اطبع هذه الصفحة


أقوال العلماء وأدلتهم في حكم (التورق)

د. حسين حسن أحمد الفيفي


بسم الله الرحمن الرحيم

  
تعريف التورق:
"هو شراء سلعة في حوزة البائع وملكه، بثمن مؤجل، ثم يبيعها المشتري بنقد لغير البائع،للحصول على النقد (الورق)"([1]). ولم ترد التسمية بهذا المصطلح إلا عند فقهاء الحنابلة([2])، أما غيرهم فقد تكلموا عنها في مسائل (بيع العينة) .

وقد اختلف العلماء في حكمه على ثلاثة أقوال:

القول الأول: جواز التورق:
وقال به من الحنفية أبو يوسف، والكمال بن الهمام([3])، وابن جزي من المالكية([4])، والشافعية([5])، والحنابلة([6])، وابن حزم([7])، ورخص فيه إياس بن معاوية([8])([9])، ومن المعاصرين عبد الرحمن بن سعدي([10])، ومحمد بن إبراهيم([11])، وعبد العزيز بن باز([12])، وابن عثيمين بشروط([13])، وصدر به قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي([14])، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء([15])، وهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية([16]).

ومن أقوالهم:
قال الشافعي: "فإذا اشترى الرجل من الرجل السلعة فقبضها وكان الثمن إلى أجل فلا بأس أن يبتاعها من الذي اشتراها منه ومن غيره بنقد أقل أو أكثر مما اشتراها به أو بدين كذلك أو عرض من العروض ساوى العرض ما شاء أن يساوى، وليست البيعة الثانية من البيعة الأولى بسبيل"([17]).
وقال في الإنصاف : "وهو المذهب وعليه الأصحاب"([18]).
وقال في كشاف القناع : "ولو احتاج إنسان إلى نقد ، فاشترى ما يساوي مائة بمائة وخمسين، فلا بأس بذلك . نص عليه ، وهي مسألة التورق"([19]).
وقال ابن حزم: "ومن باع سلعة بثمن مسمى حالة، أو إلى أجل مسمى قريبا أو بعيدا فله أن يبتاع تلك السلعة من الذي باعها منه بثمن مثل الذي باعها به منه، وبأكثر منه، وبأقل حالا وإلى أجل مسمى أقرب من الذي باعها منه إليه، أو أبعد ومثله، كل ذلك حلال لا كراهية في شيء منه، ما لم يكن ذلك، عن شرط مذكور في نفس العقد، فإن كان، عن شرط فهو حرام مفسوخ أبداً محكوم فيه بحكم الغصب"([20]).
وجاء في قرار المجمع الفقهي الاسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة المنعقدة ابتداء من يوم السبت 11رجب 1419هـ - جاء فيه ما نصه: "إن بيع التورق هذا جائز شرعا وبه قال جمهور العلماء ؛ لأن الأصل في البيوع الإباحة ؛ لقوله تعالى : ]وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا[([21])، ولم يظهر في هذا البيع ربا لا قصد ولا صورة، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك لقضاء دين أو زواج أو غيره"([22]).
وجاء فيه: "جواز هذا البيع مشروط بأنه لا يبيع المشتري السلعة بثمن أقل مما اشتراها به على بائعها الأول مباشرة ولا بواسطة فإن فعل فقد وقع في بيع العينة المحرم شرعا لاشتماله على حيلة الربا فصار عقدا محرما"([23]).
وصدرت فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية - وبعد أن ذكر في الفتوى صورة المسألة - جاء فيها ما نصه : " وهذا العمل لا بأس به عند جمهور العلماء "([24]).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله جواباً منه لمن سأله عن حكم التورق قال : "هذه المسألة تسمى مسألة التورق والمشهور من المذهب جوازها - ثم قال بعد أن ذكر خلاف من خالف في الجواز - والمشهور من المذهب جوازها وهو الصواب"([25]).
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في مجموع فتاواه ما نصه: "أما مسألة التورق التي يسميها بعض الناس الوعدة فهي معاملة أخرى ليست من جنس مسألة العينة؛ لأن المشتري فيها اشترى السلعة من شخص إلى أجل، وباعها من آخر نقداً من أجل حاجته للنقد، وليس في ذلك حيلة على الربا؛ لأن المشتري غير البائع"([26]).

أدلة القائلين بالجواز:
يمكن الاستدلال لأصحاب هذا القول بعدة أدلة منها:
الدليل الأول: قوله سبحانه وتعالى: ]وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا[([27])، فالآية تدل بعمومها على أن الله تعالى أحلَّ البيع بجميع أنواعه، ما عدا ما دلت النصوص الشرعية على تحريمه. وبيع التورق لم ترد فيه نصوص تمنعه، فيدخل في عموم ما دلت عليه الآية، وهو الحلُّ. قال القرطبي في تفسير هذه الآية:" هذا من عموم القرآن، والألف واللام للجنس لا للعهد، إذ لم يتقدم بيع مذكور يرجع إليه"([28]). فهذه الآية عامة ولا يوجد في الكتاب أو السنة ما يمنع من التورق.
الدليل الثاني: قوله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ[([29])، فبيع التورق نوع من المداينات التي تدخل في عموم هذه الآية. فتدل على جوازه؛ لأنه يتضمن شراء السلعة بالأجل، وإذا انتقلت إلى ملك المشتري جاز له التصرف فيها بجميع أنواع التصرف من: انتفاع وبيع وإجارة وهبة. قال ابن جرير الطبري: "يعني: إذا تبايعتم بدين، أو اشتريتم به، أو تعاطيتم أو أخذتم به إلى أجل مسمى، يقول: إلى وقت معلوم وقتموه بينكم. وقد يدخل في ذلك القرض والسلم، وكل ما جاز فيه السلم مسمى أجل بيعه، يصير ديناً على بائع ما أسلم إليه فيه. ويحتمل بيع الحاضر الجائز بيعه من الأملاك بالأثمان المؤجلة. كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمى، إذا كانت آجالها معلومة بحد موقوف عليه"([30]). وقال ابن سعدي: "تجوز جميع أنواع المداينات من سَلم وغيره؛ لأن الله أخبر عن المداينة التي عليها المؤمنون إخبار مقرر لها ذاكراً أحكامها، وذلك يدل على الجواز"([31]).
الدليل الثالث: ما روى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ r: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: "فَلَا تَفْعَلْ. بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا)([32]).
وجه الاستدلال: أن الحديث أجاز هذا المخرج للابتعاد بواسطته عن حقيقة الربا وصورته، وإلى صيغة ليس فيها قصد الربا، ولا صورته، وإنما هي عقد بيع صحيح مشتمل على تحقق شروط البيع وأركانه. فهذا دليل على جواز البيوع التي يتوصل بها إلى تحقيق المطالب والغايات من البيوع إذا كانت بصيغ شرعية معتبرة، بعيدة عن صيغ الربا وصوره، ولو كان الغرض منها الحصول على السيولة للحاجة إليها([33]).
الدليل الرابع: أن الأصل في المعاملات من عقود وشروط الإباحة والحل، إلا ما دلَّ الدليل على حرمته، ومما يدخل في ذلك بيع التورق. قال الشيخ عبد الله المنيع: "وهذا يعني أن من يقول بجواز بيع التورق لا يطالب بالدليل؛ لأن الأصل معه، وإنما المطالب بالدليل من يقول بحرمة بيع التورق؛ لأنه يقول بخلاف الأصل"([34]).
الدليل الخامس: أن السلعة في بيع التورق التي خرجت من البائع؛ لم ترجع إليه، فلا محذور فيه([35]).
الدليل السادس: أن الحاجة إلى هذه المعاملة ماسة، فلا يستطيع كثير من الناس الذين اشتدت حاجتهم إلى النقود أن يجدوا من يقرضهم بدون ربا. فيلجأون إلى التورق، وقد قرر الفقهاء أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة([36]).

القول الثاني: كراهة التورق.

وقال به الحنفية([37])، والمالكية([38])، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد([39])، وقال به عمر بن عبد العزيز([40]) ([41])، وهو قول لشيخ الإسلام ابن تيمية([42]).
ومن أقوالهم:
قال في الهداية: "....بيع العينة([43]) مثل أن يستقرض من تاجر عشرة فيتأبى عليه ويبيع منه ثوباً يساوي عشرة بخمسة عشر مثلا رغبة في نيل الزيادة ليبيعه المستقرض بعشرة ويتحمل عليه خمسة ؛ سمي به لما فيه من الإعراض عن الدين إلى العين ، وهو مكروه لما فيه من الإعراض عن مبرة الإقراض مطاوعة لمذموم البخل"([44]).
وقال في الشرح الكبير: "(وكره) لمن قيل له سلفني ثمانين وأرد ذلك عنها مائة أن يقول (خذ) مني (بمائة ما) أي سلعة (بثمانين)"([45]).
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
الدليل الأول: ما رُوي عن علي بن أبي طالبt قال: (نهى رسول الله r عن بيع المضطر، وبيع الغرر، وبيع الثمرة قبل أن تدرك)([46])، فقد حمله بعض الفقهاء على بيع التورق الذي يقع من رجل مضطر إلى النقود؛ لأن الموسر يضن عليه بالقرض، فيضطر إلى أن يشتري منه سلعة بنسيئة، ثم يبيعها بالنقد بأقل مما اشتراها به؛ ليحصل على النقود([47])، وهو بيع مكروه.
سيأتي مناقشة هذا الاستدلال عند ذكر أدلة المانعين لبيع التورق.
الدليل الثاني: ولأن في بيع التورق الإعراض عن مبرة القرض التي حثَّ عليها الإسلام([48]).
ويناقش:  بأن الإعراض عن مبرة القرض لا يترتب عليه حكم شرعي من كراهة أو غيرها،
وكذلك فأن القرض ليس واجباً وإنما هو من باب الإحسان.
الدليل الثالث: أنه يتوصل بهذه السلعة ليبيع المال أو الدراهم بأكثر منها، وأما صاحب النقد والنسيئة فهو تاجر من التجار، قال ابن عقيل معللاً نص الإمام أحمد على هذه المسألة :" وهذا لمضارعته الربا فإنه يقصد الزيادة غالبا"([49]).
ويناقش: بعدم التسليم؛ لأن بيع التورق ليس فيه أية دلالة على الربا، فالبائع ليس له علاقة بالبيع الثاني.
 
 القول الثالث: تحريم التورق.

وقال به بعض فقهاء الحنفية([50])، وهو رواية عن الإمام أحمد([51])، وقال به شيخ الإسلام ابن تيمية([52])، وتلميذه ابن القيم([53])، واختار هذا من المتأخرين عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب([54]).
ومن أقوالهم:

قال ابن تيمية –رحمه الله تعالى-: "من كان عليه دين، فإن كان موسراً وجب عليه أن يوفيه، وإن كان معسراً وجب إنظاره، ولا يجوز قلبه عليه بمعاملة أو غيرها، وأما البيع إلى أجل ابتداءً، فإن كان قصد المشتري الانتفاع بالسلعة والتجارة فيها جاز؛ إذا كان على الوجه المباح. أما إن كان مقصوده الدراهم؛ فيشتري بمائة مؤجلة، ويبيعها في السوق بسبعين حالة؛ فهذا مذموم منهي عنه في أظهر قولي العلماء. وهذا يسمى التورق"([55]).
 وقال ابن القيم –رحمه الله تعالى-: "فإن عامَّة العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نفقة يضن عليه الموسر بالقرض حتى يربح عليه في المائة ما أحب، وهذا المضطر إن أعاد السلعة إلى بائعها فهي العينة، وإن باعها لغيره فهو التورق، وإن رجعت إلى ثالث يدخل بينهما فهو محلل الربا. والأقسام الثلاثة يعتمدها المرابون. وأخفها التورق، وقد كرهه عمر بن عبد العزيز، وقال: هو أخِيَّةُ الربا، وعن أحمد فيه روايتان، وأشار في رواية الكراهة إلى أنه مضطر، وهذا من فقهه رضي الله عنه، قال: فإن هذا لا يدخل فيه إلا مضطر. وكان شيخنا رحمه الله يمنع من مسألة التورق، وروجع فيها مراراً وأنا حاضر، فلم يرخص فيها. وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها؛ فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى، وتبيح ما هو أعلى منه"([56]).
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
الدليل الأول: التورق صورة من صور العينة التي حرمها الرسولr بقوله: (إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)([57]). وفي رواية أخرى عن ابن عمرt قال: (إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ, وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, وَلَزِمُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ, وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَلاءً لَمْ يَرْفَعْهُ حَتَّى يُرَاجِعُوا)([58]).  وقال الشوكاني في التعليق على عبارة صاحب حدائق الأزهار: (وبيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء، وبيعه  بأقل مما اشتري به) : "إذا كان المقصود التحيل، فلا فرق بين بيعه من البائع أو غيره، وبين أن يكون بجنس الثمن أو بغير جنسه... ووجه المنع من ذلك ما فيه من التوصل إلى الربا"([59]).
ويناقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: ليس في الحديثين السابقين ما يدل على تحريم التورق.
الوجه الثاني: أن التورق ليس فيه حيلة على الربا، فهو بيع مستوفٍ لشروطه وأركانه، ولا يصح قياسه على العينة فهو قياس مع الفارق؛ لأن السلعة المشتراة في التورق تباع على غير بائعها.
الدليل الثاني: ما رُوي عن أَبِى إِسْحَاقَ السَّبِيعِىِّ([60]) عَنِ امْرَأَتِهِ أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضى الله عنها، فَدَخَلَتْ مَعَهَا أُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ الأَنْصَارِىِّ([61]) وَامْرَأَةٌ أُخْرَى، فَقَالَتْ أُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّى بِعْتُ غُلاَمًا مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً (الأجل المعلوم) وَإِنِّى ابْتَعْتُهُ مِنْهُ بِسِتِّمِائَةٍ نَقْدًا، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: (بِئْسَمَا اشْتَرَيْتِ، وَبِئْسَمَا شَرَيْتِ؛ إِنَّ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ بَطَلَ إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ)([62]). فالظاهر أن عائشة رضي الله عنها لا تقول مثل هذا القول إلا بتوقيف سمعته من رسول الله e، فجرى ذلك مجرى روايتها عنه. ولأنه ذريعة إلى الربا، فإنه يدخل السلعة ليستبيح بيع خمسمائة بستمائة إلى أجل([63]).
ويناقش: بأن التورق يختلف عن بيع العينة المذكور في الحديث؛ لكون المتورق يبيع السلعة التي اشتراها نسيئة، لغير البائع.
الدليل الثالث: ما رَوى ابن بطة عن الأوزاعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع)([64]). والحديث وإن كان مرسلاً لكن يعتضد بالأحاديث السابقة.
ويناقش: بأنه إن ثبت فليس فيه ما يدل على تحريم التورق.
الدليل الرابع: ما رُوي عن علي بن أبي طالبt قال: (نهى رسول الله r عن بيع المضطر، وبيع الغرر، وبيع الثمرة قبل أن تدرك)([65]).  فبيع التورق يدخل في بيع المضطر، كما قال ابن تيمية: فإن غالب من يشتري بنسيئة إنما يكون لتعذر النقد عليه، فإذا كان الرجل لا يبيع إلا بنسيئة كان ربحه على أهل الضرورة والحاجة، وإذا باع بنقد ونسيئة كان تاجراً من التجار([66]). والمتورق لم يشتر السلعة إلا وهو مضطر إلى ذلك، ويستغل البائع حاجته، فيبيعه بأكثر من ثمنها بكثير؛ فلا يجوز ذلك.
ويناقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أن الحديث لا يصح كما تقدم في تخريجه. قال المناوي: " قال عبد الحق: حديث ضعيف. وقال ابن القطان: صالح بن عامر؛ لا يعرف، والتميمي لا يعرف. وفي الميزان: صالح بن عامر نكرة بل، لا وجود له. ذكر في حديث لعلي مرفوعا أنه نهى عن بيع المضطر والحديث منقطع"([67]). وقال ابن حزم: "لو استند هذان الخبران لأخذنا بهما مسارعين، ولكنهما مرسلان، ولا يجوز القول في الدين بالمرسل." ([68]).
الوجه الثاني: أن القائلين بمدلول هذا الحديث، لم يحملوه على عمومه حتى يصح الاستدلال به على منع التورق، وإنما خصوه بحالة الظلم والغبن في المبايعة، فقد سئل الإمام أحمد –رحمه الله– عن بيع المضطر فكرهه، فقيل له كيف هو؟ قال: "يجيئك وهو محتاج فتبيعه ما يساوي عشرة بعشرين"([69]). وقال ابن الأثير في بيان معناه: "بيع المضطر يكون على وجهين: أحدهما: أن يضطر إلى العقد عن طريق الإكراه عليه، فلا ينعقد العقد. والثاني: أن يضطر إلى البيع لدين أو مؤونة ترهقه، فيبيع ما في يده بالوكس من أجل الضرورة"([70])، وقد فسَّره ابن عابدين: "بأن يضطر الرجل إلى طعام أو شراب أو لباس، ولا يبيعها البائع إلا بأكثر من ثمنها"([71]). ومثَّل له ابن حزم بما يلي: " من جاع وخشي الموت، فباع ما يحيى به نفسه وأهله، وكمن لزمه فداء نفسه أو حميمه من دار الحرب، أو كمن أكرهه ظالم على غرم ماله بالضغط ولم يكرهه على البيع، لكن ألزمه المال فقط، فيباع في أداء ما أكره عليه بغير حق"([72]) وكل هذه المعاني لا تقع في بيع التورق.
الدليل الخامس: أن القصد من التعامل بالتورق الحصول على النقد بزيادة، وهو الربا الذي حرَّمه الله تعالى، حيث أنه يؤول إلى شراء دراهم بدراهم زائدة، وأن السلعة لا تكون إلا واسطة غير مقصودة. ولأن الأمور بمقاصدها، فالمتورق لم يشتر السلعة قاصداً الانتفاع بها، ولا شك في تحريمه بأي طريق كان؛ لأن القصود معتبرة في المعاملات"([73]).
ويناقش: بأنه غير مسلم؛ لأنه وإن كان المقصود من التورق هو النقد فذلك لا يوجب تحريم المعاملة ولا كراهتها؛ لأن مقصود التجار غالبا في المعاملات هو تحصيل نقود أكثر بنقود أقل والسلع المبيعة هي الواسطة في ذلك، وإنما يمنع مثل هذا العقد إذا كان البيع والشراء من شخص واحد كمسألة العينة فإن ذلك يتخذ حيلة على الربا([74]).

الترجيح:
 الراجح هو القول الأول من أن التورق الفقهي أو الفردي جائز، وذلك لسلامة أدلتهم، ولورود المناقشة على أدلة المانعين والقائلين بالكراهة، ولأن الفرق بين الثمنين: الآجل والحال لم يدخل في ملك البائع الأول، وإنما هو خسارة تحملها المستورق، ومن المعلوم أن الخسارة بقصد الحصول على النقد أمر جائز شرعاً. فقد قرر الفقهاء: أن لصاحب السلعة جواز بيعها بخسارة، وهو ما يطلق عليه في الفقه الإسلامي اسم: "بيع الوضيعة" الذي يقابل بيع المرابحة. ولأنه لم يظهر في هذا البيع ربا لا قصداً، ولا صورة، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك لقضاء دين، أو زواج أو غيرهما.
ويمكننا وضع بعض الضوابط للتورق الجائز ومن أهمها([75]):
1-    أن يتم استيفاء المتطلبات الشرعية لعقد شراء السلعة بالثمن الآجل، مساومة أو مرابحة، ويراعى في بيع المرابحة للآمر بالشراء وجود السلعة، وتملك البائع لها قبل بيعها.
2-    أن تكون السلعة المباعة من غير الذهب، أو الفضة، أو العملات الورقية المعاصرة.
3-    أن يتم قبض السلعة حقيقةً أو حكماً بالتمكن فعلاً من القبض الحقيقي، وانتفاء أي قيد أو إجراء يحول دون قبضها من قبل المتورق.
4-    أن يكون بيع السلعة (محل التورق) لغير البائع الذي اشتريت منه بالأجل، فلا يكون له علاقة بالبيع الثاني لا مباشرة، ولا بالواسطة، وذلك لتجنب العينة المحرمة شرعاً.
5-    أن لا يكون هناك ربط بين عقد شراء السلعة بالأجل، وعقد بيعها بثمن حال، بطريقة تسلب العميل حقه في قبض السلعة، سواء أكان الربط بالنص في المستندات، أم بالعرف، أم بتصميم الإجراءات([76]).
 

---------------------------------------
([1]) هذا هو التعريف المختار ضمن، قرارات المجمع الفقهي الإسلامي، التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، قرار رقم: 87 (5/15): بشأن حكم بيع التورُّق، جمع وترتيب : الباحث جميل أبو سارة، (1/87).
([2]) ينظر: كشاف القناع، (3/186)، والفروع (6/316) ، وشرح ابن القيم علي أبي داود (5 / 108).
([3]) ينظر: فتح القدير، للكمال بن الهمام (7/212)، وحاشية ابن عابدين، (5 / 326).
([4]) ينظر: القوانين الفقهية، لابن جزي، ص (179).
([5]) ينظر: الأم، (3 / 38)، وروضة الطالبين، (3/419)، وتكملة المجموع، (10 / 149).
([6]) ينظر: الفروع (6/316)، والإنصاف، للمرداوي (11/196)، وكشاف القناع، (3/186)، ومجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد م (234).
([7]) ينظر: المحلى، (9/47).
([8]) هو إياس بن معاوية بن قرة بن إياس المزني، أبو وائلة البصري، كان مضرب المثل في الفطنة والذكاء، قاضياً لعمر بن عبد العزيز، وكان قائفاً، ثقة من الطبقة الخامسة ولد سنة 46 هـ، وتوفي سنة 122 هـ، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم في المقدمة. ينظر: الأعلام للزركشي  (2/33)، والتقريب (1/87).
([9]) ينظر: إقامة الدليل على بطلان التحليل، ص (79).
([10]) ينظر: الإرشاد إلى معرفة الأحكام، ص (82).
([11]) ينظر: فتاوى ورسائل سماحة الشيخ ابن ابراهيم، (7/41).
([12]) ينظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، (19/94).
([13]) الشرح الممتع، (8/20)، والشروط هي:
-       أن يتعذر الحصول على المال بطريق مباح كالقرض.
-       أن يكون محتاجاً لذلك حاجة بينة.
-       أن تكون السلعة عند البائع.
([14]) ضمن قرارات الدورة الخامسة عشر للمجمع، قرارات المجمع الفقهي، ص (320-321) .
([15]) ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة، (13/161).
([16]) ينظر: المعايير الشرعية، المعيار رقم (30)، ص (492).
([17]) الأم، (3/ 79)، والشافعية يجيزون بيع العينة فتجويزهم للتورق من باب أولى، والعينة: "هي أن يبيع شيئاً من غيره بثمن مؤجل ويسلمه إلى المشتري، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن نقد أقل من ذلك القدر". ينظر: عون المعبود، (9/336).
([18]) الإنصاف، (3/ 237).
([19]) كشاف القناع، (3/186).
([20]) المحلى (9/47).
([21]) سورة البقرة آية (275).
([22]) قرارات المجمع الفقهي، ص (320-321).
([23]) المرجع السابق.
([24]) فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى، (13/161).
([25]) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم، (7/61) .
([26]) مجموع مقالات وفتاوى، (19/50-51).
([27]) سورة البقرة آية (275).
([28]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، (2/356).
([29]) سورة البقرة آية (282).
([30]) تفسير الطبري، (6/43).
([31]) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص (118).
  ([32])أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب إذا أراد بيع تمر بتمر، (2201)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب بيع الطعام بالطعام، (1593).
([33]) التأصيل الفقهي للتورق، للشيخ عبد الله بن سليمان المنيع، (2/446).
([34])المرجع السابق.
([35]) ينظر: حاشية ابن عابدين، (5/273).
([36]) ينظر: التورق الفقهي وتطبيقاته المصرفية المعاصرة في الفقه الإسلامي، الأستاذ الدكتور محمد عثمان شبير، ص (15).
([37]) ينظر: تبيين الحقائق للزيلعي، (4/163)، والبحر الرائق، لابن نجيم (6/256)، وحاشية ابن عابدين، (5/273).
([38]) ينظر: حاشية الدسوقي، (3/89)، الشرح الصغير للدردير، (3/131).
([39]) ينظر: الفروع، لابن مفلح، (6/316)، والإنصاف للمرداوي، (11/196)، وبيان الدليل على بطلان التحليل، ص (79).
([40]) هو أمير المؤمنين الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي، التابعي، الأمام العادل، ولد بالمدينة سنة 61هـ، حافظ للحديث، فقيه مجتهد، زاهد، أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب ولي إمرة المدينة للوليد ، وكان مع سليمان كالوزير وولي الخلافة بعده فعد مع الخلفاء الراشدين، توفي بدير سمعان قرب المعرَّة بسورية سنة 101هـ في شهر رجب، وله أربعون سنة ، ومدة خلافته سنتان ونصف : روى له الجماعة. سير أعلام النبلاء للذهبي: (5/114)، الديباج المذهب لابن فرحون، (1/419)، والأعلام للزركلي، (4/95)، تقريب التهذيب (2/60).
([41]) بيان الدليل على بطلان التحليل، ص (79).
([42]) مجموع الفتاوى، (29/302-303-432).
([43]) يلاحظ أن غير الحنابلة يسمون هذه المسألة "بالعينة".
([44]) الهداية شرح بداية المبتدي، لأبي الحسن علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الرشداني المرغياني، المتوفى سنة 593هـ، (3/94).
([45]) الشرح الكبير، لأبي البركات أحمد بن محمد العدوي ، الشهير بالدردير، المتوفى : 1201هـ، (3/89).
([46]) رواه أبو داود، كتاب البيوع والإجارات، باب بيع المضطر، (3/676-677) برقم (3382)، والإمام أحمد في المسند، (2/252)، برقم (937)، والبيهقي في السنن الكبرى، في كتاب البيوع، باب ما جاء في بيع المضطر وبيع المكره، (6/17)، برقم (10859-10860)، وقال الشيخ الألباني: ( ضعيف ) ينظر حديث رقم : 6063 في ضعيف الجامع.
([47]) بتصرف من: شرح مختصر سنن أبي داود، لابن القيم، (5/108-109).
([48]) ينظر: الهداية شرح البداية، للمرغياني، (3/94)، وحاشية ابن عابدين، (5/273).
([49]) ينظر: الشرح الكبير، لشمس الدين ابن قدامة (4/46)، وحاشية النجدي على الروض المربع (4/386).
([50]) ينظر: تبيين الحقائق للزيلعي، (4/163)، وحاشية ابن عابدين، (5/273).
([51]) ينظر: الإنصاف للمرداوي مع المقنع والشرح الكبير، (11/195-196)، وكشاف القناع، للبهوتي، (3/186).
([52]) ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية، (29/302-303)، والقواعد النورانية الفقهية، له، ص(121)، الاختيارات الفقهية لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، جمع: علي بن محمد بن عباس البعلى الدمشقي، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1397هـ - 1978م، ص (129)، والفتاوى الكبرى لابن تيمية (4/21).
([53]) ينظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (3/170).
([54]) الدرر السنية في الكتب النجدية، دراسة وتحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، (7/29).
([55]) مجموع الفتاوى لابن تيمية، (29/302-303).
([56]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (3/170).
 ([57])سنن أبي داود، كتاب الإجارة، باب النهي عن العينة، (3462)، قال الشيخ الألباني : (صحيح) ينظر حديث رقم : 423 في صحيح الجامع.
([58]) المعجم الكبير للطبراني (11/63)، ونصب الراية في تخريج أحاديث الهداية للزيلعي، (4/17). وقال:" رواه أحمد في كتاب الزهد. وهذا حديث صحيح، ورجاله ثقات."
([59]) السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني (المتوفى : 1250هـ)، دار ابن حزم، الطبعة الأولى، (1/519).
([60]) هو: أبو إسحاق السبيعي: عمرو بن عبد الله بن ذي يُحمِد، من التابعين، ولد لسنتين مضتا من خلافة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أي نحو سنة 33 هـ، شيخ الكوفة ومحدثها، ثقة في الحديث، توفي سنة 127هـ. سير أعلام النبلاء، (5/392).
 ([61])هو: زيد بن أرقم بن زيد بن قيس، أبو عامر، وقيل أبو عمر، الصحابي الجليل، غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة، شهد صفين مع علي بي أبي طالب كرم الله وجهه، توفي بالكوفة سنة 66هـ، وقيل سنة 68هـ. الإصابة لابن حجر العسقلاني، (2/589).
([62]) سنن الدارقطني، (3/52)، وفي إسناده الغالية بنت أيفع، وقد روي عن الشافعي أنه لا يصح ، وقرر كلامه ابن كثير في إرشاده، ينظر:  نيل الأوطار (5/206)، والمفصل في أحكام الربا (1/201).
([63]) التورق الفقهي وتطبيقاته المصرفية المعاصرة في الفقه الإسلامي، الأستاذ الدكتور محمد عثمان شبير، ص16.
([64]) ينظر: عون المعبود (7/453).
([65]) تقدم تخريجه قبل أربع صفحات.
([66]) ينظر: شرح مختصر سنن أبي داود، لابن القيم، (5/109).
([67]) فيض القدير شرح الجامع الصغير، لزين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي المناوي (المتوفى : 1031هـ)، دار الكتب العلمية بيروت – لبنان- الطبعة الأولى، 1415 ه - 1994 م (6/430).
 ([68])المحلى (9/22).
([69]) جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي، ص (408).
([70]) النهاية في غريب الحديث والأثر، ص (534).
([71]) حاشية ابن عابدين، (5/273).
([72]) المرجع السابق.
([73]) شرح زاد المستقنع، للحمد، ص (18).
 ([74])بتصرف من: بحث التورق المنشور في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، (6/41).
([75])ينظر: قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، ص (320)، وأبحاث هيئة كبار العلماء، قرار رقم (3/11) تاريخ (16/10/1397هـ)، (4/427- 431)، والمعايير الشرعية ص (492).
([76]) هذا البحث من رسالة تقدم بها الباحث/ د. حسين بن حسن الفيفي لنيل درجة الدكتوراه في الفقه المقارن في جامعة الامام محمد بن سعود الإسلامية (المعهد العالي للقضاء) وهي بعنوان: التحوط ضد مخاطر الاستثمار في المصارف الإسلامية، والتي قدمت عام 1433ه

 

بحوث علمية
  • بحوث في التوحيد
  • بحوث فقهية
  • بحوث حديثية
  • بحوث في التفسير
  • بحوث في اللغة
  • بحوث متفرقة
  • الصفحة الرئيسية