالحاً) [الأعراف: 190] ، وقليل منهم من ينكر القصة المكذوبة في ذلك .
فالقاعدة إذاً : أنه لا أحد يعلم عن الأمم السابقة شيئاً إلا من طريق الوحي ، قال تعالى: (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله) [إبراهيم: 9].
(ج1/95)
------
قوله: "انقض البارحة" :
أي: سقط البارحة ، والبارحة: أقرب ليلة مضت ، وقال بعض أهل اللغة : تقول فعلنا الليلة كذا إن قلته قبل الزوال ، وفعلنا البارحة كذا إن قلته بعد الزوال .
وفي عرفنا :
- فمن طلوع الشمس إلى الغروب نقول : البارحة لليلة الماضية .
- ومن غروب الشمس إلى طلوعها نقول : الليلة لليلة التي نحن فيها .

بل بعض العامة يتوسع متى قام من الليل قال: البارحة ؛ وإن كان في ليلته.
(ج1/97)
-----
ويستعمل للعين طريقة أخرى :
1- غير الرقية .
2- وهو الاستغسال ، وهي أن يؤتي بالعائن ، ويطلب منه أن يتوضأ ، ثم يؤخذ ما تناثر من الماء من أعضائه ، ويصب على المصاب ، ويشرب منه ، ويبرأ بإذن الله .
3- وهناك طريقة أخرى ، ولا مانع منها أيضاً ، وهي أن يؤخذ شيء من شعاره ، أي: ما يلي جسمه من الثياب ، كالثوب ، والطاقية ، والسروال ، وغيرها ، أو التراب إذا مشى عليه وهو رطب ، ويصب على ذلك ماء يرش به المصاب أو يشربه ، وهو مجرب.
وأما العائن؛ فينبغي إذا رأى ما يعجبه أن يبرّك عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف: "هلا برّكت عليه" ؛ أي: قلت: بارك الله عليك.
(ج1/99)
---
أي لا يطلبون من أحد أن يقرأ عليهم ، لما يلي :
1- لقوة اعتمادهم على الله .
2- لعزة نفوسهم عن التذلل لغير الله .
3- ولما في ذلك من التعلق بغير الله.

(ج1/103)
-----
قال رحمه الله : فيه مسائل .... ثم قال :
الخامسة عشرة : ثمرة هذا العلم ، وهو عدم الاغترار بالكثرة ، وعدم الزهد في القلة :
فإن الكثرة قد تكون ضلالاً ، قال الله تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) [الأنعام: 116] ، وأيضاً الكثرة من جهة أخرى إذا اغتر الإنسان بكثرة وظن لن يغلب أو أنّه منصور ؛ فهذا أيضاً سبب للخذلان ؛ فالكثرة إن نظرنا إلى أن أكثر أهل الأرض ضلال لا تغتر بهم ، فلا تقل: إن الناس على هذا، كيف أنفرد عنهم ؟. كذلك أيضاً لا تغتر بالكثرة إذا كان معك أتباع كثيرون على الحق ؛
فكلام المؤلف له وجهان:
الوجه الأول : أن لا نغتر بكثرة الهالكين فنهلك معهم .
الوجه الثاني: أن لا نغتر بكثرة الناجين فيلحقنا الإعجاب بالنفس وعدم الزهد في القلة ، أي أن لا نزهد بالقلة ؛ فقد تكو القلة خيراً من الكثرة .

(ج1/110)

بابٌ الخَوْفُ مِنَ الشِّرْكِ
قوله: (إن الله لا يغفر أن يشرك به):
قال رحمه الله تعالى :
قوله: (إن الله لا يغفر أن يشرك به).
فالشرك لا يغفره الله أبداً ، لأنه جناية على حق الله الخاص ، وهو التوحيد .
أما المعاصي ، كالزنى والسرقة ، فقد يكون للإنسان فيها حظ نفس بما نال من شهوة .
أما الشرك ، فهو اعتداء على حق الله تعالى ، وليس للإنسان فيه حظ نفس ، وليس شهوة يريد الإنسان أن ينال مراده ، ولكنه ظلم ، ولهذا قال الله تعالى: (إن الشرك لظلم عظيم) [لقمان: 13].
وهل المراد بالشرك هنا الأكبر ، أم مطلق الشرك؟ .

قال بعض العلماء :
إنه مطلق يشمل كل شرك لو أصغر ، كالحلف بغير الله ، فإن الله لا يغفره .
أما بالنسبة لكبائر الذنوب ، كالسرقة والخمر ، فإنها تحت المشيئة ، فقد يغفرها الله .
وشيخ الإسلام ابن تيمية المحقق في هذه المسائل اختلف كلامه في هذه المسألة :
فمرة قال: الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر .
ومرة قال : الشرك الذي لا يغفره الله هو الشرك الأكبر .


وعلى كل حال فيجب الحذر من الشرك مطلقاً ، لأن العموم يحتمل أن يكون داخلاً فيه الأصغر ، لأن قوله: (أن يشرك به) أن وما بعدها في تأويل مصدر ، تقديره: إشراكاً به ، فهو نكرة في سياق النفي ، فتفيد العموم .
(ج1/114)
----
قوله: (أن نعبد الأصنام) .
والأصنام : جمع صنم ، وهو ما جعل على صورة إنسان أو غيره يعبد من دون الله .
أما الوثن : فهو ما عبد من دون الله على أي وجه كان .
وفي الحديث: "لا تجعل قبري وثناً يعبد" ، فالوثن أعم من الصنم .
(ج1/116)
----
قوله: "وفي الحديث" .
الحديث : ما أضيف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
والخبر :
ما أضيف إليه والى غيره .
والأثر :
ما أضيف إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم ، أي: إلى الصحابي فمن بعده ، إلا إذا قيد فقيل : وفي الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيكون على ما قيد به.
(ج1/117)

قوله: "الرياء" ، مشتق من الرؤية مصدر راءى يرائي ، والمصدر رياء، كقاتل يقاتل قتالاً .
والرياء :
أن يعبد الله (1)ليراه الناس فيمدحوه على كونه عابداً ،
وليس (2)يريد أن تكون العبادة للناس ، لأنه لو أراد ذلك ، لكان شركاً أكبر .
(3)وقد يكون سماعاً ، أي يقصد بعبادته أن يسمعه الناس فيثنوا عليه ، فهذا داخل في الرياء ، فالتعبير بالرياء من باب التعبير بالأغلب .
أما إن أراد بعبادته(4) أن يقتدي الناس به فيها ، فليس هذا رياء ، بل هذا من الدعوة إلى الله - عز وجل ـ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "فعلت هذا لتأتموا بي وتعلموا صلاتي".
(ج1/117)
----
والرياء ينقسم باعتبار إبطاله للعبادة إلى قسمين:
الأول: أن يكون في أصل العبادة ، أي ما قام يتعبد إلا للرياء ، فهذا عمله باطل مردود عليه لحديث أبي هريرة في "الصحيح" مرفوعاً ، قال الله تعال: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" .
الثاني: أن يكون الرياء طارئاً على العبادة ، أي أن أصل العبادة لله، لكن طرأ عليها الرياء ، فهذا ينقسم إلى قسمين :
الأول: أن يدافعه ، فهذا لا يضره . مثاله: رجل صلى ركعة ، ثم جاء أناس في الركعة الثانية ، فحصل في قلبه شيء بأن أطال الركوع أو السجود أو تباكى وما أشبه ذلك ، فإن دافعه ، فإنه لا يضره لأنه قام بالجهاد .
القسم الثاني: أن يسترسل معه ، فكل عمل ينشأ عن الرياء فهو باطل، كما لو أطال القيام ، أو الركوع ، أو السجود ، أو تباكى ، فهذا كل عمله حابط، .
ولكن هل هذا البطلان يمتد إلى جميع العبادة أم لا؟
نقول: لا يخلو هذا من حالين :
الحال الأولى: أن يكون آخر العبادة مبيناً على أولها ، بحيث لا يصح أولها مع فساد آخرها ، فهذه كلها فاسدة . وذلك مثل الصلاة ، فالصلاة مثلاً لا يمكن أن يفسد آخرها ولا يفسد أولها ، وحينئذ تبطل الصلاة كلها إذا طرأ الرياء في أثنائها ولم يدافعه .
الحال الثانية: أن يكون أول العبادة منفصلاً عن آخرها ، بحيث يصح أولها دون آخرها ، فما سبق الرياء ، فهو صحيح ، وما كان بعده ، فهو باطل. مثال ذلك: رجل عنده مئة ريال، فتصدق بخمسين بنية خالصة، ثم تصدق بخمسين بقصد الرياء، فالأولى مقبولة، والثانية غير مقبولة، لأن آخرها منفك عن أولها.
(ج1/118)

قال رحمه الله تعالى :
قوله: "يدعو من دون الله نداً"، أي: يتخذ لله نداً سواء دعاء عبادة أم دعاء مسألة ، لأن الدعاء ينقسم إلى قسمين :
الأول: دعاء عبادة ، مثاله: الصوم ، والصلاة ، وغير ذلك من العبادات ، فإذا صلى الإنسان أو صام ، فقد دعا ربه بلسان الحال أن يغفر له، وأن يجيره من عذابه ، وأن يعطيه من نواله ، وهذا في أصل الصلاة ، كما أنها تتضمن الدعاء بلسان المقال . ويدل لهذا القسم قوله تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي) [غافر: 60]، فجعل الدعاء عبادة ، وهذا القسم كله شرك ، فمن صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله ، فقد كفر كفراً مخرجاً له عن الملة ، فلو ركع لإنسان أو سجد لشيء يعظمه كتعظيم الله في هذا الركوع أو السجود، لكان مشركاً، ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم من الانحناء عن الملاقاة لما سئل عن الرجل يلقى أخاه أن يحني له؟ قال: "لا" . خلافاً لما يفعله بعض الجهال إذا سلم عليك انحنى لك ، فيجب على كل مؤمن بالله أن ينكره ، لأنه عظمك على حساب دينه .
الثاني: دعاء المسألة ، فهذا ليس كله شركاً ، بل فيه تفصيل ، :
- فإن كان المخلوق قادراً على ذلك ، فليس بشرك ، كقوله: اسقني ماء لمن يستطيع ذلك . قال صلى الله عليه وسلم: "من دعاكم فأجيبوه" ، وقال تعالى: (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) [النساء: 8]. فإذا مد الفقير يده ، وقال: ارزقني ، أي: اعطني ، فليس بشرك ، كما قال تعال: (فارزقوهم منه) .
- وأما أن دعا المخلوق بما لا يقدر عليه إلا الله، فإن دعوته شرك مخرج عن الملة. مثال ذلك : أن تدعو إنساناً أن ينزل الغيث معتقداً أنه قادر على ذلك . والمراد بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يدعو من دون لله نداً" المراد الند في العبادة ، أما الند في المسألة ، ففيه التفصيل السابق .
ومع الأسف ، ففي بعض البلاد الإسلامية من يعتقد أن فلاناً المقبور الذي بقى جثة أو أكلته الأرض ينفع أو يضر ، أو يأتي بالنسل لمن لا يولد لها ، وهذا - والعياذ بالله - شرك أكبر مخرج من الملة ، وإقرار هذا أشد من إقرار شرب الخمر والزنا واللواط ، لأنه إقرار على كفر ، وليس إقراراً على فسوق فقط.
(ج1/120)
----
وهناك من لا يبالي بالحلف بالله صادقاً أم كاذباً ، ولكن لا يحلف بقوميته إلا صادقاً ، ولهذا اختلف فيمن لا يبالي بالحلف بالله ، ولكنه لا يحلف بقوميته إلا صادقا ً، ولهذا اختلف فيمن لا يبالي بالحلف بالله، ولكن لا يحلف بملته أو بما يعظمه إلا صادقاً، فلزمته يمين ، هل يحلف بالله أو يحلف بهذا؟ فقيل:
- يحلف بالله ولو كذب ، ولا يعان على الشرك ، وهو الصحيح .
- وقيل: يحلف بغير الله ، لأن المقصود الوصول إلى بيان الحقيقة ، وهو إذا كان كاذباً لا يمكن أن يحلف .

لكن نقول : إن كان صادقاً حلف ووقع في الشرك .
(ج1/123)

بابٌ الدُعَاءُ إلى شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ

قوله: (قل هذه سبيلي) ، المشار إليه ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الشرع عبادة ودعوة إلى الله .
سبيلي: طريقي .
وقوله: (إلى الله) ، لأن الدعاة إلى الله ينقسمون إلى قسمين:
1- داع إلى الله .
2- داع إلى غيره .

- فالداعي إلى الله تعالى هو المخلص الذي يريد أن يوصل الناس إلى الله تعالى .
- والداعي إلى غيره قد يكون داعياً إلى نفسه ، يدعو إلى الحق لأجل أن يعظم بين الناس ويحترم ، ولهذا تجده يغضب إذا لم يفعل الناس ما أمر به ، ولا يغضب إذا ارتكبوا نهياً أعظم منه ، لكن لم يدع إلى تركه .
(ج1/128)
----
قوله: (على بصيرة) ، أي: علم ، فتضمنت هذه الدعوة :
1- الإخلاص .
2- والعلم .

لأن أكثر ما يفسد الدعوة :
- عدم الإخلاص .
- أو عدم العلم .


وليس المقصود بالعلم في قوله (على بصيرة) العلم بالشرع فقط، بل يشمل:
1- العلم بالشرع .
2- والعلم بحال المدعو .
3- والعلم بالسبيل الموصل إلى المقصود ، وهو الحكمة .


فيكون بصيراً :
- بحكم الشرع .
- وبصيراً بحال المدعو .
- وبصيراً بالطريق الموصلة لتحقيق الدعوة .

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب" .
(ج1/130)
----
قوله: "إنك تأتي قوماً من أهل كتاب" ، قال ذلك مرشداً له ، وهذا دليل على معرفته صلى الله عليه وسلم بأحوال الناس ، وما يعلمه من أحوالهم ، فله طريقان :
1- الوحي .
2- العلم والتجربة .

(ج1/132)
----
وأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك*، لأمرين :
الأول: أن يكون بصيراً بأحوال من يدعو .
الثاني: أن يكون مستعداً لهم، لأنهم أهل كتاب، وعندهم علم.

---
* (أي أخبر معاذ بحال أهل اليمن)
---
(ج1/132)
----
من المسائل :
المسألة الثلاثون : الحلف على الفتيا . لقوله: "فوالله لأن يهدي الله...." إلخ ، فأقسم النبي صلى الله عليه وسلم هو لم يستقسم ، والفائدة هي حثه على أن يهدي الله به والتوكيد عليه .
ولكن لا ينبغي الحلف على الفتيا إلا لمصلحة وفائدة ، لأنه قد يفهم السامع أن المفتي لم يحلف إلا لشك عنده .
والإمام أحمد رحمه الله أحياناً يقول في إجابته : إي والله ، وقد أمر الله رسوله بالحلف في ثلاثة مواضع من القرآن :
1- في قوله تعالى: (ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق) [يونس: 53] .
2- وفي قوله تعالى: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن) . [التغابن: 7] .
3- وفي قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بل وربي لتأتينكم) [سبأ: 3] .

فإذا كان في القسم :
- مصلحة ابتداءاً .
- أو جواباً لسؤال .

جاز وربما يكون مطلوباً.
(ج1/145)

بابٌ تَفْسِيرُ التَّوحيدِ وشَهَادَةِ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ

قوله: (يدعون)، أي:
1- دعاء مسألة : كمن يدعو علياً عند وقوعهم في الشدائد ، وكمن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم يقول : يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم .
2- وقد يكون دعاء عبادة : كمن يتذلل لهم بالتقرب ، والنذر ، والركوع ، والسجود .
(ج1/148)
----
قوله : (إلا الذي فطرني) : جمع بين النفي والإثبات :
1- فالنفي: (براء مما تعبدون) .
2- والإثبات: (إلا الذي فطرنى) .

فدل على أن التوحيد لا يتم إلا بالكفر بما سوى الله والإيمان بالله وحده ، (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى) ]البقرة: 256].
(ج1/150)
----
وفي قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم: (إلا الذي فطرني) ، ولم يقل إلا الله لفائدتان :
الأولى: الإشارة إلى علة إفراد الله بالعبادة ، لأنه كما أنه منفرد بالخلق فيجب أن يفرد بالعبادة .
الثانية: الإشارة إلى بطلان عبادة الأصنام ، لأنها لم تفطركم حتى تعبدوها ، ففيها تعليل للتوحيد الجامع بين النفي والإثبات ، وهذه من البلاغة التامة في تعبير إبراهيم عليه السلام .
يستفاد من الآية أن التوحيد لا يحصل بعبادة الله مع غيره ، بل لا بد من إخلاصه لله، والناس في هذا المقام ثلاثة أقسام :
1- قسم يعبد الله وحده .
2- وقسم يعبد غيره فقط .
3- وقسم يعبد الله وغيره .
والأول فقط هو الموحد .

(ج1/151)
----
والمحبة أنواع الأول :
1- المحبة لله : وهذه لا تنافي التوحيد ، بل هي من كماله ، فأوثق عرى الإيمان : الحب في الله ، والبغض في الله . والمحبة لله هي أن تحب هذا الشيء ، لأن الله يحبه ، سواء كان شخصاً أو عملاً ، وهذا من تمام التوحيد .
الثاني: المحبة الطبيعية التي لا يؤثرها المرء على محبة الله ، فهذه لا تنافي محبة الله ، كمحبة الزوجة ، والولد ، والمال ، ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم : من أحب الناس إليك ؟ قال : "عائشة" . قيل : فمن الرجال ؟ قال : "أبوها" . ومن ذلك محبة الطعام والشراب واللباس .
الثالث : المحبة مع الله التي تنافي محبة الله ، وهي أن تكون محبة غير الله كمحبة الله أو أكثر من محبة الله ، بحيث إذا تعارضت محبة الله ومحبة غيره قدم محبة غير الله ، وذلك إذا جعل هذه المحبة نداً لمحبة الله يقدمها على محبة الله أو يساويها بها .
(ج1/156)

قوله: "فيه أكبر المسائل وأهمها، وهي تفسير التوحيد". فتفسير التوحيد أنه لا بد فه من أمرين :
الأول: نفى الألوهية عما سوى الله- عز وجل - .
الثاني: إثبات الألوهية لله وحده .

فلا بد من النفي والإثبات لتحقيق التوحيد ، لأن التوحيد جعل الشيء واحداً بالعقيدة والعمل ، وهذا لا بد فيه من النفي والإثبات .
فإذا قلت : زيد قائم ، أثبت له القيام ولم توحده ، لكن إذا قلت : لا قائم إلا زيد ، أثبت له القيام ووحدته به .
وإذا قلت : الله إله أثبت له الألوهية ، لكن لم تنفها عن غيره ، فالتوحيد لم يتم ، وإذا قلت : لا إله إلا الله ، أثبت الألوهية لله ونفيتها عما سواه .

(ج1/158)
----
ودعاء المخلوق ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : جائز ، وهو أن تدعو مخلوقاً بأمر من الأمور التي يمكن أن يدركها بأشياء محسوسة معلومة ، فهذا ليس من دعاء العبادة ، بل هو من الأمور الجائزة ، قال صلى الله عليه وسلم: "وإذا دعاك فأجبه" .
الثاني : أن تدعو مخلوقاً مطلقاً ، سواء كان حياً أو ميتاً فيما لا يقدر عليه إلا الله ، فهذا شرك أكبر لأنك جعلته ندأ لله فيما لا يقدر عليه إلا الله ، مثل: يا فلان! اجعل ما في بطن امرأتي ذكراً .
الثالث : أن تدعو مخلوقاً ميتاً لا يجيب بالوسائل الحسية المعلومة ، فهذا شرك أكبر أيضاً لأنه لا يدعو من كان هذه حالة حتى يعتقد أن له تصرفاً خفياً في الكون .
(ج1/159)
---
قال المؤلف : "فكيف بمن أحب الند أكبر من حسب الله ؟! وكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله ؟!".
فالأقسام الأربعة :

الأول : أن يحب الله حباً أشد من غيره ، فهذا هو التوحيد .
الثاني : أن يحب غير الله كمحبة الله ، وهذا شرك .
الثالث : أن يحب غير الله أشد حباً من الله ، وهذا أعظم مما قبله .
الرابع: أن يحب غير الله وليس في قلبه محبة لله تعالى ، وهذا أعظم وأطم .
(ج1/162)

بابٌ من الشركِ لُبْسُ الحَلْقَةِ والخَيطِ ونَحْوِهِما لرَفْعِ البَلاءِ أَو دَفْعِهِ
ولبس هذه الأشياء :
- قد يكون أصغر .
- وقد يكون أكبر .

بحسب اعتقاد لابسها ، وكان لبس هذه الأشياء من الشرك ، لأن كل من أثبت سبباً لم يجعله الله سبباً شرعياً ولا قدرياً ، فقد جعل نفسه شريكاً مع الله .(ج1/164)
----
والناس في الأسباب طرفان ووسط :
الأول : من ينكر الأسباب ، وهم كل من قال بنفي حكمة الله ، كالجبرية ، والأشعرية .
الثاني : من يغلو في إثبات الأسباب حتى يجعلوا ما ليس بسبب سبباً ، وهؤلاء هم عامة الخرافيين من الصوفية ونحوهم .
الثالثة : من يؤمن بالأسباب وتأثيراتها ، ولكنهم لا يثبتون من الأسباب إلا ما أثبته الله سبحانه ورسوله ، سواء كان سبباً شرعياً أو كونياً .
ولا شك أن هؤلاء هم الذين آمنوا بالله إيماناً حقيقياً ، وآمنوا بحكمته ، حيث ربطوا الأسباب بمسبباتها ، والعلل بمعلولاتها ، وهذا من تمام الحكمة .
(ج1/164)
----
ولبس الحلقة ونحوها :
1- إن اعتقد لابسها أنها مؤثرة بنفسها دون الله ، فهو مشرك شركاً أكبر في توحيد الربوبية ، لأنه اعتقد أن مع الله خالقاً غيره .
2- وإن اعتقد أنها سبب ، ولكنه ليس مؤثراً بنفسه ، فهو مشرك شركاً أصغر لأنه لما اعتقد أن ما ليس بسب سبباً فقد شارك الله تعالى في الحكم لهذا الشيء بأنه سبب ، والله تعالى لم يجعله سبباً .
(ج1/165)
----
وطريق العلم بأن الشيء سبب :
1- إما عن طريق الشرع ، وذلك كالعسل (فيه شفاء للناس) [النحل: 69] ، وكقراءة القرآن فيها شفاء للناس ، قال الله تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) [الإسراء: 82] .
2- وإما عن طريق القدر ، كما إذا جربنا هذا الشيء فوجدناه نافعاً في هذا الألم أو المرض ، ولكن لا بد أن يكون أثره ظاهراً مباشراً ، كما لو اكتوى بالنار فبرئ بذلك مثلاً ، فهذا سبب ظاهر بين .
(ج1/165)
---
قوله: "لرفع البلاء ، أو دفعه" ، الفرق بينهما :
1- أن الرفع بعد نزول البلاء .
2- والدفع قبل نزول البلاء .

وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب لا ينكر السبب الصحيح للرفع أو الدفع، وإنما ينكر السبب غير الصحيح.
(ج1/166)
---
والمعنى أن المتوكل حقيقة هو المتوكل على الله ، أما الذي يتوكل على الأصنام والأولياء والأضرحة ، فليس بمتوكل على الله تعالى .
وهذا لا ينافي أن يوكل الإنسان إنساناً في شيء ويعتمد عليه ، لأن هناك فرقاً بين :
- التوكل على الإنسان الذي يفعل لك شيئاً بأمرك .
- وبين توكلك على الله ، لأن توكلك على الله اعتقادك أن بيده النفع والضر ، وأنك متذلل ، معتمد عليه ، مفتقر إليه ، مفوض أمرك إليه .
(ج1/167)
---
فيه مسائل :
الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة . هذا فيه نظر ، لأنه قوله صلى الله عليه وسلم: "لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً" ليس بصريح أنه لو مات قبل العلم ، بل ظاهره : "لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً"، أي : بعد أن علمت وأمرت بنزعها .
وهذه المسألة تحتاج إلى تفصيل، فنقول :
الجهل نوعان :
1- جهل يعذر فيه الإنسان .
2- وجهل لا يعذر فيه .

- فما كان ناشئاً عن تفريط وإهمال مع قيام المقتضي للتعلم ، فإنه لا يعذر فيه ، سواء في الكفر أو في المعاصي .
- وما كان ناشئاً عن خلاف ذلك ، أي أنه لم يهمل ولم يفرط ولم يقم المقتضي للتعلم بأن كان لم يطرأ على باله أن هذا الشيء حرام فإنه يعذر فيه فإن كان منتسباً إلى الإسلام ، لم يضره ، وإن كان منتسباً إلى الكفر ، فهو كافر في الدنيا ، لكن في الآخرة أمره إلى الله على القول الراجح ، يمتحن ، فإن أطاع دخل الجنة ، وإن عصى دخل النار .
فعلى هذا من نشأ ببادية بعيد ليس عنده علماء ولم يخطر ببالة أن هذا الشيء حرام ، أو أن هذا الشيء واجب ، فهذا يعذر ، وله أمثلة(ثم ذكرها رحمه الله ).
(ج1/174)

بابٌ مَا جَاءَ في الرُّقَى والتَّمَائِمِ

قوله: "أسفاره" ، السفر : مفارقة محل الإقامة ، وسمي سفراً ، لأمرين :
الأول : حسي ، وهو أنه يسفر ويظهر عن بلده لخروجه من البنيان .
الثاني : معنوي ، وهي أن يسفر عن أخلاق الرجال ، أي : يكشف عنها وكثير من الناس لا تعرف أخلاقهم وعاداتهم وطبائعهم إلا بالأسفار .
(ج1/178)
----
قوله: "التولة" ، شيء يعلقونه على الزوج ، يزعمون أنه يحبب الزوجة إلى زوجها والزوج إلى امرأته ، وهذا شرك ، لأنه ليس بسبب شرعي ولا قدري للمحب .
ومثل ذلك الدبلة ، والدبلة : خاتم يشترى عند الزواج يوضع في يد الزوج ، وإذا ألقاه الزوج ، قالت المرأة : إنه لا يحبها ، فهم يعتقدون فيه النفع والضرر ، ويقولون : إنه ما دام في يد الزوج ، فإنه يعني أن العلاقة بينهما ثابتة ، والعكس بالعكس .
1- فإذا وجدت هذه النية ، فإنه من الشرك الأصغر .
2- وإن لم توجد هذه النية - وهي بعيدة ألا تصحبها ـ ، ففيه تشبه بالنصارى ، فإنها مأخوذة منهم .
3- وإن كانت من الذهب ، فهي بالنسبة للرجل فيها محذور ثالث ، وهو لبس الذهب .

فهي :
- إما من الشرك .
- أو مضاهاة النصارى .
- أو تحريم النوع إن كانت للرجال .
- فإن خلت من ذلك ، فهي جائزة لأنها خاتم من الخواتم .

(ج1/182)
----
وقوله: "شرك**" ، هل هي شرك أصغر أو أكبر ؟ نقول : بحسب ما يريد الإنسان منها :
1- إن اتخذها معتقداً أن المسبب للمحبة هو الله ، فهي شرك أصغر .
2- وإن اعتقد أنها تفعل بنفسها ، فهي شرك أكبر .

(ج1/182)
**"شرك" : أي التولة .
-----
قوله : "وكل إليه"، أي : أسند إليه ، وفوض .
أقسام التعلق بغير الله :
الأول : ما ينافي التوحيد من أصله ، وهو أن يتعلق بشيء لا يمكن أن يمكن أن يكون له تأثير ، ويعتمد عليه اعتماداً معرضاً عن الله ، مثل تعلق عباد القبور بمن فيها عند حلول المصائب ، ولهذا إذا مستهم الضراء الشديدة يقولون : يا فلان! أنقذنا ، فهذا لا شك أنه شرك أكبر مخرج من الملة .
الثاني : ما ينافي كمال التوحيد ، وهو أن يعتمد على سبب شرعي صحيح مع الغفلة عن المسبب ، وهو الله - عز وجل - ، وعدم صرف قلبه إليه ، فهذا نوع من الشرك ، ولا نقول شرك أكبر ، لأن هذا السبب جعله الله سبباً .
الثالث : أن يتعلق بالسبب تعلقاً مجرداً لكونه سبباً فقط ، مع اعتماده الأصلي على الله ، فيعتقد أن هذا السبب من الله ، وأن الله لو شاء لأبطل أثره ، ولو شاء لأبقاه ، وأنه لا أثر للسبب إلا بمشيئة الله - عز وجل ـ ، فهذا لا ينافي التوحيد لا كمالاً ولا أصلاً ، وعلى هذا لا إثم فيه .

ومع وجود الأسباب الشرعية الصحيحة ينبغي للإنسان أن لا يعلق نفسه بالسبب ، بل يعلقها بالله .
فالموظف :
- الذي يتعلق قلبه بمرتبه تعلقاً كاملاً ، مع الغفلة عن المسبب ، وهو الله ، قد وقع في نوع من الشرك .
- أما إذا اعتقد ان المرتب سبب ، والمسبب هو الله - سبحانه وتعالى - ، وجعل الاعتماد على الله ، وهو يشعر أن المرتب سبب ، فهذا لا ينافي التوكل . وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ بالأسباب مع اعتماده على المسبب ، وهو الله- عز وجل -.
(ج1/184)

شروط جواز الرقية:
الأول : أن لا يعتقد أنها تنفع بذاتها دون الله ، فإن اعتقد أنها تنفع بذاتها من دون الله ، فهو محرم ، بل شرك ، بل يعتقد أنها سبب لا تنفع إلا بإذن الله .
الثاني : أن لا تكون مما يخالف الشرع ، كما إذا كانت متضمنة دعاء غير الله ، أو استغاثة بالجن ، وما أشبه ذلك ، فإنها محرمة ، بل شرك .
الثالث : أن تكون مفهومة معلومة ، فإن كانت من جنس الطلاسم والشعوذة ، فإنها لا تجوز .

أما بالنسبة للتمائم ، فإن كانت من أمر محرم ، أو اعتقد أنها نافعة لذاتها ، أو كانت بكتابة لا تفهم ، فإنها لا تجوز بكل حال .
وإن تمت فيها الشروط الثلاثة السابقة في الرقية ، فإن أهل العلم اختلفوا فيها كما سبق .
(ج1/187)

بابٌ مَنْ تَبَرَّكَ بِشَجَرٍ أو حَجَرٍ ونَحْوِهِمَا

قوله : "تبرك" ، تفعل من البركة ، والبركة : هي كثرة الخير وثبوته ، وهي مأخوذة من البركة بالكسر ، والبركة : مجمع الماء ، ومجمع الماء يتميز عن مجرى الماء بأمرين :
1- الكثرة .
2- الثبوت .

والتبرك طلب البركة ، وطلب البركة لا يخلو من أمرين :
1- أن يكون التبرك بأمر شرعي معلوم ، مثل القرآن ، قال تعالى : (كتاب أنزلناه إليك مباركاً) [ص: 29]، فمن بركته أن من أخذ به حصل له الفتح ، فأنقذ الله بذلك أمماً كثيرة من الشرك ، ومن بركته أن الحرف الواحد بعشر حسنات ، وهذا يوفر للإنسان الوقت والجهد ، إلى غير ذلك من بركاته الكثيرة .
2- أن يكون بأمر حسي معلوم ، مثل : التعليم ، والدعاء ، ونحوه ، فهذا الرجل يتبرك بعمله ودعوته إلى الخير ، فيكون هذا بركة لأننا نلنا منه خيراً كثيراً.
وقال أسيد بن حضير : "ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر" ، فإن الله يجري على بعض الناس من أمور الخير ما لا يجريه على يد الآخر .
(ج1/194)
----
قوله : (اللات) ، تقرأ بتشديد التاء وتخفيفها ، والتشديد قراءة ابن عباس ، فعلى قراءة التشديد تكون اسم فاعل من اللت ، وكان هذا الصنم أصله رجل يلت السويق للحجاج ، أي: يجعل فيه السمن، ويطعمه الحجاج ، فلما مات عكفوا على قبره وجعلوه صنماً . وأما على قراءة التخفيف ، فإن اللات مشتقة من الله ، أو من الإله ، فهم اشتقوا من أسماء الله اسماً لهذا الصنم ، وسموه اللات ، وهي لأهل الطائف ومن حولهم من العرب .
وقوله : (العزى) ، مؤنث أعز ، وهو صنم يعبده قريش وبنو كنانة مشتق من اسم الله العزيز كان بنخلة بين مكة والطائف .
قوله : (ومناة) ، قيل : مشتقة من المنان ، وقيل : من منى ، لكثرة ما يمنى عنده من الدماء بمعنى يراق، ومنه سميت منى ، لكثرة ما يراق فيها من الدماء . وكان هذا الصنم بين مكة والمدينة لهذيل وخزاعة ، وكان الأوس والخزرج يعظمونها ويهلون منها للحج .
(ج1/197)
----
فيه مسائل :
الحادية عشرة : أن الشرك فيه أصغر وأكبر ، لأنهم لم يرتدوا بهذا ، حيث لم يطلبوا جعل ذات الأنواط لعبادتها ، بل للتبرك بها ، والشرك فيه أصغر وأكبر ، وفيه خفي وجلي .
فالشرك الأكبر : ما يخرج الإنسان من الله .
والشرك الأصغر : ما دون ذلك .

لكن كلمة (ما دون ذلك ) ليس ميزاناً واضحاً . ولذلك اختلف العلماء في ضابط الشرك الأصغر على قولين :
القول الأول : أن الشرك الأصغر كل شيء أطلق الشارع عليه أنه شرك ودلت النصوص على أنه ليس من الأكبر ، مثل: "من حلف بغير الله، فقد أشرك" ، فالشرك هنا اصغر ، لأنه دلت النصوص على أن مجرد الحلف بغير الله لا يخرج من الملة .
القول الثاني: أن الشرك الأصغر : ما كان وسيلة للأكبر ، وإن لم يطلق الشرع عليه اسم الشرك ، مثل : أن يعتمد الإنسان شيء كاعتماده على الله ، لكنه لم يتخذه إلهاً ، فهذا شرك أصغر ، لأن هذا الاعتماد الذي يكون كاعتماده على الله يؤدي به في النهاية إلى الشرك الأكبر ، وهذا التعريف أوسع من الأول ، لأن الأول يمنع أن تطلق على شيء أنه شرك إلا إذا كان لديك دليل ، والثاني يجعل كل ما كان وسيلة للشرك فهو شرك .
(ج1/206)
----
من المسائل :
الرابعة عشرة : سد الذرائع ، الذرائع : الطرق الموصلة إلى الشيء ، وذرائع الشيء : وسائله وطرقه .
والذرائع نوعان :
أ- ذرائع إلى أمور مطلوبة ، فهذه لا تسد ، بل تفتح وتطلب .
ب- ذرائع إلى أمور مذمومة ، فهذه تسد ، وهو مراد المؤلف رحمه الله تعالى .
وذات الأنواط وسيلة إلى الشرك الأكبر ، فإذا وضعوا عليها أسلحتهم وتبركوا بها ، يتدرج بهم الشيطان إلى عبادتها وسؤالهم حوائجهم منها مباشرة ، فلهذا سد النبي صلى الله عليه وسلم الذرائع .
(ج1/209)

بابٌ مَا جَاءَ فِي الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللهِ


قوله : "في الذبح" ، أي : ذبح البهائم . قوله : "لغير الله" ، اللام للتعليل ، والقصد : أي قاصداً بذبحه غير الله .
والذبح لغير الله ينقسم إلى قسمين :
1- أن يذبح لغير الله تقرباً وتعظيماً ، فهذا شرك أكبر مخرج عن الملة .
2- أن يذبح لغير الله فرحاً وإكراماً ، فهذا لا يخرج من الملة ، بل هو من الأمور العادية التي قد تكون مطلوبة أحياناً وغير مطلوبة أحياناً ، فالأصل أنها مباحة .
ومراد المؤلف هنا القسم الأول .
فلو قدم السلطان إلى بلد ، فذبحنا له ، فإن كان تقرباً وتعظيماً ، فإنه شرك أكبر ، وتحرم هذه الذبائح ، وعلامة ذلك : أننا نذبحها في وجهه ثم ندعها . أما لو ذبحنا له إكراماً وضيافة ، وطبخت ، وأكلت ، فهذا من باب الإكرام ، وليس بشرك .
(ج1/214)
----
فيه مسائل :
الرابعة : لعن من لعن والديه .
ولعن الرجل للرجل له معنيان :

الأول : الدعاء عليه باللعن .
الثاني : سبه وشتمه ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فسره بقوله : "بسبب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه" .

(ج1/225)
----
السابعة : الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم :
فالأول : ممنوع .
والثاني : جائز .

فإذا رأيت من آوى محدثاً ، فلا تقل : لعنك الله ، بل قل : لعن الله من آوى محدثاً على سبيل العموم ، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صار يلعن أناساً من المشركين من أهل الجاهلية بقولك: "اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً" نهي عن ذلك بقوله تعالى : (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) [آل عمران: 128] .
فالمعين ليس لك أن تلعنه ، وكم من إنسان صار على وصف يستحق به اللعنة ثم تاب فتاب الله عليه ، إذن يؤخذ هذا من دليل منفصل .

وكأن المؤلف رحمه الله قال : الأصل عدم جواز إطلاق اللعن ، فجاء هذا الحديث لاعناً للعموم ، فيبقى الخصوص على أصله ، لأن المسلم ليس بالطعان ولا باللعان ، والرسول صلى الله عليه وسلم ليس طعاناً ولا لعاناً ، ولعل هذا وجه أخذ الحكم من الحديث ، وإلا ؛ فالحديث لا تفريق فيه .
(ج1/226)
----
العاشرة : معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين.. إلخ ، وقد بينها المؤلف رحمه الله تعالى.
مسألة : هل الأولى للإنسان إذا أكره على الكفر أن يصبر ولو قتل ، أو يوافق ظاهراً ويتأول ؟.
هذه المسألة فيها تفصيل :

أولاً : أن يوافق ظاهراً وباطناً ، وهذا لا يجوز لأنه ردة .
ثانياً : أن يوافق ظاهراً لا باطناً ، ولكن يقصد التخلص من الإكراه ، فهذا جائز .
ثالثاً : أن لا يوافق لا ظاهراً ولا باطناً ويقتل ، وهذا جائز ، وهو من الصبر .

لكن أيهما أولى أن يصبر ولو قتل ، أو أن يوافق ظاهراً ؟ .
فيه تفصيل :
1- إذا كان موافقة الإكراه لا يترتب عليه ضرر في الدين للعامة ، فإن الأولى أن يوافق ظاهراً لا باطناً ، لا سيما إذا كان بقاؤه فيه مصلحة للناس ، مثل : صاحب المال الباذل فيما نفع أو العلم النافع وما أشبه ذلك ، حتى وإن لم يكن فيه مصلحة ، ففي بقائه على الإسلام زيادة عمل ، وهو خير ، وهو قد رخص له أن يكفر ظاهراً عند الإكراه ، فالأولى أن يتأول ، ويوافق ظاهراً لا باطناً .
2- أما إذا كان في موافقته وعدم صبره ضرر على الإسلام ، فإنه يصبر ، وقد يجب الصبر ، لأنه من باب الصبر على الجهاد في سبيل الله ، وليس من باب إبقاء النفس ، ولهذا لما شكى الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم ما يجدونه من مضايقة المشركين ، قص عليهم قصة الرجل فيمن كان قبلنا بأن الإنسان كان يمشط ما بين لحمه وجلده بأمشاط الحديد ويصبر ، فكأنه يقول لهم : اصبروا على الأذى . ولو حصل من الصحابة رضي الله عنهم في ذلك الوقت موافقة للمشركين وهم قلة ، لحصل بذلك ضرر عظيم على الإسلام .
والإمام أحمد رحمه الله في المحنة المشهورة لو وافقهم ظاهراً ، لحصل في ذلك مضرة على الإسلام .
(ج1/229)

بابٌ لا يُذْبَحُ لله بمَكانٍ يُذْبَحُ فيهِ لغَيْرِ الله

أقسام النذر :
الأول : ما يجب الوفاء به ، وهو نذر الطاعة ، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله، فليطعه" .
الثاني : ما يحرم الوفاء به ، وهو نذر المعصية ، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" ، وقوله: "فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله" .
الثالث : ما يجري مجرى اليمين ، وهو نذر المباح ، فيخير بين فعله وكفارة اليمين ، مثل لو نذر أن يلبس هذا الثوب ، فإن شاء لبسه وإن شاء لم يلبسه ، وكفّر كفارة يمين .
الرابع : نذر اللجاج والغضب ، وسمّي بهذا الاسم ، لأن اللجاج والغضب يحملان عليه غالباً ، وليس بلازم أن يكون هناك لجاج وغضب ، وهو الذي يقصد به معنى اليمين ، الحث ، أو المنع ، أو التصديق ، أو التكذيب .
مثل لو قال : حصل اليوم كذا وكذا ، فقال الآخر : لم يحصل ، فقال : إن كان حاصلاً ، فعلي لله نذر أن أصوم سنة ، فالغرض من هذا النذر التكذيب ، فإذا تبين أنه حاصل ، فالناذر مخير بين أن يصوم سنة ، وبين أن يكفر كفارة يمين ، لأنه إن صام فقد وفى بنذره ، وإن لم يصف حنث ، والحانث في اليمين يكفر كفارة يمين .
الخامس : نذر المكروه ، فيكره الوفاء به ، وعليه كفارة يمين .
السادس : النذر المطلق ، وهو الذي ذكر فيه صيغة النذر ، مثل أن يقول : لله علي نذر ، فهذا كفارته كفارة يمين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين " .
(ج1/237 - 238 )
-----
وقوله "ولا فيما لا يملك ابن آدم" الذي لا يملكه ابن آدم يحتمل معنيين :
الأول: ما لا يملك فعله شرعاً ، كما لو قال: لله على أن أعتق عبد فلان، فلا يصح لأنه لا يملك إعتاقه .
الثاني: ما لا يملك فعله قدراً كما لو قال: لله عليّ نذر أن أطير بيدي فهذا لا يصح لأنه لا يملكه والفقهاء رحمهم الله يمثلون بمثل هذا للمستحيل .
(ج1/240 )
----
فيه مسائل :
الخامسة : أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع ، لقوله: "أوف بنذرك"، وسواء كانت هذه الموانع واقعة أو متوقعة :
- فالواقعة: أن يكون فيها وثن أو عيد من أعياد الجاهلية.
- والمتوقعة: أن يخشى من الذبح في هذا المكان تعظيمه، فإذا خشي، كان ممنوعاً، مثل: لو أراد أن يذبح عند جبل، فالأصل أنه جائز، لكن لو خشي أن العوام يعتقدون أن في هذا المكان مزية، كان ممنوعاً .
( ج1 /242 )
----

بابٌ من الشِّرْكِ النَّذْرُ لِغَيْرِ الله

النذر لغير الله :
مثل أن يقول : لفلان علي نذر ، أو لهذا القبر علي نذر ، أو لجبريل علي نذر ، يريد بذلك التقرب إليهم ، وما أشبه ذلك .

والفرق بينه وبين نذر المعصية :
- أن النذر لغير الله ليس لله أصلاً .
- ونذر المعصية لله ، ولكنه على معصية من معاصيه ، مثل أن يقول : لله على نذر أن أفعل كذا وكذا من معاصي الله ، فيكون النذر والمنذور معصية .

ونظير هذا الحلف بالله على شيء محرم ، والحلف بغير الله :
- فالحلف بغير الله مثل : والنبي ، لأفعلن كذا وكذا ، ونظيره النذر لغير الله .
- والحلف بالله على محرم ، مثل: والله ، لأسرقن ، ونظيره نذر المعصية .


وحكم النذر لغير الله : شرك ، لأنه عبادة للمنذور له ، وإذا كان عبادة ، فقد صرفها لغير الله ، فيكون مشركاً .
وهذا النذر لغير الله لا ينعقد إطلاقاً ، ولا تجب فيه كفارة ، بل هو شرك تجب التوبة منه ، كالحلف بغير الله فلا ينعقد وليس فيه كفارة .

وأما نذر المعصية ، فينعقد ، لكن لا يجوز الوفاء به ، وعليه كفارة يمين ، كالحلف بالله على المحرم ينعقد ، وفيه كفارة .
(ج1/245)
----
قوله : "ومن نذر أن يعصي الله ، فلا يعصه" ، لا : ناهية ، والنهي بحسب المعصية ، فإن كانت المعصية حراماً ، فالوفاء بالنذر حرام ، وإن كانت المعصية مكروهة ، فالوفاء بالنذر مكروه ، لأن المعصية الوقوع فيما نهي عنه .
والمنهي عنه ينقسم عند أهل العلم إلى قسمين :
- منهي عنه نهي تحريم .
- ومنهي عنه نهي تنزيه .

(ج1/248)

بابٌ من الشِّركِ الاستِعَاذَةُ بِغَيْرِ الله

المتن :" وقول الله تعالى: (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً) [الجن: 6].
قوله: (يعوذون) ، الجملة خبر كان ، ويقال : عاذ به ولاذ به .
- فالعياذ مما يخاف .
- واللياذ فيما يؤمل .

وعليه قول الشاعر يخاطب ممدوحة ، ولا يصلح ما قاله إلا لله :
يا من ألوذ بـه فيمــا أأملــه *** ومن أعـوذ بـه ممـا أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره*** ولا يهيضون عظماً أنت جابره
(ج1/250)
----
المتن :" وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من نزل منزلاً، فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك" رواه مسلم .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
قوله: "التامات" ، تمام الكلام بأمرين :
1- الصدق في الأخبار .
2- العدل في الأحكام .

قال الله تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً) [الأنعام: 115].
(ج1/253)
----
قوله: "من شر ما خلق"، أي : من شر الذي خلق ، لأن الله خلق كل شيء : الخير والشر ، ولكن الشر لا ينسب إليه ، لأنه خلق الشر لحكمة ، فعاد بهذه الحكمة خيرا ً، فكان خيراً .
وليس كل ما خلق الله فيه شر ، لكن تستعيذ من شره إن كان فيه شر .

لأن مخلوقات الله تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي :
1- شر محض ، كالنار وإبليس باعتبار ذاتيهما ، أما باعتبار الحكمة التي خلقهما الله من أجلها ، فهي خير .
2- خير محض ، كالجنة ، والرسل ، والملائكة .
3- فيه شر وخير ، كالإنس ، والجن ، والحيوان .
وأنت إنما تستعيذ من شر ما فيه شر .
(ج1/253 - 254)
----
وفي الحديث: "أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" ، وهنا استعاذ بعزة الله وقدرته ، ولم يستعذ بالله ، والعزة والقدرة من صفات الله ، وهي ليست مخلوقة .
ولهذا يجوز القسم بالله وبصفاته ، لأنها غير مخلوقة .
أما القسم بالآيات :
- فإن أراد الآيات الشرعية ، فجائز .
- وإن أراد الآيات الكونية ، فغير جائز .
(ج1/255)
----
أما الاستعاذة بالمخلوق ، ففيها تفصيل :
- فإن كان المخلوق لا يقدر عليه ، فهي من الشرك ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا يجوز الاستعاذة بالمخلوق عند أحد من الأئمة" ، وهذا ليس على إطلاقه ، بل مرادهم مما لا يقدر عليه إلا الله ، لأنه لا يعصمك من الشر الذي لا يقدر عليه إلا الله ، سوى الله .
ومن ذلك أيضاً الاستعاذة بأصحاب القبور ، فإنهم لا ينفعون ولا يضرون ، فالاستعاذة بهم شرك أكبر ، سواء كان عند قبورهم أم بعيداً عنهم .
أما الاستعاذة بمخلوق فيما يقدر عليه ، فهي جائزة ، وقد أشار إلى ذلك الشارح الشيخ سليمان في "تيسير العزيز الحميد"، وهو مقتضى الأحاديث الواردة في "صحيح مسلم" :
- لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفتن ، قال: "فمن وجد من ذلك ملجأ، فليعذ به" .
- وكذلك قصة المرأة التي عاذت بأم سلمة .
- والغلام الذي عاذ بالنبي صلى الله عليه وسلم .
- وكذلك في قصة الذين يستعيذون بالحرم والكعبة ، وما أشبه ذلك.
وهذا هو مقتضى النظر ، فإذا اعترضني قطاع طريق ، فعذت بإنسان يستطيع أن يخلصني منهم ، فلا شيء فيه .
لكن تعليق القلب بالمخلوق لا شك أنه من الشرك ، فإذا علقت قلبك ورجاءك وخوفك وجميع أمورك بشخص معين ، وجعلته ملجأ ، فهذا شرك ، لأن هذا لا يكون إلا لله . (ج1/255)

بابٌ مِنَ الشِّركِ أنْ يَسْتَغِيثَ بغَيرِ اللهِ أوْ يدْعُو غَيْرَهُ

قوله : "من الشرك" ، من : للتبعيض ، فيدل على أن الشرك ليس مختصاً بهذا الأمر .
والاستغاثة : طلب الغوث ، وهو إزالة الشدة .
وكلام المؤلف رحمه الله ليس على إطلاقه :
1- بل يقيد بما لا يقدر عليه المستغاث به ، إما لكونه ميتاً ، أو غائباً ، أو يكون الشيء مما لا يقدر على إزالته إلا الله تعالى ، فلو استغاث بميت ليدافع عنه أو بغائب أو بحي حاضر لينزل المطر فهذا كله من الشرك .
2- ولو استغاث بحي حاضر فيما يقدر عليه كان جائزاً ، قال الله تعالى: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) [القصص: 15] .
وإذا طلبت من أحد الغوث وهو قادر عليه ، فإنه يجب عليك تصحيحاً لتوحيدك أن تعتقد أنه مجرد سبب ، وأنه لا تأثير له بذاته في إزالة الشدة ، لأنك ربما تعتمد عليه وتنسى خالق السبب ، وهذا قادح في كمال التوحيد .
(ج1/260)
----
قوله : "أو يدعو غيره" ، معطوف على قوله : "أن يستغيث"، فيكون المعنى : من الشرك أن يدعو غير الله ، وذلك لأن الدعاء من العبادة ، قال الله تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) [غافر: 60] ، (عبادتي) ، أي : دعائي ، فسمى الله الدعاء عبادة . وقال صلى الله عليه وسلم : "إن الدعاء هو العبادة" .
والدعاء ينقسم إلى قسمين :
1- ما يقع عبادة ، وهذا صرفه لغير الله شرك ، وهو المقرون بالرهبة والرغبة ، والحب ، والتضرع .
2- ما لا يقع عبادة ، فهذا يجوز أن يوجه إلى المخلوق ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من دعاكم فأجيبوه" ، وقال : "إذا دعاك فأجبه" ، وعلى هذا ، فمراد المؤلف بقوله "أو يدعو غيره" دعاء العبادة أو دعاء المسألة فيما لا يمكن للمسؤول إجابته .
(ج1/261)
----
وقوله : (ولا تدع من دون الله) ، الدعاء : طلب ما ينفع ، أو طلب دفع ما يضر .
وهو نوعان كما قال أهل العلم :
الأول : دعاء عبادة وهو أن يكون قائماً بأمر الله ، لأن القائم بأمر الله - كالمصلي ، والصائم ، والمزكي - يريد بذلك الثواب والنجاة من العقاب ، ففعله متضمن للدعاء بلسان الحال ، وقد يصحب فعله هذا دعاء بلسان المقال .
الثاني : دعاء مسألة ، وهو طلب ما ينفع ، أو طلب دفع ما يضره .
فالأول لا يجوز صرفه لغير الله ، والثاني فيه تفصيل سبق .
(ج1/262)
----
قوله : (واشكروا له) والشكر فسروه بأنه : القيام بطاعة المنعم .
وقالوا : إنه يكون في ثلاثة مواضع :
1- في القلب ، وهو أن يعترف بقلبه أن هذه النعمة من الله ، فيرى لله فضلاً عليه بها، قال تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله) [النحل: 53]،
2- اللسان ، وهو أن يتحدث بها على وجه الثناء على الله والاعتراف وعدم الجحود ، لا على سبيل الفخر والخيلاء والترفع على عباد الله ، فيتحدث بالغنى لا ليكسر خاطر الفقير، بل لأجل الثناء على الله، وهذا جائز .
3- الجوارح ، وهو أن يستعملها بطاعة المنعم ، وعلى حسب ما يختص بهذه النعمة . فمثلاً: شكر الله على نعمة العلم : أن تعمل به ، وتعلمه الناس . وشكر الله على نعمة المال : أن تصرفه بطاعة الله ، وتنفع الناس به .
(ج1/268)
----

بابٌ قولُ اللهِ تعالى: (أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصراً) الآية .


قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
فبين الله عجز هذه الأصنام ، أنها لا تصلح أن تكون معبودة من أربعة وجوه ، هي :
1- أنها لا تخلق ، ومن لا يخلق لا يستحق أن يعبد .
2- أنهم مخلوقون من العدم ، فهم مفتقرون إلى غيرهم ابتداءً ودواماً .

3- أنهم لا يستطيعون نصر الداعين لهم ، وقوله: (لا يستطيعون) أبلغ من قوله: "لا ينصرونهم"، لأنه لو قال: "لا ينصرونهم"، فقد يقول قائل: لكنهم يستطيعون ، لكن لما قال: (لا يستطيعون لهم نصراً) كان أبلغ لظهور عجزهم .
4- أنهم لا يستطيعون نصر أنفسهم .
(ج1/ 285 )

---
وقوله : (من قطمير) ، القطمير : سلب نواة التمرة .
وفي النواة ثلاثة أشياء ذكرها الله في القرآن لبيان حقارة الشيء :
1- القطمير : وهو اللفافة الرقيقة التي على النواة .
2- الفتيل : وهو سلك يكون في الشق الذي في النواة . 3- النقير : وهي النقرة التي تكون على ظهر النواة .
(ج1/285)
----

باب قول الله تعالى: (حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير) [سبأ: 23]


قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
قوله تعالى : (وهو العلي الكبير) ، أي : العلي في ذاته وصفاته ، والكبير : ذو الكبرياء وهي العظمة التي لا يدانيها شيء ، أي العظيم الذي لا أعظم منه .
والعلو قسمان :
الأول : علو الصفات ، وقد أجمع عليه كل من ينتسب للإسلام حتى الجهمية ونحوهم .
الثانية : علو الذات ، وقد أنكره كثير من المنتسبين للإسلام مثل الجهمية وبعض الأشاعرة غير المحققين منهم ، فإن المحققين منهم أثبتوا علو الذات .
وعلوه لا ينافي كونه مع الخلق يعلمهم ويسمعهم ويراهم ، لأنه ليس كمثله شيء في جميع صفاته .
(ج1/308)
----
الفرق بين الجهمية والأشاعرة في كلام الله عز وجل :
الجهمية يقولون : القرآن مخلوق وهو كلام الله .
الأشاعرة يقولون : القرآن مخلوق وهو عبارة عن كلام الله .

(ج1/309)
----
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :

1- وأما تفسير الصحابي ، فإنه حجة عند أكثر المفسرين .2- وأما التابعين ، فإن أكثر العلماء يقول :إنه ليس بحجة إلا من اختص منهم بشيء ، كمجاهد ، فإنه عرض المصحف على ابن عباس عشرين مرة أو أكثر ، يقف عند كل آية ويسأله عن معناها .
3- وأما من بعد التابعين ، فليس تفسيره حجة على غيره ، لكن إن أيده سياق القرآن كان العمدة سياق القرآن .
فلا يقبل أن يقال : إذا فزع عن قلوب الناس يوم القيامة ، بل نقول : الرسول صلى الله عليه وسلم فسر الآية بتفسير غيبي لا مجال للاجتهاد فيه ، وما كان غيبياً وجاء به النص ، فالواجب علينا قبوله .
- ولهذا نقول في مسألة ما يعذر فيه بالاجتهاد وما لا يعذر :
إنه ليس عائداً على أن هذا من الأصول وهذا من الفروع ، كما قال بعض العلماء : الأصول لا مجال للاجتهاد فيها ، ويخطئ المخالف مطلقاً بخلاف الفروع .

لكن شيخ الإسلام ابن تيمية أنكر تقسيم الدين إلى أصول وفروع ، ويدل على بطلان هذا التقسيم: أن الصلاة عند الذين يقسمون من الفروع ، مع أنها من أجل الأصول .
والصواب :
أن مدار الإنكار على :
1- ما للاجتهاد فيه مجال .
2- وما لا مجال فيه .


- فالأمور الغيبية ينكر على المخالف فيها ولا يعذر ، سواء كانت تتعلق بصفات الله أو اليوم الآخر أو غير ذلك ، لأنه لا مجال للاجتهاد فيها .
- أما الأمور العملية التي للاجتهاد فيها مجال ، فلا ينكر على المخالف فيها إلا إذا خالف نصاً صريحاً ، وإن كان يصح تضليله بهذه المخالفة .
(ج1/ 311 )
-----
قوله : " ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها "، أي : يلقي الكلمة آخرهم الذي في الأرض على لسان الساحر أو الكاهن .
والسحر : عزائم ورقى وتعوذات تؤثر في بدن المسحور وقلبه وعقله وتفكيره .
والكاهن : هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل .
وقد التبس على بعض طلبة العلم ، فظنوا أنه كل من يخبر عن الغيب ولو فيما مضى ، فهو كاهن ، لكن ما مضى مما يقع في الأرض ليس غيباً مطلقاً ، بل هو غيب نسبي ، مثل ما يقع في المسجد يعد غيباً بالنسبة لمن في الشارع ، وليس غيباً بالنسبة لمن في المسجد .
وقد يتصل الإنسان بجني ، فيخبره عما حدث في الأرض ولو كان بعيداً ، فيستخدم الجن ، لكن ليس على وجه محرم، فلا يسمى كاهناً ، لأن الكاهن من يخبر عن المغيبات في المستقبل . وقيل : الذي يخبر عما في الضمير ، وهو نوع من الكهانة في الواقع ، إذا لم يستند إلى فراسة ثاقبة ، أما إذا كان يخبر عما في الضمير استناداً إلى فراسة ، فإنه ليس من الكهانة في شيء ، لأن بعض الناس قد يفهم ما في الإنسان اعتماداً على أسارير وجهه ولمحاته ، وإن كان لا يعلمه على وجه التفصيل ، لكن يعلمه على سبيل الإجمال .
(ج1/313)
----
قوله : "فربما أدركه الشهاب.... إلخ" ، الشهاب : جزء منفصل من النجوم ، ثاقب ، قوي ، ينفذ فيما يصطدم به .
- فالشهب : نيازك تنطلق من النجوم . وهي كما قال أهل الفلك : تنزل إلى الأرض ، وقد تحدث تصدعاً فيها .
- أما النجم ، فلو وصل إلى الأرض ، لأحرقها .
(ج1/315)
----
من فوائد الحديث :
إثبات الإرادة لقوله : "إذا أراد الله" ، وهي قسمان :
1- شرعية .
2- وكونية .

والفرق بينهما :
أولاً / من حيث المتعلق :
1- فالإرادة الشرعية تتعلق بما يحبه الله - عز وجل ـ ، سواء وقع أو لم يقع .
2- وأما الكونية ، فتتعلق بما يقع ، سواء كان مما يحبه الله أو مما لا يحبه .


ثانياً / من حيث الحكم ، أي حصول المراد :1- فالشرعية لا يلزم منها وقوع المراد .
2- أما الكونية ، فيلزم منها وقوع المراد .
- فقوله تعالى: (والله يريد أن يتوب عليكم) [النساء: 27] هذه إرادة شرعية ، لأنها لو كانت كونية لتاب على كل الناس ، وأيضاً متعلقها فيما يحبه الله وهو التوبة .
- وقوله: (إن كان الله يريد أن يغويكم) [هود: 34] هذه كونية ، لأن الله لا يريد الإغواء شرعاً ، أما كوناً وقدراً، فقد يريده .
- وقوله : (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم) [النساء: 26] هذه كونية ، لكنها في الأصل شرعية ، لأنه قال: (ويتوب عليكم) [النساء: 26]. وقوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) [البقرة: 185] هذه شرعية ، لأن قوله: (ولا يريد بكم العسر) لا يمكن أن تكون كونية ، إذ إن العسر يقع ولو كان الله لا يريده قدراً وكوناً ؛ لم يقع.
(ج1/320)
-----
8- إثبات العزة والجلال لله - عز وجل ـ، لقوله: "عز وجل" .
- والعزة بمعنى : الغلبة والقوة ، وللعزيز ثلاثة معان :
1- عزيز : بمعنى ممتنع أن يناله أحد بسوء .
2- عزيز : بمعنى ذي قدر لا يشاركه فيه أحد .
3- عزيز : بمعنى غالب قاهر .
قال ابن القيم في النونية :
وهو العزيز فلن يرام جنابه *** أني يرام جناب ذي السلطان
وهو العزيز القاهر الغلاب لم *** يغلبه شيء هذه صفتان
وهو العزيز بقوة هي وصفه *** فالعز حينئذ ثلاث معان
(ج1/ 322 )
-----
العشرون : إثبات الصفات خلافاً للأشعرية المعطلة .
- الأشعرية : هم الذين ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري وسموا معطلة لأنهم يعطلون النصوص عن المعنى المراد بها ويعطلون ما وصف الله به نفسه . والمراد تعطيل أكثر ذلك فإنهم يعطلون أكثر الصفات ولا يعطلون جميعها .
- بخلاف المعتزلة ، فالمعتزلة : ينكرون الصفات ويؤمنون بالأسماء ، هؤلاء عامتهم ، وإلا ، فغلاتهم ينكرون حتى الأسماء ، وأما الأشاعرة ، فهم معطلة اعتباراً بالأكثر ، لأنهم لا يثبتون من الصفات إلى سبعاً ، وصفاته وتعالى لا تحصى ، وإثباتهم لهذه السبع ليس كإثبات السلف ،
(ج1/ 326)

بابٌ الشَّفَاعَةُ

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
ولكن يقصد بها (أي الشفاعة) أمران ، هما :
1- إكرام الشافع .
2- نفع المشفوع له .


والشفاعة :
- لغة : اسم من شفع يشفع ، إذا جعل الشيء اثنين ، والشفع ضد الوتر ، قال تعالى : (والشفع والوتر) [الفجر: 3] .
- واصطلاحاً : التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة .
مثال جلب المنفعة : شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة بدخولها .
مثال دفعة المضرة : شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لمن استحق النار أن لا يدخلها .
(ج1/330)
----
وقد قسم أهل العلم رحمه الله الشفاعة إلى قسمين رئيسيين ، هما :
القسم الأول :
الشفاعة الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي أنواع :
النوع الأول : الشفاعة العظمى ، وهي من المقام المحمود الذي وعده الله ، فإن الناس يلحقهم يوم القيامة في ذلك الموقف العظيم من الغم والكرب ما لا يطيقونه .
النوع الثاني : شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوها ، لأنهم إذا عبروا الصراط ووصلوا إليها وجدوها مغلقة ، فيطلبون من يشفع له ، فيشفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله في فتح أبواب الجنة لأهلها .
النوع الثالث : شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب أن يخفف عنه العذاب ، وهذه مستثناة من قوله تعالى: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) [المدثر: 48] ، وهذه الشفاعة خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم لا أحد يشفع في كافر أبداً إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك لم تقبل الشفاعة كاملة ، وإنما هي تخفيف فقط .

القسم الثاني :
الشفاعة العامة له صلى الله عليه وسلم ولجميع المؤمنين . وهي أنواع :
النوع الأول : الشفاعة فيمن استحق النار أن لا يدخلها ، وهذه قد يستدل لها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً ، إلا شفعهم الله فيه" ، فإن هذه شفاعة قبل أن يدخل النار ، فيشفعهم الله في ذلك .
النوع الثاني : الشفاعة فيمن دخل النار أن يخرج منها ، وقد تواترت بها الأحاديث وأجمع عليها الصحابة ، واتفق عليها أهل الملة ما عدا طائفتين ، وهما :
1- المعتزلة .
2- والخوارج .
فإنهم ينكرون الشفاعة في أهل المعاصي مطلقاً لأنهم يرون أن فاعل الكبيرة مخلد في النار ، ومن استحق الخلود ، فلا تنفع فيه الشفاعة ، فهم ينكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره يشفع في أهل الكبائر أن لا يدخلوا النار ، أو إذا دخولها أن يخرجوا منها ، لكن قولهم هذا باطل بالنص والإجماع .
النوع الثالث : الشفاعة في رفع درجات المؤمنين ، وهذه تؤخذ من دعاء المؤمنين بعضهم لبعض كما قال صلى الله عليه وسلم في أبي سلمة: "اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، وأفسح له في قبره، ونور له فيه، واخلفه في عقبه" ، والدعاء شفاعة ، كما قال صلى الله عليه وسلم : "ما من مسلم يموت ، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً ، إلا شفعهم الله فيه".
(ج1/332- 334 )
----
قوله : (إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) ، فللشفاعة شرطان ، هما :
1- الإذن من الله ، لقوله: (أن يأذن الله) .
2- رضاه عن الشافع والمشفوع له ، لقوله : (ويرضى) ، وكما قال تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) [الأنبياء: 28] .

فلا بد من :
- إذنه تعالى .
- ورضاه عن الشافع .
- والمشفوع له ، إلا في التخفيف عن أبي طالب ، وقد سبق ذلك
.
(ج1/336)
----
والحكمة من هذه الواسطة بيّنها بقوله : "ليكرمه وينال المقام المحمود" ، ولو شاء الله لغفر لهم بلا شفاعة ، ولكنه أراد بيان فضل هذا الشافع وإكرامه أمام الناس ، ومن المعلوم أن من قبل الله شفاعته ، فهو عنده بمنزلة عالية ، فيكون في هذا إكرام للشافع من وجهين :
الأول : إكرام الشافع بقبول شفاعته .
الثاني : ظهور جاهه وشرفه عند الله تعالى .

(ج1/344)
-----
فيه مسائل :
الثانية : صفة الشفاعة المنفية ، وهي ما كان فيها شرك ، فكل شفاعة فيها شرك ، فإنها منفية .
الثالثة : صفة الشفاعة المثبتة وهي شفاعة أهل التوحيد بشرط :
1- إذن الله تعالى .
2- ورضاه عن الشافع .
3- والمشفوع له .
(ج1/346)
---

بابٌ قولُ اللهِ تعالى: ( إنّك لا تَهدِي مَنْ أحْبَبْتَ)الآية

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
قوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت) [القصص: 56] .
- والهداية التي نفاها الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم هداية التوفيق .
- والتي أثبتها له هداية الدلالة والإرشاد ، ولهذا أتت مطلقة لبيان أن الذي بيده هو هداية الدلالة فقط، لا أن يجعله مهتدياً ، قال تعالى: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) [الشورى: 52] .
(ج1/348 )
----

بابٌ ما جَاءَ أنَّ سَبَبَ كُفْرِ بَنِي آدَمَ وَتَرْكِهمْ دِينَهُمْ هُوَ الغُلُوُّ فِي الصَّالِحينَ

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
قوله : "هو الغلو" ، والغلو : هو مجاوزة الحد في الثناء مدحاً أو قدحاً .
(ج1/362)
----
واعلم أن الحقوق ثلاثة أقسام ، وهي :
الأول : حق لله لا يشرك فيه غيره : لا ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، وهو ما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات . الثاني : حق خاص للرسل ، وهو إعانتهم وتوقيرهم وتبجيلهم بما يستحقون .
الثالث : حق مشترك ، وهو الإيمان بالله ورسله ، وهذه الحقوق موجودة في الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى: (لتؤمنوا بالله ورسوله) ، فهذا حق مشترك ، (وتعزروه وتوقروه) هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم ، (وتسبحوه بكرة وأصيلاً) [الفتح: 9] هذا خاص بالله - سبحانه وتعالى - .

والذين يغلون في الرسول صلى الله عليه وسلم يجعلون حق الله له ، فيقولون : (وتسبحوه) ، أي: الرسول ، فيسبحون الرسول كما يسبحون الله ، ولا شك أنه شرك ، لأن التسبيح من حقوق الله الخاصة به ، بخلاف الإيمان ، فهو من الحقوق المشتركة بين الله ورسوله .(ج1/371)
----
أقسام الناس في العبادة :
والناس في العبادة طرفان ووسط :
1- فمنهم المفرط .
2- ومنهم المفرط .
3- ومنهم المتوسط .

فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه ، وكون الإنسان معتدلاً لا يميل إلى هذا ولا إلى هذا هذا هو الواجب ، فلا يجوز التشدد في الدين والمبالغة ، ولا التهاون وعدم المبالاة ، بل كن وسطاً بين هذا وهذا .

والغلو له أقسام كثيرة ، منها :
- الغلو في العقيدة .
- الغلو في العبادة .
- الغلو في المعاملة .
- الغلو في العادات .


والأمثلة عليها كما يلي :
1- أما الغلو في العقيدة : فمثل ما تشدق فيه أهل الكلام بالنسبة لإثبات الصفات ، فإن أهل الكلام تشدقوا وتعمقوا حتى وصلوا إلى الهلاك قطعاً ، حتى أدى بهم هذا التعمق إلى واحد من أمرين :
- إما التمثيل .
- أو التعطيل .

إما أنهم مثلوا الله بخلقه ، فقالوا : هذا معنى إثبات الصفات ، فغلوا في الإثبات حتى أثبتوا ما نفى الله عن نفسه .
أو عطلوه وقالوا : هذا معنى تنزيهه عن مشابهة المخلوقات ، وزعموا أن إثبات الصفات تشبيه ، فنفوا ما أثبته الله لنفسه .
لكن الأمة الوسط اقتصدت في ذلك ، فلم تتعمق في الإثبات ولا في النفي والتنزيه ، فأخذوا بظواهر اللفظ ، وقالوا : ليس لنا أن نزيد على ذلك ، فلم يهلكوا ، بل كانوا على الصراط المستقيم .

2- أما الغلو في العبادات :
- فهو التشدد فيها ، بحيث يرى أن الإخلال بشيء منها كفر وخروج عن الإسلام ، كغلو الخوارج والمعتزلة ، حيث قالوا : إن من فعل كبيرة من الكبائر ، فهو خارج عن الإسلام وحل دمه وماله ، وأباحوا الخروج على الأئمة وسفك الدماء ، وكذا المعتزلة ، حيث قالوا : من فعل كبيرة ، فهو بمنزلة بين المنزلتين : الإيمان والكفر ، فهذا تشدد أدى إلى الهلاك .
- وهذا التشدد قابله تساهل المرجئة ، فقالوا : إن القتل والزنا والسرقة وشرب الخمر ونحوها من الكبائر ، لا تخرج من الإيمان ، ولا تنقص من الإيمان شيئاً ، وإنه يكفي في الإيمان الإقرار ، وإن إيمان فاعل الكبيرة كإيمان جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يختلف الناس في الإيمان ، وهؤلاء في الحقيقة يصلحون لكثير من الناس في هذا الزمان ، ولا شك أن هذا تطرف بالتساهل ، والأول تطرف بالتشدد .
- ومذهب أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص ، وفاعل المعصية ناقص الإيمان بقدر معصيته ، ولا يخرج من الإيمان إلا بما برهنت النصوص على أنه كفر .

3- وأما الغلو في المعاملات :
- فهو التشدد في الأمور بتحريم كل شيء حتى ولو كان وسيلة ، وأنه لا يجوز للإنسان أن يزيد عن واجبات حياته الضرورية ، وهذا مسلك سلكه الصوفية ، حيث قالوا : من اشتغل بالدنيا ، فهو غير مريد للآخرة ، وقالوا : لا يجوز أن تشتري ما زاد على حاجتك الضرورية ، وما أشبه ذلك .
- وقابل هذا التشدد تساهل من قال : يحل كل شيء ينمي المال ويقوي الاقتصاد ، حتى الربا والغش وغير ذلك . فهؤلاء - والعياذ بالله - متطرفون بالتساهل ، فتجده يكذب في ثمنها وفي وصفها وفي كل شيء لأجل أن يكسب فلساً أو فلسين ، وهذا لا شك أنه تطرف .
- والتوسط أن يقال : تحل المعاملات وفق ما جاءت به النصوص ، (وأحل الله البيع وحرم الربا) [البقرة: 275]، فليس كل شيء حراماً ، فالنبي صلى الله عليه وسلم باع واشترى ، والصحابة رضي الله عنهم يبيعون ويشترون ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقرهم .

4- وأما الغلو في العادات :
- فإذا كانت هذه العادة يخشى أن الإنسان إذا تحول عنها انتقل من التحول في العادة إلى التحول في العبادة ، فهذا لا حرج أن الإنسان يتمسك بها ، ولا يتحول إلى عادة جديدة .
- أما إذا كان الغلو في العادة يمنعك من التحول إلى عادة جديدة مفيدة أفيد من الأولى ، فهذا من الغلو المنهي عنه ، فلو أن أحداً تمسك بعادته في أمر حدث أحسن من عادته التي هو عليها نقول : هذا في الحقيقة غال ومفرط في هذه العادة .
- وأما إن كانت العادات متساوية المصالح ، لكنه يخشى أن ينتقل الناس من هذه العادة إلى التوسع في العادة التي قد تخل بالشرف أو الدين ، فلا يتحول إلى العادة الجديدة .
(ج1/374-377)
----
الشهوة أشد من الشبهة :
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
وهكذا المعاصي ، فالمعاصي لها تأثير قوي على القلب ، وأشدها تأثيراً :
الشهوة فهي أشد من الشبهة .
- لأن الشبهة أيسر زوالاً على من يسرها الله عليه ، إذ إن مصدرها الجهل ، وهو يزول بالتعلم .
- أما الشهوة ، وهي إرادة الإنسان الباطل ، فهي البلاء الذي يقتل به العالم والجاهل
.
ولذا كانت معصية اليهود أكبر من معصية النصارى ، لأن معصية اليهود سببها الشهوة وإرادة السوء والباطل ، والنصارى سببها الشبهة .
(ج1/385)
----
فيه مسائل :
الرابعة عشر : - وهي أعجب العجب - قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
والعجب نوعان :
الأول : بمعنى الإستحسان ، وهو ما إذا تعلق بمحمود ، كقول عائشة رضي الله عنها في الحديث :" كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله ، وترجله ، وطهوره ، وفي شأنه كله ".
الثاني : بمعنى الإنكار ، وذلك فيما إذا تعلق بمذموم ، قال تعالى :" وإن تعجب فعجب قولهم .. " الآية .
(ج1/388)
----
الفرق بين التنطع والغلو والإجتهاد :
- الغلو : مجاوزة الحد .
- التنطع : التشدق بالشئ والتعمق فيه ، وهو من أنواع الغلو .
- الإجتهاد :بذل الجهد لإدراك الحق ، وليس فيه غلو إلا إذا كان المقصود بالإجتهاد كثرة الطاعة غير المشروعة ، فقد تؤدي إلى الغلو .

(ج1/ 391)
--

بابٌ ما جاءَ في التَّغْلِيظِ فيمَنْ عَبَدَ اللهَ عِنْدَ قَبْرِ رَجُلٍ صَالحٍ ؛ فكيف إذا عَبَدَهُ ؟!

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
قوله : "التغليظ" ، التشديد . قوله: "من عبد الله عند قبر رجل صالح" ، أي : عمل عملاً تعبد الله به من قراءة أو صلاة أو صدقة أو غير ذلك .
قوله: "فكيف إذا عبده؟" ، أي : يكون أشد وأعظم ، وذلك لأن المقابر والقبور للصالحين أو من دونهم من المسلمين أهلها بحاجة إلى الدعاء ، فهم يزارون ليُنفَعوا لا ليُنتفع بهم إلا باتباع السنة في زيارة المقابر ، والثواب الحاصل بذلك ، لكن هذا ليس انتفاعاً بأشخاصهم ، بل انتفاع بعمل الإنسان نفسه بما أتى به من السنة .
1- فالزيارة التي يقصد منها الانتفاع بالأموات زيارة بدعية .
2- والزيارة التي يقصد بها نفع الأموات والاعتبار بحالهم زيارة شرعية .

(ج1/393)
----
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
اعتراض وجوابه :
إذا قال قائل : نحن الآن واقعون في مشكلة بالنسبة لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم الآن ، فإنه في وسط المسجد ، فما هو الجواب ؟
قلنا : الجواب على ذلك من وجوه :
الوجه الأول : أن المسجد لم يبن على القبر ، بل بُني المسجد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم .
الوجه الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفن في المسجد حتى يقال: إن هذا من دفن الصالحين في المسجد ، بل دفن في بيته .
الوجه الثالث : أن إدخال بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومنها بيت عائشة مع المسجد ليس باتفاق من الصحابة ، بل بعد أن انقرض أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل ، وذلك عام 94هـ تقريباً ، فليس مما أجازة الصحابة أو أجمعوا عليه ، مع أن بعضهم خالف في ذلك ، وممن خالف أيضاً سعيد بن المسيب من التابعين ، فلم يرض بهذا العمل .
الوجه الرابع : أن القبر ليس في المسجد ، حتى بعد إدخاله ، لأنه في حجرة مستقلة عن المسجد ، فليس المسجد مبنياً عليه ، ولهذا جعل هذا المكان محفوظاً ومحوطاً بثلاثة جدران ، وجعل الجدار في زاوية منحرفة عن القبلة ، أي مثلث ، والركن في الزاوية الشمالية ، بحيث لا يستقبله الإنسان إذا صلى لأنه منحرف .

فبهذا كله يزول الإشكال الذي يحتج به أهل القبور ، ويقولون هذا منذ عهد التابعين إلى اليوم ، والمسلمون قد أقرّوه ولم ينكروه ، فنقول : إن الإنكار قد وجد حتى في زمن التابعين ، وليس محل إجماع ، وعلى فرض أنه إجماع ، فقد تبين الفرق من الوجوه الأربعة التي ذكرناها .
(ج1/398)
----
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
ولا ريب أن أصل تحريم بناء المساجد على القبور أن المساجد مكان الصلاة ، والناس يأتون إليها للصلاة فيها ، فإذا صلى الناس في مسجد بني على قبر ، فكأنهم صلوا عند القبر ، والمحذور الذي يوجد في بناء المساجد على القبور يوجد فيما إذا اتخذ هذا المكان للصلاة ، وإن لم يبن مسجد . فتبين بهذا أن اتخاذ القبور مساجد له معنيان :
الأول : أن تبنى عليها مساجد .
الثاني : أن تتخذ مكاناً للصلاة عندها وإن لم يبن المسجد ، فإذا كان هؤلاء القوم مثلاً يذهبون إلى هذا القبر ويصلون عنده ويتخذونه مصلى ، فإن هذا بمعنى بناء المساجد عليها ، وهو أيضاً من اتخاذها مساجد .
(ج1/403)
----
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
قوله : "الذين يتخذون القبور مساجد" ، فهم من شرار الخلق ، وإن لم يشركوا ، لأنهم فعلوا وسيلة من وسائل الشرك ، والوسائل لها أحكام المقاصد ، وإن كانت دون مرتبتها ، لكنها تعطى حكمها بالمعنى العام ، فإن كانت وسيلة لواجب صارت واجبة ، وإن كانت وسيلة لمحرم ، فهي محرمة . فشر الناس في هذا الحديث ينقسمون إلى صنفين :
الأول : الذين تدركهم الساعة وهم أحياء .
الثاني : الذين يتخذون القبور مساجد .

(ج1/406)

بابٌ ما جاءَ أنَّ الغُلُوَّ في قُبُورِ الصَّالِحِينَ يُصَيِّرُهَا أوْثاناً تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
هذا الباب له صلة بما قبله ، وهو أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله . أي: يؤول الأمر بالغالين إلى أن يعبدوا هذه القبور أو أصحابها .
والغلو : مجاوزة الحد مدحاً أو ذماً ، والمراد هنا مدحاً .
والقبور لها حق علينا من وجهين :
1- أن لا نفرط فيما يجب لها من الاحترام ، فلا تجوز إهانتها ولا الجلوس عليها ، وما أشبه ذلك .
2- أن لا نغلو فيها فتتجاوز الحد .
(ج1/419)
----
قوله: "غضب الله" ، فالغضب صفة حقيقية ثابتة لله تليق بجلاله لا تماثل غضب المخلوق ، لا في الحقيقة ولا في الأثر .
وهناك فروق بين غضب المخلوق وغضب الخالق ، منها :
1- غضب المخلوق حقيقته هو : غليان دم القلب ، وجمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم حتى يفور ، أما غضب الخالق ، فإنه صفة لا تماثل هذا ، قال تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) [الشورى: 11] .
2- أن غضب الآدمي يؤثر آثاراً غير محمودة ، فالآدمي إذا غضب قد يحصل منه ما لا يحمد ، فيقتل المغضوب عليه ، وربما يطلق زوجته ، أو يكسر الإناء ، ونحو ذلك ، أما غضب الله ، فلا يترتب عليه إلا آثار حميدة لأنه حكيم ، فلا يمكن أن يترتب على غضبه إلا تمام الفعل المناسب الواقع في محله . فغضب الله ليس كغضب المخلوقين ، لا في الحقيقة ولا في الآثار .
(ج1/422)
----
قوله : "زائرت القبور" ، زائرت : جمع زائرة ، والزيارة هنا معناها : الخروج إلى المقابر ، وهي أنواع :
- منها ما هو سنة ، وهي زيارة الرجال للاتعاظ والدعاء للموتى .
- ومنها ما هو بدعة ، وهي زيارتهم للدعاء عندهم وقراءة القرآن ونحو ذلك .
- ومنها ما هو شرك ، وهي زيارتهم لدعاء الأموات والاستنجاد بهم والاستغاثة ونحو ذلك .

(ج1/427)
----

بابٌ ما جاءَ في حِمَايَةِ المُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم جنابَ التَّوحِيدِ وسَدِّهِ كُلَ طَريقٍ يُوصِلُ إلى الشَّرْكِ


قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
قوله : "المصطفى" ، أصلها : المصتفى ، من الصفوة ، وهو خيار الشيء ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل المصطفين لأنه أفضل أولي العزم من الرسل ، والرسل هم المصطفون ، والمراد به: محمد صلى الله عليه وسلم ، والاصطفاء على درجات :
- أعلاها اصطفاء أولي العزم من الرسل .
- ثم اصطفاء الرسل .
- ثم اصطفاء الأنبياء .
- ثم اصطفاء الصديقين .
- ثم اصطفاء الشهداء .
- ثم اصطفاء الصالحين .

(ج1/437)
---
قوله : (حريص عليكم) ، الحرص : بذل الجهد لإدراك أمر مقصود ، والمعنى : باذل غاية جهده في مصلحتكم ، فهو جامع بين أمرين :
1- دفع المكروه الذي أفاده قوله : (عزيز عليه ما عنتم) .
2- وحصول المحبوب الذي أفاده قوله : (حريص عليكم) .

فكان النبي صلى الله عليه وسلم جامعاً بين هذين الوصفين ، وهذا من نعمة الله علينا وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون على هذا الخلق العظيم الممثل بقوله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم) [القلم: 4].
(ج1/440)
----
 

بابٌ ما جَاءَ أنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأمَّةِ يَعْبُدُ الأوْثَان

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
قوله : "سنن من كان قبلكم" ، فيها روايتان : "سُنَن" و "سَنَن" . -
- أما "سُنن" بضم السين
: جمع سنة ، وهي الطريقة .

- وأما "سَنن" ، بالفتح
: فهي مفرد بمعنى الطريق .
(ج1/464)
---
قوله : " وأعطيت الكنزين : الأحمر والأبيض" ، الذي أعطاه هو الله . والكنزان : هما الذهب والفضة كنوز كسرى وقيصر .
- فالذهب عند قيصر .
- والفضة عند كسرى .

وكل منهما عنده ذهب وفضة ، لكن الأغلب على كنوز قيصر الذهب ، وعلى كنوز كسرى الفضة .
(ج1/472)
----
قوله : "إذا قضيت قضاء ، فإنه لا يرد" ، اعلم أن قضاء الله نوعان :
1- قضاء شرعي قد يرد ، فقد يريده الله ولا يقبلونه .
2- قضاء كوني لا يرد ، ولابد أن ينفذ .

وكلا القضاءين قضاء بالحق ، وقد جمعهما قوله تعالى: (والله يقضى بالحق) [غافر: 20] .
ومثال القضاء الشرعي : قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) [الإسراء: 23] ، لأنه لو كان كونياً، لكان كل الناس لا يعبدون إلا الله .
ومثال القضاء الكوني: قوله تعالى: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً) [الإسراء: 4]، لأن الله تعالى لا يقضي شرعاً بالفساد ، لكنه يقضي به كوناً وإن كان يكرهه سبحانه ، فإن الله لا يحب الفساد ولا المفسدين ، لكنه يقضي بذلك لحكمة بالغة ، كما قسم خلقه إلى مؤمنين وكافرين ، لما يترتب على ذلك من المصالح العظيمة .
(ج1/474)
----
قوله: "ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين"، الحي : بمعنى القبيلة .
وهل المراد باللحوق هنا :
- اللحوق البدني ، بمعنى أنه يذهب هذا الحي إلى المشركين ويدخلون فيهم .
- أو اللحوق الحكمي ، بمعنى أن يعملوا بعمل المشركين .
أو الأمران معا ً؟ الظاهر أن المراد جميع ذلك .
(ج1/478 )
----
فيه مسائل :
الثالثة عشرة : حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين ، ووجه هذا الحصر أن الأئمة ثلاثة أقسام :
1- أمراء .
2- وعلماء .
3- وعباد .

فهم الذين يخشى من إضلالهم لأنه متبوعون :
- فالأمراء لهم السلطة والتنفيذ .
- والعلماء له التوجيه والإرشاد .
- والعباد لهم تغرير الناس وخداعهم بأحوالهم .

فهؤلاء يطاعون ويقتدى بهم ، فيخاف على الأمة منهم ، لأنهم إذا كانوا مضلين ضل بهم كثير من الناس ، وإذا كانوا هادين اهتدى بهم كثير من الناس .
( ج1/488 )

بابٌ ما جَاءَ في السِّحْرِ

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
السحر لغة : ما خفي ولطف سببه ، ومنه سمي السَّحَر لآخر الليل ، لأن الأفعال التي تقع فيه تكون خفية ، وكذلك سمي السحور ، لما يؤكل في آخر الليل ، لأنه يكون خفياً ، فكل شيء خفي سببه يسمى سحراً .

وأما في الشرع ، فإنه ينقسم إلى قسمين :
الأول : عقد ورقي ، أي: قراءات وطلاسم يتوصل بها الساحر إلى استخدام الشياطين فيما يريد به ضرر المسحور ، لكن قد قال الله تعالى: (وما هم بضآرين به من أحد إلا بإذن الله) [البقرة: 102] .
الثاني : أدوية وعقاقير تؤثر على بدن المسحور وعقله وإرادته وميله ، فتجده ينصرف ويميل ، وهو ما يسمى عندهم بالصرف والعطف ، فيجعلون الإنسان ينعطف على زوجته أو امرأة أخرى ، حتى يكون كالبهيمة تقوده كما تشاء ، والصرف بالعكس من ذلك ، فيؤثر في بدن المسحور بإضعافه شيئاً فشيئاً حتى يهلك ، وفي تصوره بأن يتخيل الأشياء على خلاف ما هي عليه ، وفي عقله ؛ فربما يصل إلى الجنون والعياذ بالله .

فالسحر قسمان :
أ- شرك ، وهو الأول الذي يكون بواسطة الشياطين ، يعبدهم ويتقرب إليهم ليسلطهم على المسحور .
ب- عدوان وفسق ، وهو الثاني الذي يكون بواسطة الأدوية والعقاقير ونحوها .

وبهذا التقسيم الذي ذكرناه نتوصل به إلى مسألة مهمة ، وهي : هل يكفر الساحر أو لا يكفر ؟.
اختلف في هذا أهل العلم :
- فمنهم من قال : إنه يكفر .
- ومنهم من قال : إنه لا يكفر .

ولكن التقسيم السابق الذي ذكرناه يتبين به حكم هذه المسألة :
- فمن كان سحره بواسطة الشيطان ، فإنه يكفر لأنه لا يتأتى ذلك إلا بالشرك غالبا ً، لقوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة لا تكفر...) إلى قوله: (وما هم بضآرين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق) [البقرة:102] .
- ومن كان سحره بالأدوية والعقاقير ونحوها ، فلا يكفر ، ولكن يعتبر عاصياً معتدياً .
(ج1/489-490)
----
قوله : "وقتل النفس" ، القتل : إزهاق الروح ، والمراد بالنفس : البدن الذي فيه الروح ، والمراد بالنفس هنا : نفس الآدمي وليس نفس البعير والحمار وما أشبهها .
والنفس المحرمة أربعة أنفس ، هي :
1- نفس المؤمن .
2- والذمي .
3- والمعاهد .
4- والمستأمن ، بكسر الميم : طالب الأمان .


- فالمؤمن لإيمانه .
- والذمي لذمته .
- والمعاهد لعهده .
- والمستأمن لتأمينه .


والفرق بين الثلاثة : الذمي ، والمعاهد ، والمستأمن :
1- أن الذمي هو الذي بيننا وبينه ذمة ، أي : عهد على أن يقيم في بلادنا معصوماً مع بذل الجزية .
2- وأما المعاهد ، فيقيم في بلاده ، لكن بيننا وبينه عهد أن لا يحاربنا ولا نحاربه .
3- وأما المستأمن ، فهو الذي ليس بيننا وبينه ذمة ولا عهد ، لكننا أمناه في وقت محدد ، كرجل حربي دخل إلينا بأمان للتجارة ونحوها ، أو ليفهم الإسلام ، قال تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) [التوبة: 6] .

وهناك فرق آخر وهو :
- أن العهد يجوز من جميع الكفار .
- والذمة لا تجوز إلا من اليهود والنصارى والمجوس دون بقية الكفار ، وهذا هو المشهور من المذهب ، والصحيح : أنها تجوز من جميع الكفار .


فهذه الأنفس الأربع قتلها حرام ، لكنها ليست على حد سواء في التحريم ، فنفس المؤمن أعظم ، ثم الذمي ، ثم المعاهد ، ثم المستأمن .

وهل المستأمن مثل المعاهد أو أعلى ؟.
أشك في ذلك ، لأن المستأمن من له عهد خاص ، بخلاف المعاهدين ، فالمعاهدون يتولى العهد أهل الحل والعقد منهم ، فليس بيننا وبينهم عقود تأمينات خاصة ، وأياً كان ، فالحديث عام ، وكل منهم معصوم الدم والمال .
(ج1/499)
----

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
قوله : "وأكل الربا" ، الربا في اللغة : الزيادة ، ومنه قوله تعالى: (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) [الحج: 5] ، يعني : زادت .
وفي الشرع : تفاضل في عقد بين أشياء يجب فيها التساوي ، ونسأ في عقد بين أشياء يجب فيها التقابض .
والربا :
1- ربا فضل ، أي : زيادة .
2- وربا نسيئة ، أي : تأخير .

وهو يجري في ستة أموال بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله : "الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والتمر بالتمر ، والشعير بالشعير ، والملح بالملح " ، فهذه هي الأموال الربوية بنص الحديث وإجماع المسلمين .
وهذه الأصناف الستة :
- إن بعت منها جنساً بمثله جرى فيه ربا الفضل وربا النسيئة .
- فلو زدت واحداً على آخر ، فهو ربا فضل .
- أو سويته لكن أخرت القبض ، فهو رباً نسيئة .
- وربما يجتمع النوعان كما لو بعت ذهباً متفاضلاً والقبض متأخر ، فقد اجتمع في هذا العقد ربا الفضل وربا النسيئة ، وعلى هذا ، فإذا بعت جنساً بجنسه
، فلا بد من أمرين :
1- التساوي .
2- والتقابض في مجلس العقد .

وإذا اختلفت الأجناس واتفقت العلة ، أي: اتفق المقصود في العوضين ، فإنه يجري ربا النسيئة دون ربا الفضل ، فذهب بفضة متفاضلاً مع القبض جائز ، وذهب بفضة متساوياً مع التأخير ربا لتأخر القبض . قال صلى الله عليه وسلم: "فإذا اختلفت هذه الأصناف ، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد " .
(ج1/500 ) .
----
قوله: "وأكل مال اليتيم" ، اليتيم : هو الذي مات أبوه قبل بلوغه ، سواء كان ذكراً أم أنثى ، أما من ماتت أمه قبل بلوغه ، فليس يتيماً لا شرعاً ولا لغة .
لأن اليتيم مأخوذ من اليتم ، وهو الإنفراد ، أي : انفرد عن الكاسب له ، لأن أباه هو الذي يكسب له .
(ج1/503 )
----
قوله "والتولي يوم الزحف". التولي : بمعنى الإدبار والإعراض ، ويوم الزحف ، أي : يوم تلاحم الصفين في القتال مع الكفار ، وسمي يوم الزحف ، لأن الجموع إذا تقابلت تجد أن بعضها يزحف إلى بعض ، كالذي يمشي زحفاً كل واحد منهم يهاب الآخر ، فيمشي رويداً رويداً .
والتولي يوم الزحف من كبائر الذنوب ، لأنه يتضمن :
- الإعراض عن الجهاد في سبيل الله .
- وكسر قلوب المسلمين .
- وتقوية أعداء الله .

وهذا يؤدي إلى هزيمة المسلمين . لكن هذا الحديث خصصته الآية ، وهي قوله تعالى: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله) [الأنفال: 16]. فالله سبحانه استثنى حالتين :
الأولى : أن يكون متحرفاً لقتال ، أي : متهيئاً له ، كمن ينصرف ليصلح من شأنه أو يهيئ الأسلحة ويعدها ، ومنه الانحراف إلى مكان آخر يأتي العدو من جهته ، فهذا لا يعد متولياً ، إنما يعد متهيئاً .
الثانية : المتحيز إلى فئة كما إذا حصرت سرية للمسلمين يمكن أن يقضي عليها العدو ، فانصرف من هؤلاء لينقذها ، فهذا لا بأس به لدعاء الضرورة إليه ، بشرط ألا يكون على الجيش ضرر ، فإن كان على الجيش ضرر وذهبت طائفة كبيرة إلى هذه السرية بحيث توهن قوة الجيش وتكسره أمام العدو ، فإنه لا يجوز ، لأن الضرر هنا متحقق ، وإنقاذ السرية غير متحقق ، فلا يجوز لأن المقصود إظهار دين الله ، وفي هذا إذلال لدين الله ، إلا إذا كان الكفار أكثر من مثلي المسلمين ، فيجوز الفرار حينئذ ، لقوله تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين) [الأنفال: 66] ، أو كان عندهم عدة لا يمكن للمسلمين مقاومتها ، كالطائرات إذا لم يكن عند المسلمين من الصواريخ ما يدفعها ، فإذا علم أن الصمود يستلزم الهلاك والقضاء على المسلمين ، فلا يجوز لهم أن يبقوا ، لأن مقتضى ذلك أنهم يغررون بأنفسهم .
(ج1/504 - 505)
----
فيه مسائل :
السابعة : أنه يقتل ولا يستتاب . يؤخذ من قوله "حد الساحر ضربة بالسيف" .
- والحد إذا بلغ الإمام لا يستتاب صاحبه ، بل يقتل بكل حال .
- أما الكفر ، فإنه يستتاب صاحبه .

وهذا هو الفرق بين الحد وبين عقوبة الكفر .
وبهذا نعرف خطأ من أدخل حكم المرتد في الحدود ، وذكروا من الحدود قتل الردة .
- فقتل المرتد ليس من الحدود ، لأنه يستتاب ، فإذا تاب ارتفع عنه القتل .
- وأما الحدود ، فلا ترتفع بالتوبة إلا أن يتوب قبل القدرة عليه .
- ثم إن الحدود كفارة لصاحبها وليس بكافر .
- والقتل بالردة ليس كفارة وصاحبها كافر ، لا يصلى عليه ، ولا يغسل ، ولا يدفن في مقابر المسلمين .
(ج1/512)

بابٌ بَيَانُ شَيءٍ مِن أنْواعِ السِّحْرِ

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
قوله : "باب بيان شيء من أنواع السحر" . أي : بيان حقائق هذه الأشياء مع حكمها . وقد سبق أن السحر ينقسم إلى قسمين :
1- كفر .
2- وفسق
.
فإن كان باستخدام الشياطين وما أشبه ذلك ، فهو كفر . وكذلك ما ذكره هنا من أنواع السحر :
- منها ما هو كفر .
- ومنها ما هو فسق .

حسب ما تقتضيه الأدلة الشرعية .

والأنواع : جمع نوع ، والنوع أخص من الجنس ، لأن :
الجنس اسم يدخل تحته :
أنواع والنوع يدخل تحته :
أفراد .

وقد يكون الجنس نوعاً باعتبار ما فوقه ، والنوع جنساً باعتبار ما تحته .
فالإنسان نوع باعتبار الحيوان ، والحيوان باعتبار الإنسان جنس ، لأنه يدخل فيه الإنسان والإبل والبقر والغنم ، والحيوان باعتبار الجسم نوع ، لأن الجسم يشمل الحيوان والجماد .
(ج1/513)
----
المتن :" قال أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا عوف ، عن حيان بن العلاء ، حدثنا قطن بن قبيصة ، عن أبيه ، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن العيافة ، والطرق ، والطيرة من الجبت ".
قال عوف : العيافة : زجر الطير ، والطرق : الخط يخط بالأرض ، والجبت : قال الحسن : رنة الشيطان .

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
قوله : "العيافة" ، مصدر عاف يعيف عيافة ، وهي : زجر الطير للتشاؤم أو التفاؤل ، فعند العرب قواعد في هذا الأمر ، لأن زجر الطير له أقسام :
- فتارة يزجرها للصيد ، كما قال أهل العلم في باب الصيد : إن تعليم الطير بأن ينزجر إذا زجر ، فهذا ليس من هذا الباب .
- وتارة يزجر الطير للتشاؤم أو التفاؤل ، فإذا زجر الطائر وذهب شمالاً تشاءم ، وإذا ذهب يميناً تفاءل ، وإن ذهب أماماً ، فلا أدري أيتوقفون أم يعيدون الزجر ؟ فهذا من الجبت .
(ج1/514)
----
المتن :" وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد". رواه أبو داود، وإسناده صحيح ".
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
وعلم النجوم ينقسم إلى قسمين :
الأول : علم التأثير ، وهو أن يستدل بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية ، فهذا محرم باطل لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر" ، وقوله في حديث زيد بن خالد: "من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب" ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في الشمس والقمر : "إنهما آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته" ، فالأحوال الفلكية لا علاقة بينها وبين الحوادث الأرضية .
الثاني : علم التسيير ، وهو ما يستدل به على الجهات والأوقات ، فهذا جائز ، وقد يكون واجباً أحياناً ، كما قال الفقهاء : إذا دخل وقت الصلاة يجب على الإنسان أن يتعلم علامات القبلة من النجوم والشمس والقمر ، قال تعالى: (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون) [النحل: 15] ، فلما ذكر الله العلامات الأرضية انتقل إلى العلامات السماوية ، فقال تعالى: (وعلامات وبالنجم هم يهتدون) [النحل: 16] ، فالاستدلال بهذه النجوم على الأزمات لا بأس به ، مثل أن يقال : إذا طلع النجم الفلاني دخل وقت السيل ودخل وقت الربيع ، وكذلك على الأماكن ، كالقبلة ، والشمال ، والجنوب .
(ج1/520)
----
المتن :" وللنسائي من حديث أبي هريرة: "من عقد عقدة، ثم نفث فيها، فقد سحر، ومن سحر، فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً، وكل إليه" .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
قوله : "ثم نفث فيها" . النفث : النفخ بريق خفيف ، والمراد هنا :
- النفث من أجل السحر .
- أما لو عقد عقدة ، ثم نفث فيها من أجل أن تحتكم بالرطوبة ، فليس بداخل في الحديث .
(ج1/521)
----
المتن :" ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من البيان لسحراً" "
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
قوله : "إن من البيان". والبيان نوعان :
الأول : بيان لابد منه ، وهذا يشترك فيه جميع الناس ، فكل إنسان إذا جاع قال : إني جعت ، وإذا عطش قال : إني عطشت ، وهكذا .
الثاني : بيان بمعنى الفصاحة التامة التي تسبي العقول وتغير الأفكار ، وهي التي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم : "إن من البيان لسحراً".
وعلى هذا التقسيم تكون "من" للتبعيض ، أي : بعض البيان ـ وهو البيان الكامل الذي هو الفصاحة ـ سحر .
أما إذا جعلنا البيان بمعنى الفصاحة فقط ، صارت "من" لبيان الجنس .
(ج1/527)
----
وقوله : "إن من البيان لسحراً" ، وهل هذا على سبيل الذم ، أو على سبيل المدح ، أو لبيان الواقع ثم ينظر إلى أثره ؟ الجواب : الأخير هو المراد .
فالبيان من حيث هو بيان لا يمدح عليه ولا يذم ، ولكن ينظر إلى أثره ، والمقصود منه :
- فإن كان المقصود منه رد الحق وإثبات الباطل ، فهو مذموم ، لأنه استعمال لنعمة الله في معصيته .
- وإن كان المقصود منه إثبات الحق وإبطال الباطل ، فهو ممدوح .
- وإذا كان البيان يستعمل في طاعة الله وفي الدعوة إلى الله ، فهو خير من العي .
- لكن إذا ابتلي الإنسان ببيان ليصد الناس عن دين الله ، فهذا لا خير فيه ، والعي خير منه .
(ج1/528)

بابٌ ما جَاءَ في الكُهَّانِ وَنَحْوِهِمْ


قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
الكهان: جمع كاهن ، والكهنة أيضاً جمع كاهن ، وهم قوم يكونون في أحياء العرب يتحاكم الناس إليهم ، وتتصل بهم الشياطين ، وتخبرهم عما كان في السماء ، تسترق السمع من السماء ، وتخبر الكاهن به ، ثم الكاهن يضيف إلى هذا الخبر ما يضيف من الأخبار الكاذبة ، ويخبر الناس ، فإذا وقع مما أخبر به شيء ، اعتقده الناس عالماً بالغيب ، فصاروا يتحاكمون إليهم ، فهم مرجع للناس في الحكم ، ولهذا يسمون الكهنة ، إذ هم يخبرون عن الأمور في المستقبل ، يقولون : سيقع كذا وسيقع كذا .
- وليس من الكهانة في شيء من يخبر عن أمور تدرك بالحساب، فإن الأمور التي تدرك بالحساب ليست من الكهانة في شيء ، كما لو أخبر عن كسوف الشمس أو خسوف القمر ، فهذا ليس من الكهانة ، لأنه يدرك بالحساب ، وكما لو أخبر أن الشمس تغرب في 20 من برج الميزان مثلاً في الساعة كذا وكذا ، فهذا ليس من علم الغيب ، وكما يقولون : إنه سيخرج في أول العام أو العام الذي بعده مذنب ( هلي )، وهو نجم له ذنب طويل ، فهذا ليس من الكهانة في شيء ، لأنه من الأمور التي تدرك بالحساب ، فكل شيء يدرك بالحساب ، فإن الإخبار عنه ولو كان مستقبلاً لا يعتبر من علم الغيب ، ولا من الكهانة .
(ج1/531)
---
قوله : "فسأله ، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً". ظاهر الحديث أن مجرد سؤاله يوجب عدم قبول صلاته أربعين يوماً ، ولكنه ليس على إطلاقه ، فسؤال العراف ونحوه ينقسم إلى أقسام :
القسم الأول : أن يسأله سؤالاً مجرداً، فهذا حرام لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أتى عرافاً..." ، فإثبات العقوبة على سؤاله يدل على تحريمه ، إذ لا عقوبة إلا على فعل محرم .
القسم الثاني : أن يسأله فيصدقه ، ويعتبر قوله : فهذا كفر لأن تصديقه في علم الغيب تكذيب للقرآن ، حيث قال تعالى: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) [النمل: 65] .
القسم الثالث : أن يسأله ليختبره : هل هو صادق أو كاذب ، لا لأجل أن يأخذ بقوله ، فهذا لا بأس به ، ولا يدخل في الحديث . وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ابن صياد ، فقال : "ماذا خبأت لك؟ قال : الدخ ، فقال : اخسأ ، فلن تعدو قدرك" ، فالنبي صلى الله عليه وسلم سأله عن شيء أضمره ، لأجل أن يختبره ، فأخبره به .
القسم الرابع : أن يسأله ليظهر عجزه وكذبه ، فيمتحنه في أمور يتبين بها كذبه وعجزه ، وهذا مطلوب ، وقد يكون واجباً . وإبطال قول الكهنة لا شك أنه أمر مطلوب ، وقد يكون واجباً ، فصار السؤال هنا ليس على إطلاقه ، بل يفصل فيه هذا التفصيل على حسب ما دلت عليه الأدلة الشرعية الأخرى .
(ج1/533)
----
قوله : "لم تقبل له صلاة أربعين ليلة". نفي القبول هنا هل يلزم منه نفي الصحة أولا ؟ نقول :
نفي القبول :

- إما أن يكون لفوات شرط .
- أو لوجود مانع .

ففي هاتين الحالين يكون نفي القبول نفياً للصحة ، كما لو قلت : من صلى بغير وضوء لم يقبل الله صلاته ، ومن صلى في مكان مغصوب لم يقبل الله صلاته عند من يرى ذلك .
وإن كان نفي القبول لا يتعلق بفوات شرط ولا وجود مانع ، فلا يلزم من نفي القبول نفي الصحة ، وإنما يكون المراد بالقبول المنفي :
- إما نفي القبول التام ، أي: لم تقبل على وجه التمام الذي يحصل به تمام الرضا وتمام المثوبة .
- وإما أن يراد به أن هذه السيئة التي فعلها تقابل تلك الحسنة في الميزان ، فتسقطها ، ويكون وزرها موازياً لأجر تلك الحسنة ، وإذا لم يكن له أجر صارت كأنها غير مقبولة ، وإن كانت مجزئة ومبرئة للذمة ، لكن الثواب الذي حصل بها قوبل بالسيئة فأسقطته . ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: "من شرب الخمر ، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً" .
(ج1/535)
----
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن استخدام الإنس للجن له ثلاث حالات :
الحال الأولى : أن يستخدم في طاعة الله ، كأن يكون له نائباً في تبليغ الشرع ، فمثلاً : إذا كان له صاحب من الجن مؤمن يأخذ عنه العلم ، ويتلقى منه ، وهذا شيء ثبت أن الجن قد يتعلمون من الإنس ، فيستخدمه في تبليغ الشرع لنظرائه من الجن ، أو في المعونة على أمور مطلوبة شرعاً ، فهذا لا بأس به ، بل إنه قد يكون أمراً محموداً أو مطلوباً ، وهو من الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ، والجن حضروا النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن ، وولوا إلى قومهم منذرين ، والجن فيهم الصلحاء والعباد والزهاد والعلماء ، لأن المنذر لابد أن يكون عالماً بما ينذر ، عابداً مطيعاً لله ـ سبحانه ـ في الإنذار .
الحال الثانية : أن يستخدمهم في أمور مباحة ، مثل أن يطلب منهم العون على أمر من الأمور المباحة ، قال : فهذا جائز بشرط أن تكون الوسيلة مباحة ، فإن كانت محرمة ، صار حراماً ، كما لو كان الجني لا يساعده في أموره إلا إذا ذبح له أو سجد له أو ما أشبه ذلك . ثم ذكر ما ورد أن عمر تأخر ذات مرة في سفره ، فاشتغل فكر أبي موسى ، فقالوا له : إن امرأة من أهل المدينة لها صاحب من الجن ، فلو أمرتها أن ترسل صاحبها للبحث عن عمر ، ففعل ، فذهب الجني ، ثم رجع ، فقال : إن أمير المؤمنين ليس به بأس ، وهو يسم إبل الصدقة في المكان الفلاني ، فهذا استخدام في أمر مباح .
الحال الثلاثة : أن يستخدمهم في أمور محرمة ، كنهب أموال الناس وترويعهم ، وما أشبه ذلك ، فهذا محرم ، ثم إن كان الوسيلة شركاً صار شركاً ، وإن كان وسيلته غير شرك صار معصية ، كما لو كان هذا المجني الفاسق يألف هذا الإنسي الفاسق ويتعاون معه على الإثم والعدوان ، فهذا يكون إثماً وعدواناً ، ولا يصل إلى حد الشرك .
ثم قال : إن من يسأل الجن ، أو يسأل من يسأل الجن ، ويصدقهم في كل ما يقولون ، فهذا معصية وكفر ، والطريق للحفظ من الجن هو قراءة آية الكرسي ، فمن قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح ، كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم ، وهي: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم...) الآية .
(ج1/546)
----
وقال ابن عباس في قوم يكتبون ( أباجاد ) وينظرون في النجوم ، ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق" .
وقوله: "أباجاد". هي: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضطغ... وتعلم أباجاد ينقسم إلى قسمين :
الأول : تعلم مباح بأن نتعلمها لحساب الجمل ، وما أشبه ذلك ، فهذا لا بأس به ، وما زال أناس يستعملونها ، حتى العلماء يؤرخون بها ، قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تاريخ بناء المسجد الجامع القديم :
جد بالرضا واعط المنى ***من ساعدوا في ذا البنا
تاريخه حيث انتهى ****قول المنيب اغفر لنا
والشهر في شوال يا ***رب تقبل سعينا
فقوله: "اغفر لنا" لو عددناها حسب الجمل صارت 1362هـ .
الثاني : محرم ، وهو كتابة "أبا جاد" كتابة مربوطة بسير النجوم وحركتها وطلوعها وغروبها ، وينظرون في النجوم ليستدلوا بالموافقة أو المخالفة على ما سيحدث في الأرض :
- إما على سبيل العموم ، كالجذب والمرض والجرب وما أشبه ذلك .
- أو على سبيل الخصوص ، كأن يقول لشخص : سيحدث لك مرض أو فقر أو سعادة أو نحس في هذا وما أشبه ذلك ، فهم يربطون هذه بهذه ، وليس هناك علاقة بين حركات النجوم واختلاف الوقائع في الأرض .
(ج1/548)
----
والنظر في النجوم ينقسم إلى أقسام :
الأول : أن يستدل بحركاتها وسيرها على الحوادث الأرضية ، سواء كانت عامة أو خاصة :
- فهو شرك إن اعتقد أن هذه النجوم هي المدبرة للأمور ، أو أن لها شركاً ، فهو كفر مخرج عن الملة.
- وإن اعتقد أنها سبب فقط ، فكفره غير مخرج من الملة، ولكن يسمى كفراً ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم على إثر سماء كانت من الليل: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، أما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب" . وقد سبق لنا أن هذا الكفر ينقسم إلى قسمين بحسب اعتقاد قائله .
الثاني : أن يتعلم علم النجوم ليستدل بحركاتها وسيرها على الفصول وأوقات البذر والحصاد والغرس وما أشبهه ، فهذا من الأمور المباحة ، لأنه يستعان بذلك على أمور دنيوية .
القسم الثالث : أن يتعلمها لمعرفة أوقات الصلوات وجهات القبلة ، وما أشبه ذلك من الأمور المشروعة ، فالتعلم هنا مشروع ، وقد يكون فرض كفاية أو فرض عين .
(ج1/550)
----
فيه مسائل :
السابعة : ذكر الفرق بين الكاهن والعراف . وفي هذه المسألة خلاف بين أهل العلم :
القول الأول : أن العراف هو الكاهن ، فمهما مترادفان ، فلا فرق بينهما .
القول الثاني : أن العراف هو الذي يستدل على معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها ، فهو أعم من الكاهن ، لأنه يشمل الكاهن وغيره ، فهما من باب العام والخاص .
القول الثالث : أن العراف يخبر عن أمور بمقدمات يستدل عليها ، والكاهن هو الذي يخبر عما في الضمير ، أو عن المغيبات في المستقبل .
فالعراف أعم ، أو أن العراف يختص بالماضي ، والكاهن بالمستقبل ، فهما متباينان ، والظاهر أنهما متباينان :
- فالكاهن من يخبر عن المغيبات في المستقبل .
- ( والعراف من يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك ).
غير واضح لأنهمالو كانا متباينين لقلنا : والعراف هو الذي يخبر عما في الضمير أو أن يكونا من باب العام والخاص فيقال في العراف ماهو مطبوع هنا بين القوسين .
(ج1/552)

بابٌ مَا جَاءَ فِي التَّطَيُّرِ

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
وإن شئت ، فقل : التطير : هو التشاؤم بمرئي ، أو مسموع ، أو معلوم :
1- بمرئي مثل : لو رأى طيراً فتشاءم لكونه موحشاً .
2- أو مسموع مثل : من هم بأمر فسمع أحداً يقول لآخر : يا خسران ، أو يا خائب ، فيتشاءم .
3- أو معلوم : كالتشاؤم ببعض الأيام أو بعض الشهور أو بعض السنوات .
(ج1/559)
----
والمتطير لا يخلو من حالين :
الأول : أن يحجم ويستجيب لهذه الطيرة ويدع العمل ، وهذا من أعظم التطير والتشاؤم .
الثاني : أن يمضي لكن في قلق وهم وغم يخشى من تأثير هذا المتطير به ، وهذا أهون .
وكلا الأمرين نقص في التوحيد وضرر على العبيد ، بل انطلق إلى ما تريد بانشراح صدر وتيسير واعتماد على الله ـ عز وجل ـ ، ولا تسيء الظن بالله ـ عز وجل ـ .
(ج1/560)
----
قوله: "لا نوء" . واحد الأنواء ، والأنواء : هي منازل القمر ، وهي ثمان وعشرون منزلة ، كل منزلة لها نجم تدور بمدار السنة .
وهذه النجوم بعضها يسمى :
1- النجوم الشمالية ، وهي لأيام الصيف .
2- وبعضها يسمى النجوم الجنوبية ، وهي لأيام الشتاء .
وأجرى الله العادة أن المطر في وسط الجزيرة العربية يكون أيام الشتاء ، أما أيام الصيف ، فلا مطر .
(ج1/568)
----
قوله : "لا يأتي بالحسنات إلا أنت" . أي : لا يقدرها ولا يخلقها ولا يوجدها للعبد إلا الله وحده لا شريك له ، وهذا لا ينافي أن تكون الحسنات بأسباب ، لأن خالق هذه الأسباب هو الله ، فإذا وجدت هذه الحسنات بأسباب خلقها الله ، صار الموجد هو الله .
والمراد بالحسنات : ما يستحسن المرء وقوعه ، ويحسن في عينه . ويشمل ذلك :
1- الحسنات الشرعية ، كالصلاة والزكاة وغيرها ، لأنها تسر المؤمن .
2- ويشمل الحسنات الدنيوية ، كالمال والولد ونحوها .

(ج1/572)
----
المتن :" وعن ابن مسعود مرفوعاً: "الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل" رواه أبو داود والترمذي وصححه " .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
وقوله: "شرك". أي: إنها من أنواع الشرك ، وليس الشرك كله ، وإلا لقال : الطيرة الشرك .
وهل المراد بالشرك هنا الشرك الأكبر المخرج من الملة ، أو أنها نوع من أنواع الشرك ؟ .
نقول:
هي نوع من أنواع الشرك ، كقوله صلى الله عليه وسلم : "اثنتان في الناس هما بهم كفر" ، أي: ليس الكفر المخرج عن الملة ، وإلا لقال : "هما بهم الكفر" ، بل هما نوع من الكفر .
لكن في ترك الصلاة قال : "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" ، فقال : "الكفر" .فيجب أن نعرف الفرق بين "أل" المعرفة أو الدالة على الاستغراق ، وبين خلو اللفظ منها :
- فإذا قيل : هذا كفر ، فالمراد أنه نوع من الكفر لا يخرج من الملة .
- وإذا قيل : هذا الكفر ، فهو المخرج من الملة .
فإذا تطير إنسان بشيء رآه أو سمعه ، فإنه لا يعد مشركاً شركاً يخرجه من الملة ، لكنه أشرك من حيث إنه اعتمد على هذا السبب الذي لم يجعله الله سبباً ، وهذا يضعف التوكل على الله ويوهن العزيمة ، وبذلك يعتبر شركاً من هذه الناحية ،
والقاعدة :

" إن كل إنسان اعتمد على سبب لم يجعله الشرع سبباً ، فإنه مشرك شركاً أصغر".

وهذا نوع من الإشراك مع الله :
- إما في التشريع إن كان هذا السبب شرعياً .
- وإما في التقدير إن كان هذا السبب كونياً .

لكن لو اعتقد هذا المتشائم المتطير أن هذا فاعل بنفسه دون الله ، فهو مشرك شركاً أكبر ، لأنه جعل لله شريكاً في الخلق والإيجاد .
(ج1/574)
----
المتن :" وله من حديث الفضل بن عباس: "إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك" .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
قوله : "ما أمضاك أو ردك". أما "ما ردك" ، فلا شك أنه من الطيرة ، لأن التطير يوجب الترك والتراجع . وأما "ما أمضاك" ، فلا يخلو من أمرين :
الأول : أن تكون من جنس التطير ، وذلك بأن يستدل لنجاحه أو عدم نجاحه بالتطير ، كما لو قال: سأزجر هذا الطير ، فإذا ذهب إلى اليمين ، فمعنى ذلك اليمن والبركة ، فيقدم ، فهذا لا شك أنه تطير ، لأن التفاؤل بمثل انطلاق الطير عن اليمين غير صحيح ، لأنه لا وجه له ، إذ الطير إذا طار ، فإنه يذهب إلى الذي يرى أن وجهته ، فإذا اعتمد عليه ، فقد اعتمد على سبب لم يجعله الله سبباً ، وهو حركة الطير .
الثاني : أن يكون سبب المضي كلاماً سمعه أو شيئاً شاهده يدل على تيسير هذا الأمر له ، فإن هذا فأل ، وهو الذي يعجب النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن إن اعتمد عليه وكان سبباً لإقدامه ، فهذا حكمه حكم الطيرة ، وإن لم يعتمد عليه ولكنه فرح ونشط وازداد نشاطاً في طلبه ، فهذا من الفأل المحمود .
والحديث في سنده مقال ، لكن على تقدير صحته هذا حكمه .
(ج1/580)
----

تم بحمد الله وفضله وكرمه
المجلد الأول
ويليه بإذن الله تعالى
المجلد الثاني
وأوله
باب ما جاء في التنجيم

تابع .. الدرُّ النضيد من فروق وتقاسيم القول المفيد على كتاب التوحيد (2)
 

بحوث علمية
  • بحوث في التوحيد
  • بحوث فقهية
  • بحوث حديثية
  • بحوث في التفسير
  • بحوث في اللغة
  • بحوث متفرقة
  • الصفحة الرئيسية