اطبع هذه الصفحة


إغلاق المَحَالِّ التجارية وقت الصلاة

حميدان بن عجيل الجهني
@humidanj

 
لقد شرع الله –بفضله ورحمته- للبشر ديناً قويماً، يحقّقُ لهم مصالحَ الدنيا والآخرة، ويجعلهم ينعمون بحياةٍ هانئة بقدر ما يلتزمون به من شرائعه ويطبّقون من أحكامه، فقد جاءت الشريعة بتحصيل المصالح وتكميلها ودفع المفاسد وتقليلها، والأمر بكل ما من شأنه تحقيق ذلك.

ومن ذلك: ترك الصفق في الأسواق، وإغلاق المحلات، والتوجه إلى بيوت الله والاجتماع فيها لأداء الصلاة جماعةً بمجرّد سماعِ داعي الفلاح ينادي (حي على الصلاة) استجابةً لأمر الله تعالى القائل: ﴿فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع﴾ جمعاً بين عمارة الأرض والتزود للآخرة.

وكان السلف الصالح كذلك، فقد أخرجَ ابن مرْدَوَيْه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: ﴿رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله﴾ : (كانوا رجالاً يبتغون من فضل الله يشترون ويبيعون فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما بأيديهم وقاموا إلى المساجد فصلوا)[1] وثبت مثل ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما رضي الله عنهم.

ومن خالف ذلك ولم يُجِبْ داعي الحق، فقد استحق العقوبةَ الرادعةَ كما ثبت في الصحيحين[2] أنّ النبي صلى الله عليه وسلم همّ أن يحرّق بيوت من تخلف عن صلاة الجماعة، لولا ما فيها من النساء والذرية. فأيّهم أشد: تحريقُ البيوت على أهلها ؟ أم إغلاق محل ؟
وعلى هذا؛ فإنّ فتحَ المَحَالِّ، والمجاهرةَ بترك صلاة الجماعة، وإشغالَ الناس عنها -بعد سماع النداء- أشدّ من التخلف عنها في البيوت، وهو موجب للعقوبة إن لم يستجب فاعل ذلك بالحسنى، كما جاءت بذلك السنة النبوية، ودلت عليه عموم الأدلة -كما سيأتي- وليست العقوبة على ذلك أمراً مستحدثاً لا أصل له.
 

وإنّ إغلاق المَحَالِّ التجارية لأداء الصلاة، عمل جليل له من الفوائد والمنافع والآثار ما يدل دلالة واضحة على أنَّ مشروعيته، بل وإيجابه، يعتبر من المصالح المرعية، والمقاصد الشريعة التي تحقق روح الإسلام، ومنها:

 

أولاً-
فيه تعظيم لله –سبحانه- وإجلالٌ لأمره ونهيه، وتقديمُ مَحَابِّهِ -تعالى- على أهواء الأنفس ورغباتها، وإظهارُ شعائرِ الإسلام، والانضباطُ لأحكام الشرع الظاهرة، المؤدّيَةِ إلى صلاح الأنفس وزكاة الأرواح، وإضفاءُ جوٍ إيماني، وإحساسٌ بالأمن والطمأنينة، وإعطاءُ صورةٍ مشرقةٍ عن عظمة هذا الدين الحنيف مما يجعل له أكبر الأثر على من يشاهد هذه المظاهر الإيمانية من كافر فيسلم، أو مسلم غافل فيهتدي.
 

ثانيًا-
في إغلاق المحلات أثناء الصلاة إحسان للتجار والعمال، وإعانتهم على إقامة الصلاة والخشوع فيها، فلو لم تُغْلَق لتهاون الكثير منهم في أداء الصلاة، أو ذهبَ خشوعهم ، خوفاً من ذهاب مُشْتَرٍ، أو ضياع صفقة، كما أن ذلك يساهم في تجديد الإيمان لدى الباعة، وتذكيرهم بالآخرة لينالوا من نصيبها، وتجنيبهم فتنةَ الدنيا، وتقوية صلتهم بخالقهم، ومراقبتهم له، مما يبعدهم عن الوقوع في المعاملات المحرمة، ويمنعهم من ارتكاب الذنوب والمعاصي، وينجيهم من فتن الأسواق ﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾ كما أن فيها تخفيف عنهم من ضغط العمل، وإراحتهم بالصلاة التي هي راحة للمسلم في كل أموره، وقد كان النبي ﷺ يقول: ((أقم الصلاة يا بلال أرحنا بها))[3]، وتعويدهم على المبادرة إلى الصلاة والإقبال على الله وطلب رضاه، فيتحقق فيهم قول الله تعالى: ﴿رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله﴾
وكذلك فيها أطْرُ المتساهلين بها إلى الحق أطْراً، كما أمر بذلك النبي ﷺ[4].

فلو تُركت المَحَالُّ مفتَّحةً واستمر البيع والشراء، لتكاسل الكثير عن أداء الصلاة جماعة، وربما أخروها إلى آخر وقتها أو بعده انشغالا أو نسياناً، وذلك يؤدي إلى تركها بالكلية وهو ما قد يصل بالمسلم إلى الكفر.
 

ثالثا-
وفي –ذلك- تعظيمُ قدرِ الصلاة، وإظهار مكانتها، وتوعية المجتمع بأهمية إقامتها جماعة، وذلك من التعاون على البر والتقوى الذي أمر الله به، فيعم الخير المجتمعَ بأسره.

أما المتاجرة والبيع والشراء أثناء أداء الناس للصلاة، فهو من الإثم والعدوان الذي نهى الله عن التعاون عليه، لما فيه من الاستخفاف بالصلاة والتساهل فيها، وتهوينِ شأنها بين الناس، وقد يؤدي ذلك إلى خلوِّ مساجد الأسواق من المصلين.

فمتى كانت هذه الشعيرة قائمة ظاهرة وجب العمل على بقائها كذلك، وإن قصّر فيها الناس أو أضاعوا شيئاً منها، وجب تذكيرهم بفضلها وأهميتها، فإن لم يستجيبوا كان لابد من منعهم من التقليل من شأنها ولو بالعقوبة، فهي عمود الإسلام، ولا حظ في الإسلام لمن تركها.

والقول بأن إغلاق المَحَالِّ أثناء الصلاة قطع للأرزاق أو إضعاف للقوة الاقتصادية = مبدأ غربي مادّيٌّ يقدّم الدنيا على الآخرة، ويلغي أثر الصلاة والصبر عليها في سعة الرزق. والواقع يبين خلاف ذلك، وصدق الله القائل ﴿وأْمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى﴾ ومع ذلك فإن الضررَ الديني المترتب على إهمال الصلاة، أشدُّ من الضرر الاقتصادي المحتمل لو افترضنا وجوده. وهل اعتبر الشرعُ البيعَ والشراءَ ونحوَه، من أعذار ترك صلاة الجماعة؟
وأما الاحتجاج بالحاجة للصيدليات؛ فإنما هي حاجة طارئة ونادرة مع وجود البديل من المستوصفات على مدار الساعة، أما المحطات فالحاجة إليها ليست ضرورية، ولو فرضنا تضرر البعض بذلك، فهي كتأخره في زحام شديد أو عطل ونحوه ، فليس من الحكمة إلغاء المصالح المترتبة على الإغلاق من أجلها؛ لأن حاجتنا للصلاة أكثر من حاجتنا لأي شيء آخر ﴿ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا﴾

ولا يعارض ذلك-أيضاً- ما يقال من أنَّ إغلاق المحلات أثناء الصلاة يؤدي إلى التجمهر خارج المسجد وعدم أداء الصلاة أو ازدحام الطرقات أو التهور في القيادة أو نحو ذلك، وليس في هذا حجة، لكون أغلب تجمعات الأسواق نساء ليس عليهن صلاة أو سواق غير مسلم أو مسلم غافل لا يلبث أن يتأثر بمن حوله، مع ذلك فليس الحل لذلك بتأييدهم على هذا المنكر والسماح لهم بالبقاء في محلاتهم، بل إلزامهم بإغلاقها لئلا تكون ذريعة لهم للتهاون في الصلاة، فقد يتأثر أحدهم بمن حولهم شيئا فشيئا، وقد يفعلون ذلك في بداية الأمر خوفاً من الهيئة ثم يعتادون ذلك ويألفونه، فيكون ذلك نوع من التذكير والتوجيه لهم والأطر على الحق إن دعت الحاجة، أما السرعة والازدحام فهي تصرفات شخصية، والحكم الشرعي لا يُترك لسوء تصرف وقع من البعض.

ولا تصح دعوى اعتراض أكثر المجتمع، فهو مجتمع محافظ وأغلبه يؤيد إغلاق المحلات أثناء الصلاة، ولو افترضنا اعتراض أكثرهم، فالقضايا الشرعية لا تخضع لآراء الناس وأهوائهم فالله يقول: ﴿وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيله﴾ ويقول: ﴿ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهنّ ﴾

كما أنّ المسألة غير متعلقة -فقط- بحكم صلاة الجماعة التي ورد الخلاف في حكمها، مع أن الراجح وجوبها، إضافة إلى أنَّ أمر ولي الأمر يرفع الخلاف -لما له من حق الطاعة- ويجعل العمل بالقول الذي اختاره واجب = بل متعلقة كذلك بنظام يسنّه البشر لأنفسهم لتحقيق مصالحهم مما يتوافق مع الشرع المطهر، فقد ورد في المادة الأولى من اللائحة التنفيذية لنظام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (وعليهم التأكد من إغلاق المتاجر ، والحوانيت ، ومنع مزاولة أعمال البيع خلال أوقات إقامتها) فلا يصح الاعتراض عليه ممن ليس لديه الأهلية لذلك.

وقد يستدل بعض من في قلبه زيغ بالمتشابه من النصوص كحديث ((لا صلاة بحضرة طعام))[5] وغيره ، للتدليس بها على من لا علم عنده، ويتهم علماء الإسلام بالجهل والسفه، ويدعي مخالفة هذا الفعل النبيل للنصوص الشرعية التي لم يفقهها، قلباً للحقائق وتضليلاً للناس وإتباعا للهوى.

ومما مضى تبين أنَّ إغلاق المحلات التجارية أثناء أداء الصلاة يحقق المصالح والمقاصد الشرعية، ويشهد له الواقع، ويرتضيه العقل، وقبل ذلك –كله– دلت عليه عموم الأدلة، وآثارٌ صحيحةٌ وصريحةٌ، ومضى عليه سلف الأمة في العصور الفاضلة ولازال ينادي به أهل العقل والحكمة، لما يترتب عليه من فوائد ومنافع، فهو ليس ببدعة ولا يخالف الشرع، ولا يضاد العقل كما يزعم من لا علم له ولافهم لديه.
 
وقد كان النبي ﷺ ينبه الناس إلى الصلاة بنفسه، كما روى الإمام أحمد عن عبد الله بن طهفة: (خرج رسول الله ﷺ فجعل يوقظ الناس الصلاة، الصلاة)[6] ، وروى أبو داود عن أبي بكرة عن أبيه قال: (خرجت مع ﷺ لصلاة الصبح، فكان لا يمر برجل إلا ناداه بالصلاة أو حركه برجله)[7]

وكان أصحابه ﷺ ورضي الله عنهم  كذلك:

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه  قال: (كانت الصلاة إذا حضرت على عهد رسول الله ﷺ سعى رجل في الطريق فنادى: "الصلاة، الصلاة، الصلاة"...)[8]
وقال الحسن بن علي رضي الله عنهم  في ذكْر مقْتل أبيه: (...فلما خرج من الباب نادى: أيها الناس الصلاة الصلاة -كذلك كان يفعل في كل يوم- ومعه دِرَّتُهُ يوقظ الناسَ، فاعترضه الرجلان، فضربه ابنُ ملجم على دماغه ...)[9]
وذكر الزمخشري في الكشاف[10] أن رسول الله ﷺ : (استعمل عَتّاب بن أسيد رضي الله عنه  على أهل مكة وقال «انطلق فقد استعملتك على أهل الله» فكان شديدا على المريب، ليّنًا على المؤمن، وقال: لا والله لا أعلم متخلّفًا يتخلف عن الصلاة في جماعة إلا ضربت عنقه، فإنه لا يتخلف عن الصلاة إلا منافق. فقال أهل مكة: يا رسول الله، لقد استعملت على أهل الله عَتّاب بن أسيد أعرابيا جافياً، فقال ﷺ : «إني رأيت فيما يرى النائم كأنّ عتاب بن أسيد أتى باب الجنة، فأخذ بحلقة الباب فقلقلها قلقالا شديدا حتى فُتح له فدخلها» وهذا يدل على إقرار النبي ﷺ عَتّابَ رضي الله عنه  على ما فعله.
 

 وعليه مضت العصور المفضّلة:

قال أبو طالب المكي في (قوت القلوب)[11]: (وقد كان السلف من أهل الأسواق إذا سمعوا الأذان ابتدروا المساجد يركعون إلى وقت الإقامة، وكانت الأسواق تخلو من التجار، وكان في أوقات الصلاة معايش للصبيان وأهل الذمة، وكانوا يستأجرونهم التجار بالقراريط والدوانيق يحفظون الحوانيت إلى أوان انصرافهم من المساجد)
 

وسار على ذلك مَن بعدهم من علماء الشريعة:

قال ابن القيم رحمه الله: (واعتناءُ ولاة الأمور بإلزام الرعية بإقامة الصلاة أهمُّ من كل شيء، فإنها عماد الدين، وأساسه وقاعدته، ويأمر والي الحسبة بالجمعة والجماعة وأداء الأَمانة والصدق)[12]

وقامت به هذه الدولة السعودية منّ أول عهدها:

ومن ذلك هذا الكتاب: (من عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل، إلى من بلغه هذا الكتاب من المسلمين، وفقنا الله تعالى وإياهم لمعرفة دينه، والقيام بحقه والثبات عليه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
وقد عيَّنا نُواباً في تفقد الناس عند الصلاة، ومعرفة أهل الكسل الذين اعتادوه وعُرفوا من بين المسلمين بذلك، فيقومون على من قدروا عليه بالحبس والضرب؛ ومن هابوه ولم يقدروا عليه، فليُرفَع أمره لنا، وتبرأ ذمتهم بذلك، ولا يكون لأحد حجة يحتج بها علينا. كذلك إنا ملزمون أهل كل بلد بالقيام بذلك، ومن لم يقم به من أمير وغيره، بان لنا أمره، واتضح لنا غيّه)[13]..

وعليه فمن أنكر إغلاق المحلات لأداء الصلاة فقد جاء بفرية لا دليل عليها ولا برهان، إلا إتباع الهوى والمتشابه، تؤدي إلى مفاسد وشرور. واللائق بعلماء هذه البلاد نشر هذا الأمر في البلدان الأخرى وحث الآخرين عليه وترغيبهم فيه والدعوة إليه لتعود مجتمعات المسلمين كما كانت عليه من تعظيم شأن الصلاة وعدم الانشغال عنها بزخارف الدنيا وزينتها، ذلك خير من التهوين من شأن الصلاة والدعوة إلى ما يشغل الناس عنها ويحملهم على الغفلة والإعراض عنها.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
 
 
حميدان بن عجيل الجهني
جمادى الأولى 1431

-----------------------------------------------
[1] الدر المنثور، سورة النور 37.
[2] البخاري: 644. ومسلم: 651.
[3] سنن أبي داوود: 4985
[4] الترمذي: 3047
[5] صحيح مسلم: 560.
[6] المسند: 23616
[7] السنن: 1264
[8] صحيح ابن خزيمة: 369
[9] تاريخ الإسلام (2/371)
[10] تفسير سورة الإسراء، آية: 80
[11] 2\437
[12] الطرق الحكمية: 201
[13] الدرر السنية: 14 \ 368
 

بحوث علمية
  • بحوث في التوحيد
  • بحوث فقهية
  • بحوث حديثية
  • بحوث في التفسير
  • بحوث في اللغة
  • بحوث متفرقة
  • الصفحة الرئيسية