اطبع هذه الصفحة


مئةٌ وعشرون مسألةً في أحكامِ الجنائز

زياد عوض أبو اليمان


بسم الله الرحمن الرحيم


1) الجَنائز : بفتح الجيم جمع جَِنازة بالفتح والكسر ، وهو الميّت ، وقيل : الجَنازة بالفتح هو الميّت ، وبالكسر النّعش وعليه الميت .

2 ) ينبغي للمؤمن أن يكثر من ذكر الموت ، لقوله - صلّى الله عليه وسلّم - : " أكثروا من ذكر هاذم الّلذات" ، الترمذي ، والنَّسائي وغيرهم بإسنادٍ حسنٍ ، فالموت حقّ لا مفرّ منه ولا مهرب ، ولذا ينبغي أن يكون الموت دائماً على بال المؤمن حتى لا يركن إلى الدّنيا وزينتها الزائلة ، وإنّما ينظر ويعمل لما بعد الموت - الحياة الباقية - لقوله تعالى : " وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التّقوى " ، ولا شكّ أنّ ذكر الموت يحثّ العبد على الطّاعة ، واجتناب المعصيّة خشية أن يفجأه في أي لحظةٍ .

3) لا ينبغي للمؤمن أن يتمنّى الموت لضرٍّ أصابه في الدّنيا كمرضٍ ، أو فاقةٍ ، أو فقرٍ ، أو دينٍ ، أو غير ذلك ، والسّبب أنّ تمنّي الموت في مثل هذه الأحوال يدلّ على الجزع من البلاء ، وعدم الرّضا بالقضاء ، وفيه اعتراض على القدر المحتوم ، وكذلك فإنّ تمنّي الموت فيه طلب إزالة نعمة الحياة ، وقد قال النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - : " لا يتمنيّن أحدُكم الموت ، إمّا محسناً لعله يزداد ، أو مسيئاً لعله يستعتب " ، رواه البخاري ، وفي الحديث : " وإنّه لا يزيد المؤمن عمره إلّا خيراً " ، رواه مسلم وغيره.
4) إذا وُجد الضّرّ الأخروي وخاف المؤمن أن يُفتن في دينه جاز له تمني الموت لقوله - صلّى الله عليه وسلّم - : "لا يتمنيّنّ أحدكم الموت لضرٍّ أصابه في الدنيا " ، النّسائي وابن حبّان وإسناده جيد ، أي بسبب أمرٍ من أمور الدّنيا ، وكذا ثبت عنه - صلّى الله عليه وسلّم - من حديث أبي هريرة أنّه قال : " لا تقوم السّاعة حتى يمرّ الرّجل بقبر الرّجل فيقول : ياليتني مكانه" ، متفق عليه ، وكذا ثبت عنه أنّه قال : " وإذا أردت بقومٍ فتنةً فتوفني غير مفتون" أحمد والترمذي وإسناده صالح ، فهذه النّصوص وأمثالها تدلّ على جواز تمني المؤمن الموت إذا خشيَ الفتنة في الدّين ، والله تعالى أعلم .

5) إذا كان العبد متمنيّاً الموت لا محالة لضرٍّ أصابه في الدّنيا ، فليقل : "الّلهمّ أحيني ما كانت الحياة خيراً لي ، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي" كما صحّ عن النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - من حديث أنسٍ عند الشيخين.

6 ) من علامات حسن الخاتمة أنّ المؤمن يموت بعرق الجبين ، فعن النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - أنّه قال : المؤمن يموت بعرق الجبين "، التّرمذي وغيره وإسناده صحيح ، ومعنى موت المؤمن بعرق الجبين : ما يلقاه المؤمن من الشّدّة والمشّقّة والكرب عند الموت وسكراته تطهيراً له من الذّنوب ، ورفعاً له في الدّرجات .

7) تسمية ملك الموت "بعزرائيل " لم تثبت عن النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - وقد سمّاه الله في كتابه بملك الموت ، قال تعالى : "قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكّل بكم ثمّ إلى ربّكم تُرجعون " ، فتسميته بعزرائيل من أخبار بني إسرائيل ، أمّا نحن فنسمّيه بما سمّاه الله به ملك الموت .

8 ) منكر ونكير اسمان ثابتان لملكين ورد في وصفهما : أنّهما أسودان أزرقان يسألان العبد في قبره : عن ربّه ، ودينه ، ونبيّه - صلّى الله عليه وسلّم - ، والحديث عند الترمذي وإسناده صالح .

9 ) يُشرع بلّ حلق المحتضر بالماء ، وكذا تندية شفتيه ، لما يحصل لهما من اليبس والجفاف في سياقة الموت ، قال ابن قدامة : "وإذا رآه منزولاً به تعهد بلّ حلقه بتقطير ماءٍ ، أو شرابٍ فيه ، ويُندي شفتيه بقطنةٍ".

10 ) مشروعية تلقين المحتضر " لا إله إلا الله" ، لقوله - صلّى الله عليه وسلّم - : " لقّنوا موتاكم لا إله إلا الله " ، مسلم في صحيحه ، وحمل الجمهور الأمر على الاستحباب ، ولو قيل بالوجوب لم يبعد لأنّه الأصل في الأمر ، ولا صارف له عن الوجوب ، وهذا التلقين إنّما يكون عند الاحتضار لا بعد الموت ، والحكمة منه لأجل أن تكون هذه الكلمة العظيمة آخر كلامه من الدّنيا فيدخل الجنّة ، لقوله - صلّى الله عليه وسلّم - : " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنّة "، أبو داود وأحمد وإسناده صالح .

11 ) وهل تُقال له بلفظ الأمر أو تُذْكَر أمامه دون لفظ الأمر حتى لا يضجر ويضيق صدره بها ؟ قال ابن عثيمين : " ينبغي في هذا أن يُنظر إلى حال المريض ، فإن كان المريض قوياً يتحمّل أو كافراً فإنّه يُؤمر بها ، ويُقال له : اختم حياتك بلا إله إلا الله وما أشبه ذلك ، وإن كان مسلماً ضعيفاً فإنّه لا يُؤمر وإنّما يُذكر الله عنده حتى يسمع فيتذكّر ، وهذا التّفصيل مأخوذ من الأثر والنظر . وكذا قال ابن قدامه : "يلقّنه لا إله إلا الله بلطفٍ ومداراةٍ لئلا يضجر إلّا أن يتكلم بشيءٍ فيعيد تقلينه حتى تكون آخر كلامه ، نصّ على هذا أحمد ".

12 ) ذهب بعض أهل العلم إلى استحباب قراءة سورة "يس" عند المحتضِر لقوله - صلّى الله عليه وسلّم - : " اقرؤوا على موتاكم يس" ، أبو داود وغيره ، وهو ضعيف الإسناد ، وذكروا من فائدة قراءتها أنّها تسهّل خروج الرّوح لما فيها من التّوحيد ، والمعاد ، والبشرى بالجنّة لأهل التّوحيد ، والغِبطة لمن مات عليه ، والحديث ضعيف لا تقوم به حجّة ، فالراجح عدم مشروعيّة قراءتها .

13 ) يُستحب لحاضر الميت بعد قبض روحه إغماض عينيه لئلا تبقى مفتوحةً فيتشوّه منظره ، وكذا شدّ لحييه بعصابة تُربط فوق رأسه لأنّه لو تُرك لصار كريه المنظر ، وقد أغمض النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - عينيَ أبي سلمة عندما قُبض ، والحديث عند مسلمٍ .

14 ) يُستحب لمن حضر الميت الاشتغال بالدعاء لنفسه وللميت ، لأنّ الملائكة تؤمّن على ما يقول الحاضرون فقد قال - صلّى الله عليه وسلّم : " لا تدعوا على أنفسكم إلّا بخير فإنّ الملائكة تؤمّن على ما تقولون " ، رواه مسلم ، وكذا يجب تجنب الصّراخ والعويل فإنّه مما نُهي عنه ، لأنّ الملائكة تؤمّن على ما يقول الحاضرون كما سبق .

15 ) يُشرع توجيه الميت إلى القبلة لورود بعض الآثار في ذلك وعليه عمل المسلمين وهو قول مالك وإسحاق والأوزاعي وغيرهم ، قال ابن قدامة : ( توجيه الميت الى القبلة أولى لأنّ حذيفة ، قال : وجّهوني ولأنّ فعلهم ذلك بسعيد دليل على أنّ ذلك كان مشهوراً بينهم يفعله المسلمون كلهم بموتاهم )، "وقد أوصى البراء بن معرور أن يُوجّه إلى القبلة" ، البيهقي والحاكم وإسناده صالح ، وإن تُرك فلا حرج.

16) ينبغي للعبد المؤمن الصّبر والاحتساب عند نزول المصائب ، وفقد الأحبّة ، لقوله - صلّى الله عليه وسلّم : " ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدّنيا ثمّ احتسبه إلّا الجنّة "، أخرجه البخاري ، وكذا الحمد والاسترجاع والدعاء بالدعاء المأثور ، فعن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت ، سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: " ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، الّلهمّ أُجُرني في مُصيبتي وأَخلِف لي خيرًا منها ـ إلا أخلف الله له خيرًا منها "، رواه مسلم.
17) اختلف أهل العلم في حكم نقل الميت إلى بلد آخر ليُدفن فيه فمنهم من جوّز بشرط عدم الإضرار بالميت ، ومنهم من كره ذلك ، وذهب الشّافعية في أحد القولين إلى التّحريم ، ولذا إذا أوصى الميّت بأن يُنقل إلى بلدٍ آخر ليدفن فيه فلا تنفّذ وصيته ، قال النووي : " وإذا أوصى بأن يُنقل إلى بلد آخر لا تنفّذُ وصيتّه ، فإنّ النّقل حرام على المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون ، وصرّح به المحقّقون ".

18) استحباب تغطية جسد الميّت قبل تجهيزه ، فعن عائشة أنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - حين توفيَ سُجّيَ ببردٍ حبِرةٍ ، ويُستثنى من ذلك من مات محرماً فإنّه لا يُغطّى رأسه لأنّه محرّمٌ ، لقوله - صلّى الله عليه وسلّم - : " وكفّنوه في ثوبيه ولا تخمّروا رأسه فإنّه يبعث ملبيّاً " ، متفق عليه ، فالإحرام لا يبطل بالموت ، والدليل نهي النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - عن تطييب المحرم ، أو تغطية رأسه ، وكذا لا يكمل عنه نسكه لأنّه ؛ يبعث يوم القيامة ملبياً ، فلا ينقطع إحرامه ، وهو قول بعض أصحاب النبي - صلّى الله عليه وسلّم - ، وإليه ذهب الشّافعي وأحمد ، وإسحاق.
19) يجوز كشف وجه الميت وتقبيله ، وقد قبّل أبو بكرٍ - رضي الله عنه - النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - ، بعد موته والحديث عند البخاري.

20) يُشرع الإسراع في تجهيز الميت ، لقوله - صلّى الله عليه وسلّم : " لا ينبغي لجيفة مسلم أن تُحبس بين ظهراني أهله "، رواه أبو داود وسنده ضعيف ، وقد يُستأنس بقوله - صلّى الله عليه وسلّم - : "أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحةً فخير تقدمونها إليه " ، متفق عليه ، قال أحمد : كرامة الميت تعجيله.
21) يجب الإسراع في قضاء دين الميت لقوله - صلّى الله عليه وسلّم : "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يُقضى عنه " ، أحمد وغيره بإسنادٍ حسنٍ ، سواء أكان هذا الدّين لله مثل النّذور ، والكفّارات ، والزّكاة ، أم للآدمي من قروض وغيرها .
22) ديون الميت تُقضى عنه من تركته ، فإن لم يترك شيئاً وتبرع أحد النّاس بالقضاء عنه فإن القضاء يرفع عنه العذاب ، وتبرأ ذمّته بذلك ، ولو كان المتبرع من غير أقاربه ، والدليل حديث أبي قتادة بإسنادٍ حسنٍ عند أحمد وغيره.

23) وجوب تغسيل الميت لقوله - صلّى الله عليه وسلّم - في الأعرابي الّذي وقصته ناقته فمات : " اغسلوه بماء وسدر " ، متفق عليه ، وكذا أمرُهُ للنّساء بتغسيل ابنته ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأين ذلك ، متفق عليه ، وقد نقل النووي الإجماع على أنّ تغسيل الميت فرض كفاية ، ورُويَ عن مالك أنّه سنّة مؤكدة ، والراجح قول الجمهور ، ويجرّد الميت عند غسله لأنّه أبلغ في تنظيفه تطهيره وتُلف خِرقةٌ على عورته .

24) أولى النّاس بتغسيل الميّت من يُوصي له الميّت بذلك ، فقد أوصى أبو بكرٍ أن تغسّله نساؤه ، وأوصى أنس أن يغسّله محمد بن سيرين ، فإن لم يوصِ الميّت لأحدٍ بالغسل ، فأولى النّاس أبوه ثمّ جده ثمّ الأقرب فالأقرب من عصباته ، وكذلك المرأة تغسّلها من أوصت لها بالغسل ، ثمّ القربى فالقربى من نسائها فالأولى الأمّ وإن علت ثمّ البنت وإن نزلت ثمّ الأخت الشقيقة ثمّ الأخت لأبٍ ثمّ الأخت لأمٍّ ثمّ العمّات ثمّ الخالات إلى آخر ذلك .

25) يجب ستر عورة الميت إذا كان فوق سبع سنوات ، ويُستحبّ ستره عن العيون فقد يكون الميت على حالٍ مكروهةٍ ، وينبغي أن يُرفع رأسه ، ويُعصر بطنه برفقٍ لخروج ما كان متهيئاً للخروج من الفضلات ، وأمّا الحامل فلا يُعصر بطنها لئلا يخرج الجنين .

26) صفة الغسل أن يَلّف الغاسل على يده خِرقة ، وينجّي الميت ، ويبدأ بغسل أعضاء الوضوء ، ويقدم اليمنى على اليسرى من اليدين والرّجلين ، ثمّ يَغسّل سائر جسد الميت مقدماً اليمين على اليسار ، ويستعمل أثناء الغسل السّدر أو ما يقوم مقامه من الصّابون ، ويكرّر التغسيل حسب ما تقتضيه المصلحة ، ويرجع ذلك إلى نظر الغاسل لقوله - صلّى الله عليه وسلّم - " اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك " ، متفق عليه ، ويجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً يُدقّ ويُخلط لتطييب رائحة بدن الميت ، وتصليبه ، وطرد الهوامّ عنه في قبره ، فإن كان الميت امرأةً نُقض رأسها وغُسل ثم جُعل ثلاثة قرون النّاصية والجانبين وأُلقي خلفها ، وفائدة النقض تبليغ الماء للبشرة ، وتنظيف الشّعر من الأوساخ ، ويقطع الغاسل الغسل على وترٍ ، ويوضئه استحباباً .

27) لا يجوز للرّجال تغسيل النّساء ، وكذا لا يجوز للنّساء تغسيل الرّجال .

28) يجوز للزّوج أن يغسّل زوجته وهو مذهب جمهور أهل العلم منهم مالك ، والشّافعي ، وأحمد في المشهور عنه ، وقول جماعة من السّلف ، والدليل قول النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - لعائشة - رضي الله عنها - : "لو مت قبلي لغسلتك"، أحمد وغيره وإسناده حسن ، وذهب أبو حنيفة والثّوري ، وأحمد في رواية إلى عدم جواز تغسيل الرجل زوجته لبطلان النكاح بينهما ؛ لأنّ الموت فرقة تبيح له أختها وأربعاً سواها ، والراجح قول الجمهور ، وأمّا تغسيل الزوجة زوجها فهو جائز لقول عائشة - رضي الله عنها - : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسّل رسول الله إلّا نساؤه" ، أبو داود وأحمد وإسناده قوي ، قال البيهقي : " فتلهّفتْ على ذلك ولا يُتلهف إلّا على ما يجوز " ، وكذا غسّل أبا بكرٍ نساؤه بوصيةٍ منه ، وقد نقل ابن المنذر ، وابن عبد البرّ الإجماع على جواز غسل المرأة زوجها .
29) ويجوز للرجل والمرأة تغسيل من له سبعُ سنواتٍ ؛ لأنّ عورة من دون السبع ليس لها حكم ، فيجوز للأب أن يغسّل ابنته إذا كانت دون سبع سنواتٍ ، وكذا يجوز للأمِّ أن تغسّل ابنها إذا كان دون سبع سنوات ، قال ابن المنذر :" أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ المرأة تغسّل الصّبيّ الصغير ، وقال ابن قدامة : " وللنّساء غسل الطفل بلا خلاف " وقال أحمد :" لهنّ تغسيل من دون سبع سنوات".

30) لو مات زوج عن زوجته الحامل ، ثمّ وضعت الحمل قبل أن يُغسّل فليس لها تغسيله لأنّها بانت منه حيث إنّها انقضت عدتها منه قبل أن يُغسّل فصارت أجنبيةً عنه .

31) إذا تعذّر غسل الميت لعدم وجود الماء ، أو بأن يكون الميت قد تمزّق أو يكون محترقاً لا يمكن مسّه إلّا بتمزيق جلده ؛ فإنّه يُيمّم عند جمهور أهل العلم لتعذّر الغسل فيصار الى البدل - التيمّم - ، وقيل : بأنّه لا يُيمّم إذا تعذّر غسله لأنّ هذه ليست طهارة حدث ، وإنّما هي طهارة تنظيف حيث قال النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - للنّساء اللاتي غسّلن ابنته اغسلها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتنّ ذلك ، متفق عليه ، فدلّ على أنّ المقصود من الغسل التنظيف ، والتيمم بالتراب ليس فيه تنظيف ، وهو قول شيخ الإسلام وهو الراجح .

32) يُستحبّ لمن غسّل الميت أن يغتسل لقوله - صلّى الله عليه وسلّم - : "من غسّل ميتاً فليغتسل ، ومن حمله فليتوضأ "، أبو داود والترمذي وإسناده حسن ، وظاهره يفيد الوجوب ، إلّا أنّه صُرف للاستحباب بحديث ابن عبّاس :" ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه ، فإن ميتكم ليس بنجس ، فحسبكم أن تغسلوا إيديكم "، الحاكم والبيهقي وإسناده حسن وله حكم الرفع ، وكذا قول ابن عمر : "كنّا نغسّل الميت فمنّا من يغتسل ومنّا من لا يتغسل "، الدارقطني وإسناده صحيح ، وكذا يْستحب لمن حملها أن يتوضأ للحديث المتقدم.

33) يجب على الغاسل ستر ما رآه على الميت إن لم يكن حسناً لقوله - صلّى الله عليه وسلّم - "من غسّل ميتاً فستر عليه غفر الله له أربعين مرّة " ، أبو داود وغيره وإسناده صالح ، إلّا يكون الميّت صاحب بدعةٍ ، وداعية إلى بدعته ورآه على وجهٍ مكروهٍ ، فإنّه ينبغي أن يبيّن ذلك حتى يحذّر النّاس من دعوته إلى بدعته ؛ لأنّ النّاس إذا علموا أنّ خاتمته على هذه الحاله فإنّهم ينفرون من منهجه وبدعته ، ويُستحب نشر ما رآه من الخير كأن يكون وجه الميت مستنيراً .

34) لا يُغسّل الشهيد ولا يُكفّن ، ويُدفن في ملابسه ، والشّهيد هو شهيد المعركة الذي قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، والدليل حديث جابرٍ - رضي الله عنه - ، أنّ النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - : "أمر بدفن شهداء أحدٍ في دمائهم ولم يُغسلهم "، رواه البخاري ، وهو قول جمهور أهل العلم ، أمّا المقتول ظلماً فيُغسّل كبقيّة المسلمين ، فجميع موتى المسلمين يُغسّلون ، ويُكفّنون ويُصلّى عليهم ، قال النوويُّ: "الشُّهداءُ الذين لم يموتوا بسبب حرْب الكفَّار؛ كالمبطونِ، والمطعون، والغريقِ، وصاحب الهَدْم، والغريبِ، والميِّتةِ في الطَّلْق، ومَن قتَلَه مسلمٌ أو ذِمِّيٌّ، أو مات في غيرِ حالِ القِتال، وشِبهِهم؛ فهؤلاء يُغسَّلون ويُصلَّى عليهم بلا خلافٍ" ، فشهيد المعركة هو الذي لا يُكفّن ولا يُغسّل حتى لو كان جنباً ، فقد ثبت عن النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - : "أنّه نهى عن تغسيلهم لأنّ جراحهم ودماءهم تفوح مسكاً يوم القيامة" كما في الصّحاح .

35) إن سقط الشهيد عن دابته بغير فعل العدو فإنّه يُغسّل ويُكفّن ويُصلّى عليه وإن كان بفعل العدو فلا ، أمّا إذا جُرح فأكل ثمّ مات فإنّه يغسل ويكفن ويُصلّى عليه ، والدليل قصة سعد بن معاذ فإنّه مات متأثراً بجراحه وغُسّل وكُفّن وصُلّيَ عليه ، فالشهيد إذا طال بقاؤه فإنّه يُغسّل ويُكفّن ويُصلّى عليه ، وألحق العلماء بذلك ما إذا ما وُجد منه دليل الحياة المستقرة مثل الأكل ، أمّا إذا بقي متأثرا كتأثر المحتضر فتجري عليه أحكام الشهيد على الراجح من أقوال أهل العلم.

36) غسل الميت واجب كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة المتقدم ذكرها ، وينبغي عند تغسيل الميت المصاب بفيروس كورونا أخذ كل الأسباب والتدابير التي تمنع من انتقال العدوى إلى من يُغسّله ، والاقتصار على أقل عدد من الحضور أثناء الغسل ، ويُكتفى بتغسيلة مرّة واحدة فهي أقل الواجب مع الالتزام بكافة التعليمات الصادرة عن أهل الاختصاص من ارتداء الكمامات والواقيات واللباس الخاص لضمان عدم انتقال العدوى لمن يغسّله ، فإن لم يمكن تغسيله لخطر انتقال العدوى سقط الغسل لأنّه لا واجب مع العجز ، ولا يُنتقل إلى التيمم أو رش الماء من فوق الكيس إذ لا فائدة من ذلك لأنّ المقصود من غسل الميت التنظيف وليس طهارة الحدث ، فما الفائدة من رش الماء مع وجود الحائل؟!.

37) يُكفّن المُتوفى بفيروس كورونا بستر جميع بدنه بثوب سابغ، ويُستحب تكفين الرجل في ثلاثة أثوابٍ بيض ، والمرأة كذلك إذ لا فرق بين المرأة والرجل في الكفن ، وعند تكفين الميت المصاب بكورونا
يلزم إحاطة الكفن بغلاف مُحكم لا يسمح بتسرب شيء من جثته، وإذا دعت المصلحة لدفنه في تابوت خاص يمنع من تسرب أي شيء من بدنه جاز ذلك فقد جوّز الفقهاء الدفن في التابوت للمصلحة ، ورد في الموسوعة الفقهية الكويتية : "يُكره دفنُ الميّت في تابوت بالإجماع؛ لأنّه بدعةٌ، ولا تنفّذ وصيّته بذلك، ولا يُكره للمصلحة، ومنها الميّت المحترق إذا دعت الحاجة إلى ذلك" .

38) تجب الصلاة على المُتوفى بفيروس كورونا على الكفاية ، وتجوز في المقبرة على الراجح من أقوال أهل العلم ، وتسقط بحضور اثنين .

39) يُدفن المتوفى بفيروس كورونا كباقي المسلمين وفي مقابرهم ، وإذا كان ثمّة تدابير تُتخذ قبل الدفن كصب أرضية القبر وجدرانه بالخرسانة أو غير ذلك بناء على توصية المتخصصين الثقات فلا حرج في ذلك .

40) ويجب تكفين الميت لقوله - صلّى الله عليه وسلّم - : " وكفنوه في ثوبيه" ، متفق عليه ، ولقوله لمن غسلن ابنته وقد أعطاهن إزاره : " أشعرنها أيّاه" أي اجعلنه مما يلي بدنها ، ويكون الكفن في ماله ، فإن لم يخلّف مالاً فعلى من تلزمه نفقته ، فإن لم يوجد أو كان فقيراً فعلى بيت مال المسلمين فإن لم يُوجد فعلى عموم المسلمين . ويُشرع تجميره - تبخيره - ثلاثاً.

41) يُستحب تكفين الرّجل في ثلاثة أثواب - لفائف - بيض ، والدليل أنّ النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - "كُفّن في ثلاثة أثوابٍ بيضٍ سَحوليةٍ ليس فيها قميص ولا عمامة"، متفق عليه ، وكان من جملة من كفنه أبو بكرٍ وعمرَ ولهما سنّة متبعة ، ولقوله - صلّى الله عليه وسلّم - : " البسوا من ثيابكم البياض وكفنوا فيها موتاكم فإنها من خير ثيابكم " ، أحمد وغيره بإسنادٍ حسنٍ ، وإن كُفّن بلفافةٍ واحدةٍ أو بغير الأبيض أجزأ ، وتبسط بعضها فوق بعض ويُجعل الحنوط بينهما ثمّ يُوضع عليها مستلقياً ، ثمّ يُلفّ بالأولى ثمّ بالثّانية ثمّ بالثّالثة ولا فرق بين كفن المرأة والرجل ، والواجب ثوب يستر جميع البدن ولا يُشترط أن يكون جديداً ، فإن لم يُوجد ما يُكفّن به فإنّه يُكفّن بحشيشٍ ، أو نحوه يُوضع على بدنه ويُلفّ عليه حزائم فإن لم يُوجد شيء فإنّه يُدفن على ما هو عليه .

42) تحسين كفن الميت لقول النّبي- صلّى الله عليه وسلّم - : " إذا كُفّن أحدكم أخاه فليحسن كفنه " رواه مسلم ، قال النووي :" المراد بإحسان الكفن : نظافته ونقاؤه وكثافته وستره وتوسطه ، وليس المراد بإحسانه : السّرف والمغالاة "

43) يجوز جمع الإثنين في الكفن الواحد إذا دعت الحاجة إلى ذلك ، لقول جابر : "كان النبي - صلّى الله عليه وسلّم - يجمع الرّجلين من قتلى أحدً في ثوب واحد "، ولقوله : فكفّن أبي وعمي في نمرة واحدة"، البخاري ، وقيل معنى الحديث أنّ يشق الثوب الواحد فيُجعل بين الإثنين والأول أظهر.

44) الصلاة على الميّت واجبة على الكفاية تسقط بمكلفٍ واحدٍ رجلٍ أو امرأةٍ فإنّ فرضَ الكفاية يسقط بواحدٍ ، والدليل قوله - صلّى الله عليه وسلّم - : "صلّوا على صاحبكم " ، ويقوم الإمام في الصلاة عند رأس الرجل ، وعند وسط المرأة ، لحديث سمرةَ بن ِجندبٍ ، قال : صلّيت وراء النّبي - صلّى الله وعليه وسلّم - على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها ، متفق عليه ، ولحديث أنسٍ أنّه صلّى على جنازة رجلٍ فقام عند رأسه ، وعلى جنازة امرأة فقام وسطها ، فقيل له : أهكذا كان النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - يفعل ، فقال : نعم " رواه أبو داود وغيره وإسناده حسن ، وهذا القول بالتفريق هو قول أحمد ، وإسحاق ، والصّحيح من مذهب الشافعيّة ، وذهب بعض أهل العلم إلى عدم التّفريق في موقف الإمام بين الرّجل والمرأة وأنّه يقف في وسط الميت مطلقاً ، وهو قول مالك ، وإليه مال البخاري ، وقال أبو حنيفة يقف عند صدر الرّجل والمرأة لأنّهما سواء ، والراجح القول الأول - القول بالتفريق بين الرجل والمرأة - وهو على سبيل الاستحباب لا الوجوب ، وكذا لا يُشترط أن يكون رأس الميت عن يمين الإمام ، ويجوز أن يكون عن يساره أو عن يمينه .

45) مشروعية الصّلاة على من أُقيم عليه حدّ الرّجم ، والدّليل أنّ النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - صلّى على المرأة التي زنت وأْقيم عليها الحد ، فقال له عمر يا رسول الله تصلّي عليها وقد زنت ، فقال لقد تابت توبة لو قُسّمت بين سبعين من أهل المدبنة لوسعتهم ، رواه مسلم ، وقال الإمام أحمد : " ما نعلم أنّ النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - ترك الصلاة على أحدٍ ، إلّا على الغالّ وقاتل نفسه ، وهو قول الشافعي ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي ، واختيار ابن المنذر ، وذهب مالك إلى أنّ الإمام لا يصلّي على من أقيم عليه الحد ردعاً وزجراً لغيره ، ويصلّي عليه بقيّة النّاس غير الإمام ، والراجح القول الأول.

46) لكن ينبغي لأهل العلم والفضل أن يتركوا الصلاة على الفسّاق من أهل الكبائر خاصة من عُرف منهم بالمجاهرة واشتهر أمره بين النّاس ، وذلك زجراً وردعاً لأمثالهم ، والدليل أنّ أبا قتادة قال : كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - "إذا دُعيَ الى جنازة سأل عنها فإن أُثنيَ عليها خيراً قام فصلّى عليها، وإن أُثنيَ عليها غير ذلك ، قال : لأهلها شأنكم بها ولم يصلّ عليها "، أحمد وغيره بإسناد صحيح ، وكذا ثبت عنه ترك الصلاة على الغالّ وعلى من قتل نفسه ، وأمر بقيّة النّاس بالصلاة عليهم ، وذلك زجراً وردعاً لغيرهم من النّاس ، والدليل : مارواه مسلم : "أنّه أُتي - صلّى الله عليه وسلّم - برجلٍ قتل نفسه بمشاقص فلم يصلّ عليه " ، ، وكذا لم يصلّ على الغالّ كما عند أبي داود وأحمد وغيرهم وإسناده لا بأس به ، والغال : هو الذي يأخذ من الغنيمة قبل قسمتها .

47) إذا اجتمعت جنائز عديدة من الرّجال والنّساء صُلّيَ عليها صلاة واحدة وجُعل الذكور مما يلي الإمام والإناث مما يلي القبلة ، والدليل عن عمار مولى الحارث بن نوفل : "أنه شهد جنازة أم كلثوم وابنها فجعل الغلام مما يلي الإمام ووضعت المرأة وراءه فصلّى عليها فأنكرت ذلك ، وفي القوم ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو قتادة وأبو هريرة فسألتهم عن ذلك فقالوا هذه السنّة " ، أبو داود وغيره وإسناده صحيح ، ويجوز أن يصلّيَ على كل واحدٍ صلاةً مستقلةً ، والدليل : صلاة النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - على شهداء أحد يصلّي على كل شهيد " رواه الطبراني وسنده جيد .

48) تشرع للنّساء الصلاة على الجنازة باتفاق الفقهاء ، والدليل عدم الدليل على منع المرأة من الصلاة على الجنازة ، وقد ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - أنّها أمرت أن يُمرّ بجنازة سعد بن أبي وقاص لتصلي عليه . رواه مسلم

49) أولّى النّاس بالصّلاة على الميت الإمام الراتب سواء أوصى الميت بالصلاة لفلان أو لم يوص ، لقوله - صلّى الله عليه وسلّم - : ( ...وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) رواه مسلم ، وهو قول أكثر العلم من المالكية ، والحنابلة ، والحنفية ، وقول الشافعي في القديم ، فإن أسقط الإمام حقه وإذن للوصيّ أو أحد أقارب الميت فلا حرج في ذلك ،
وذهب بعض أهل العلم إلى القول بأن الوصيّ أولى الناس بالصلاة على الميت وهو قول للمالكية ، والحنابلة ، ووجه عند الشّافعية ، وبه قال بعض السلف ، وانتصر له ابن حزم .

50) اختلف أهل العلم في حكم الصّلاة على الشهيد فذهب مالك ، والشافعي ، وأحمد أنّه لا يُصلّى عليه ، والقول الثّاني : أنّه يُصلّى عليه وهو مذهب أبي حنيفة ، ورواية عن أحمد ، ذكرها ابن قدامة وقال : " إنّها محمولة على الاستحباب " ، ومن أدلة من قال بالصّلاة على الشهيد أنّ الرسول - صلّى الله عليه وسلّم- أمر يوم أحد بحمزة فسجّي ببردة ثم صلّى عليه تسع تكبيرات ، ثم أُتي بالقتلى يصفّون يصلّي عليهم وعليه معهم ، الطحاوي وإسناده حسن ، والراجح أنّ الإمام مخيّر بين الصّلاة على الشهيد وتركها لمجيء الآثار بكل واحدٍ من الأمرين ، وهو رواية عن أحمد ، وقول بعض الشافعية ، وبعض الحنابلة ، واختيار شيخ الإسلام ، وابن القيّم .
51) السّقط إذا بلغ أربعة أشهر هلاليّة فإنّه يُغسّل ويُكفّن ويُصلّى عليه ، ويُدعى لوالديه بالرّحمة والمغفرة.
52) إذا وُجد بعض الميت فإنّه يُصلّى عليه ، وإذا وُجد عضوٌ من أعضائه وكان قد صُلّيَ على الميت فإنّه لا يُصلّى عليه ، وإن لم يُصلّ على الميت فإنّه يُصلّى على الجزء الموجود.
53 ) ثبت عن النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - بإسنادٍ حسنٍ النّهي عن النّعي : وهو الذي كانت تفعله أهل الجاهلية من الصّياح على أبواب البيوت والأسواق أو فوق الأماكن العالية ، وكذا رفع الصّوت بذكر مآثر الميت في الأسواق وغيرها فهذا ممنوع ، أمّا الإعلام بالموت مجرداً فقد ذهب جمهور أهل العلم من الحنفيّة ، والمالكية ، والشّافعية ، والحنابلة ، وغيرهم إلى جواز الإعلام بالموت من غير نداء ؛ لأجل الصّلاة على الميت ، والدّليل أنّ النّبي " نعى النّجاشي " يعني - أخبرهم بموته - وخرج بهم للصّلاة عليه .

54) تجوزُ صلاةُ الجِنازة بعدَ الفجرِ ، وبعدَ العَصرِ ، والدليلُ الإجماعِ وممّن نقَلَ الإجماعَ على ذلك : الشافعيُّ ، وابنُ المنذرِ ، والنوويُّ ، وابنُ قُدامةَ ، والعراقيُّ وغيره ، واختلف أهل العلم في حكم الصلاة على الجنازة في أوقات النهي الواردة في حديث عقبة بن عامر : ثلاثُ ساعاتٍ كانَ رسولُ اللَّهِ - صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ - يَنهانا أن نصلِّيَ فيهنَّ ، أو نقبُرَ فيهنَّ مَوتانا : حينَ تطلعُ الشَّمسُ بازغةً حتَّى ترتفعَ ، وحينَ يقومُ قائمُ الظَّهيرةِ حتَّى تميلَ ، وحينَ تضيَّفُ للغُروبِ حتَّى تغرُبَ، رواه مسلم وغيرة ، فذهب بعضهم إلى القول بجواز الصلاة على الجنازة في هذه الاوقات
لأنَّها صلاةٌ تُباحُ بعدَ الصُّبحِ والعَصرِ ؛ فأُبيحتْ في سائرِ الأوقاتِ ، كالفرائضِ ، ولأنَّ صلاةَ الجِنازة فرضٌ في الجملةِ؛ فيصحُّ فِعلُها في جميعِ الأوقاتِ قِياسًا على قضاءِ الفوائتِ ، وكذلك قياسًا لصلاةِ الجِنازة على الصَّلواتِ ذواتِ الأسبابِ مِن النوافلِ التي وردَتِ النصوصُ الدالَّة على جوازِها ، وممّن قال بهذا القول : الشافعيَّة ، وهو روايةٌ عن مالكٍ ، وروايةٌ عن أحمدَ ، وقولُ بعضِ السَّلف ، واختيارُ ابنِ حزمٍ ، وابنِ تيميَّةَ ، والقول الثاني: لا تُصلَّى صلاةُ الجِنازة عندَ طلوعِ الشَّمسِ، ولا عِندَ غُروبِها ، ولا عندَ الاستواءِ ، وهذا مذهبُ الحَنفيَّة ، والحَنابِلَة ، وقولُ أكثرِ أهلِ العِلمِ . والذي يتضح بعد عرض الأدلة أنّ الخلاف فيها معتبر لأنّ حديث عقبة صريح في النّهي والنّهي يفيد التحريم ، وحمله بعضهم على تعمد تأخير الصّلاة إلى هذه الأوقات ، أمّا إذا وقعت اتفاقاْ لا قصداً فلا يتناولها النّهي ، والقول بعدم الصلاة على الجنازة في هذه الأوقات إلّا للضرورة هو أحوط وأبرأ للذمّة خاصةً أن وقت انتظار زوال وقت النّهي يسير مع القول بقوة القول الأول.

55) تصحّ الصلاة على الجنازة في المقبرة من غير كراهة ، وهو قول الظاهرية ، ومذهب أحمد ، وبعض الحنفية والمالكية ، وقد ثبت عن أبي هريرة ، وابن عمر ، وعمر بن عبد العزيز ، أمّا النّهي عن الصّلاة في المقبرة ، فإنّما يتناول الصّلاة ذات الركوع والسجود وليس الصلاة على الجنازة . وكذا ثبت عن النبي - صلّى الله عليه وسلّم أنه صلّى على القبر ، وسيأتي الحديث.

56) يُستحب تكثير المصلّين على الجِنازة ، لقوله - صلّى الله عليه وسلّم - : " ما من رجلٍ مسلمٍ يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلّا شفّعهم الله فيه ، رواه مسلم ، فمن صلّى عليه أربعون رجلاً بالوصف المذكور فإنّ الله يقبل شفاعتهم فيه ، ويُستحب للإمام أن يجعلهم ثلاثة صفوف ، لقوله - صلّى الله عليه وسلّم - : ما من مسلم يموت ، فيصلّي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب " وفي لفظ إلا غفر له "، أبو داود وغيره وإسناده صحيح.
57) تجوز الصلاة على الميت في المسجد ، وهو مذهب جمهور أهل العلم منهم الشافعي ، وأحمد ، والدليل حديث عائشة - رضي الله عنها - ، قالت : والله لقد صلّى رسول الله على ابني بيضاء في المسجد ، رواه مسلم ، وسبب إنكار الصحابة على عائشة لأنّه لم يكن معروفاً على صفة الدّوام فلم يكن من هديه الرّاتب الصّلاة على الميت في المسجد ، وإنّما كان يصلّي على الجنازة خارج المسجد في مصلّى الجنائز ، وربّما كان أحيانا يصلّي على الميت في المسجد ، وقد صُلّي على أبي بكرٍ وعمرَ في المسجد ، كما روى غير واحدٍ من المحدّثين ، وذهب أبو حنيفة ، ومالك إلى أنّه لا يُصلّى على الميت في المسجد لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم : " من صلّى على جنازة في المسجد فلا شيء له" رواه أحمد وغيره بإسنادٍ ضعيفٍ ، وهو مُعارض بما هو أقوى منه .

58) يكبّر الإمام على الجِنازة أربع تكبيراتٍ ولا يُزاد عليها عند أكثر أهل العلم ، ونقل ابن عبد البرّ الاتفاق على ذلك ، والصّحيح جواز الزّيادة على الأربع لثبوته عن النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - كما في حديث زيد بن أرقم : " أنّه كبّر على جِنازةٍ خمساً فسُئل عن ذلك فقال : كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - يكبّرها ، رواه مسلم ، وكذا ثبت عن بعض أصحابه أنّهم زادوا على الأربع ولا سيّما إذا كانت الصّلاة على من له جهود في مصالح المسلمين ، ويقرأ في الأولى بعد التعوذ بالفاتحة ، وفي الثّانيّة يصلّي على النبي كالتّشهد " اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد إلى آخر الصلاة " ، ثمّ يدعو في التكبيرة الثالثة للميت بالأدعية المأثورة فإن لم يكن يحفظ المأثور دعا بما يحفظ من الدعاء للميت ويخلص له في الدّعاء ، ويدعو للمسلمين ثم يكبّر للرّابعة ويدعو على الرّاجح من أقوال أهل العلم ، وقد فعله ابن أبي أوفى ، وأخبر أنّ النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - أمر به وفعله ، رواه أحمد وغيره وإسناده لا بأس به ، ثمّ يسلّم عن يمينه ، قال ابن عبد البر: " فَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ : عَلَى تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ"، وقد ثبت ذلك عن ستة من الصّحابة ، ولو سلّم تسليمتين فالأمر فيه سعة لورود الأثر بذلك.
59) إذا كان الميت طفلاً يُصلّى عليه ويُدعى لوالديه بالمغفرة والرّحمة ، والدليل حديث المغيرة بن شعبة مرفوعاً : " والطفل يُصلّى عليه ويُدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة" ، الترمذي وغيره ، وقال الترمذي حسن صحيح .

60) من فاته شيءٌ من تكبيرات الجِنازة قضاها على صفتها لعموم قوله - صلّى الله عليه وسلّم - : " وما فاتكم فأتمّوا" ، متفق عليه ، وأحوال المسبوق في صلاة الجنازة ثلاث ،
الأولى : أن يمكّنه قضاء ما فات قبل رفع الجِنازة فهنا يقضي ولا إشكال في ذلك.
الثانية : أن يخشى من رفعها فيتابع التكبير ، وإن لم يدع للميت إلّا دعاء قليلا.
الثالثة : أن يسلّم مع الإمام ، ويسقط عنه ما بقي من التكبير والعلّة أنّ الفرض سقط بصلاة الإمام .
61) تجوز الصّلاة على القبر لمن فاتته الصلاة على الميت الصّديق أو القريب أو من تربطه به علاقة ، والدّليل : صلاة النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - على قبر المرأة التي كانت تقمّ المسجد - تنظّفه - ، حيث قال : "دلوني على قبرها فدلّوه فصلّى عليها" ، متفق عليه ، وهو قول جمهور أهل العلم ، وهو الرّاجح خلافاً للمالكية الّذين منعوا الصلاة على قبر من صُلّيَ عليه، وقد اختلف أهل العلم في تحديد المدة التي تجوز فيها الصّلاة على الميت بعد دفنه ، والرّاجح من هذه الأقوال : أنّه يُصلّى عليه أبداً بشرط أن يكون المصلّي من أهل الصلاة على هذا الميت يوم موته ، أمّا من وُلد بعد موته أو كان حين موته ليس من أهل الصلاة كالمجنون والصغير فلا يصلِّ على قبره ، وهو قول عند الشافعيه ، قال عنه النّووي هو الأصح .
62) يُسن الإسراع في الجنازة ، والدليل قوله - صلّى الله عليه وسلّم : "أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحةً فخير تقدمونها إليه " ، متفق عليه ، والمقصود بالإسراع المشي فوق المعتاد وليس الإسراع الشّديد الذي يُتعب المشيّعين ، أو يؤدي إلى سقوط الميت ، أو الإضرار به ، وهو على سبيل الاستحباب لا الوجوب .

63) ذهب بعض أهل العلم إلى أنّ الماشي يكون أمام الجنازة وهو قول بعض أصحاب النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - منهم أبو بكر وعمر وابنه وعثمان وأبو هريرة ، وإليه ذهب جمهور أهل العلم منهم مالك والشافعي وأحمد وجمع من السلف ، والدليل حديث ابن عمر أنّه رأى النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - وأبا بكرٍ وعمر يمشون أمام الجنازة ، وهو موصول قوي ، وذهب بعض أهل العلم إلى أنّ الماشي يكون خلف الجنازة ، وهو قول أبي حنيفة والثوري وإسحاق والأوزاعي واستدلوا بحديث أبي هريرة من تبع جنازة مسلم ولا يقال تبعها إلّا إذا صار خلف الجنازة ، والقول الثالث أن الماشي مخير بين أن يمشي أمامها أو خلفها أو عن يمينها أو عن يسارها ، والدليل قول النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - : "الراكب يسير خلف الجنازة والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها ، وكذا حديث أنس وفيه أنّ النّبي وأبا بكر وعمر كانوا يمشون خلف الجنازة وأمامها وهو مروي عن جماعة من أهل العلم وهو الراجح وبه تجتمع الأدلة ، وأمّا الراكب فلا يسير إلّا خلفها كما صحّ في الحديث كما في الحديث المتقدم.
64) يُصلّى على الغائب إذا لم يُصلّ عليه ، والدليل أنّ النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - :" نعى النّجاشي في اليوم الذي مات فيه ، وخرج بهم إلى المصلّى ، فصفّ بهم وكبّر عليه أربعاً " متفق عليه ، ولأنّ النّجاشي مات بين أمّة مشركةٍ ولم يُحفظ عن النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - أنّه صلّى على غائبٍ غير النّجاشي ، وهذا القول رواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ، وابن القيّم ، وذهب بعض أهل العلم الى القول بعدم مشروعية الصلاة على الغائب مطلقاً وهو مذهب أبي حنيفة ، ومالك ، ورواية عن أحمد ، وذهب آخرون إلى القول بمشروعية الصّلاة على الغائب إذا كان قد نفع المسلمين بعلمه ، أو ماله ، أو جاهه ، أو كان له شرف الدّفاع عن الإسلام وأهله ، والرّاجح القول الأول لقوة دليله ، وللقول الثالث حظ من النظر .
65) يجوز البكاء على الميّت من غير رفع صوتٍ ، أو شَقّ جيبٍ ، أو ضرب خدٍ ، أو نتف شعرٍ ، لقوله - صلّى الله عليه وسلّم - : تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول الا ما يرضي ربّنا " ، متفق عليه ، ولقوله - صلّى الله عليه وسلّم - : "إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يُعذّب بهذا أو يرحم وأشار إلى لسانه " ، متفق عليه، وكذا قوله - صلّى الله عليه وسلّم - : "ليس منّا من ضرب الخدود ، أو شقّ الجيوب ، أو دعا بدعوى الجاهلية" ، متفق عليه.

66) تحرم النّياحة على الميت ، والنّياحة هي : رفع الصوت بالنّدب ، وتعديد محاسن الميت على سبيل النّوح كنوح الحمام ، وهو من أعمال الجاهلية ، كأن تقول النائحة : واجبلاه ، واناصراه ، واسنداه ، واعضُداه وغير ذلك ، والدّليل قوله - صلّى الله عليه وسلّم : "أربع في أمّتي من أمر الجاهلية ، وذكر منها النّياحة" رواه مسلم ، وكذا في نفس الحديث : " النّائحة إذا لم تتب قبل موتها تُقام يوم القيامة وعليها سِربال من قِطران ، ودرعٌ من جرب " ، والحديث فيه دليل على أنّ النّياحة من كبائر الذنوب وتحتاج إلى توبة ، وكذا لا يحلّ الاستماع إلى النائحة ؛ لأنّ النّوح على الميت من المنكر الذي يجب إنكاره فإن لم يقدر على الإنكار فارق المكان ، وقد ورد فيه حديثٌ فيه ضعفٌ شديدٌ لا يُحتمل : "لعن الله النائحة والمستمعة" ، رواه أبو داود .

67) اختلف أهل العلم في حكم دفن الميت في أوقات النّهي الواردة في حديث عقبة بن عامر ، وهي عند طلوع الشمس ، وعند غروبها ، وعند استواء الشمس ، فذهب بعضهم إلى القول بمنع الدفن في هذه الأوقات ولا بدّ من الانتظار حتى تذهب إلّا للضرورة ، وهو رواية عن أحمد وقول ابن حزم ، وجوّز آخرون الدّفن ، وقالوا : إنّ النّهي الوارد في الحديث محمول على تعمد تأخير الدّفن إلى هذه الأوقات أمّا إذا وقع اتفاقاً لا قصداً فلا يتناوله النّهي ، وهو قول لبعض أهل العلم ، ونصره شيخ الإسلام ، والنووي.

68) السنّة أن يُدفن الأموات في المقابر لأنّ النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - كان يدفن الموتى في مقبرة البقيع ، وقد تواترت الأخبار بذلك ، ولم يُنقل عن أحد من السلف أنّه دُفن في غير المقبرة إلّا ما نُقل من دفن النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - في حجرته فهذا من خصائصه، فقد ورد في الحديث :" ما قبض الله نبياً إلّا في الموضع الذي يجب أن يُدفن فيه "، والحديث عند الترمذي وله شواهد طرق ، وكذا الشهداء في المعركة فإنّهم يُدفنون في مواضع استشهادهم ، ولا يُنقلون الى المقابر ، لحديث جابر عند أحمد وغيره بسندٍ صحيحٍ .

69) يحرم دفن الميت في المسجد ، أو بناء المساجد على القبور ، ومن دُفن في مسجد وجب نبش قبره وإخراجه من المسجد سواء كان قبل التغيّر أو بعده ، فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر ، فأيهما طرأ على الآخر أزيل ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (اتفق الأئمة أنّه لا يُبنى مسجد على قبر ، لأنّ النّبي - صلّى الله عليه وسلم - ، قال: " إنّ من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" ، قال الرّملي - رحمه الله - في نهاية المحتاج : " ودفنه في مسجد ، كهو في المغصوب [ أي كما لو دفن في مكان مغصوب] ؛ فينبش ، ويخرج مطلقاً ، فيما يظهر " ، وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد : " وعلى هذا : فيُهدم المسجد إذا بُنيَ على قبر ، كما يُنبش الميت إذا دُفن في المسجد ، نصّ على ذلك الإمام أحمد وغيره ، فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر ، بل أيهما طرأ على الآخر مُنع منه ، وكان الحكم للسابق ، فلو وضعا معا : لم يجز ، ولا يصحّ هذا الوقف ، ولا يجوز ولا تصحّ الصلاة في هذا المسجد لنهي رسول - الله صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، ولعنه من اتخذ القبر مسجداً ، أو أوقد عليه سراجاً ، فهذا دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله ونبيّه ، وغربته بين الناس كما ترى " .

70) يحرم نبش قبر الميت المسلم لغير سببٍ شرعيٍ ؛ لأنّ قبره وقفٌ عليه ما دام فيه ، ويجب نبش القبر في الأحوال التّالية : إذا لم يُغسّل الميت ، أو لم يُكفّن ، أو دفن لغير القبلة ، وهذا إذا لم يتغيّر ، أمّا إذا تغيّر فلا يُنبش ، وكذا يُنبش القبر إذا دُفن المسلم في مقابر الكفّار ما لم يتغيّر ، ويُنبش قبر الكافر إذا دُفن في مقابر المسلمين حتى ولو بعد التغيّر ؛ لأنّ الكافر لا حرمة له ، ويُنبش القبر إذا دُفن الميت في مسجد ونحوه كمدرسةٍ ورباطٍ ، سواء كان قبل التغيّر أو بعده ، وينبش القبر إذا سقط فيه أثناء الدفن مال أو متاع وكان ذا قيمة ولم يتمكن من إخراجه إلا بالنبش ، فله نبش القبر لأخذ ماله .

71) يُكره دفنُ الميّت في تابوت بالإجماع ؛ لأنّه بدعةٌ ، ولا تنفّذ وصيّته بذلك، ولا يُكره للمصلحة ، ومنها الميّت المحترق إذا دعت الحاجة إلى ذلك " ، الموسوعة الفقهية الكويتية .

72) الميت يتألّم ويتأذّى بنوح أهله عليه ، والدّليل قول النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - : "الميت يُعذّب في قبره بما نِيح عليه" ، متفق عليه ، ومعنى يُعذّب : أي يتألم ويتأذى ، وهو قول شيخ الإسلام ، وتلميذه ابن القيم ، وذهب بعض أهل العلم إلى القول : بأنّ العذاب الوارد في الحديثِ إنّما هو لمن أَوْصَى بِالْبكاءِ وَالنَّوْح عليه ، أَوْ لَمْ يُوصِ بِتَرْكهما وإليه ذهب الجمهور ، وهو توجيهٌ حسنٌ ، والأول أرجح .

73) ونرجو للمحسنِ من المسلمين ، ونخاف على المسيء منهم وندعو له بالرّحمة والمغفرة ، ولا نشهد لأحدٍ منهم بجنّة ، أو نارٍ إلا من شهدت له النّصوص بذلك ، وألحق بهم شيخ الإسلام من اتفقت الأمّة أو جُلّ الأمّة على الثّناء عليهم مثل الأئمة الأربعة ، لقوله - صلّى الله عليه وسلّم - لمن أثنوا عليها خيراً : " وجبت له الجنّة ، ثمّ قال : أنتم شهداء الله في الأرض "، متفق عليه.

74) من تبع جنازةَ مسلمٍ إيماناً واحتساباً حتى يُصلّى عليها فله من الأجر قيراط ، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراط آخر ، والقيراط مثل الجبل العظيم ، والدليل قوله - صلّى الله عليه وسلّم : " من شهد الجنازة حتى يُصلّى عليها فله قيراط ، ومن شهدها حتى تُدفن فله قيراطان ، قيل وما القيراطان ؟ قال : مثل الجبلين العظيمين " متفق عليه
ولمسلم : " حتى تُوضع في اللّحد "
وللبخاري : " من تبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً وكان معه حتى يصلّى عليها ويُفرغَ من دفنها فإنّهُ يرجع بقيراطين ، كلّ قيراط مثل أحد " ، فحصول قيراط الدفن بنص الحديث متوقف على الفراغ من الدفن وهو تسوية القبر ، ورجّحه النّووي وابن حجرٍ ، قال النووي :" وأكمل مراتب الانصراف عن الجنازة أن يمكث عقب الفراغ من دفنها ، يستغفر للميت ويدعو له ، ويسأل الله له التثبيت .


75) القيراط يحصل لمن صلّى على الجنازة ولو لم يتبعها من عند أهلها ، ولو لم يتبعها قبل الصلاة على الراجح من أقوال أهل العلم ، ولا شكّ أنّ قيراط من تبعها قبل الصلاة وصلّى عليها أكمل وأعظم وذلك لأنّ ؛ القراريط تتفاوت كما في رواية مسلم : " أصغرها مثل أحد" ، وقد رجّح هذا القول ابن الملقن والحافظ ابن حجر ، وكذا القيراط الثاني مقيد الحصول بمن تبعها وكان معها في جميع الطريق حتى تدفن .

76) لا ينبغي حمل الجنازة بالسيّارة الا لعذرٍ كأن تكون المقبرة بعيدةً أو وجود عذرٍ من ريحٍ أو مطرٍ أو غير ذلك ، ولأنّ الحمل على الأعناق هو الذي جاءت به السنّة ، وهو أدعى للاتعاظ والاعتبار .

77) يحرم اتّباع النّساء للجنائز ، لقول أمّ عطيّة : " نُهينا عن اتّباع الجنائز ولم يعزم علينا " ، متفق عليه ، وهو قول أبي حنيفة ، واختيار شيخ الإسلام لأنّ الأصل في النّهي أنّه للتّحريم ولا صارف له ، وذهب جمهور أهل العلم إلى القول بالكراهة لقول أمّ عطيّة : " ولم يُعزم علينا "، وأُجيب عنه أنّ هذا شيء فهمته إمّا لأنّه لم يرد فيه وعيد ، أو لكونه لم يشدّد عليهن فيه ، والراجح القول بالتحريم للنّهي عنه .

78 ) يُستحب لمن تبع الجنازة وشيّعها ألّا يجلس حتى توضع عن أعناق الرّجال على الأرض ، ويُكره له الجلوس قبل ذلك ، وكذا يستحب له القيام إن رآها وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين ، وبه قال أبو حنيفة ، وهو المذهب عند الحنابلة ، واختار هذا القول شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم ، وابن حزمٍ ، والنّووي وغيرهم ، والدليل حديث أبي سعيدٍ أنّ النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - ، قال : "إذا رأيتم الجنازة فقوموا ، فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع" ثم صُرف الأمر والنّهي الوارد بهذا الحديث بحديث عليٍ عند مسلمٍ قال فيه : "رأينا رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - قام فقمنا ، وقعد فقعدنا يعني في الجنازة "، فهذا الحديث صارف لحديث أبي سعيد من الأمر بالقيام للجنازة إلى الاستحباب ومن النّهي عن الجلوس قبل أن توضع على الأرض إلى الكراهة ، والقول بالجمع بين الأدلة إن أمكن أولى من القول بالنسخ .

79) ويُغطّى قبر المرأة عند إدخالها القبر دون قبر الرجل لأنّه أستر لها .

80) ويُدخل الميت من قبل رجلي القبر فيُؤتى بالميت من عند رجلي القبر ثمّ يُدخل رأسه سلاً في القبر ، وهذا هو الأفضل لحديث عبد الله بن زيدٍ - رضي الله عنه - : أنّه أدخل الميت من قبل رجلي القبر ، وقال : هذا من السنّة ، رواه أبو داود وإسناده لا بأس به ، والكيفية الثّانية : أن يْدخل من جهة القبلة معترضاً ، وقد أدخل علياً يزيد بن المكفف من قبل القبلة كما عند عبد الرزاق وابن أبي شيبة ، وقال آخرون يُسلّ من قبل رأس القبر ، وقال الإمام أحمد في مسائل " أبي داود" كلّ ذلك لا بأس به .

81) والّلحد أفضل من الشّق والّلحد : أن يُحفر للميت في قاع القبر حفرة من جهة القبلة ليُوضع فيها ويجوز من جهة خلف القبلة لكنّها من جهة القبلة أفضل ، والدليل حديث سعد بن أبي وقاص أنّه قال :" الحدوا لي لحدا ، وانصبوا علي الّلبِن نصباً ، كما صُنع برسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - ، رواه مسلم ، والشّق : أن يُحفر للميّت حفرة في وسط القبر ثم يُوضع لبن على جانبي الحفرة التي بها الميت ثم يوضع الميت بين هذه اللبِنات والشّق جائز ، ولكنّه خلاف الأفضل ، قال النّووي : " أجمع العلماء على أنّ الدفن في اللحد والشّق جائزان ، لكن إن كانت الأرض صلبةً لا ينهار ترابها فاللحد أفضل لما سبق من الأدلة ، وإن كانت رخوة تنهار فالشّق أفضل .

82) تعميق القبر سنّة ، فيعمق في الحفر والواجب ما يمنع السّباع أن تأكله ، والرّائحة أن تخرج منه ، وإن زاد في الحفر فهو أفضل وأكمل .

83) ويقول مُدخل الميت القبر : بسم الله وعلى ملّة رسول الله ، لقوله - صلّى الله عليه وسلّم - : " إذا وضعتم موتاكم في القبور فقولوا : "بسم الله ، وعلى ملّة رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم -" ، أحمد والنسائي وغيرهم وإسناده صالح ، ويُدِخل الميت من أوصى له الميت بذلك ، ثمّ أقاربه ، ثمّ أي أحدٍ من النّاس ، ولا يُشترط في من يتولى إدخال الميتة أن يكون من محارمها فيجوز أن ينزلها شخص ولو كان أجنبياً ، والدليل حديث أنس بن مالكٍ عند البخاري قال : "شَهِدْنا بنْتَ رَسولِ اللَّهِ ﷺ ورَسولُ اللَّهِ ﷺ جالِسٌ على القَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمعانِ، فَقالَ: هلْ فِيكُمْ مِن أحَدٍ لَمْ يُقارِفِ اللَّيْلَةَ؟ فَقالَ أبو طَلْحَةَ: أنا، قالَ: فانْزِلْ في قَبْرِها، فَنَزَلَ في قَبْرِها فَقَبَرَها ". واختلفوا في معنى من لم يقارف ، والصّحيح أنّ معناه من لم يجامع أهله ، قال الحافظ : وفي الحديث جواز إدخال الرّجال المرأة قبرها ، لكونهم أقوى على ذلك من النّساء ، وإيثار البعيد العهد عن الملاذّ في مواراة الميت - ولو كان امرأة - على الأب والزوج .

84) ويُوضع الميت في الّلحد على شقّه الأيمن ويكون وجهه للقبلة ثم يْنصب عليه الَّلبِن نصباً ، ويُتعاهد خِلال الَّلبِن - الفراغ - بالطّين لئلا ينهال التّراب على الميت ، ثمّ يْهال عليه التّراب تكميلاً للدّفن ، ولا يُسن أن يُكشف شيء من وجه الميت بل يبقى ملفوفاً بأكفانه ، أمّا رأس المحرم فلا يغطى لنهي النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - عن ذلك حيث قال : "ولاتخمروا رأسه"، متفق عليه.

85) ينبغي رفع القبر عن الأرض بمقدار شبر ، ويكون مسنّماً أي يُجعل وسطه كسنام البعير بحيث يكون بارزاً على أطرافه ، والدّليل أنّ هذه هي صفة قبر النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - ، وليُعرف أنّه قبر فلا يُوطاً ولا يُهان ، ولا يُزاد على تراب القبر الذي خرج منه ، ويجوز رشه بالماء ووضع الحصباء أو الخرسانة على ظهرة لأنّه ؛ أثبت للقبر وأمنع لترابه من أن تذهب به الرّياح والسّهول أو تجرفه الأمطار ، ولا بأس بتعليمه بحجرٍ أو بشيءٍ ممّا لا محذور فيه لمعرفته عند زيارته ، أو لدفن بعض أقاربه إلى جانبه كما فعل النّبي - صلّى الله عليه وسلّم بقبر عثمان بن مظعون عندما وضع حجراً عند رأسه وقال : أتعلّم بها قبر أخي ، وأدفن إليه من مات من أهلي ، رواه أبو داود بإسناد حسن.

86) اختلف أهل العلم في حكم الكتابة على القبر فذهب جمهور أهل العلم من الشافعيّة ، والحنابلة ، والمالكيّة ، وبعض الحنفيّة إلى القول بالكراهة ، وذهب الشوكاني إلى القول بالتّحريم لأنّ الأصل في النّهي أنّه للتّحربم ، وقد ثبت عنه - صلّى الله عليه وسلّم - النّهي عن الكتابة على القبر كما عند الترمذي والنّسائي وإسناده صالح ، قال العلّامة ابن عثيمين : والكتابة عليه فيها تفصيل: الكتابة التي لا يُراد بها إلا إثبات الاسم للدّلالة على القبر ، فهذه لا بأس بها ، وأمّا الكتابة التي تشبه ما كانوا يفعلونه في الجاهلية يكتب اسم الشخص ويكتب الثناء عليه وأنّه فعل كذا وكذا وغيره من المديح ، أو تُكتب الأبيات ، فهذا حرام ، ومن هذا ما يفعله بعض الجهّال أنّه يكتب على الحجر الموضوع على القبر سورة الفاتحة مثلاً، أو غيرها من الآيات، فكل هذا حرام.


87) يحرم كسر عظم الميت لأنّه شبّه بعظم الحي في الحرمة ، وعدم جواز التّعرض له ، ولأنّه معصومٌ في حياته وبعد مماته ، والدليل قوله - صلّى الله عليه وسلّم - : كسر عظم الميت ككسره حيّاً" ، وكسره لا يُوجب القصاص أو الدّية ولكنّه يُوجب الإثم كما ورد في حديثٍ في إسناده ضعف.

88) لا يجوز تشريح الميت المسلم للأغراض العلميّة ؛ لأنّ فيه امتهان لكرامة المسلم ، وللنّهي عن كسر عظمه ، أمّا التشريح لأجل تعليم وتدريب طلبة الطبّ فيتمّ بتشريح جثّة غير المعصوم كالحربي والمرتد .

89) يجوز تشريح جثّة المسلم للتّحقق من دعوى جنائيّة لمعرفة أسباب الموت ، أو الجريمة التي أدت إلى القتل ؛ لأنّ المصلحة في مثل هذا الحال مقدمة على المفسدة ، وكذا يجوز التّشريح للتّحقق من أمراض وبائية فتّاكة لوقاية المجتمع منها ، واتخاذ الدواء المناسب لها فتقدم المصلحة على المفسدة في مثل هذا الحال .

90) يحرم تجصيص القبر - وضع الجِبص عليه - ، وكذا يُحرم البناء عليه والدليل حديث جابر : " نهى رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - أن يُجصّص القبر وأن يُبنى عليه" ، رواه مسلم ، والأصل في النّهي أنّه للتّحريم ولا صارف له عنه.

91) يحرم الجلوس على القبر ، والوطء عليه ، لقوله - صلى الله عليه وسلّم - : " لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتمضي إلى جلده خير له من أن يجلس على القبر " رواه مسلم وغيره ، وكذا ثبت النّهي من حديث جابرٍ عند مسلمٍ أنّ النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - نهى أن يُقعد على القبر" .

92) يُشرع الحثو في القبر ثلاث حثيات اقتداء بالنّبي - صلّى الله عليه وسلّم - ، ومشاركة في أجر دفن الميت وفيه أحاديث يحسنها بعض أهل العلم ، ولا يُشرع قراءة شيء من القرآن عند الحثو بل هو من البدع المحدثة التي لم يثبت بها دليل .

93) يُستحب الوقوف على القبر بعد إتمام الدفن ، والدّعاء للميت بالمغفرة والثبات عند سؤال الملكين ، وينبغي أن يُؤمر الحاضرون بذلك ، والدليل أنّ عثمان - رضي الله عنه - قال : " كان رسول الله إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه ، وقال استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنّه الآن يُسأل" ، رواه أبو داود بإسناد حسن وليس لهذا الدّعاء مدّة معينة لأنّ التّقدير بابه التوقيف .

94) الميت يُسأل في قبره عن ربّه ودينه ونبيّه ، كما دلّت النّصوص الصّحيحة الصّريحة على ذلك ، ومنها حديث البراء أن رسول الله قال : المسلم إذا سُئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّداً رسول الله فذلك قوله : "يثبت الله الذين آمنوا " ، متفق عليه ، وكذا حديث أنسٍ عند الشيخين وفيه : " يأتيه ملكان فيقعدانه إلى آخر الحديث " والصحيح أنّ السّؤال عام للمسلم والكافر ، وهو اختيار شيخ الإسلام ، وابن القيم ، والقرطبي وغيرهم من المحققين.

95) عذاب القبر ونعيمه ثابتان بنصوص الكتاب والسنّة ، ويجب الإيمان بهما ، والإيمان بهما من عقيدة أهل السنّة والجماعة ولا ينكرهما إلا أهل البدع ، قال الطحاوي في متن العقيدة الطحاوية ، "ونؤمن بعذاب القبر ونعيمه" ، ويلحقان الروح والبدن معاً ، قال شيخ الإسلام ابن تيميّة كما في مجموع الفتاوى :" بل العذاب والنّعيم على النّفس والبدن جميعاً باتفاق أهل السنّة والجماعة ، تنعم النّفس وتعذب منفردة عن البدن وتعذب متصلة بالبدن ، والبدن متصل بها ، فيكون النّعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين ، كما يكون للروح مفردة عن البدن " ، والأدلة على عذاب القبر ونعيمه صحيحةٌ صريحةٌ كثيرةٌ مستفيضةٌ ، وممّا ثبت في السنة قوله - صلّى الله عليه وسلّم - :"إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع : وذكر منها عذاب القبر ، رواه مسلم ، وكذا عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا غَرُبَتِ الشَّمْسُ، فَسَمِعَ صَوْتًا، فَقَالَ: "يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا"، متفق عليه ، وَمنها كذلك حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَرَّ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بحَائِطٍ مِن حِيطَانِ المَدِينَةِ، أوْ مَكَّةَ، فَسَمِعَ صَوْتَ إنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ في قُبُورِهِمَا، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : يُعَذَّبَانِ، وما يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ ثُمَّ قالَ : بَلَى، كانَ أحَدُهُما لا يَسْتَتِرُ مِن بَوْلِهِ، وكانَ الآخَرُ يَمْشِي بالنَّمِيمَةِ ، رواه البخاري ، وقد بلغت أدلة إثبات عذاب القبر من السنّة حدّ التواتر المعنوي.

96) الميت ينتفع بالدعاء والاستغفار له ، وقد نقل الإجماع على ذلك شيخ الإسلام ، والنووي ، والأدلة على ذلك كثيرة مستفيضة ، منها قول الله تعالى : " والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان" ، وقوله " واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات" وكذا قول النّبي- صلّى الله عليه وسلّم - " استغفروا لأخيكم وسلو له التثبيت " ، وقد تقدم ، ولو كان الميت لا ينتفع بذلك لما كان في الأمر بالدعاء والاستغفار له معنى .

97) تلقين الميت بعد الدفن بدعة غير مشروعةٍ ، لم يفعلها النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - ولا أصحابه من بعده ، ولو كان مشروعاً لفعله أصحاب النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - فإنّهم كانوا أحرص النّاس على امتثال أمره ، واتّباع هديه ، أمّا الحديث الّذي أخرجه الطبراني عن أبي أمامة فضعيف لا تثبت به حجّة ، قال ابن الصلاح : " ليس إسناده بالقائم" ، وقال الهيثمي : " في إسناده جماعة لم أعرفهم " ، وقال العز بن عبد السّلام : "لم يصحّ في التّلقين شيء وهو بدعة " ، وقال الصّنعاني : "ويتحصّل من كلام أئمة التّحقيق أنّه حديث ضعيف والعمل به بدعة ولا يغترّ بكثرة من يفعله " ، وقال ابن القيم : "هذا الحديث متفق على ضعفه"، وقال الحافط في نتائج الأفكار : " حديث غريب ، وسند الحديث من الطريقين ضعيف جدًّا "، وكلامه في نتائج الأفكار متأخر عن كلامه في التلخيص ، وقد ذكر الشوكاني الحديث في كتابه : " الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة".


98) يجوز دفن الاثنين في القبر الواحد إذا دعت الضّرورة إلى ذلك مثل كثرة الموتى ، وقلة من يدفنهم أو ضعف من يدفنهم لمرضٍ أو جراحاتٍ ، ويُكرة لغير ضرورة ، قال شيخ الإسلام يُكره دفن اثنين فأكثر في قبرٍ واحدٍ وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، ويُقدّم أصحاب الفضل على غيرهم إذا جُمعوا في قبرٍ واحدٍ ، ويكون التّقديم إلى جهة القبلة فيقدم قارئ القرآن على غيره ، لقول جابر ٍ : كان النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوبٍ واحدٍ ، ثمّ يقول أيهم أكثر أخذا للقرآن فيقدّمه في اللحد"، رواه البخاري .

99) يجوز الدفن ليلاً إذا لم يفوّت حقاً من حقوق الميّت في التّغسيل والتّكفين والصّلاة عليه ، وهو قول الجمهور وهو الراجح لقوة دليله ، فقد دُفن رجل على عهد النّبي - صلّى الله وعليه وسلّم - ليلاً فلم يُنكر عليهم وإنّما أنكر عليهم عدم إعلامه بأمره ، وكذلك دُفن أبو بكرٍ ليلاْ ، قال الحافظ : "وهذا كالإجماع من الصحابة "

100) يُسنّ صنع الطعام لأهل الميّت ، لقوله - صلّى الله عليه وسلّم : "اصنعوا لألِ جعفرٍ طعاماً ، فقد آتاهم ما يشغلهم " أبو داود والتّرمذي وغيرهم وهو حسن الإسناد ، أمّا مدّة الإطعام فلم تذكر في الحديث ، ولذا قدرها بعض أهل العلم بيومٍ وليلهٍ ، وقال آخرون ثلاثة أيام ، وينبغي تجنب الإسراف في هذا الطعام ، ويجوز لمن حضر أهل الميت أن يأكل معهم من هذا الطعام ؛ لأنّهم لم يصنعوه بأنفسهم وإنّما صُنع لهم.

101) لا يجوز لأهل الميت صنع الطّعام للنّاس لأنّ هذا من البدع وفيه مفاسد كثيرة منها : أنّه مخالف للسنّة ، وفيه إنفاق المال في أمرٍ محرّمٍ ، وفيه تكليف لأهل الميت وإشغالهم مع مصيبتهم.

102) استحباب زيارة القبور لقوله - صلّى الله عليه وسلّم - : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها " رواه مسلم ، وزاد الترمذي : "فإنّها تذكّر الآخرة" ، وقد ذكر النووي وغيره الإجماع على زيارتها في حق الرّجال دون النّساء ، والمقصد من زيارتها : الاعتبار وتذكر الآخرة ، ونفع الأموات بالدعاء لا الانتفاع منهم كما يفعل بعض الجهلة والمبتدعة يرجون النّفع ممّن لا يملك لنفسة نفعاً فضلاً عن أن يملكه لغيره ، فهي زيارة للدّعاء لهم وليس لدعائهم ، وهي كذلك للاعتبار والتذكّر لا للتّبرك بالقبوره والأتربة ، وكذا هي مستحبّة في كل وقت من ليلٍ أو نهارٍ ، وأمّا تخصيص الزيارة بيوم الخميس أو أيام الأعياد فبدعة لا أصل لها في الشّرع.

103) تجوز تعزية المسلم بقريبه الكافر ، أمّا تعزية الكافر بقريبه الكافر فيُنظر فيها إلى المصلحة ، فإن كان ثمّة مصلحة كتأليف قلوبهم على الإسلام ، أو دفع أذاهم وشرهم فلا حرج في ذلك.

104) لا تحدّ التعزية بثلاثة أيامٍ بل متى رأى الفائدة في التّعزية أتى بها ولو بعد الثلاث ، ومن قيدها بالثلاث وهم جمهور أهل العلم استدلوا بحديث النّبي ﷺ: لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوجٍ أربعة أشهر وعشراً، متفق عليه ، والجواب على هذا الحديث أنّه ورد في تحديد مدّة الحداد على الميت لا بتحديد مدّة التّعزية ، فقد لا يعلم الإنسان بموت الميت إلّا بعد الثلاث ، فإنّه يأت بالتّعزية ولا حرج ، والقول بعدم تَحديد مدَّة التعزية مطلقًا، هو قول بعض الحنابلة، ونقله النَّووي وجهًا عند الشّافعيَّة لأبي المعالي الجويني ، وبه يقول جمع من المحققين المعاصرين وهو الرّاجح .

105) اختلف أهل العلم في حكم زيارة القبور للنّساء فذهب بعضهم إلى القول بالتّحريم ، وهو قول بعض المالكية ، والشّافعية ، والحنفيّة ، وذهب آخرون إلى القول بالكراهة ، وبه قال جمهور أهل العلم ، وجوّز آخرون لهنّ الزيارة من غير كراهة ، وهو قول أكثر المالكية والحنفيّة ، ورواية عن أحمد ، والرّاجح جواز الزيارة لهنّ بالضوابط الشرعيّة ومن غير إكثار لقوله - صلّى الله عليه وسلّم - " فزوروها" وهو نص عام يتناول الرّجال والنّساء ثم قُيّد للنّساء بعدم الإكثار من الزيارة بقوله - صلّى الله عليه وسلّم - : " لعن الله زوَّرات القبور " ، الترمذي وغيره وإسناده حسن ، قال القرطبي في المفهم : " واللعن المذكور في الحديث إنّما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصيغة ( يعني زوّارات ) من المبالغة ، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج ، والتّبرج ، وما ينشأ من الصياح ونحو ذلك ، وقد يُقال : إذا أُمن جميع ذلك فلا مانع من الإذن لهنّ لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء" .

106) لا يجوز شدّ الرّحال لزيارة القبور لقول النبي - صلّى الله عليه وسلّم - : " لا تشدّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد " ، متفق عليه ، قال ابن تيميّة في مجموع الفتاوى : "وسُئل مالك عن رجل نذر أن يأتي قبر النّبي ، فقال مالك : إن كان أراد القبر فلا يأته ، وان أراد المسجد فليأته ثمّ ذكر الحديث: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) ذكره القاضي إسماعيل في مبسوطه) اهـ
وقال ابن قدامة : "فإن سافر لزيارة القبور والمشاهد ، فقال ابن عقيل : لا يُباح له التّرخص لأنّه منهي عن السّفر إليها قال النّبي - صلّى الله عليه وسلّم : "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ، متفق عليه ، اهـ .




107) يُسنّ لمن زار القبور الدّعاء للأموات بسؤال الله العافية لهم وللأحياء ، فعن بريدة قال : كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - يعلّمهم إذا خرجوا إلى المقابر : " السّلام على أهل الدّيار من المؤمنين والمسلمين ، وإنّا إنْ شاء الله بكم للاحقون ، أسأل الله لنا ولكم العافية " رواه مسلم

108) قال بعض أهل العلم لا يُشرع السّلام على أهل القبور إلا للدّاخل الذي قصد الزيارة ، وذهب بعضهم إلى أنّ المارّ بالقبور يُسلّم ولو لم يقصد الزيارة وله حظ من النّظر .

109) تُسنّ تعزية المصاب بالميت فيقول المعزي : " إنّ لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمّى فلتصبر ولتحتسب " ، البخاري وغيرة ، وتجوز بأي لفظٍ يؤدي المقصود ، ويخلو من المحاذير الشّرعيّة .

110) لا يجوز الإحداد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا الزوجة فتحدّ على زوجها أربعة أشهر وعشراً ، والحديث في الصحيحين.

111) لا يُشرع قراءة الفاتحة عند دخول المقبرة بل هو من البدع المحدثة التي لم يأت بها دليل من السنّة ، وإنما يُكتفى بالتّسليم على الأموات كما ثبت عن النّبي - صلّى الله عليه وسلّم ، وكذا من البدع المحدثة قراءة القرآن عند القبور لقوله - صلّى الله عليه وسلّم - :" لا تجعلوا بيوتكم مقابر إنّ الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة "، فعُلم من هذا الحديث أن المقابر ليست محلّاً للصّلاة وقراءة القرآن ، وكذا لا يُشرع التصدق عند القبور ، وقد اختلف أهل العلم في حكم وصول ثواب قراءة القرآن الى الميت من عدمه ، والراجح من أقوال أهل العلم أنّ الميت إنما ينتفع بالدعاء والاستغفار له ، والصّدقة عنه ، وقضاء صومه، والوفاء بنذرة ، وأداء الحجّ والعمرة عنه ، وفي كل هذه الأشياء أحاديث صحيحة ثابتة ، لا يتسع المقام لذكرها وبسطها .

112) تحريم سبّ الأموات والخوض في أعراضهم لقوله - صلّى الله عليه وسلّم - " لا تسبّوا الأموات فإنّهم قد أفضوا إلى ما قدموا "، البخاري في صحيحه ، والأصل في النّهي أنّه للتّحريم ، والصّحيح أنّ النّهي يختصّ بأموات المسلمين ، وامّا الكفار فيجوز سبّهم وذكر مساوئهم بشرط ألّا يتأذى به قريبه المسلم الحيّ .

113) إن كان المسلم فاسقاً وظهرت مصلحة راجحة في سبّه وذكر عيوبه جاز ذلك للتّحذير منه والتنفير عنه لا لقصد سبّ الأموات، وإنّما لقصد التّنفير والتّحذير منه ، وقد أجمع العلماء على جواز جرح المجروحين أحياءً وأمواتاً لأجل حفظ السنّه ، فإن لم تكن ثمّة مصلحة وجب الكفّ عنهم لأنّهم أفضوا إلى ما قدموا.

114) سبّ الأموات من الغيبة التي وردت النّصوص بتحريمها ومنها قوله " ذكرك أخاك بما يكره " ، مسلم وغيره ، ويدخل فيها الحي والميت قال ابن بطالٍ " سبّ الأموات يجري مجرى الغيبة في الأحياء " ، ويجوز ذكر المرء بما فيه من خيرٍ أو شرٍ للحاجة ، ولا يكون ذلك من الغيبة ، والدليل حديث أنس أنّهم مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً ، فقال النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - وجبت ، ثمّ مرّوا بأخرى فأثنوا عليها شرّاً ، فقال وجبت ، فقال عمر - رضي الله عنه -: ما وجبت ، قال : هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنّة ، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النّار أنتم شهداء الله في الأرض " ، متفق عليه ، فلم ينكر عليهم النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - ، والذي يظهر أنّ الذي أثنوا عليه شرّاْ كان مشهوراً بفسقه وفساده فيُخشى أن يُقتدى بشرّه فيكون ذلك من باب التّحذير والتّنفير منه .

115) لا يُدفَنُ الكافرُ في مقابرِ المسلمين ، كما لا يُغسَّلُ ، ولا يُكفَّنُ ، ولايُصلّى عليه،
وإنّما يُواريه أقاربه في حفرةٍ حتى لا يتأذَّى به النّاس.

116) إذا مرّ المسلم بقبر الكافر فلا يسلّم عليه ولا يدعو له بل يبشره بالنار لقوله - صلّى الله عليه وسلّم - : " حيثما مررت بقبر كافرٍ فبشّره بالنّار " ، الطبراني وغيره ، وسنده صالح.

117) حديث : "من مرّ بالمقابر فقرأ قل هو الله أحد إحدى عشرة مرّة ثمّ وهب أجره للأموات أُعطي من الأجر بعدد الأموات "، حديث باطل موضوع مصنوع .

118) لا يُشرع وضع الرّياحين ، أو الورود ، أو الجريد على القبور ، وإليه ذهب الخطّابي ، وابن الحاج وجمع من المعاصرين.

119) الاستدلال بفعل النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - بوضعه الجريد على قبر الرجلين الّذَين يعذبان لا يستقيم لأنّه ؛ لم يُكشف لنا أنّ من وُضع على قبره الجريد يُعذّب أم لا ، ولا شكّ أنّ فعل ذلك في إساءة للميت ، وسوء ظنّ به بأنّه يُعذب ، وكذا لم يفعله مع كل أحد من أهل القبور ، ولم يفعله أصحابه من بعده وهم أعلم النّاس بأحكام الشّرع .

120) ممّا أحدث النّاس في هذا الزمان حمل بعض جنائز القادة والعسكريين على عربات المدافع ، وإطلاق القذائف المدفعيّة عند الدّفن مع ما يصحب ذلك بما يسمّى بالموسيقى العسكرية عند الخروج بالجنازة إلى مكان الدّفن ، وعزف ما يسمى بلحن الوداع الأخير عند وضع الميت في القبر ، ولا شكّ أنّ هذا كله من البدع المحدثة التي لا تمت للشّرع بصلة بل هي من سنن الكفار وهديهم ، وقد أُمرنا بمخالفتهم والتمسك بالهدي النّبوي .
تمّت ولله الحمد


🖋️ وكتبه : زياد عوض أبو اليمان

 

بحوث علمية
  • بحوث في التوحيد
  • بحوث فقهية
  • بحوث حديثية
  • بحوث في التفسير
  • بحوث في اللغة
  • بحوث متفرقة
  • الصفحة الرئيسية