اطبع هذه الصفحة


مدرات الحليب المعاصرة وأثرها في نشر القرابة الرضاعية – دراسة فقهية

عبد الله بن يوسف الأحمد
1438هـ


بسم الله الرحمن الرحيم


المطلب الأول
حقيقة مدرات الحليب


أقرت الشريعة الإسلامية للمرضع بفضلها فأسدلت عليها شرف الأمومة كما في قول الحق تعالى: ﴿وَأُمُهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ [سورة النساء: 23]، وقد خلق الله في المرأة نهدين، وهيأ لهما من الوظائف ما يحصل به إنتاج الحليب للطفل.
ولقد عرف الطب أنواعًا من الحبوب الطبَعية المعنية بإدرار حليب المرأة؛ كحبوب الحلبة والسمسم، وثمار الجوز واللوز الجبلي؛ غير أن المقصود هنا ما استجد من العقاقير والأدوية التي تساهم في زيادة إدرار الحليب والمحافظة عليه من النقص، أو التي تنشئه من العدم.
وسواء كانت المستخدمة عاقرا وترغب في أن تكون أمًّا من الرضاع ليتيمٍ ونحوه أو كان للمستخدمة غرضٌ غير ذلك، فإن تلك الأقراص والعقاقير والإبر المدرة لحليب المرأة تتكون من مجموعة من الفيتامينات والمعادن المختلفة؛ كفيتامين ك، وفيتامين جـ، وفيتامين ه، والزنك، والحديد، والمغنيسيوم، واليود. ومن شأن هذه المكونات أن تسهم في توفير العديد من المواد الغذائية بكميات محددة ومتوازنة لتوفير الدعم الكامل للمرضع.
ومؤخرا أعلنت الدكتورة رذاذ محمد ولي، استشارية طب الأسرة في مدينة الملك عبد العزيز الطبية للحرس الوطني، من خلال مؤتمر متعلقات الإرضاع ومتابعة الأمومة وعلاجياتها في دورته الخامسة بالمدينة النبوية عن إمكان مساعدة العازبات والعقيمات على إدرار الحليب لإرضاع الأطفال اليتامى، وأشارت إلى حالات ثاب فيها اللبن بنفس خصائص حليب الأم الطبَعي؛ عن طريق إخضاع النساء الراغبات بحضانة الأيتام وغير القادرات على الإرضاع لإجراءات طبية وحقن معينة من أجل مساعدتهن على إدرار الحليب. وللتوسع في هذا يمكن الرجوع إلى أصل هذا البحث على المكتبة الشاملة أو مكتبة المعهد العالي للقضاء، وهو دراسة فقهية بعنوان: النوازل في الرضاع.
وتتميز هذه المدرات في وجهة نظر الصيادلة، بخلوها من الأمور المانعة من استعمالها للبالغين في الجملة؛ إلا عند الإفراط في تعاطيها.
 

المطلب الثاني
أثر استخدام مدرات الحليب في انتشار المحرمية


إن الأمة قد اجتمع قولها واتفقت كلمتها على أن الرضاع يُثبِت من الحرمة ما يثبِتُه النسب وأنه مانع من موانع النكاح، كما قد حكي الإجماع على عدم وقوع الحرمة بدم المرضع، ولا بلحمها، وإن أغذيا الولد.
وتقريرات فقهاء المسلمين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم في هذا متوافرة وحاضرة؛ فمن ذلك ما روي عن عائشة قالـت: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة ا.هـ، وبنحوه روي عن ابن عباس، وابن مسعود، وسويد بن غَفَلة، وعن علي: لا تنكح من أرضعته امرأة أخيك، ولا امرأة أبيك، ولا امرأة ابنك ا.هـ، وهو المذهب العملي المحكي عن الزبير بن العوام، وما كان يفتي به عروة بن الزبير، والمنقول عن ابن عمر، وجابر؛ رضي الله عنهم جميعًا.
وكذلك جاء عن إبراهيم النخعي أنه قال: يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ا.هـ، وبنحوه قال عطاء، وهو المنقول عن مجاهد، والشعبي، وابن جريج، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وجابر بن زيد، وطاوس، ومجاهد، والزهري، والحسن البصري، وسفيان الثوري، والنعمان، وأبي الشعثاء، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأبي حنيفة وأصحاب الرأي، ومالك، والشافعي، وأبي ثور، وأحمد، وإسحاق، وأبي سليمان داود الظاهري، وأصحابهم، وأبي عبيد، والترمذي، وعبيد الله بن الحسن، وابن المنذر، وهو المشتهر عند أهل المدينة ومكة الكوفة والشام وفقهاء الأمصار من الصحابة والتابعين.

ومستند الإجماع من الكتاب قول الحق تبارك وتعالى: ﴿حُرِّمَّتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُّكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخْوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ [سورة النساء: 23]، فهذه الآية صريحة في أن المحرم بسبب الرضاع اثنان، وهما: الأم، والأخت.
ومع كون المحرمات بالرضاع سبعًا، نظير المحرمات بالنسب، إلا أن الله سبحانه وتعالى اقتصر منهن على الأم والأخت؛ لدلالتهما على البقية؛ لأنه إذا تقررت المحرمية في الرضاع بنحو ما يحرم من النسب كما في الحديث المتفق عليه مرفوعا، ونصه: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"، فإن المحرمات بالنسب قسمان؛ قسم بالولادة، والآخر بالأخوة؛ أما الأول فيدخل تحته الأم والبنت، وأما الآخر فخمسة أصناف، وهي: الأخت، والخالة – أخت الأم –، والعمة – أخت الأب –، وبنت الأخ، وبنت الأخت؛ فاقتصَر من القسم الأول على الأم، وهي تدل على البنت، وحيث حرُمت الأم بالوالدِيَّة فلْتحرم البنت بالمولودية، واقتصر من الصنف الثاني على الأخت؛ لأنها عنوان باقيه؛ إذ العمة أخت الأب، والخالة أخت الأم، وبنات الأخت وبنات الأخ فروع الأخوة، والآية وإن لم تكن نصًا في غير الأم والأخت إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المراد منها بقوله: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" متفق عليه، وليس المراد تحريمَ ذواتهن، بل تحريمَ نكاحهن، وما يقصد به من التمتع بهن؛ لأن الذوات لا تحرم، بل التحريم للأفعال، وهذا من قبيل دلالة الاقتضاء، كما قال تعالى: ﴿حُرِّمَّتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ﴾ [سورة المائدة: 3]؛ أي: أكلها، ومن هذا علم أن للرضاع مدخلًا في التحريم كالنسب.
ولو قال قائل: إن الآية مجملة، وليست صالحة للاستدلال؛ لأنه وإن كان ليس المقصود تحريم الذوات بل الأفعال؛ إلا أن الأفعال كثيرة، وليس أحدها بأولى من الآخر.
فالجواب: إن هذه الدعوى مدفوعة، وذلك لما يأتي:
أولا: عدم التسليم بكون الآية مجملة تدل على تحريم جميع الأفعال، بل هي تدل على تحريم النكاح، والدليل على صحة هذا التقدير: الآية السابقة لها، وهي قول الله: ﴿وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِنَ النِسَاءِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [سورة النساء: 22].
ثانيا: إن كل ما ورد في مثل هذا يحمل على المقصود منه عرفًا، كما حملت الميتة في قول الله تعالى: ﴿حُرِّمَّتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ﴾ [سورة المائدة: 3] على الأكل، والدم على تناوله.

وبعد بيان الدليل على التحريم الرضاعي من الكتاب العزيز، ننتقل إلى السنة النبوية حيث بين النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مبدأَ التحريم الرضاعي، وذلك حين استأذن عم ٌّلحفصة من الرضاعة أن يدخل في بيتها، فقال - صلى الله عليه وسلم - حين استنكرت عائشة - رضي الله عنهم -: "الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة" متفق عليه، وقال في بنت أبي سلمة - رضي الله عنهم -: "إنها ابنة أخي من الرضاعة؛ أرضعتني وأبا سلمة ثويبةُ، فلا تعرِضْنَ علي بناتِكن ولا أخواتِكن" متفق عليه واللفظ لمسلم، والمعنى: لا تعرضن علي نكاحهن وهن قريباتي من الرضاعة، ولما عُرضتْ عليه - صلى الله عليه وسلم - ابنةُ حمزة – رضي الله عنهما – للزواج منها، قال: "إنها ابنة أخي من الرضاعة" متفق عليه، ولما جاء أفلح أخو أبي القعيس يستأذن على عائشة – وهو عمها من الرضاعة – بعد أن نزل الحجاب؛ أبَتْ عائشة أن تأذن له، فلما جاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أخبرته بالذي صنعت، فأمرها أن تأذن له. متفق عليه، وفي رواية لمسلم في المتابعات: أن عائشة قالت بعد ذلك: إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل؟! فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إنه عمك؛ فليلج عليك".
فما تقدم من الأحاديث دال على أن الرضاع يحرِّم من النساء للمرتضع ومن الرجال للمرتضعة ما حرُم بالنسب، وهذا المعنى حقيق بأن يكون متواترا تواترا معنويا.

لذا، دون محررو المذاهب المشتهرة ذلك، ومما سطروه في هذه القضية ما يأتي:
قال القدوري الحنفي في الكتاب ت 428هـ: ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب...، ولبن الفحل يتعلق به التحريم، وهو: أن ترضع المرأة صبية، فتحرم هذه الصبية على زوجها، وعلى آبائه وأبنائه، ويصير الزوج الذي نزل لها منه اللبن أبًا للمرضعة ا.هـ
وقال خليل ت 776هـ في مختصره: حصول لبن امرأة وإن ميتة...؛ محرِّم؛ إن حصل في الحولين، أو بزيادة الشهرين؛ إلا أن يستغنين ولو فيهما = ما حرمه النسب ا.هـ
وقال المزجَّد ت 930هـ: تحريم الرضاع يتعلق بالمرضعة والفحل الذي له اللبن على ولد منسوب إليه، ولو من وطء شبهة، ثم تنتشر إلى أصولهما وفروعهما من نسب أو رضاع، وإلى إخوتهما وأخواتهما منهما للخؤولة والعمومة، وأولاد أولادهما أولاد إخوة وأخوات، ولا حرمة بينهم وبين الرضيع...، وينتشر من الرضيع إلى أو لاده من نسب أو رضاع دون آبائه وأمهاته وإخوته وأخواته...، ولا تنقطع نسبة اللبن عن الفحل بفراق المرأة وإن طال الزمن ا.هـ
وقال مرعي الكرمي ت 1033هـ: وتحريم الرضاع في النكاح وثبوت المحرمية كالنسب ا.هـ

وقبل ختام هذا المبحث أشير إلى مسألتين:

المسألة الأولى: إن بعض السلف حكي عنه استثناء انتشار المحرمية من جهة الأب – زوج المرضع - في الإرضاع، ومع الاتفاق على أن زوج المرضع لا يكون أبًا بالإجماع؛ إذا قبَّل امرأةً، أو باشرها، ثم درَّت اللبن؛ إلا أن هؤلاء لا يرون أن القرابة الرضاعية تنتشر إلى الأب ولا من كان من جهته، بل يقصرونها على الأم ومن كان من قبلها كالأخت، واستفاضت هذه المسألة بين الفقهاء بعنوان: لبن الفحل، حيث سبق الإشكال إلى ذهن عائشة، وتقدم قريبا، في قولها: إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل!، فعلَّمها النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه عمها، وأنه لا مانع من ولوجه عليها؛ مقررًا عليه الصلاة والسلام في ذلك سريان التحريم إلى من نزل اللبن من مائه بفعل وطئه أصولًا وفروعًا وحواشيَ، وقد طرح هذه القضية بتوسع ووضوح أبو محمد ابن حزم، وذلك بعدما قرر أن "لبن الفحل يحرم، وهو: أن ترضع امرأةُ رجلٍ ذكرًا، وترضع امرأته الأخرى أنثى؛ فتحرم إحداهما على الأخرى"، ثم قال بعد ذلك: وقد رأى قوم من السلف هذا لا يحرم شيئًا ا.هـ، وهذا الرأي مروي عن عائشة، وابن عمر، وابن الزبير، ورافع بن خديج، وزينب بنت أم سلمة، وغيرهم؛ رضي الله عنهم.
كما قد روي عن سالم بن عبد الله بن عمر، وإبراهيم النخعي، وأبي قلابة، وسعيد بن المسيب، والشعبي، وعطاء بن يسار، وسليمان بن يسار، وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة وإياس بن معاوية، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وطاوس، ونسب إلى ربيعة الرأي، وإبراهيم بن علية.
وغاية ما يستندون إليه عمومات؛ كقول الله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخْوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ [سورة النساء: 23]، وعقليات؛ كقولهم: إن اللبن لا ينفصل من الرجل وإنما ينفصل من المرأة؛ فكيف تنتشر الحرمة إلى الرجل؟
ويجاب: بأنه قياس في مقابلة النص؛ فلا يلتفت إليه. وبأن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معًا؛ فإنه ثار بوطء الأب والأم وعاء له؛ فوجب أن يكون الرضاع منهما، كالجد لما كان سبب الولد أوجب تحريم ولد الولد به لتعلقه بولده؛ كما جاء في قول ابن عباس: اللقاح واحد ا.هـ
وهذه الأدلة العامة لا تصمد أمام ما اتُّفق على صحته من السنة المبينة المصرحة، ولذلك قال أبو محمد ابن قدامة بعدما ساق حديث عائشة مع أفلح أخي أبي القعيس - عمها من الرضاعة الذي أمرت بالإذن له في الدخول عليها -: وهذا نص قاطع في محل النزاع، فلا يعول على ما خالفه ا.هـ، وهذه العبارة الصريحة لم يجر بها قلم ابن قدامة بتمامها في أي مسألة أخرى من كتابه المغني.
وما تقدم في عدم الاعتداد بلبن الفحل لو صح عن عائشة – رضي الله عنها –، كما يرى ابن حجر، فهو ظاهر في كونه قبل علمها بالحكم، والدليل على أنها لم تكن تعلم الحكم؛ قولها كما في صحيح مسلم: إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل؟!، وليكن كذلك سبب ما جاء عن غيرها، وإذا رأيت لبعضهم نقلين في المسألة؛ كطاوس؛ ظهر لك أن هذا هو السبب، فإن الآية بلغتهم قبل الحديث.
ويشير إلى هذا ما روى ابن حزم بسنده إلى الأعمش؛ قال: كان عمارة وإبراهيم وأصحابنا لا يرون بلبن الفحل بأسًا - أي: لا يجعلونه محرمًا من قِبَله -، حتى أتاهم الحكم بن عتيبة بخبر أبي القعيس.
ثم علق أبو محمد ابن حزم بقضية منهجية، فقال: هكذا يفعل أهل العلم، لا كمن يقول: أين كان فلان وفلان عن هذا الخبر؟ ا.هـ
وهذا ليس بمستغرب إذا علمت أنه تكرر في غير مسألة؛ فإنك تجد النقول عمن كان في صدر الإسلام أنه يقول بعدم تعلق التحريم فيما دون الرضعات العشر، مع ورود نسخها صريحًا صحيحًا.
وعدم إدراك المسألة بهذا التسلسل قد يربك المتفقه، ولذلك توقف في حكم لبن الفحل طائفة من الفقهاء في صدر الإسلام؛ كالذي يروى عن مجاهد، وابن سيرين.
والظاهر كما رأيتَ أن أقوال المسلمين قد اجتمعت بعد ذلك على تحريم لبن الفحل، من دون مخالف يذكر، وإن كان ابن القيم قد قرر عدم إمكان دعوى الإجماع في هذه المسألة، مؤكدا أن من ادعى الإجماع فهو كاذب، ثم نسب القول بتحريم لبن الفحل إلى جمهور أهل الإسلام، وأردف: إن لبن الفحل يحرم، وإن التحريم ينتشر منه – الفحل: زوج المرضع - كما ينتشر من المرأة، وهذا هو الحق الذي لا يجوز أن يقال بغيره، وإن خالف فيه من خالف من الصحابة ومن بعدهم، فسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبع ويترك ما خالفها لأجلها، ولا تترك هي لأجل قول أحد كائنًا من كان، ولو تركت السنن لخلاف من خالفها لعدم بلوغها له، أو لتأويلها، أو غير ذلك؛ لتُرك سنن كثيرة جدًا وتركت الحجة إلى غيرها، وقولُ من يجب اتباعه إلى قول من لا يجب اتباعه، وقولُ المعصوم إلى قول غير المعصوم، وهذه بلية؛ نسأل الله العافية منها، وأن لا نلقاه بها يوم القيامة ا.هـ كلامه رحمه الله.
ولكن قد نسب إلى الجمهور القول بجواز اتفاق علماء العصر على حكم معين بعد اختلافهم في ذلك الحكم؛ لأنه واقع من جميع أهل العصر الذين يصنف مخالفهم متبعًا غير سبيل المؤمنين، والوقوع دليل الجواز، وإذا جاز وقوعه استلزم حجيته من عموم الأدلة، كما أجمعت الأمة على خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - بعد الاختلاف.
وما ذكره أبو عبد الله ابن القيم مبني على مسائل أخرى، منها: الإجماع؛ هل يختص بالصدر الأول؟ وهل يختص حكم الإجماع في عصر دون عصر؟ وهل يرتفع الخلاف المتقدم؟ وهل ينقرض القول بموت صاحبه؟ من رام قدحًا في الإجماع بعد الاختلاف، فربما تداعى ذلك إلى أصل الاحتجاج بالإجماع.

المسألة الثانية:
هل يحرم من الرضاع ما يحرم بالصهر والجمع؟
مثاله: الزوجة إذا كان لها أم من الرضاع، وبنت امرأة الزوج من الرضاع مما نزل بوطء زوجٍ غيره، وامرأة الابن إذا كان ابنا رضاعيا، والجمع بين الأختين إذا كانت أخوَّتُهما من الرضاعة، والجمع بين المرأة وعمتها من الرضاعة، وخالتها من الرضاعة.
حكى ابنُ حزم الاتفاقَ على "أن أم الزوجة من الرضاعة بمنزلتها من الولادة، وأن ابنتها من الرضاعة كابنتها من الولادة، ولا فرق"، وذكر القرطبيُّ الإجماعَ على حرمة حليلة الابن من الرضاع، ونص على أن مستند الإجماع في ذلك هو الخبر المرفوع: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"، وهذا هو مشهور المذاهب، ولم أرَ من خالف ذلك ممن قال بتحريم لبن الفحل؛ إلا ما كان من تقي الدين ابن تيمية حين توقف، وقال: إن كان قد قال أحد بعدم التحريم؛ فهو أقوى ا.هـ، والواقع أن الفقهاء لم يذكروا في هذا قولًا آخر؛ بل حكوا عدم علمهم بالخلاف؛ لكن المرداوي من مدرسة الحنابلة نسب إلى تقي الدين ابن تيمية جازما أنه لا يحرِّم من الرضاع ما يحرُم من المصاهرة، وأردف ذلك بفتوى للإمام أحمد من رواية ابن بدينا يقرر فيها التحريم بالرضاع نظير المصاهرة، مقررا أن المذهب هو ما حكي عن إمام المذهب.
وقد كان دليل عامة العلماء على ما ذهبوا إليه في أنه يحرم من الرضاع ما يحرم بالمصاهرة والجمع هو: أنه داخل فيما جاء في صحيح البخاري من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب"؛ لأنه أجرى الرضاعة مجرى النسب، وشبَّهها به؛ فثبت تنزيل ولد الرضاعة وأبي الرضاعة منزلة ولد النسب وأبيه؛ فما ثبت للنسب من التحريم ثبت للرضاعة؛ كامرأة الأب، والابن، وأم المرأة، وابنتها من النسب، وإذا حرم الجمع بين أختي النسب حرم بين أختي الرضاعة.

بينما تمسك من لم يحرم بالرضاع ما يحرم بالمصاهرة والجمع بعموم قول الله تعالى بعد ذكر المحرمات من الرضاعة بالنسب: ﴿وَأُحِلُّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ [سورة النساء: 24]، أي: أحل نكاحهن، مضيفين ما يأتي من الأدلة والمناقشات:
أولا: إن الله سبحانه حرم سبعًا بالنسب وسبعًا بالصهر، ومعلوم أن تحريم الرضاعة لا يسمى صهرًا وإنما يحرم منه ما يحرم من النسب، ولم يقل في الحديث: ما يحرم بالمصاهرة، ولا ذكره الله سبحانه في كتابه كما ذكر تحريم الصهر من النسب، ولا ذكر تحريم الجمع في الرضاع كما ذكره في النسب، وإثباتكم له جاء من طريق القياس، وقد غفلتم عن كون الفارق بين الأصل والفرع أضعاف أضعاف الجامع، فإذِ الرضاعة جعلت كالنسب في حكم لم يلزم أن تكون مثله في كل حكم لانفكاك الجهتين؛ بل ما افترقا فيه من الأحكام أضعاف ما اجتمعا فيه منها، وقد ثبت جواز الجمع بين اللتين بينهما مصاهرة محرمة، كما جمع الحسن بن الحسن بن علي بين بنتي عم في ليلة، وجمع عبد الله بن جعفر بين امرأة علي وابنته، وإن كان بينهما تحريم يمنع جواز نكاح أحدها للآخر لو كان ذكَرًا، فهذا نظير الأختين من الرضاعة؛ لأن سبب تحريم النكاح بينهما في أنفسهما.
وهؤلاء نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - هن أمهات المؤمنين في التحريم والحرمة فقط، لا في المحرمية؛ فليس لأحد أن يخلو بهن ولا ينظر إليهن، بل قد أمرهن الله بالاحتجاب عمن حرم عليه نكاحهن من غير أقاربهن ومَن بينهن وبينه رضاع؛ فقال تعالى: ﴿وَإذَا سَألتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسألُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابِ﴾ [سورة الأحزاب: 53]، ثم هذا الحكم لا يتعدى إلى أقاربهن ألبتة، فليس بناتهن أخوات المؤمنين يحرمن على رجالهم؛ بل هن حلال للمسلمين باتفاق المسلمين.
وأجيب: بأن جابر بن زيد وغيره قد كرهوا الجمع بين اللتين بينهما مصاهرة محرمة؛ للقطيعة، ولم يكن فيه تحريم لقول الله عز وجل: ﴿وَأُحِلُّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ [سورة النساء: 24].
وبأن الصهر قسيم النسب وشقيقه، قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مَنَ الماءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا﴾ [سورة الفرقان: 54]، فالعلاقة بين الناس بالنسب والصهر، وهما سببا التحريم، والرضاع فرع على النسب، ولا تعقل المصاهرة إلا بين الأنساب.
ثانيا: إن الله تعالى إنما حرم الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها؛ لئلا يفضي إلى قطيعة الرحم المحرمة، ومعلوم أن الأختين من الرضاع ليس بينهما رحم محرمة في غير النكاح، ولا ترتب على ما بينهما من أخوة الرضاع حكم قط غير تحريم أحدهما على الآخر؛ فلا يعتق عليه بالملك، ولا يرثه، ولا يستحق النفقة عليه، ولا يثبت له عليه ولاية النكاح ولا الموت، ولا يعقِل عنه، ولا يدخل في الوصية والوقف على أقاربه وذوي رحمه، ولا يحرم التفريق بين الأم وولدها الصغير من الرضاعة، ويحرم من النسب، والتفريق بينهما في الملك كالجمع بينهما في النكاح سواء، ولو ملك شيئًا من المحرمات بالرضاع لم يعتق عليه بالملك.
ثالثا: قال الله تعالى في المحرمات: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصلَابِكُمْ﴾ [سورة النساء: 23]، ومعلوم أن لفظ الابن إذا أطلق لم يدخل فيه ابن الرضاع؛ فكيف إذا قيد بكونه ابنَ صلب، وقصد إخراج ابن التبني بهذا لا يمنع إخراج ابن الرضاع؛ فلا تحرم على الأب حليلة ابنه الرضاعيِّ على التأبيد.
وأجيب عنه: بأن هذا القيد إنما كان لإسقاط اعتبار التبني وإبطاله، وبأن امرأة الابن من الرضاع تحرم بالإجماع كما تحرم امرأة الابن الصلبي.

ولعل من أسباب الخلاف في مسألة حرمة نظير المصاهرة بالرضاع؛ ما يأتي:

السبب الأول: المعتبر في دليل الخطاب؛ فمن لم يحتج بمفهوم المخالفة - وهم أكثر الحنفية -؛ لم يروا في قوله تعالى: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصلَابِكُمْ﴾ [سورة النساء: 23] ما يدل على حل نكاح زوجة الابن من الرضاع، ومن احتج به في بعض الصور دون الجميع - وهو قول طائفة؛ كتقي الدين ابن تيمية -؛ أمكنه أن لا يعَدِّي مفهوم المخالفة في الآية الكريمة إلى غير أبناء التبني، ومن احتج بعموم جميع مفاهيم المخالفة - وهم الجمهور؛ في غير مفهوم اللقب -؛ فأصوله تحمله على القول بحل حلائل الأبناء سوى أبناء الصلب.
ولقائل أن يقول: إذا كان الجمهور يعتبرون مفهوم المخالفة حجةً؛ فما بالهم أغفلوا مفهوم المخالفة من الآية، وحرَّموا حلائل أبنائنا الذين من أصلابنا وحلائلَ أبنائنا من الرضاعة، مع كون الآية نصت على حلائل أبناء الصلب، ومقتضى مفهوم المخالفة الذي يحتجون بعمومه حلُّ زوجاتِ الأبناء من الرضاعة؟
والجواب: إن شروط الاحتجاج بمفهوم المخالفة عندهم لم تتوافر في هذا النص، وذلك أن تخصيص الأبناء ذوي الحليلات بوصف الصلبية جرى مجرى الغالب، ولا يحتج به والحال كذلك؛ إذ الغالب كون الابن صلبيًّا، ومن الذي يكون له ابن من الرضاع إذا ما قورن بمن له ابن من النسب والصلب؟.
فإن قيل: فما معنى قول الحق جل ذكره: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ [سورة النساء: 24]، بعد قوله سبحانه في بيان من يحرم نكاحهن: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصلَابِكُمْ﴾ [سورة النساء: 23]، إلا أن تكون حلائل أبناء غير الصلب مما أحل بنص الآية؟
كان الجواب: إن الله تبارك وتعالى لما ذكر في الآية التي بين فيها المحرمات من ذكر؛ اقتصر على من هو محرم بكل حال؛ مثل: الأم، والأخت، والعمة، والخالة...، حتى ذكر حليلة ابنه الصلبي، وهي من تحرم عليه بالاتفاق ولو طلقها الابن، فأما من لم يحرم نكاحه بإطلاق؛ كأخت الزوجة، أو عمتها، أو الأجنبية الخامسة؛ فلم يكن هذا محلها؛ لأن نكاحها ليس حرامًا بكل حال، وكذلك الشأن في حليلة ابن الرضاع؛ تحرم على أبيه ما لم يطلقها، ولذلك كان التقدير: وأحل لكم ما وراء ذلكم بالحال التي أحلها به.

ولابد بعد ذلك، لبيان أثر استخدام مدرات الحليب في انتشار المحرمية، من مطالعة المسائل التي أثرى بها العلماء المكتبة الإسلامية الفقهية والتي لها اتصال من وجهٍ ما بمسألتنا، وقد فتشت عنها فوجدتها كما يأتي:

1/ هل يعد رضاع البكر التي لم تتزوج ناشرا للمحرمية؟
2/ حكم رضاع المرأة البكر إذا أرضعت وهي في ذمة زوج ولكن لا تزال بكرًا؛ من حيث نشر المحرمية وعدمه.
3/ إذا ثاب للرجل لبن في صدره.
4/ رضاع اليائسة والعجوز التي لا تلد.
5/ رضاع المطلقة.
6/ رضاع المتوفى عنها زوجها.
7/ تناول ما يدر اللبن ويصلحه لمن لزمها الإرضاع.
8/ إذا خرج من الثدي ماء أصفر.
9/ رضاع الخنثى المشكل.
فمن تتعاطى مدرات الحليب المعاصرة قد تكون صغيرة أو بالغة أو كبيرة يائسة، وقد تكون بكرا أو ثيبا، وقد تكون حائلا أو حاملا، وقد تكون عزباء أو ذات زوج أو مطلقة أو أرملة، وقد تكون أنثى أو مشكلة الجنس بسبب عيب خَلقي أو هرموني.

وإليك ما ذكر الفقهاء منتظِمًا في المسائل الآتية:

المسألة الأولى: رضاع البكر.
صورة المسألة: إذا نزل للبكر لبن، فأرضعت به صبيًّا؛ فهل يتعلق به تحريم؟
اختلف فقهاء الإسلام في تعلق التحريم بلبن البكر، على ما يأتي:
القول الأول: إذا نزل للبكر بنت تسع سنين لبن، فأرضعت به صبيًّا؛ تعلق به التحريم، وصارت أمًّا للصبي، ولو كانت صبية لا يوطأ مثلها، أو نقصت عن سن المحيض، ولا أب له.
وبه قال الثوري، والشافعي، وأبو ثور، وهو قول للحنفية، والمذهب عند المالكية، وأظهر الروايتين عند الحنابلة التي عليها جماهير الأصحاب، وصححها أبو محمد ابن قدامة وشمس الدين ابن قدامة وابن حامد؛ لكن الرواية المنصوصة غير ذلك، وهو قول كل من يحفظ عنه ابن المنذر.
القول الثاني: يحرم؛ إذا بلغت التاسعة عمُرًا.
وهو إطلاق بعض الحنفية، ووجه للحنابلة.
القول الثالث: يحرم؛ إن كان يوطأ مثلها.
وهو قول بعض المالكية.
القول الرابع: يحرم؛ إن لم تنقص عن سن المحيض؛ سواء كان يوطأ مثلها، أو لا.
وهو قول عند المالكية.
القول الخامس: يحرم إن كانت محتملة الولادة؛ بأن تبلغ تسع سنين، ولا يكون المرتضع ابنًا رضاعيا لرجل، وإنما هو ابن للمرأة التي أرضعته، أما إن لم يحكم ببلوغها، فلو ظهر لصغيرة دون تسع سنين لبن؛ لم يحرم.
وهو مذهب الشافعية.
القول السادس: لا يحرم لبن البكر.
وهو قول عند الشافعية، والرواية المنصوصة عند الحنابلة؛ استظهرها صاحب الفروع، وصححها بعض الأصحاب.

• الأدلة:

أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول القائلون بانتشار الحرمة الرضاعية بلبن البكر إذا بلغت التاسعة ولو لم يكن مثلها يوطأ أو نقصت عن سن المحيض بما يأتي:
الدليل الأول: كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وذلك في قول الحق تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ [سورة النساء: 23]؛ حيث لم يفصل فيه بين بكر وثيب.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الرضاعة من المجاعة" متفق عليه، والخبر: "الرضاعة ما أنبت اللحم" وهذا الخبر وإن لم يثبت رفعه إلا أنه جاء بمعناه عدد من الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم؛ ومنهم: ابن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وعائشة، وابن عباس. وذلك عام، وهو موجود في لبن البكر.
الدليل الثاني: المعنى المعقول.
وذلك أن لبنها يغذي، فيثبت به شبهة البعضية، وألبان النساء إنما خلقت لغذاء الأطفال.
ونوقش: بندرته، والحكم في الشريعة للغالب.
وأجيب عنه: بأن جنسه معتاد.
الدليل الثالث: القياس.
حيث إنه لبن امرأة فتعلق به التحريم؛ كما لو ثاب بوطء.

دليل القول الثاني:
الوقوع.
ذلك أن العمر هو سبب نشوء اللبن؛ فتثبت به شبهة البعضية، وينشر الحرمة.

دليل القول الثالث:
القياس.
حيث قاسوا الوطء على الولادة بجامع ثوبان اللبن في كلٍّ.

أدلة القول الخامس: استدل أصحاب القول الخامس بما يأتي:
أولًا: استدلوا على نصب البلوغ علامة للبن المحرم: بأن احتمال الولادة قائم، والولادة توجد الولد النسبي، والرضاع كالنسب، فكفى فيه الاحتمال.
ثانيًا: استدلوا على أن المرتضع لا يكون ابنًا لرجل، وإنما هو ابن للمرأة التي أرضعته: بأن الحرمة إنما تثبت بين الرضيع والفحل إذا كان منسوبًا إلى الفحل؛ بأن ينتسب إليه الولد الذي نزل عليه اللبن.

أدلة القول السادس:
استدل أصحاب القول السادس القائلون بأن لبن البكر لا ينشر الحرمة الرضاعية بما يأتي:
الدليل الأول: القواعد الفقهية التي تنصب الحكم على الغالب ولا تعتبره في النادر.
ذلك أن ثوبان اللبن في البكر نادر، ولم تجر العادة به في تغذية الأطفال؛ فأشبه لبن الرجال والبهيمة.
ونوقش: بأن جنسه معتاد.
الدليل الثاني: خروج ما ثاب في البكر عن مسمى الحليب.
حيث إنه ليس بلبن حقيقة، بل رطوبة متولدة. والرضاع فيما أنشر العظم وأنبت اللحم، وهذا ليس كذلك.
ويمكن أن يناقش: بأن معنى التغذية الموجود في حليب مَن ثاب لبنها عن حمل ابتداءً بانفتاق الأمعاء وسد المجاعة ثم نشوز العظم ونبات اللحم؛ إذا تحقق في لبن البكر، فلا معنى للتفريق في الحكم بين أنواع المراضع؛ إذا كان ثوبان لبنها عن زوج أو لا، ولا ينبغي أن ينعكس الأثر على المؤثر؛ لأن الأبوة الرضاعية ليست شرطا في انتشار المحرمية.
الدليل الثالث: إن القول بعدم نشر المحرمية بلبن البكر مقتضى الاحتياط.
ويمكن أن يناقش: بأنه مقتضى الاحتياط قد نظر إليه المستدل به من جانب دون جانب، كما لا يسوغ استصحاب أمر خارج عن موارد الاستدلال.

• الترجيح: تعود الأقوال الستة في الجملة إلى قولين؛ التحريم بلبن البكر، وعدم التحريم.
وعامة قيودات أرباب التحريم ترجع إلى أمور ظنية، غلب على الظن معها عندهم أن الحليب يكون معها شبيهًا بالحليب الثائب عن الحمل أو الوطء في خصائصه وصفاته.
ومن لم ير التحريم؛ يفهم مما استدل به أن ما خرج من ثدي البكر لو كان يشبه ما ثاب عن الحمل أو الوطء من الألبان في صفاته ومكوناته؛ أنه يثبت به التحريم عنده.
وإذا كان ذلك كذلك؛ لم يعد بدٌّ من القول بتحريم لبن البكر إن سمي حليبًا؛ بحيث يشبه الحليب الثائب عن الحمل، وهذا مقتضى حمل نصوص الشريعة في الباب على ما تسعه من المعاني وتقتضيه من المقاصد؛ فإن البكر إذا ثاب لبنها وأرضعت الصبي فقد سدَّت جوعته بلبنها ففتقت به أمعاءه وشدَّت عظامه، ولها عليه حقٌّ بإرضاعه من لبنها؛ حيث صار جزء من بدنها فيه، وتقدم قريبًا من المرفوعات المتفق عليها: "الرضاعة من المجاعة"، والمقصود من هذا الحديث: أنه لا يحرم من حليب المرضع إلا ما كان يسد جوعة الرضيع من دون أن يجتمع معه غيره من الطعام.
قال ابن باز ت1420ه: كل امرأة ثاب لها لبن، فأرضعت به طفلًا خمس رضعات في الحولين؛ فإنه يحرِّم؛ سواء كان اللبن من امرأة حامل، أو ثيب، أو بكر متزوجة أو غير متزوجة، أو كبيرة السن؛ فإنه محرم، وكلام الفقهاء أن اللبن المحرم هو ما ثاب عن حمل لا دليل عليه؛ لأن الحديث عَمم، ولم يخصص ا.هــ

والمراد بالتحريم في باب الرضاع أمران مجتمعان، وهما:

الأمر الأول: تحريم النكاح.
الأمر الثاني: المحرمية التي تجيز وضع الحجاب والخلوة.
بينما نجد أن تحريم نكاح أمهات المؤمنين – رضي الله عنهن – لم يجتمع معه ثبوت المحرمية، وإلا لجاز لهن وضع الحجاب أمام المؤمنين، والخلوة بهم. ولذلك قال تقي الدين ابن تيمية ت 728هـ: إنهن أمهات المؤمنين في التحريم دون المحرمية ا.هـ
على أن الفقهاء رحمهم الله الذين طرحوا هذه المسألة لم يتفقوا على عبارة تبين المقصود من البكر؛ فأطلق الحنفية ذلك فيمن لم توطأ بنكاح أو سفاح ولو زالت العذرة بنحو وثبة، وقصر آخرون مفهوم البكارة هنا على معانٍ أخرى؛ كمن لا زوج لها في مذهب المالكية، أو من لا حمل فيها في مذهب الشافعي، أو من لم تحمل عند بعض الحنابلة، وقال آخرون من الحنبلية: هي من لم توطأ. ويجمع ما تقدم ألا يكون في يدها صبي ثاب لبنها من حملها به.

المسألة الثانية: رضاع البكر إذا تزوجت.

صورة المسألة: بكر نزل لها لبنٌ، فنكحت ولها لبن؛ فهل يكون الزوج أبًا للرضيع إلى جانب أمومة المرضعة؟ اختلف في ذلك فقهاء المذاهب المشتهرة على ما يأتي:
القول الأول: هو هنا للمرأة وحدها ولا أب للرضيع.
وبه قال الحنفية بقيد عدم الدخول، وبعض الشافعية؛ إلا أن تحمل من زوجها ولا يكون للرضيع أب حتى ينفصل المولود.
القول الثاني: يكون الزوج أبًا إزاء كون المرضع أمًّا.
وبه قال المالكية، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وقول للشافعية، واختاره ابن باز.
القول الثالث: يكون الزوج أبًا إذا حملت منه.
وهو قول للشافعية، والحنابلة.
• الأدلة:
أدلة القول الأول: استدل أصحاب القول الأول على أن رضاع البكر إذا تزوجت لا ينشر المحرمية إلى زوجها بما يأتي:
الدليل الأول: تخلف ركن من أركان الحكم بنشر المحرمية إلى الزوج.
حيث إن نسبة لبن المرضع إلى الزوج إنما تكون بسبب الولادة منه، وإذا انتفت انتفت النسبة.
الدليل الثاني: القياس.
وذلك قياسًا على البكر التي در لها حليب ولم يُدخل بها.
أدلة القول الثاني: استدل أصحاب القول الثاني على أن زوج البكر التي ثاب لها لبن قبل الزواج أنه يكون أبا رضاعيا بما يأتي:
الدليل الأول: كون اللبن بسبب وطء الزوج، وذلك أن اللبن يكون للفحل بثلاثة أسباب: أن يوجده، أو يكثره، أو يباشر منيه الولدَ في البطن، وهو هنا قد أوجده أو كثره بوطئه؛ لأن الوطء يكثر الحليب، وهو من أسباب إدراره.
الدليل الثاني: إنه لم يحدث لها زوج غيره.
لعموم الأدلة الموجبة لنشر القرابة الرضاعية إلى زوج المرضع حيث أطلق الله سبحانه الحكم بالتحريم في قوله: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ [سورة النساء: 23]، مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب"، وقال في عم عائشة - رضي الله عنها - من الرضاعة: "ائذني له؛ فإنه عمك"، وتقدم في بداية البحث.
• الترجيح: يظهر مما تقدم من الأدلة والمناقشات وجاهة القول الثاني القائل بنشر المحرمية إلى زوج المرضع التي در لها لبن وهي تحته ولم يتصل ثوبان اللبن بزوج قبله حيث كانت بكرا؛ لأن الابن الصلبي ينسب بمحض العقد مع الإمكان؛ لأن العقد مظنة حصول موجب الحمل، وليكن كذلك ما قيس عليه في الشريعة، وهو الابن من الرضاع؛ فإن الزوج مظنة حصول ما ينشئه أو يكثره.
يقويه: أن الأصل في البكر التي در لها لبن ثم تزوجت أنها توطأ إذا دخل بها زوجها، والوطء يكثر اللبن فيما قرره الفقهاء قديمًا وأشارت إليه الدراسات الطبية حديثًا، حيث يذكر الأطباء في هذا الصدد أن النشوة التي تعقب الجماع أو الاستمناء تؤدي إلى ارتفاع الهرمون المؤثر في إفراز الحليب عند المرضع - وهو البرولاكتين في الدم - عما كان عليه قبل الجماع، ويكون أعلى ما يكون إذا طالت مدة الجماع، أو تكرر حصول النشوة أكثر من مرة، وعلى العكس من ذلك إذا لم تصل المرأة إلى النشوة في الجماع؛ فقد وجد أنه يقلل هرمون البرولاكتين في الدم عما قبل الجماع.
كما أن لِزَوج المرضعة حقا على من أرضعته وهي في عصمته؛ لأن الرضاع أخذ نصيبًا من بدنها ووقتها وعموم منفعة بدنها، فإذِ الشريعة وضعت المرضعة منزلة الأم لمن أرضعت، فلأن يكون زوجُها أبًا من الرضاعة؛ فعلى ذلك القانون جرى.
وعلى كلٍّ، فهذا الترجيح جار على الأصل في الباب، وهو أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وبالرجوع إلى القواعد العامة في كل باب تنضبط أحكام المسائل وتستقر.
• سبب الخلاف: يرجع سبب الخلاف في هذه المسألة إلى الخلاف فيما يأتي:
أولا: مسائل في أصول الفقه، وهي مبسوطة في كتابي: أصول الكلام الفقهي.
ثانيا: مسائل في فروع الفقه، ولنأخذ من هذا النوع فرعا واحدا، وهو: الخلاف فيما تتحقق به أبوة زوج المرضع؛ فمن أناطه بانفصال الولد من الحمل ولم ير في غيره موجبًا لثيابة اللبن - وهم بعض الشافعية -؛ لم ير في الوطء ما يثيب اللبن، ومن رأى في الحمل ما يحقق نسبة اللبن إلى أبي الحمل – وهو مذهب الشافعي وبعض أتباعه والحنابلة -؛ أثبت الحرمة بين الرضيع والزوج إلى جانب المرضع - وهي الزوجة -، ومن رأى في الوطء مثيبًا للبن – وهم المالكية –؛ ألحق بالزوج كل مرضع وطئها من زوجاته.

المسألة الثالثة:
إذا نزل للرجل حليب، فأرضع به صبيا؛ فهل ينشر رضاعه الحرمة؟.
يطلق بعض الفقهاء عللا هذه المسألة: إرضاع الذكور، وقد اختُلف في تصوّر هذه المسألة وقوعًا، فقال الشافعي: ولا أحسبه ينزل للرجل لبن ا.هـ، ثم بين حكم المسألة إذا نزل.
وفي دراسة أجراها أحد الباحثين؛ قام فيها بتحليل الحليب الذي خرج من رجل عمره 27 سنة بسبب زيادة هرمون البرولاكتين في الدم، ووجد أن معدل تركيز البروتين وسكر الحليب (اللاكتوز) والأملاح هو نفسه الموجود في حليب المرأة المرضعة ولبئها.
وقد اختلف الفقهاء الذين أوردوا هذه المسألة على قولين مشهورين:
القول الأول: إذا نزل للرجل لبن، فأرضع به صبياً؛ لم يتعلق به التحريم.
وهو قول عامة أهل العلم؛ من الحنفية، وأحد قولي مالك، وقول الشافعي، والصحيح عند الشافعية، والصحيح من مذهب الحنابلة.
على أن الشافعي كره للرجل وولده نكاح الصبية إذا ارتضعت منه، وتبعه المنتسبون إلى مذهبه.
القول الثاني: تقع الحرمة به.
وبه قال المالكية، وبعض الشافعية؛ كالكرابيسي.
• الأدلة:
أدلة القول الأول: استدل أصحاب القول الأول بعدم تكامل أركان حكم نشر الحرمة الرضاعية مما يخرج من صدر الرجل، وبيان ذلك في الأوجه التالية:
الوجه الأول: إنه ليس بلبن على الحقيقة لأن الله لم يخلق للرجل لبنا يغتذي منه الرُّضَّع، واللبن إنما يتصور ممن تتصور منه الولادة.
ونوقش: بأن قولكم هذا محمول على الغالب.
الوجه الثاني: إن الله تعالى ذكر رضاع الوالدات، والوالدات إناث. والوالدون غير الوالدات، وذكر الوالد بأن عليه مؤنة الرضاع، فقال سبحانه: ﴿وَعَلَى الـمَوْلُوْدِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالـمَعْرُوْفِ﴾ [سورة البقرة: 233]؛ فلم يجز أن يكون حكم الآباء حكم الأمهات وقد خصهن الله بقوله: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ [سورة النساء: 23]، ولا حكم الأمهات حكم الآباء؛ وقد فرق الله عز وجل بين أحكامهم.
أدلة القول الثاني: استدل أصحاب القول الثاني بأنواع من الأقيسة والأشباه، وهي كما يلي:
القياس الأول: إن الحرمة إذا وقعت باللبن عن وطئه، فبِلَبنه أولى.
القياس الثاني: إنه لبن آدمي؛ فأشبه لبن الآدمية.
• الترجيح: إن الحكم الشرعي المشتمل على نشر القرابة الرضاعة مبني على أركان، وأول أركانه المرضع الأنثى، وقلنا أنثى لأن الله سماها أُمًّا في قوله: ﴿وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم﴾ [سورة النساء: 23]؛ فلا يتعلق التحريم بما يخرج من صدور الرجال، وإن سمي لبنا.
وتجاوز ذلك قد يدخل في التعدي على سنة الله الكونية فيما فطر الرجال والنساء عليه من الخصائص وألزمهم به من الواجبات، قال الله تعالى: ﴿ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن﴾ [سورة النساء: 32]؛ فأنثوية المرضع شرط لثبوت المحرمية في باب الرضاع.
هذا إذا ثبت أن من ثاب له اللبن رجل، فأما إذا اختلت رجولته لعيب خَلقي أو مرض هرموني؛ فقد خرج الكلام عليه من حدود هذه المسألة. وكذا لو مسخ جسد رجل إلى أنثى بإخصائه، ثم إجراء عملية جراحية لإيجاد فرج ومهبل، ثم إعطائه هرمونات الأنوثة كي تنمو أثداؤه وينعم صوته، ويتوزع الدهن في جسمه على هيئة الأنثى.
ويمكن اليوم من خلال إجراء الفحوصات الطبية معرفة جنس المعيب، ومعالجة المريض باضطراب هرمونات الرجولة والأنوثة وتمييز جنسِه.
فإن قيل: قد حرمتم لبن البكر والغالب في مثلها عدم اللبن بحجة تحقق معنى التغذية؛ فكيف اضطرب ميزانكم هنا؟
أجيب: بأنه لما كان الغالب في النساء ظهور اللبن المغذي من أثدائهن عند سببه اعتبر جنسهن، على نحو ما جاء به النص، وعلى العكس من ذلك الرجل في الغالب، والنادر لا حكم له.

المسألة الرابعة:
إدرار الآيسة.
صورة المسألة: إذا درت يائسة من المحيض أو عجوز لا تلد لبنًا، فأرضعت صبيًّا؛ فهل تكون أمًّا له؟ طرح بعض الفقهاء هذه المسألة، وكانت الأقوال فيها على ما يأتي:
القول الأول: تكون أمًّا له، وإن كانت اليائسة لا توطأ - يعني: ولو لم يكن الحليب ثائبًا عن وطء -.
وبه قال المالكية، ونسب للحنفية، وهو ظاهر اختيار ابن إبراهيم، واختاره ابن باز، وابن عثيمين، وجماعة من المعاصرين.
القول الثاني: إذا كان يوطأ مثلها؛ يحرِّم.
وهو قول بعض المالكية؛ كابن عبدالبر.
تنبيه: قد ضربت صفحًا في هذه المسألة وغيرها عن الشروط التي يذكرها بعض الفقهاء ضمن أقوالهم، وهي داخلة في مسائل أخرى؛ حررتها في مواضعها من هذه الرسالة؛ كاشتراط المالكية كون اللبن ليس ماءً أصفرَ، أو إنه في الحولين؛ درءًا للإطالة، وتوحيدًا للمبحوث.
واستدل أصحاب القول الأول: بأن لبنها يغذي فيصدق عليه تعريف الرضاع شرعًا، وبأنها أم مرضعة يشملها عموم قول الله تعالى: ﴿وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم﴾ [سورة النساء: 23].
والراجح القول الأول إن سمي حليبًا؛ لتحقق خاصية الغذاء التي تنبت لحم الرضيع وتشد عظمه، وهو المعنى الذي نصبه الشارع سببًا للتحريم الرضاعي.
ومن ثمرة ذلك وفق المترجح:
الثمرة الأولى: ما لو در ليائس حليبًا بفعل عقار طبي، فأرضعت منه صبيًّا؛ ثبت به التحريم ولزوجها التي هي في ذمته، ولو لم يكن يطؤها.
الثمرة الثانية: إذا خرج من ثدي الآيسة إفرازات ملونة ولزِجة قبيل سن الإياس؛ لم ينتشر بها التحريم.

المسألة الخامسة:
رضاع المطلقة.
صورة المسألة: أن يطلق رجل زوجته التي دخل بها، ويكون لها لبن منه، فترضع به طفلًا قبل أن تنكح زوجًا غيره؛ فهل يصير الرضيع ابنًا للمطلق؟ أو أن نسبة اللبن له تنقطع بطلاقه؟
تناول الفقهاء هذه المسألة، واختلفوا فيها على ما يأتي:
القول الأول: لا تنقطع نسبة اللبن بطلاقه؛ فالمولود ابنها، وابن الزوج الذي طلقها؛ كان الإرضاع في العدة، أو بعدها.
وهو ظاهر مذهب الحنفية، والمالكية، ومذهب الشافعي، ومذهب أتباعِه الشافعيةِ، وأردفوا: وسواء قصرت المدة أم طالت كعشر سنين وأكثر، وسواء انقطع اللبن ثم عاد، أم لم ينقطع، وصححه النووي.
القول الثاني: كالقول الأول؛ غير أنه إن انقطع اللبن وعاد بعد مضي أربع سنين من وقت الطلاق لم يكن منسوبًا إليه.
وهو قول عند الشافعية؛ اختاره البغوي.
• الأدلة:
أدلة القول الأول: استدل أصحاب القول الأول بأمور تعود إلى القواعد الفقهية التي تقرر أن الأصل بقاء ما كان على ما كان، حيث قالوا: إنه لم يحدث لها زوج غيره، كما لم يحدث ما يُحال اللبن عليه.
أدلة القول الثاني: استدل أصحاب القول الثاني على ثبوت التحريم للمطلِّق بما استدل به أصحاب القول الأول، ثم استدلوا على أن اللبن إن انقطع من المطلقة وعاد بعد مضي أربع سنين من وقت الطلاق لم يكن منسوبًا إلى المطلِّق بالقياس على ما لو أتت بولد بعد هذه المدة – أربعة أعوام –؛ فإنه لا يلحقه.
• الترجيح: الراجح أن الرضيع ابن للمرضعة المطلَّقة المدخول بها ولم تتزوج بعد طلاقها، وابن لمن كان ثوبان اللبن بسببه، وهو الزوج المطلق، ولا يعود الانقطاع أو الضعف الذي يتخلل الثوبان على أصل الحكم - وهو انتشار التحريم - بالنقض، أو سبب الثوبان - وهو الزوج - بالإبطال.
• ثمرة الخلاف: ترتب على الخلاف في هذه المسألة أثر في عدة فروع، يعنينا منها الفرع الآتي:
إذا طُلِّقت مرضع، فضعف لبنها أو انقطع، ثم عاد ثوبانه بفعل مدرات الحليب المنشطة لا من تلقاء نفسه؛ فهل تنتشر الحرمة الرضاعية إلى المرضع فقط بحيث لا يكون للرضيع أب رضاعيّ، أو ينضم معها مطلِّقها الذي ثاب اللبن بسببه؟
هذا محل بحث لم أتوصل فيه مع الأطباء وعلماء الحيوان ما يمكن معه الجزم برأي.

المسألة السادسة:
رضاع المتوفى عنها زوجها.
صورة المسألة: إذا توفي رجل عن زوجته، ولها لبن منه، فأرضعت به طفلًا قبل أن تنكح؛ فهل يصير الرضيع ابنًا للمتوفى؟ أو أن نسبة اللبن له تنقطع بموته؟
في هذه المسألة القولان المتقدمان في المسألة الخامسة، والراجح ثبوت الأبوة الرضاعية للزوج المتوفى؛ لما تقدم.
• ثمرة الخلاف: ترتب على الخلاف في هذه المسألة أثر في الفروع الآتية:
الفرع الأول: إذا نكحت امرأة في عدتها - من وفاة زوج صحيح أو فاسد أو طلاقه - من رجل دخل بها في عدتها، فأصابها، وجاءت بحمل، ونزل لها لبن، وأرضعت بذلك اللبن مولودًا آخر؛ فلمن يكون الابن؟ تحدث الشافعي عن هذه المسألة، وكان رأيه فيه وفق التفصيل الآتي:
أ ـــــــ أن يخرج الولد النسبيُّ تامًّا سويًّا؛ فيكون الرضيع ابنها، وابن الذي تُلحِق القافةُ الولدَ به من الرجلين، وتسقط أبوة الذي سقط عنه نسب الولد.
ب ـــــــ أن يكون حمل المرأة سِقْطًا لم يَبِنْ خلقُه، أو ولدت ولدًا فمات قبل أن يراه القافة؛ لم يكن المولود المرضَعُ ابنَ واحد منهما دون الآخر في الحكم.
والورع ألا ينكحها أحدهما إن كانت جارية، وألا يرى واحد منهما بناته حُسَّرًا. هكذا قرر الشافعي رحمه الله، واستأنفَ:
ج ـــــــ أن يكون المولود عاش حتى تراه القافة، فقالوا: هو ابنهما معًا؛ فأمر المولود موقوف، وينتسب إلى أيهما شاء؛ فإذا انتسب إلى أحدهما؛ انقطع عنه أبوة الذي ترك الانتساب إليه، ولا يكون له أن يترك الانتساب إلى أحدهما دون الآخر؛ يجبر أن ينتسب إلى أحدهما.
د ـــــــ أن يكون المولود عاش حتى تراه القافة، فقالوا: هو ابنهما معًا، ثم مات قبل أن ينتسب، أو بلغ معتوها؛ لم يلحق بواحد منهما حتى يموت وله ولد، فيقوم ولده مقامه في أن ينتسبوا إلى أحدهما. هذا هو مذهب الشافعي، غير أنه لم يجزم بما ورد في الفقرة (ب).
الفرع الثاني: إذا توفي عن مرضع زوجها الذي ثاب اللبن بسببه، فانقطع لبنها، ثم عاد ثوبانه بفعل مدرات الحليب المنشطة؛ فهل تنتشر الحرمة الرضاعية إلى المرضع وزوجها المتوفى عنها إذا لم تنكح غيره؟
الكلام في هذا الفرع كالكلام في نظيره من المسألة الخامسة، وتقدم قريبا.

المسألة السابعة:
تناول ما يدر اللبن لمن لزمها الإرضاع.
نص بعض فقهاء المذاهب من الشافعية والحنابلة على أن من وجب عليها الرضاع؛ فعليها أن تأكل وتشرب ما يدِرُّ به لبنها ويكثره، ويَصلُحُ به، وتطالب بذلك، وصرح بعضهم أنه مكلفة بذلك فتُلزم.
واستندوا في ذلك إلى ما يأتي:
الدليل الأول: إنه من تمام التمكين من الرضاع.
الدليل الثاني: إن في تركه إضرارًا بالصبي.
ويمكن أن يستدل لهم بما يأتي:
الدليل الثالث: إن الإرضاع إذا كان واجبًا؛ لقول الله تعالى: ﴿وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ﴾ [سورة البقرة: 233]؛ فإن ما لا يتوصل الواجب إلا به، وهو فعل المكلف؛ فهو واجب، وهذا مما تأخذ الوسائل فيه أحكام المقاصد.
وقد أثمر ذلك في الفروع الآتية:
الفرع الأول: وجوب تناول ما يدر الحليب من الطبَعيات فالمصنعات - ما لم يغلب ضررها على نفعها -؛ إذا كانت المرضع ممن يجب عليها الإرضاع.
الفرع الثاني: يجب على من ولاه الله أمر المسلمين توفير ما يدر الحليب من المصنعات التي لا يغلب ضررها على نفعها إذا توقف عليها در الحليب عند طائفة ممن يجب عليهن الإرضاع.

المسألة الثامنة:
إذا خرج من الثدي ماء أصفر.
بحث بعض فقهاء المالكية الماء الأصفر؛ يخرج من ثدي المرأة، وقرروا أنه لا يتعلق به تحريم إذا أرضعت به صبيًّا؛ لأنه لا يغذي، وعلى ذلك جاءت فتيا ابن باز.
ويمكن الآن فحصه مخبريا والكشف عن مكوناته؛ هل هو ماء أو لبن؟
وقد أثمر ذلك في الفروع الآتية:
الفرع الأول: إذا خرج من ثدي المريضة بالسرطان أو المصابة بالتهابات الثدي أو الصدر: دم أحمر، أو صديد؛ لم ينتشر بالإرضاع منه التحريم.
الفرع الثاني: إذا خرج من الحامل قبيل ولادتها ماء أبيض لا يحمل صفات الحليب وخصائصه؛ فإنه لا ينشر التحريم.
الفرع الثالث: امرأة تتعاطى مدرًّا طبيًّا للحليب، فخرج من ضرعها ماء أصفر؛ لم يتعلق به تحريم؛ ما دام ماءً.

المسألة التاسعة:
رضاع الخنثى المشكل.
يعرف فقهاء المسلمين الخنثى بأنه الذي في قبله فرجان؛ ذكر وفرج امرأة؛ فإن ظهرت فيه علامات الرجال، أو علامات النساء؛ حكم له بها، ولم يكن مشكلًا، وإن لم تظهر فيه علامات الرجال ولا النساء؛ كان مشكلًا؛ كما لو كان مباله مستويًا من المخرجين في أصل الخروج منهما، والسبق في الخروج، وكثرة الخارج.
أما أهل الطب الحديث فيعرفونه بأنه من غمضت أعضاؤه الجنسية الظاهرة، ولتحديد نوع الخنثى؛ يَنظر الطبيب إلى الغدة التناسلية حسب نتيجة فحصها النسيجي؛ فإن كانت الغدة خصية، والأعضاء الخارجية تشبه تلك الموجودة لدى الأنثى؛ فهو خنثى ذكر كاذب، وإن كانت الغدة مبيضًا، والأعضاء التناسلية الظاهرة ذكرية؛ فهي خنثى كاذبة، وإن كان له مبيض وخصية، أو هما معًا ملتحمان؛ فهو خنثى حقيقة، ولا عبرة عندئذ بالأعضاء الظاهرة التي قد تشبه الذكر أو الأنثى أو كليهما معًا.

وقد اختلف الفقهاء في الخنثى إذا أرضع؛ هل يتعلق به تحريم أو لا؟، وكانت آراؤهم كما يأتي:
القول الأول: لا يتعلق به تحريم؛ إلا إذا قال النساء: إنه لا يكون على غزارته إلا للمرأة.
وبه قال الحنفية.
القول الثاني: لا يخلو من حالين:
الأول: إذا كان الأغلب عليه أنه رجل؛ فلا يتعلق برضاعه تحريم.
الثاني: إذا كان الأغلب عليه أنه امرأة؛ تعلق برضاعه التحريم.
وهو مذهب الشافعي.
القول الثالث: لبن الخنثى لا يقتضي أنوثته، فلو ارتضعه صغير تُوُقِّفَ في التحريم حتى ينكشف أمر الخنثى؛ فإن بان أنثى؛ حرم، وإلا؛ فلا.
وهو المذهب عند الشافعية، وابن حامد من الحنابلة.
القول الرابع: لا ينشر الحرمة مطلقًا.
وهو مذهب الحنابلة.
القول الخامس: يتعلق به التحريم.
وهو وجه عند الحنابلة، والمالكية تخريجًا على قولهم بتحريم رضاع الرجل.

• الأدلة: لم أر من استدل من أصحاب الأقوال إلا بعضهم، وهم كما يأتي:
أدلة القول الثاني: استدل أصحاب القول الثاني بالقاعدة الفقهية (العبرة بالغالب)، حيث إنه في الحالة الأولى – إذا كان الأغلب على الخنثى أنه رجل – يكون لبنه مثل لبن الرجل، وفي الحالة الثانية – إذا كان الأغلب عليه أنثى – يحرم لبنه كما تحرم المرأة إذا أرضعت.
أدلة القول الثالث: استدل أصحاب القول الثالث وهم القائلون بالتوقف حتى تبين أنوثة الخنثى المرضع من ذكورته بقولهم: إنه لا يؤمَن كونه محرمًا.
أدلة القول الرابع: استدل أصحاب القول الرابع القائلون بأن لبن الخنثى لا ينشر الحرمة بما يأتي:
الدليل الأول: القاعدة الفقهية (اليقين لا يزول بالشك).
حيث إنه لم يثبت كونه امرأة، والأصل عدم وجود الأم الرضاعية؛ فلا يثبت التحريم مع الشك.
الدليل الثاني: القياس.
فإذا كان لبن المرأة الذي حدث من غير حمل لا ينشر الحرمة، فهنا لا ينشر بطريقٍ أولى وأحرى.
والمقيس عليه في هذا الدليل محل نظر عند غيرهم إذا كان للبن الذي حدث من غير حمل أوصاف لبن الرضاعة.
• الترجيح: إن الأقوال الآنفة تعود في الجملة إلى قائل بالتحريم من رضاع الخنثى، ونافٍ له؛ غير أن مثبتي التحريم اختلفوا؛ فمنهم من أطلق، ومنهم من قيد، ثم إن المقيدين اختلفوا في القيد؛ فمن مقيِّدٍ بغزارة الحليب، ومن مقيد بغلبة علامات الأناثيّ على الخنثى، ومن مقيد بالتريث حتى انكشاف أمر الخنثى؛ فإن بان أنثى؛ حرم، وإلا؛ فلا.
والأقرب أن مرجع الحكم في ثبوت التحريم بلبن الخنثى هو الحليب نفسه؛ فإن كانت له علامات حليب الإناث من المراضع؛ ثبت به التحريم، وما لا؛ فيلتحق بما تقرر في المسألة الثالثة، وهي رضاع الرجل ورضاع مضطرب الهرمونات، وحيثما وجدت أوصاف الحليب دارت علة التحريم معه إذ كان به نشوز العظم ونبات اللحم، وهو المعنى الذي نصبه الشارع سببا للتحريم الرضاعي. وثوبان الحليب علامةُ الأنوثة؛ قال الشافعي ت204ه: لا أحسبه ينزل للرجل لبن ا.هــ
• ثمرة الخلاف: ترتب على الخلاف في هذه المسألة أثر فيما إذا تعاطى الخنثى مدرًّا صناعيًّا للحليب، فدر له لبن، وأرضع به صبيًّا؛ تعلق به التحريم إن وافقت صفته عن حليب الإناث.
• سبب الخلاف: يعود سبب الخلاف في هذا المسألة إلى مسائل أصولية بينتها في كتابي أصول الكلام الفقهي، ومسائل فروع، منها:
الخلاف في رضاع الرجل؛ فمن لم يجعل من حليب الرجل ناشرًا للحرمة - وهم السواد الأعظم -؛ اختلفوا في رضاع الخنثى، وكثير منهم لم يرَ فيه ما يوجب التحريم؛ ما لم يدل دليل أو تشِر قرينة إلى أنثوية الخنثى، ومن أثبت التحريم في رضاع الرجل - وهم المالكية وبعض الشافعية -؛ لم يشكل عليه أن يثبت التحريم برضاع الخنثى.


• الخاتمة:

نخرج من خلال عرض المسائل الآنفة إلى النتائج الآتية بخصوص مدرات الحليب المعاصرة وأثرها في انتشار المحرمية وحكم تعاطيها وتصنيعها، وهي كما يأتي:
النتيجة الأولى: إذا تعاطت المرأة عقارًا مدرًّا للحليب؛ فنشأ في ضرعها حليب، أو عاد ثوبان الحليب إليها إبان جفافه، أو تضاعف، فأرضعت به صبيًّا؛ انتشرت به الحرمة إلى أصول المرضعة وأصول زوجها - إن كان ثمَّ زوجٌ على التفصيل المذكور في المسائل - وفروعهما وحواشيهما، وإلى الرضيع وفروعه، ويستوي في ذلك كون المرضعة حائلًا أو حاملًا، بكرًا أو ثيبًا، ولو كانت آيسة، أو خنثى، أو مطلَّقة إذا ثاب اللبن بسبب مطلِّقها ولم تنكح غيره، أو أرملة متوفى عنها زوجها الذي ثاب اللبن بسببه ولم تنكح غيره؛ ما دام الخارج يسمى حليبًا، بأوصافه المعروفة.
أما إن خرجَ من الثدي ماء، أو دم، أو صديد، أو إفراز ملون ولزج؛ فلا ينتشر من الإرضاع به تحريمٌ.
النتيجة الثانية: إذا تعاطى رجلٌ المدراتِ الصناعية للحليب؛ فدرت له لبنًا، أو كثرته، أو أوجدته بعد جفافه؛ لم يثبت برضاعه تحريم.
النتيجة الثالثة: إذا وجب الرضاع على امرأة، فعليها أن تأكل وتشرب ما يَدِرُّ به لبنها، ويَصلُحُ به؛ من الطبعيات والمصنعات، ولولي الصبي مطالبتها بذلك، وعلى من ولي أمر المسلمين رعاية هذا الشأن وتهيئة ما يلزم له.
النتيجة الرابعة: للأم المرضع أن تترخص بالفطر في نهار رمضان بتعاطي مدرات الحليب مع وجود الألبان الصناعية؛ إذا خافت على ولدها، ويكون مقدار المدرات المتعاطاة مبنيا على توجيه الطبيبة المختصة، وبحث هذه المسألة والمسألة المذكورة في النتيجة الآتية وبيان ما تشتمل عليه الألبان الصناعية من الأضرار وما تخلِّفه من الآثار المستقبلية مبسوط في أصل هذا المقال، وهو دراسة فقهية بعنوان: النوازل في الرضاع.
النتيجة الخامسة: إذا ترتب على الدواء المدر للحليب ضرر على متعاطيه؛ ضمن الطبيب أو الصيدلي الذي صرفه له؛ إذا ثبت تعدِّيه أو تفريطه، هو ومن اشترك معه في الجرم من التجار والعاملين في هيئات الغذاء والدواء والجهات المسؤولة ذات الاختصاص.

اللهم صل على نبينا محمد وسلم تسليما.


• المرجع: دراسة علمية قدمها الباحث عبدالله بن يوسف بن عبدالله الأحمد لنيل درجة الماجستير في قسم الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء عام 1438هـ/ 2016م.

 

بحوث علمية
  • بحوث في التوحيد
  • بحوث فقهية
  • بحوث حديثية
  • بحوث في التفسير
  • بحوث في اللغة
  • بحوث متفرقة
  • الصفحة الرئيسية