اطبع هذه الصفحة


النوازل في الرضاع
نازلة بنوك الحليب

عبدالله بن يوسف الأحمد
1438ه – 2016م


بسم الله الرحمن الرحيم

 
المطلب الأول: حقيقة بنوك الحليب.

البنك كلمة إيطالية الأصل، ويقابلها في العربية: المصرف، ثم هي انتقلت إلى الطب، وباتت تطلق على المركز أو المؤسسة الطبية التي تقوم بحفظ مواد العلاج من جسم الإنسان والخلايا والأنسجة البشرية.
وأما عن بنك الحليب المعاصر، فقد قيل في تعريفه: مركز مخصص لجمع حليب المراضع تبرعًا منهن أو مقابل ثمن معين لغرض بيعه.
وقد قامت بعض الأمم الغربية فالشرقية بتجربة بنوك الحليب، ثم ظهرت مع التجربة سلبياتٌ فنية وعلمية؛ فانكمشت، وقل الاهتمام بها؛ حتى عاودت بعض الدول المتقدمة الاهتمام بها؛ كالصين؛ بغرض تغذية الأطفال الخدج، أو ضعيفي النمو، ونحوهم؛ بعد تعقيمها وحفظها. وباتت هذه الفكرة مؤخرا ترى النور بطرائق متنوعة في دول مختلفة؛ كماليزيا، والكويت.
والغالب أن العاملين فيها يخلطون لبن المرأة الواحدة مع ألبان العشرات من النساء أو المئات، ولا يبقى لبن كلِّ امرأة منفردًا.
وتكلفة هذه البنوك عالية، وتحتاج إلى تقنيات متطورة لتعقيم اللبن والحفاظ عليه؛ الأمر الذي بلغ بها مرحلةَ الاحتضار في بعض البلدان؛ مثل: الولايات المتحدة الأمريكية.
ولما كانت الرضاعةُ الطبَعية أساسَ التكوين السليم والنمو الناضج؛ ظهرت أهمية إنشاء بنوك الحليب البشري؛ حيث لم يتوصل – رغم التقدم في ميدان غذاء الأطفال – إلى حليب أو غذاء بديل يضارع حليب الأم.

وهذه البنوك، وإن كان لها ما يبررها من الناحية العلمية والشرعية؛ إلا أنه يحتف بها إشكالاتٌ ذكرها بعض الخبراء وأهل الاختصاص ولم يسلِّم بها الباقون، وهي بإيجاز:

1- إن هذا اللبن البشري المتجمع قد يتعرض للتلوث والإصابة بالفيروسات؛ كفيروس نقص المناعة المكتسبة، أو فيروس الكبد الوبائي، وغيرها؛ إما عند جمعه، أو حفظه، أو تعقيمه، أو استعماله.
2- فقدان بعض خصائص اللبن ومميزاته؛ نتيجة تحلل بعض المواد الموجودة فيه.
3- مساهمته في فقد كثير من مميزات الرضاعة الطبَعية؛ العائدة على الأم؛ كانقباض رحمها، وعودته سريعًا إلى حجمه الطبعي، وتقليل تعرضها لسرطان الثدي والمبيض، أو العائدة على الرضيع؛ كبناء عضلات الفم، وتفعيل عضلات اللسان والشفاه والفك؛ تمهيدًا لتعلم الكلام.
4- تعرضه لما يتعرض له الحليب الصناعي؛ من التجفيف، والحفظ، والنقل، والتعرض للأجواء.
5- نقص الإشباع العاطفي والنفسي؛ الأمر الذي يضعف الرابطة بين الأم وطفلها.
6- التكاليف المرتفعة على المشغِّل والمستفيد.
7- إن للبن تأثيرًا في أخلاق الطفل، وبنوك الحليب لا تفرق بين حميدة الخلق ورديئته؛ بل تعامله كأي حليب من بهيمة الأنعام؛ يجمع لبنها، ويعامل بوسائل الحفظ المختلفة؛ من دون تمييز.
8- تشجيع الأمهات المعوزات على الامتناع عن إرضاع أطفالهن لأجل بيعه، وما يؤدي إليه؛ من ظهور تجارة لبن الأمهات إزاء الاتجار بالدم؛ الأمر الذي يعود على الفقراء بالاستغلال لصالح الأغنياء.

المطلب الثاني: حكم بنوك الحليب.

بحث العلماء المعاصرون حكم إنشاء بنوك الحليب، وحكم ما يترتب على إنشائها من حيث التعامل معها والانتفاع بها، وكانت آراؤهم في ذلك على وفق ما يأتي:
القول الأول: الجواز. وهو قول أحمد هريدي، و القرضاوي، وغيرهم.
القول الثاني: المنع. وهو قول ابن عثيمين، ومختار السلامي، و د. بكر أبو زيد، وبه صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي.
القول الثالث: يجوز بشرطين:
الأول: مسيس الحاجة.
الثاني: عدم الإخلال بالاحتياطات والضوابط؛ ككتابة اسم المتبرعة على كل قارورة، وتقييد ذلك في سجل.
وهو رأي د. عمر الأشقر، وغيره.
القول الرابع: التوقف.
وهذا القيل إن لم يكن قولًا في حقيقته؛ إلا أنه قال به عبد العزيز عيسى، وعبد الحليم جندي.

• الأدلة:

أدلة القول الأول: استدل أصحاب القول الأول بما يأتي:

الدليل الأول: استصحاب العمومات في الباب بظاهر ألفاظها.

فمن ذلك: قول الحق جل ذكره: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخْوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ [سورة النساء: 23]؛ فحيث عني بالأمومة هنا محض إلقام الثدي وامتصاصه، لا مجرد الاغتذاء به بأي وسيلة؛ فلا أثر لبنوك الحليب في نشر الحرمة، وإذا انتفى الأثر؛ فلا معنى للتحريم؛ لأن الحرمة لن تنتشر.
ونوقش بما يأتي: أ- عدم التسليم؛ إذ العبرة بغذاء الجسم من اللبن في سن المجاعة الذي ينشز فيه العظم ويشد اللحم، وأكثر الفقهاء على حصول لبن المرأة في جوف الصغير رضاعًا.

الدليل الثاني: بيان بعض موانع انتشار الحُرمة الرَّضاعية.

وهي: اختلاط الحليب بما لا يتوافر معه من كل واحدة مادة شبع الرضيع في الرضعات الخمس، إضافةً إلى تعرضه للبسترة، وانتفاء مادة الالتقام من الثدي.
فإذا اختلط الحليب في بنوك الحليب بغيره عُدم العلم بالمرضِع (صاحبة الحليب)، ولو عُلِمْنَ فإن مقدار اللبن من كل امرأة غير معلوم، ولو علم المقدار فإن ضابط الرضعة التامة المشبعة من كل واحدة لا يتصور تحققه.
كما أن من طرق حفظ اللبن في هذه البنوك تعريضه للنار – فيما يعرف بنظام البسترة -، والمعروف عند الفقهاء أن لبن الرضاع إذا مسته النار؛ فإنه يفقد صفته، ولا يحرم.
فحيث وجد الشك في تمام الرضعات الخمس، لم تنتشر الحرمة، جريا على الأصل الأول.
عليه؛ فلا بأس من إنشائها.
ونوقش بأنه لا تأثير لخلط الحليب على ثبوت التحريم به.
كما يمكن أن يناقش هذا الدليل بأن فيه مصادرة وهروبًا عن محل النزاع.
وبأن التقنية الحديثة سهّلت تنظيم المعلومات ومعرفة دقائق الأشياء.
وبأن المعنى الذي نصبه الشارع سببا للتحريم هو نشوز العظم ونبات اللحم (التغذي)، وهو غير منتفٍ مع المعالجة بالنار (البسترة).

الدليل الثالث: المصلحة المرسلة.

حيث إن مبنى الشريعة على جلب المصالح ودفع المضار، وفي إقامة هذه البنوك تحقيقٌ لمصالح الأطفال ممن يعوز أمهاتهن الحليب، ودفع مضار الحليب الصناعي؛ كالإصابة بفقر الدم، وأمراض الجهاز التنفسي، والإسهال، وأمراض المسالك البولية، وعسر الهضم، ونقص المناعة، والتخمة، والربو، والأمراض الجلدية، والسكري، والأضرار والأمراض الأخرى الناشئة من المعادن الموجودة بكميات مضاعفة؛ مثل: الكالسيوم، والفسفور، والصوديوم، والماغنسيوم، والبوتاسيوم؛ إلى جانب الآثار النفسية والخُلُقية الأخرى
ونوقش: بأن ذلك معارض بكون الضرر لا يزال بالضرر، وأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ فلا ضرورة ولا مشقة ولا حرج يدعو لإنشاء بنوك الحليب واسترضاع الأطفال منها؛ إذ الألبان الصناعية اليوم تقو مقام حليب الأم في تغذية الطفل، وهي آمَن من الحليب المجموع في البنوك.

الدليل الرابع: القياس.
وذلك على أصول ثلاثة: المراضِع في غير البنوك، وبنوك الدم، واستئجار الظئر.
فإذا جاز الرضاع من النساء الأخريات غير الأم، فليكن جائزًا إقامةُ البنوك التي غاية ما فيها الرضاع من غير الأم.
وإذِ اتفق الفقهاء المعاصرون على جواز إقامة بنوك الدم مع نجاسته، وسرعة الفساد إليه والجراثيم والفيروسات والإنتانات، وخباثة كسبه للحجام، واقترانه بالفرث في كتاب الله تعالى، وذلك على عكس اللبن؛ فكان أولى بالإباحة، وأحرى للانتفاع.
وحيث جاز استئجار المرضع بالاتفاق؛ جاز بيع لبنها.

أدلة القول الثاني: استدل أصحاب القول الثاني بما يأتي:

الدليل الأول: سد الذريعة.
حيث إن الإسلام يعتبر الرضاع لحمة كلحمة النسب؛ يحرم به ما يحرم من النسب؛ بإجماع المسلمين، ومن مقاصد الشريعة الكلية المحافظة على النسب، وبنوك الحليب مؤدية إلى الاختلاط والريبة والفتنة؛ فتُسد الذريعة أخذًا للحيطة والحذر، وبخاصة أن البلوى لم تعم بها في الأمة الإسلامية، وإلى ذلك يشير السرخسي في قوله: وفي تجويز ما يحلب بالقوارير فساد؛ لأنه يُوجَر به الصبيان فتثبت به حرمة الرضاع بينهم وبين من كان اللبن منها، ولا يعلم ذلك ا.ه بتصرف يسير.
ونوقش بأنه لا وجه لاعتبار سد الذريعة، ولا الحيطة والحذر؛ إذا كان المحذور الشرعي عندنا منتفيًا، والذريعة كما يجب سدها يجب فتحها؛ بحسب المقاصد المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها؛ لأن للوسائل المفضية إليها أحكامَ المقاصد.
و إذا وجد الشك ووقعت الريبة رُجِعَ إلى الأصل، وهو عدم ثبوت التحريم بالرضاع، وهو يقين؛ فلا يزول بالشك.

الدليل الثاني: قاعدة: لا ضرر ولا ضرار.

وذلك من أوجه:
الوجه الأول: إن بنوك الحليب تساهم في قتل عاطفة الأمومة بين المرأة وطفلها.
الوجه الثاني: كون الحليب المجموع في البنك من نساء شتى لا تعرف أخلاقهن؛ بل قد تكون منهن الكافرة، وبخاصة عند الاستيراد، ومثلها لا يحتمي من الأشياء الضارة للولد.
ويمكن أن يناقش بأن لأولياء الرضيع أن يسترضعوا من شاؤوا؛ لعموم قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ [سورة البقرة: 233]، وقوله: ﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾ [سورة الطلاق: 6]؛ لأن منفعة حليب الآدمية مقدمة على أي مضرة جانبية محتملة، وإذا ثبت اكون الرضاع يغير الطباع؛ فالأولى للمولود له أن يتخير الأفضل؛ بطلب بيانات المرضِع، والاطلاع على فحص الدم، وعلى البنك توفير ذلك.
الوجه الثالث: إن الاعتماد على بنوك الحليب يفقد الأم فوائد الرضاعة، ويفقد الطفل أيضًا فوائد المص من الثدي على الفك وغيره.
الوجه الرابع: إن حليب المرأة المحفوظ في بنوك الحليب معرض للتلوث؛ إما عند جمعه بسبب عملية التعقيم – في الغالب – التي لا تكون مجدية أو كافية، أو عند تخزينه؛ إذا كان يحفظ في بنوك لا تتوافر فيها المقاييس المطلوبة للحفظ طيلة فترة التخزين مما يعرضه للفساد، أو عند تناوله؛ إذ يعطى في قوارير قد تحتاج إلى تعقيم شديد، وهذا أمر قد يهمل فيه من يعطي الطفل الحليب.
الوجه الخامس: إن إنشاء هذه البنوك في البلاد النامية قد يتحول مع الوقت إلى تجارة، وتضطر المعدَمات الفقيرات إلى بيع لبنهن وترك أولادهن للمسغبة أو لمستحضرات الألبان الصناعية.
الوجه السادس: الضرر لا يزال بالضرر؛ فحيث وجد الضرر بالأطفال المحتاجين للحليب الطبَعي، فلا ينبغي أن يزال بإيقاع ضرر آخر، وهو الكائن في محاذير هذه البنوك، والتي منها إلى جانب ما ذكر: الاطلاع على عورات النساء بلا ضرورة بكشف أثدائهن للرجال غالبًا عند حلبها، وحصول العدوى، وإهدار كرامة المرضعات، وفساد الأخلاق، والأضرار الاجتماعية الأخرى.

الدليل الثالث: انتفاء الحاجة فضلا عن الضرورة.

ذلك أن العلاقات الاجتماعية في العالم الإسلامي توفر للمولود الخداج، أو ناقص الوزن، أو المحتاج للبن البشري في الحالات الخاصة؛ ما يحتاج إليه من الاسترضاع الطبَعي؛ الأمر الذي أغنى عن بنوك الحليب. ولو لم يوجد فالحليب الحيواني يغني.
ونوقش بما أثبته الطب في بعض الحالات التي لا يمكن أن يعطى الطفل شيئًا غير الحليب الطبَعي، كما أن فوائد الحليب الطبعي لا يصل إليها الحليب المجفف مهما كانت جودته.
كما يمكن أن يناقش بما يأتي:
المناقشة الأولى: تغير ظروف الناس في كثير من المجتمعات الإسلامية تبعا لزحف الحياة المدنية المعاصرة.
المناقشة الثانية: قِلة وفيات الرُّضَّع بالنسبة إلى ما مضى هو السبب الآخر لندرة المراضع، وبقاء الحاجة.
المناقشة الثالثة: إن اشتراط الحاجة للقول بالجواز دعوى منقوضة بالمنقول والمعقول. وإذا كان الأصل في الأشياء الإباحة، فدعوى تقييد الإباحة بالضرورة؛ تشبيه له بالمحرم الذي يحل للضرورة، وتبديل لحكم الله.

الدليل الرابع: القاعدة الفقهية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

فدرء المفاسد المترتبة على إنشاء هذه البنوك مقدم على جلب المصالح المظنونة.
ونوقش بما يأتي:
المناقشة الأولى: إن الشريعة المحمدية جارية في أحكامها على ارتكاب أخف الضررين، ودفع أكبر المفسدتين، والقاعدة المذكورة محلها تساوي الضررين، أو كون الضرر البدل أعظم ضررًا من المبدل منه.
المناقشة الثانية:
إن المحذور المتوهم دائر بين أمرين: الأول: كونه منتفيًا. الثاني: كونه متلافًا؛ بأخذ التدابير اللازمة. ولو وجد المحذور، فهو مغتفر في سبيل المصالح المجتلبة؛ إلا أن يتساوى الجانبان فدرؤ المفاسد مقدم.

الدليل الخامس: حرمة بيع لبن الآدمي.

فبيع الحليب المخزن في البنوك محرم؛ لأن الحليب جزء آدمي مكرم، ومقتضى ذلك صيانته عن الابتذال بالبيع، إلى جانب كونه ليس بمال.
ويمكن أن يناقش بأن الإجماع منعقد على جواز استئجار الظئر، وإذا كان المعقود عليه هو اللبن\؛ فإن الإجارة لا تختلف عن البيع في معنى المعاوضة، وقد قال الله تعالى: ﴿وَأَحَلَ الله البَيْعَ﴾ [سورة البقرة: 275]، ولبن الآدمية داخل في عموم الإباحة، وقد فصل الله تعالى لنا ما حرم علينا، ولم يأتِ تدليل صحيح أو يَقْوَ تعليل صريح على إلغاء الأصل المبيح.

الدليل السادس: اعتبار المآل.

إذ إنه إذا انتشرت هذه البنوك فيحتمل أن تتقاعس الأمهات المترفات السليمات والقادرات على الرضاعة عنها لأسباب تافهة؛ كالمحافظة على الجمال أو العمل، واستبدال ذلك بالحليب الإنساني المأخوذ من بنوك الحليب؛ على اعتبار أنه يمثل اللبن الإنساني المطلوب، والأفضل بكثير من لبن الأبقار والجواميس والغنم.
ويمكن أن يناقش بأن ذلك - في المقابل - يفتح لمن مات ولدها بابًا لنفع أطفال المسلمين، مع التخلص من أضرار بقاء الحليب في الثدي، وكذلك من فاض حليب ثديها على أطفالها.
كما أن الكلام هنا ينبغي أن يكون جاريًا على الأصل في حكم المسألة، وأما ما يعرض لها من صور وجزئيات ومستثنيات فخارج عن التقرير الحُكمي الأصلي؛ لأن أصل تقرير الفقهاء لأحكام المسائل مبني على الأحوال الظاهرة والمعتادة، وأمّا ما ينتابها من العوارض؛ فلا يلزم الفقيه أن يقيَّد بها؛ لأنها غير متناهية، وتفصيلكم هذا يشابه قول بعض أنصاف المتعلمين في حكم القيام على المصلي: الصحيح أنَّ القيام ركنٌ إن قدر عليه، وليس بركن إن لم يقدر عليه! ولو أجري الخلاف بهذه الطريقة لقلبت المسألة تقليبًا لا وجه له ولا معنى، وهذا هو المعنى الذي نبه عليه تقي الدين ابن تيمية في قوله: مِن فصيح الكلامِ وجيِّدِه الإطلاقُ والتعميمُ عند ظهور قصد التخصيص والتقييد، وعلى هذه الطريقة الخطابُ الواردُ في الكتاب والسنة وكلام العلماء؛ بل وكلِّ كلامٍ فصيح، بل وجميع كلام الأمم؛ فإن التعرُّضَ عند كلِّ مسألةٍ لقيودها وشروطها تَعَجْرُف وتكلُّف، وخروج عن سَنَن البيان، وإضاعةٌ للمقصود، وهو يُعَكِّر على مقصود البيان بالعكس؛ فإنه إذا قيل: تجب الزكاة في الحُليِّ، فقال: إن كان لامرأةٍ مسلمة ليس عليها دين حالٌّ لآدمي يُنْقِصُ زكاةَ المال عن أن يكون نصابًا، وحالَ عليه حولٌ لم يخرج عن ملكها ويدُها ثابتةٌ عليه؛ وجَبَتْ فيه الزكاة = كان ذلك لُكْنَةً وعِيًّا ا.ه

أدلة القول الثالث: استدل أصحاب القول الثالث بما يأتي:

1- إن الإجراءات المذكورة تزيل عامل الجهالة في اللبن المحذور، وبذلك ينتفي المحذور.
ونوقش بما يأتي:
المناقشة الأولى: إن هذا الضبط وإن كان يحصل به نشر الحرمة، إلا أنه لا يبرر إنشاء هذه البنوك وسقاية الأطفال منها؛ للمحاذير الأخرى المتنوعة.
المناقشة الثانية: إن الوثائق المقيدة عرضة للتلف والضياع.
ويمكن أن يجاب: بأن الله تعالى ما جعل علينا في الدين من حرج؛ فقال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [سورة البقرة: 286]، وقال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [سورة التغابن: 16]، وفرض مثل هذه الاحتمالات الشاذة مما يعسر الجواب عنه؛ لفسادها في موطن الاحتجاج والاستدلال، وحال المناقش لا يختلف عن حال من يحرم بيع العنب أو زراعته مطلقًا؛ خشية تعرضه للتخمير، وهذه الذريعة حكي الإجماع على تحريم سدها ووجوب فتحها، ولْيكن في قول الحق تعالى: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [سورة النجم: 18] كفٌّ لكم عن مثل هذه التخيلات.

الترجيح:
بتأمل المسألة، والوقوف على منازع أصحاب الأقوال، والنظر في أصول الشريعة وفي القواعد المستقرة في باب الرّضاع؛ ظهر أن القول الأول هو أقرب الأقوال؛ لأن القول الثاني لم يذكر أصحابه أدلةً نقلية خاصة بمحل النزاع، والاستدلال بالأدلة العامة غير موصل إلى الحكم بسد الذرائع الخاصة؛ لأن مفاد الأدلة العامة محلُّ إجماع؛ فلا يستصحب إلى محل النزاع.
والظاهر أن الذي حمل المانعين هو التطبيق الواقعي في البلاد الكافرة، ومعلوم أنه لا يمكن تأصيل الحكم على عموم فكرة البنوك الحليبية من خلال تطبيق مؤسسة أو أخرى لا تدين بالإسلام حاكمًا؛ لئلا يكون ذلك حائلا دون من يريد نمذجتها على نحو ما جاءت به الشريعة.
ومن مظاهر ضعف قول المانعين (الثاني) أن أحدًا من المانعين لا يستطيع أن يفتي بمنع طفل يرتضع من مائة امرأة - أو أكثر - في قرية، وهذا ما يقترب بالخلاف إلى مضمار اللفظية، في نوعه. والدليل على ذلك أن عامة الأدلة المؤثِّرة لأصحاب الأقوال في المسألة دائرة حول مصالح يراد تحقيقها، ومنافع يُبتغى فتح أسبابها وإتاحة سبلِها، أو ذرائع يُبتغى سدُّها، ومفاسد وأضرار يراد درؤها ودفعها أمام المصالح المرجوحة؛ ثابتة كانت، أو متوَهَّمة.

ويبقى بعد ذلك البحث عن تفسير آخر لجنوح المانعين إلى هذا القول؟

إنه وباستقراء النوازل - على مرِّ العصور - التي تكون جديدة من نوعها غير مسبوقة بمثيل، فإنه يُلحظ أنها تواجه بالرفض والشجب من قبل طائفة من الفقهاء، وخصوصًا إذا لم يكن للفقيه ملامسة لتلك النازلة أو معاينة، ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا، إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا؛ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ [سورة يونس: 36].
وإذا لم يكن ذلك مستنكرًا على بعض النفوس البشرية التي لا تستوعب غير المألوف حتى يمضي الزمن الذي يمكنها معه أن تدرك مكان النازلة من الشريعة؛ فإنه مستنكر في ميزان الشريعة؛ لأن الله تعالى لم يفرق بين إطلاق القول بالتحريم، أو بالتحليل؛ في قوله: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ [سورة النحل: 116]، وليس من السائغ أن تتأثر الأحكام الشرعية بالطبائع الشخصية، وخصوصًا إذا اقترن ذلك بمفهوم محدث ما أنزل الله به من سلطان، وهو أن الانحياز إلى عُدوة الحرام وسلوك جادة المنع هو مقتضى الورع وأمارة الديانة وغاية الصدق. والتحقيق أن التحريم ليس بأولى من التحليل، بل الإباحة في ميزان الشريعة هي الأصل؛ لعموم قول الله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [سورة الأعراف: 32]، وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [سورة البقرة: 29]، وما أخبر الله بذلك إلا لأن الأرض وجميع ما فيها لبني آدم منافع سوى ما ورد في الشرع المنع منه لضرره، وبنوك الحليب من خلقه.
وفي المقابل؛ يفتح الله تعالى على من يشاء من عباده في أمثال هذه النوازل مِن التحقيقات العلمية التي يجتمع فيها من الكَلِمِ ما تُختصر به المسافات الطوال والحِقب البِعاد؛ مما يكون مردَّ العلماء إليه بعْدُ، وموضعًا لاتفاقهم، وانظر إلى السعدي ت 1376ه حين قال: المخترعات الحديثة النافعة للناس في أمور دينهم ودنياهم؛ هي مما أمر الله تعالى به ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومما يحبه الله ورسوله، ومن نِعَم الله على العباد؛ بما فيها من المنافع الضرورية والكمالية...؛ فبعضها يدخل في الواجبات، وبعضها في المستحبات، وشيء منها في المباحات؛ بحسب ما تثمره، وينتج عنها من الأعمال ا.ه وقال: العادات كلها؛ كالمآكل، والمشارب، والملابس كلها، والأعمال، والصنائع، والمعاملات، والعادات كلها؛ فالأصل فيها الإباحة والإطلاق، فمن حرَّم شيئًا منها لم يحرمه الله تعالى ولا رسوله- صلى الله عليه وسلم -؛ فهو مبتدع، كما حرم المشركون بعض الأنعام التي أحلها الله ورسوله، وكمن يريد بجهله أن يحرم بعض أنواع اللباس، أو الصنائع، أو المخترعات الحادثة بغير دليل شرعي يحرمها، فمن سلك هذا المسلك؛ فهو ضال جاهل، والمحرمات من هذه الأمور قد فصلت في الكتاب والسنة؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [سورة الأنعام: 119]، ولم يحرم الله علينا إلا كل ضار خبيث، ومن تتبع المحرمات وجدها تشتمل على الخبث والمضار القلبية، أو البدنية، أو الدينية، أو الدنيوية؛ لا تخرج عن ذلك، ولهذا من أكبر نعمة الله علينا تحريمه ومنعه لنا مما يضرنا، كما أن من نعمه إباحته لنا ما ينفعنا ا.ه

ولا يبعد القول بندب المسلمين أفرادًا وحكوماتٍ إلى افتتاح مثل هذه البنوك؛ لما يأتي من الاعتبارات:

الاعتبار الأول: انعدام المراضع في البوادي، وتعذّرهن في الحواضر.
الاعتبار الثاني: إصابة الرضَّع المعتمِدِين على الحليب الصناعي بأمراض الربو، والسمنة، وترجّح احتمال تعرضهم لمرض السكري. وهذا يمكن أن يحدث بإضافة زجاجة واحدة من الحليب الصناعي إلى جانب الحليب الطبَعي.
الاعتبار الثالث: الآثار المعنوية الأخرى، وفي هذا يقول الشيخ د. صالح الفوزان: ولأجل هذا؛ فإن أكثر الناس اليوم لما صاروا يرضعون من الحليب الصناعي الذي هو من ألبان البقر؛ صارت أخلاقهم تشبه أخلاق البهائم، ولا حول ولا قوة إلا بالله ا.ه
الاعتبار الرابع: كون حليب الآدمية يوفر حماية إضافية من العدوى بزيادة قوة المناعة والمساهمة في تكوين الأجسام المضادة ويذيب الفطريات المسببة لأمراض، ويحفّز على الذكاء، ويكوّن مخ الإنسان ونمو العظام بشكل طبعي.
الاعتبار الخامس: فوائد الرضاعة الطبَعية للأم؛ فإنها تمكّن من إفراز هرمون الحمل وتنظيمه، وإفراز الهرمونات الأنثوية وتقليص الرحم بعد الولادة حتى يعود إلى حجمه الطبَعي، كما أنها تساهم انخفاض النزف بعد الولادة، وخفض مستوى احتمال الإصابة بسرطان الثدي والمبيض وهشاشة العظام وأمراض الرحم، وفي تحليل الدهون المترسبة أثناء الحمل؛ بحيث يجري مع ذلك استعادة وزن ما قبل الحمل وخسارة الوزن الزائد، إلى جانب كونها حائلًا دون الاضطرابات المبكرة لسن اليأس؛ الأمر الذي يعود بشكل إيجابي على المجتمع وعلى تنشئة الطفل.
الاعتبار السادس: الفطرة.
ذلك أن الله تعالى خلق الثديين في الإناث بحكمته، وأخرج منهما لبنا خالصا بقدرته؛ فلمن يكون هذا اللبن إذا مات ابن المرضع أو زاد عن حاجة رضيعها؟ وقد استغنى الناس عن بعضهم واعتزلوا الإرضاع من بعض؛ إلا القليل والنزر اليسير، والنادر لا حكم له.
والذي يجب التنبُّه له هنا هو أن من أفتى بتحريم إنشاء بنوك الحليب أو التعامل معها أفرادًا كانوا أو مجامعَ بناء على صورة للمحكوم عليه آنذاك؛ بما في ذلك إهمال تمييز حليب المرأة المؤدي إلى نكاح من حرم الله تعالى، أو كشف عورات المراضع أمام من لا تحل له، أو غير ذلك مما جاءت شريعة الله بتحريمه، ثم هو أفتى أو غيره فيما بعد بالجواز بناءً على معطيات لا شيء فيها يوجب الحظر؛ فإن الفتوَيَيْن جاريتان على وفق مقصود الشارع؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا.
ومن هنا يُعلم أن بعض الدعاوي التي تقذِف الفقهاء بالتناقض، أو التقلب بماجريات الزمن؛ واهية في كثير من الأحيان؛ لأنها قائمة على تشخيص ظاهريٍّ خالٍ من الفحص والتمييز؛ لأن التزام قول واحد من غير تبديل لا ينسجم مع طبيعة النفس البشرية في المسائل الظنية المحتملة، وأما الذي لا يبدل القول عنده فذلك هو الله، وهو القائل: ﴿ما يبدل القول لدي﴾ [سورة ق: 29].
وهذا بطبيعة الحال لا يمنع الفقهاء أن يكتسبوا روية وأناة قبل إطلاق الفتاوي، حتى تكون وافية الفحص، مستوفية التوصيف؛ لاتنطلق من برج عاجٍ، أو تنبثق عن ارتجال نازٍ؛ بلفظ فضفاض، غير محرر المعالم.
وحيث كانت هذه النازلة من أكثر النوازل طرقًا وبحثًا في باب الرضاع الفقهي؛ استدعى تراكمُ الفتاوي واختلافُ منازعها هذا التوضيحَ، والله تعالى أعلم.


المرجع:
النوازل في الرضاع، منشور على المكتبة الشاملة، وهو بحث تكميلي مقدم إلى قسم الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء في الرياض لنيل درجة الماجستير عام 1438هـ للباحث: عبد الله بن يوسف الأحمد.
Abdullah44616@gmail.com



 

بحوث علمية
  • بحوث في التوحيد
  • بحوث فقهية
  • بحوث حديثية
  • بحوث في التفسير
  • بحوث في اللغة
  • بحوث متفرقة
  • الصفحة الرئيسية