اطبع هذه الصفحة


ملاحظات
على فتوى فضيلة الدكتور علي القره داغي
حول الترحم على غير المسلم

وائل البتيري


بسم الله الرحمن الرحيم


أصدر الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، فضيلة الأستاذ الدكتور علي القره داغي فتوى شرعية حول استعمال لفظ الشهيد بحق غير المسلمين، والدعاء لهم بالرحمة والمغفرة.

وقال فضيلة الدكتور في مقدمة فتواه: "ثارت أسئلة كثيرة حول إطلاق اسم (الشهادة) أو (الشهيد) على من قتل ظلماً لكنه غير مسلم، وبخاصة بعد قتل الإعلامية المتميزة شيرين أبو عاقلة".

ثم شرع فضيلته بالجواب على هذه الأسئلة، ورأيت في جوابه - حفظه الله ورعاه - ما يستحق النصح والتنبيه، وربما التحذير أحياناً، لما تضمنه الجواب من عبارات غريبة مستنكرة.

ولنمضِ في المراد، تجنباً للإطالة والإسهاب..

تمهيدات


قال فضيلة الدكتور: "فهذه المسألة ثار فيها جدل كبير بين المسلمين ودعاتهم، فمنهم من تشدد، ومنهم من تساهل، والسبب أنهم لم يحرروا مصطلح الشهادة، أو الشهيد في اللغة، والقرآن الكريم، والسنة الصحيحة، حيث إن هذا المصطلح له معان كثيرة في اللغة، والقرآن، والسنة" اهـ.

قلت: هذه المسألة سيعاود الدكتور التفصيل فيها، لذا أرجأت النقاش حولها إلى ذلك الموضع.

- قال فضيلة الدكتور: "وكذلك لم ينظروا بدقة في فقه الميزان لهذا الموضوع:

ففقه الميزان هنا هو أن ميزان التعامل مع غير المسلمين الذين هم مواطنون ومشاركون معنا في قضيتنا، بل يحاربون معنا ضد المحتلين هو ميزان البر والقسط بنص القرآن الكريم، وهذا البر لا ينقطع بالموت، فليس من البر أن نسيء إلى الميت غير المسلم الذي شارك معنا في حربنا ضد المحتلين، أو نهمله بمجرد الموت، (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)" اهـ.

قلت: الجميع متفقون على هذا الميزان، ولكننا نتساءل: هل القول بحرمة الترحم على غير المسلم بعد وفاته إساءة له؟

وما دخل تقرير هذا الحكم بمشاركته معنا حربَنا ضد المحتلين؟

هل المطلوب منا أن نبدّل أحكام الشريعة كي نرضي من شاركنا هذه الحرب؟

وهل أحدٌ من القائلين بحرمة الترحم أهمل "شيرين أبو عاقلة" بمجرد موتها؟

أم أن الجميع أعرب عن حزنه عليها، ولعن قاتلها؟!

لا أريد أن أنسب إلى الشيخ ما لم يقله، لكن قد يُفهم من كلام الشيخ أنه يصمُ مخالفيه بانعدام ميزان البر والقسط لديهم، وهذا لا شك ظلمٌ لهم، وهو ما أثار هذه الأسئلة الآنفة الذكر.

- قال فضيلة الدكتور: "ثم إن الإحسان إلى أهله من المواطنين غير المسلمين المشاركين معنا أن نبرِّ بهم، ومن برِّهم عزاؤهم، وذكر ميتهم بالخير الدنيوي، وكلامنا وفق الميزان لا يتعلق بكون الشخص من أهل الجنة، أو من أهل النار، فهذان معروفان حسب ميزانيهما، وإنما نتحدث عن ميزان التعامل في الدنيا" اهـ.

قلت: المخالفون للدكتور أعربوا أيضاً عن عزائهم ومواساتهم لعائلة "شيرين"، وذكروها بالخير، وأثنوا على نضالها للمحتل الظالم الغاشم، وعلى أدائها الإعلامي البطولي.. والمسألة مدار الخلاف متعلقة بأمر أخروي لا دنيوي، ما يعني أن هذه المقدمة لا طائل تحتها. والله المستعان.

الشهادة لغة


- قال فضيلة الدكتور: "هذا من جانب، ومن جانبٍ: مصطلحُ الشهيد أو الشهادة؛ فإنهما مشتقان من لفظ (شهد) بمعنى حضر وأخبر، يقال: شهد على كذا شهادة: أخبر به، وشهد لفلان على فلان أي أدى ما عنده من الشهادة، وشهد بالله: بمعنى حلف، وأقر بما علم، وشهد رمضان أي حضره، وشاهده أي عاينه، وتشهد أي قرأ التشهد، واستشهد أي طلب منه الشهادة، والشهادة: الإخبار بما علم، والشهيد: من يؤدي الشهادة، وهكذا (القاموس المحيط، ولسان العرب، والمعجم الوسيط "شهد")" اهـ.

قلت: لا أدري لماذا حينما تعرض الدكتور لمعنى الشهيد في اللغة؛ أهمل ما ذكره أصحاب القاموس المحيط ولسان العرب والمعجم الوسيط عن معناه المتعلق بالقتل في سبيل الله، واكتفى بجملة عابرة في وسط الفقرة الآتية، وكان الأولى به وهو ويتناول المعنى اللغوي لكلمة (شهيد) أن يتطرق لهذا المعنى، خصوصا أن الكتب التي عزا لها تطرقت له.

وأكتفي بما جاء في "القاموس المحيط"، فقد قال الفيروز آبادي: "والشَّهيدُ، وتُكْسَرُ شينُهُ: الشاهِدُ، والأَمينُ في شَهادَةٍ، والذي لا يَغيبُ عن عِلْمِهِ شيءٌ، والقَتيلُ في سبيلِ الله؛ لأن مَلائِكَةَ الرحْمةِ تَشْهَدُهُ، أو لأَن الله تعالى وملائكتَهُ شُهودٌ له بالجَنَّةِ، أو لأَنه ممَّن يُسْتَشْهَدُ يومَ القيامةِ على الأمَمِ الخاليةِ، أو لسُقوطِه على الشاهِدَةِ، أي: الأرضِ، أو لأَنه حَيٌّ عندَ ربِّهِ حاضرٌ، أو لأَنه يَشْهَدُ مَلَكوتَ الله ومُلْكَهُ، جمعه: شُهَداءُ، والاسمُ: الشَّهادَةُ".

- قال فضيلة الدكتور: "فبناءً على ذلك؛ فإن لفظ (شهد) ومشتقاته في أصل اللغة؛ ليس خاصاً بالشهيد المقتول في سبيل الله، بل إن لفظ (شهيد) نفسه يطلق على الشاهد والمقتول في اللغة، وكذلك في القرآن؛ فقال تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} (سورة البقرة: 282)" اهـ.

قلت: هذا لا خلاف فيه، لكن الخلاف في التلبيس على العامة، وسيأتي مزيد إيضاح.

"الشهيد" في القرآن


- قال فضيلة الدكتور: "حينما نبحث عن لفظ "شهيد" ومشتقاته في القرآن الكريم؛ لا تجد فيه إطلاقه على من يقتل في سبيل الله تعالى، بل يطلق على معانيه اللغوية الخالصة التي ذكرناها آنفاً، وإنما القرآن الكريم يستعمل القتل في سبيل الله، فقال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلكِن لَّا تَشْعُرُونَ} (سورة البقرة: 154).

وقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران: 169).

فلم يستعمل القرآن لفظ (يستشهد) بمعنى يقتل في سبيل الله، ولا لفظ (الشهيد) بالمعنى الاصطلاحي اليوم" اهـ.

قلت: أكثر أهل العلم على أن لفظ "الشهيد" بمعنى من يُقتل في سبيل الله؛ واردٌ في كتاب الله تعالى، ولا أعيبُ على فضيلة الدكتور أن يتبنى رأياً غير رأي جمهور العلماء، ولكني أشيرُ إلى رأي الجمهور الذي لم يشر إليه، كي لا يظن ظانٌّ أن القول الذي تبناه فضيلة الدكتور من المسلَّمات التي ليس فيها خلاف.

- يقول الله تعالى: "ومَن يُطِعِ الله والرسولَ فأولئك مع الذين أنعمَ الله عليهم من النبيِّين والصدِّيقين والشهداءِ والصالحين وحَسُن أولئك رفيقاً" (النساء: 69).

قال الإمام الطبري: "(والشهداء)، وهم جمع (شهيد)، وهو المقتول في سبيل الله، سُمي بذلك لقيامه بشهادة الحق في جَنب الله حتى قتل".

وقال البغوي: "(والشهداء) قيل: هم الذين استشهدوا في يوم أحد، وقيل: الذين استشهدوا في سبيل الله".

وقال ابن عاشور: "وأمّا الشهداء؛ فهم من قُتلوا في سبيل إعلاء كلمة الله".

ورأى الإمام الرازي أن المقصود بالشهداء هنا "هم القائمون بالقسط"، ولكنه قال: "الشهيد فعيل، بمعنى الفاعل، وهو الذي يشهد بصحة دين الله تارة بالحجة والبيان، وأخرى بالسيف والسنان، فالشهداء هم القائمون بالقسط... ويُقال للمقتول في سبيل الله شهيد، من حيث إنه بذل نفسه في نصرة دين الله، وشهادته له بأنه هو الحق، وما سواه هو الباطل".

فالإمام الرازي وسّع معنى الشهداء في الآية بأنهم القائمون بالقسط، ولكنه أدخل فيهم المقتول في سبيل الله.

- ويقول الله تعالى: "إنْ يمسَسْكُم قرحٌ فقد مسَّ القومَ قرحٌ مثلُه، وتلك الأيام نداولها بين الناس، وليعلمَ الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء، والله لا يحب الظالمين".

قال الإمام الطبري: "أي: ليكرم منكم بالشهادة من أراد أن يكرمه بها. والشهداء جمع شهيد، كما حدثنا...".

ثم ساق روايات نقل فيها تفسير ابن إسحاق وابن جريج وقتادة والضحاك، كلها تشير إلى أن المقصود بالشهداء هنا المقتولون في سبيل الله.

وقال ابن كثير: "(ويتخذ منكم شهداء) يعني: يُقتلون في سبيله، ويبذلون مهجهم في مرضاته".

وقال القرطبي: "قوله تعالى (ويتخذ منكم شهداء) أي يكرمكم بالشهادة، أي ليُقتل قوم فيكونوا شهداء على الناس بأعمالهم. وقيل: لهذا قيل شهيد: وقيل: سمي شهيداً لأنه مشهود له بالجنة، وقيل: سُمي شهيدا لأن أرواحهم احتضرت دار السلام لأنهم أحياء عند ربهم، وأرواح غيرهم لا تصل إلى الجنة، فالشهيد بمعنى الشاهد أي الحاضر للجنة، وهذا هو الصحيح".

والقرطبي هنا يُدخل المقتولين في سبيل الله بمعنى (الشهداء) الذين يشهدون على الناس بأعمالهم. والله تعالى أعلم.

- وفي قوله تعالى: {والشهداءُ عند ربهم لهم أجرُهم ونورُهم} قال الإمام الطبري: "(والشهداء) الذين قُتلوا في سبيل الله، أو هلكوا في سبيله عند ربهم، لهم ثواب الله إياهم في الآخرة ونورهم".

وهناك من قال إنهم الأنبياء الذين يشهدون على الأمم يوم القيامة، وهناك من فسرها بالذين يشهدون لله بالوحدانية، أو شهدوا بالإيمان على أنفسهم، ولكنها الجملة تشبه قوله تعالى فيمن يُقتل في سبيله: "أحياءٌ عند ربهم يُرزقون".

"الشهيد" في السنة، وأصناف الشهداء


- قال فضيلة الدكتور: "ورود الشهيد بمعناه الشرعي في السُّنة:

وإنما ورد إطلاق لفظ (الشهيد) ونحوه فيمن يقتل في سبيل الله، في الأحاديث النبوية الشريفة، ولكنها لم تحصر أيضاً إطلاق الشهيد على هذا المعنى، بل ورد فيها إطلاقه على المعاني اللغوية الأخرى، كما بينت مواصفات الشهيد في سبيل الله، فقد روى مسلم في صحيحه (1915)عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الشهيد فيكم؟)، قالوا: يا رسول الله، من قتل في سبيل الله فهو شهيد. قال: (إن شهداء أمتي إذاً لقليل)، قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: (من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد...).

بل إن الإمام السيوطي جمع أنواع الشهادة في كتابه: أبواب السعادة في أسباب الشهادة، فبلغت 57 سبباً، ثبت منها 49 حديثاً وسبباً.

وبناء على ما سبق؛ فإن المحققين من العلماء - مثل الإمام النووي - قسموا الشهداء إلى ثلاثة أقسام: شهيد في الدنيا والآخرة، وهو المقتول في حرب الكفار، وهو يقاتل في سبيل الله تعالى فقط، وشهيد في الآخرة دون أحكام الدنيا، وهم هؤلاء المذكورون في الأحاديث السابقة، وشهيد في الدنيا دون الآخرة، وهو من غل (أي سرق) أو قتل فاراً ومدبراً.

فإطلاق العلماء لفظ الشهيد على من غل وسرق وأدبر دليل على جواز إطلاقه على شهداء الدنيا مثل شهيد الوطن، وشهيد القضية، أو الكلمة" اهـ كلام فضيلة الدكتور.

قلت: هناك ملحظ هام قد يغفل عنه كثيرون، وهو أن مصطلح "شهيد" مدار النقاش، متعلق بشخص فارق الدنيا، وخرجت روحه من جسده، وهو مصطلح شرعي مرتبط بمكانة المؤمن في الآخرة، فالشهداء لهم مكانة عالية عند الله تعالى، سواءٌ كانوا من الذين قُتلوا في الحرب وهم يقاتلون لإعلاء كلمة الله تعالى، أو الذين أكرمهم الله بأجر الشهداء من أصحاب القسم الثاني المذكور آنفاً في كلام الإمام النووي "شهيد في الآخرة دون أحكام الدنيا".

أما القسم الثالث؛ فإذا عُلم أنهم سرقوا من غنيمة الحرب، أو قُتلوا وهم فارّون مدبرون، أو قاتلوا سمعة أو رياءً؛ فهم في حقيقة الأمر ليسوا شهداء، ولا يجوز إطلاق وصف الشهيد عليهم في حالِ عُلم مسلكُهم أو مقصدُهم الفاسدُ من القتال، وأما إذا لم نعلم ذلك؛ فنطلق عليهم وصف الشهيد عملاً بالظاهر، ونكلُ سرائرَهم إلى الله تعالى.

وأما جعلُ الإمام النووي لهم قسماً ثالثاً، فبقصد الإشارة إلى أن أحكام الشهداء تجري عليهم في الدنيا، لا أنهم يستحقون وصف الشهادة، ولذلك فهو يقسم الشهداء في كتابه "منهاج الطالبين" - وهو متأخر عن شرحه لمسلم والأذكار والمجموع - إلى قسمين، يُهمل فيهما ذكر القسم الثالث المشار إليه.

ولذلك قال الإمام النووي نفسه في شرح صحيح مسلم (2/164): "والثالث: من غلَّ في الغنيمة وشبهه، ممّن وردت الآثار بنفي تسميته شهيداً، إذا قُتل في حرب الكفار فهذا له حكم الشهداء في الدنيا، فلا يغسَّل ولا يصلَّى عليه، وليس له ثوابُهم الكامل في الآخرة، والله أعلم".

إذن هو يصرّح بأن "الآثار وردت بنفي تسميته شهيداً"، فكيف يسميه هو شهيداً؟!

وفي حديث مسلم الذي سيذكره الدكتور لاحقاً، عن عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (فلان شهيد)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلا، إني رأيته في النار في بردة غلَّها، أو عباءة".

إذن؛ الصحابة حكموا عليه بالظاهر، وهم ليسوا مكلَّفين بغير هذا الظاهر، فقالوا (فلان شهيد)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلا"، أي هو ليس شهيداً.

قال الإمام النووي في شرحه على مسلم (2/128): "وقوله صلى الله عليه وسلم (كلا) زجرٌ وردٌّ لقولهم في هذا الرجل إنه شهيدٌ محكوم له بالجنة أولَ وهلة، بل هو في النار بسبب غلوله"، فكيف يوصف بالشهيد وحالته هذه؟!

وقال الإمام السبكي في فتاواه (2/343): "والذي قاتل شجاعةً أو رياءً أو حميةً ليسَ قتالُه لله، فليس في سبيل الله، وهذا مقطوعٌ به، والظاهرُ أنه لا يُسمى شهيداً... والنصُّ لم يَرِدْ بتسميته، وإنما نحنُ نظنّه في الظاهر شهيداً؛ لعدم الاطلاع على فساد نيَّته".

وعليه؛ فإن قول فضيلة الدكتور: "فإطلاق العلماء لفظ الشهيد على من غلَّ وسرق وأدبر؛ دليلٌ على جواز إطلاقه على شهداء الدنيا مثل شهيد الوطن، وشهيد القضية، أو الكلمة"، مجانبٌ للصواب، فالعلماء بريؤون من ذلك؛ لما فيه من مخالفة صريحة لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "كلا"، وعليه فإن هذا القياس فاسدٌ من هذه الجهة، وهو فاسدٌ أيضاً من جهة أن العلماء يطلقون هذا الوصف على المؤمن لا على الكافر، ويقصدون به معنى شرعياً محدداً له تعلقٌ بالآخرة.

الاشتراك اللغوي


- قال فضيلة الدكتور: "وبناءً عليه؛ فلفظ الشهيد في السنة النبوية الشريفة، يشمل من يُقتل في سبيل الله في ساحات الدفاع عن دين الله، وعن وطنه، وعن عرضه وماله ونفسه، كما ورد ذلك أيضاً في الحديث الصحيح" اهـ.

قلت: لا شك أن الدكتور يقصد المؤمن لا الكافر، ولكن تأكيداً لذلك نورد ما رواه الإمام مسلم (140) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيتَ إنْ جاء رجلٌ يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطيه مالك. قال: أرأيتَ إنْ قاتلني؟ قال: قاتله. قال: أرأيت إنْ قتلني؟ قال: فأنت شهيدٌ. قال: أرأيتَ إن قتلتُه؟ قال هو في النار.

فقوله في المقتول: "فأنت شهيد"، مقابل قوله في القاتل: "هو في النار"، يدل على أن الشهيد في الجنة، والجنة لا يدخلها إلا مؤمنٌ موحّد.

- قال فضيلة الدكتور: "الفتوى: وبناء على ما سبق ذكره، وغيره فالذي يظهر لي هو ما يأتي:

أولاً: أن لفظ (الشهيد) أو (الشهادة) لفظ استعمل في اللغة والقرآن الكريم والسنة المشرفة في معان كثيرة يجمعها: (الإخبار والحضور وإدلاء الشهادة) ولم يستعمل بمعنى (القتل) في القرآن الكريم، وإنما استعمل في السنة بمعنى واسع يشمل المقتول في سبيل الله، أو في الدفاع عن نفسه وعرضه، والميت ببعض الأمراض والأوبئة - كما سبق - ويشمل غيره.

ثانياً: أن الفقهاء المحققين - كما سبق - قسموا الشهداء إلى ثلاثة أنواع منهم شهداء الدنيا.

ثالثاً: أن لفظ الشهيد أو الشهادة ليس مصطلحاً عقدياً، وإنما هو مصطلح لغوي، يجوز استعماله حسب استعمالاته اللغوية والعرف، بل نحن جميعاً نقرأ في القرآن الكريم استعمال لفظ (شهيد) في سورة البقرة بمعنى الشاهد على الحق، ونقرأ أن الله شهيد وأنه سبحانه وتعالى يأتي بشهيد - أي شاهد - من كل أمة.

وحتى السنة المشرفة لم تخصص (الشهيد) بمن يقتل في سبيل الله فقط، وإنما ذكر هذا المعنى مع بقية المعاني" اهـ كلام فضيلة الدكتور.

قلت: ما جاء في (أولاً) و(ثانياً) و(ثالثاً) إما أوضحته آنفاً، وإما رددتُ عليه، ولكن يَحسُن التأكيد على أن (الشهيد) مصطلح له دلالاته الشرعية، وهي متعلقة:

أولاً: بالمتوفى أو القتيل.

وثانياً: بالمسلم.

وثالثاً: بما يصير إليه في الآخرة.

ورابعاً: بأحوال محددة يختم بها حياته.

والاشتراك اللغوي مع معاني أخرى كالشاهد على حدث ما؛ لا يجيز لنا أن نخلّط ونلبّس في دلالة اللفظة على المراد منها، فحين يوصف مقتولٌ على يد ظالم محتل بـ"الشهيد"، سواء كان هذا المقتول مسلماً أو كافراً، فوصفُ الشهيد له لا يعني بكل تأكيد الشاهد على الحق، أو الشاهد من كل أمة، وإنما هو متوجه لمعنى حدّده الشرع، وخصّ به المسلم دون غيره.

ويؤكد ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم (1915) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تعدّون الشهيد فيكم؟"، قالوا: يا رسول الله! مَن قُتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: "إن شهداء أمتي إذاً لقليل"، قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: مَن قُتل في سبيل الله فهو شهيد، ومَن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومَن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد"، قال ابن مِقسَم: أشهدُ على أبيك في هذا الحديث أنه قال: "والغريق شهيد".

ولأن لكلمة الشهيد دلالتها المعروفة في لغة الشرع؛ قال الصحابة حينما سألهم النبي عليه الصلاة والسلام: "ما تعدّون الشهيد فيكم؟": "مَن قُتل في سبيل الله فهو شهيد"، إلا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم علّمهم أن معنى الشهادة في الشرع أوسع من ذلك، فذكر الأصناف المذكورة آنفاً، وهي جميعها مختصة بشخص مؤمن فارق الحياة الدنيا على حال معينة، له أحكامٌ في الدنيا يؤديها المسلمون تجاهه، وله مكانة عند الله تعالى في الآخرة يجلّها المسلمون ويعرفون قدرها، ولا يجرؤون على منح هذا الوصف لأي شخص كان، دون أن يستحقه!

ولذلك؛ قال الإمام تقي الدين السبكي في فتاواه (2/339) حين سئل عن معنى الشهادة: "إنها حالةٌ شريفةٌ تحصلُ للعبد عند الموت، لها سببٌ وشرطٌ ونتيجة، عُرفت من نصِّ الشارع على محالِّها وآثارِها، واستُنبطَ من ذلك عللُها الموجبةُ لضبطها، وأسبابُها وشروطُها".

وسئل الإمام ابن تيمية - كما في "مجموع الفتاوى" (24/293) - عن رجل ركب البحر للتجارة، فغرق، فهل مات شهيداً؟ فأجاب: "نعم، مات شهيداً إذا لم يكن عاصياً بركوبه".

قلت: وهذا التحرز منه - رحمه الله - التزام بمراد الشارع، وبمعاني الألفاظ التي جاءت في الكتاب والسنة، مع علمه - بكل تأكيد - بدلالات اللفظ في اللغة العربية.

الشهادة والعرف


قال فضيلة الدكتور: "رابعاً: وبناءً على ذلك؛ فإن استعمال لفظ (الشهيد) أو (الشهادة) - في أعرافنا - لمن قُتل في سبيل وطنه أو الحق أو الكلمة من غير المسلمين، أو لمن يقتل من المسلمين في غير سبيل الله صحيح وجائز، ما دام أريد به أنه شهيد في الدنيا، ولم يُرد به أنه شهيد في سبيل الله، أو أنه من أهل الجنة، أو أنه قتل في سبيل الله، لأن ذلك من الغيب الذي لا يعلم به إلا الله تعالى، ومن أخبره الله تعالى من الرسل والأنبياء، فقد كان أحد الصحابة يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرب واضحة الراية والهدف، ومع ذلك شهد الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه في النار، فقد روى مسلم في صحيحه (114) والترمذي (1574) وابن حبان في صحيحه (4857) وأحمد (11011)، بسندهم عن عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (فلان شهيد) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلا، إني رأيته في النار في بردة غلَّها، أو عباءة)" اهـ.

قلت: العُرف إذا تعارض مع الشرع فلا اعتبار له، والحديث الذي استشهد به الدكتور ينقض كل ما سبقه، فالصحابة وصفوا رجلاً قتل في المعركة وهو يقاتل تحت راية الإسلام، فوصفوه بالوصف الشرعي قائلين: (فلان شهيد)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلا" أي إنه ليس بشهيد، ولا يستحق هذا الوصف الشريف، معللاً ذلك بأنه غلَّ بردةً أو عباءةً مما غنمه المسلمون، فجعل هذه المعصية سبباً في رفع هذا الوصف عنه، لأنها تدل على أنه لم يكن يقاتل في سبيل الله، وإنما من أجل المغنم، ولم يرَ أي داع لاستخدام أية معانٍ لغوية أخرى لكلمة "شهيد"، تطييباً لخاطر أسرته أو عشيرته مثلاً! وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك، وأن يحرّف الوضع الشرعي للألفاظ، لاعتبارات أخرى كالعرف والمجاملة وغيرهما.

- وقال فضيلة الدكتور: "لذلك عندما يقتل شخص دفاعاً عن وطنه أو كرامته أو نفسه؛ فهو شهيد لهذا الغرض، فلو أطلق عليه شخص لفظ (الشهيد) بهذا الاعتبار لما خالف العقيدة ولا الكتاب ولا السنة، لأن الظاهر لا يقصد به أنه شهيد يدخل الجنة، أو في سبيل الله، لأن ذلك من علم الغيب، وعندئذ يجب أن يحمل كلام المؤمن على المحمل الصحيح المناسب مع عقيدته وواقعه، هذا هو منهج السلف الصالح، في حمل ما يصدر عن المسلم على المحمل الصحيح الحسن، حتى فيمن يظهر منه الكفر، فما ظنكم بالعالم، أو عامة المسلمين" اهـ.

قلت: يتضح من كلام الدكتور أن المقتولَ مسلم، لأنه قال في الفقرة التي تليها: "أما إطلاق هذا اللفظ (الشهيد) على غير المسلم"، ولا أدري ما فائدة ما جاء بعده والنص الذي أشار إليه الدكتور آنفاً يدل عليه في العموم، وهو حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون دِينه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد" (رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال: حسن صحيح)، وكذا حديث أبي هريرة المذكور آنفاً.

وجاء في زيادة عند النسائي وأحمد: "ومن قُتل دون مظلمته فهو شهيد"، قال الألباني بعد أن صحّح الزيادة في "صحيح الترغيب والترهيب" (2/159): "وهذا بإطلاقه يشمل الأنواع الأربعة المذكورة في الحديث الأول، وغيرها".

- وقال فضيلة الدكتور: "أما إطلاق هذا اللفظ (الشهيد) على غير المسلم؛ فليس فيه أية دلالة على أنه يراد به (في سبيل الله وأنه يدخل الجنة) فالكلمة - كما قلنا سابقاً - ليست كلمة عقدية، ولا مصطلحاً خاصاً له هذا المعنى فقط، بل هي شاملة - كما سبق - لذلك فلا مانع - حسب الأدلة الشرعية من إطلاق لفظ (الشهيد) على من قتل في سبيل قضيته العادلة (كالقدس) أو وطنه بحق، وعندئذ يراد به شهيد الوطن، أو شهيد القضية، أو شهيد الدفاع عن العرض والشرف ونحوهما، ولا يراد منه أنه شهيد يدخل الجنة، أو أنه في سبيل الله؛ لأن ذلك لا يعلمه إلا الله تعالى.

ولكن الأفضل في هذه الحالة أن يقال (شهيد الوطن) و(شهيد القضية) أو نحو ذلك" اهـ.

قلت: بينتُ سابقاً أن (الشهيد) مصطلح له دلالته الشرعية، وأنه يُطلق على المسلم، ويرتب الإسلام على ذلك أحكاماً دنيوية وأخروية، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إطلاقه على المسلم الذي غلّ عباءة من المغنم؛ فما بالك بإطلاقه على الكافر؟! وكما أن إطلاقه على ذاك المسلم يتعارض مع الدلالة الشرعية للمصطلح؛ فإنه إطلاقه على الكافر يتعارض معها أكثر وأكثر.

ولنا أن نسأل: هل يصح أن يلبِّس العالِمُ على عامة المسلمين، ويخلط الألفاظ الشرعية التي تعلموها من دينهم، بألفاظ إعلامية لا تغني قائلها ولا المقولة فيه عند الله شيئاً، فيقع المسلم العامي في اختلاط واضطراب، ويعيش ما يشبه الفصام، فهو من جهة تعلم أن للشهيد مكانة عالية عند الله سبحانه، وفي الوقت نفسه يرى العلماء يصفون الكافر الذي يشتم الله في الليل والنهار، ناسباً له الولد؛ بأنه شهيد، لمجرد أنه قُتل ظلماً، ثم بعد ذلك يُطالَبُ هذا العاميُّ بأن يُحسن الظن بالعلماء؟! ألم يكن الأجدر بالعالم أن يلتزم لغة الشرع، وألا يلبّس على العامة، وخصوصاً أنه قد يملك من البلاغة ما يستطيع أن يعبّر به عن عبارات الشكر والثناء لهذا الكافر الذي خدم قضايا المسلمين بشكل من الأشكال، ويعبِّر أيضاً عن عبارات التنديد بالمجرمين الذين قتلوه؟!

ولنا أن نسأل أيضاً: هل يجوز أن نصف الكافر بأنه مسلمٌ؟ لِمَ لا والإسلام لغة هو الانقياد والخضوع، وهذا الكافر انقاد لضميره، وخضع لوطنيته؟! ها هو قد اشترك مع المسلم في المعنى اللغوي للإسلام!

هل يجوز أن نصف الكافر بأنه مؤمن، وهو الذي آمن بعدالة القضية، وضحّى من أجلها؟!

هل يجوز أن نصفه بأنه صحابي جليل، وهو الذي كان صحب المسلمين في تقاريره الإعلامية، وكان عظيماً (جليلاً) في عمله، وفي أخلاقه، وفي مهنيته؟!

وهل يجوز أن نصفه بالموحِّد لأنه لم يتزوج سوى امرأة واحدة، ووصف "الموحِّد" ينطبق عليه لغة؟!

فإنْ قيل: إن ذلك لا يصح، فالإسلام والإيمان والصحبة والتوحيد مصطلحات شرعية لها دلالاتها الخاصة التي تترتب عليها أحكام في الدنيا والآخرة، فكذلك "الشهيد" هو مصطلح شرعي له دلالته الخاصة التي تترتب عليها أحكام في الدنيا والآخرة!

أما قول الدكتور: "ولا يراد منه أنه شهيد يدخل الجنة، أو أنه في سبيل الله؛ لأن ذلك لا يعلمه إلا الله تعالى"، فإنْ كان الوصف على سبيل الإجمال فإننا نعلم أن كل كافر يدخل النار، وإنْ كان الوصف على سبيل التعيين؛ فهذا ينطبق على المسلم والكافر، فنحن نحكم بالظاهر، ولا نجزم لأحد بعينه بجنة ولا بنار، إلا إذا دل دليل خاص على ذلك.

الترحم على غير المسلم


- وقال فضيلة الدكتور: "خامساً: أن استعمال لفظ الرحمة لغير المسلمين يحتاج فيه أيضاً إلى النظر في معنى الرحمة، أي تحرير اللفظ، وعندئذ يأتي الحكم.

فالرحمة في اللغة هي العطف والخير والنعمة، فهي تشمل الرحمة في الدنيا والآخرة".

قلت: سياق الحديث عن الرحمة لغير المسلمين، وهي في نظر الدكتور "تشمل الرحمة في الدنيا والآخرة" أي أن الدعاء للكافر بالرحمة في الآخرة يشمل "العطف والخير والنعمة".. وسأناقش ذلك لاحقاً.

- وقال فضيلة الدكتور: "وفي القرآن نجد أن الرحمة ومشتقاتها وردت فيها مئات المرات، وأن هذه الرحمة شاملة في الدنيا للمسلم والكافر، وبخاصة من مات مؤمناً، وأنها شاملة لغير المؤمنين في بعض الأمور، فمثلاً إن دعاء سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالشفاعة العظمى يوم القيامة، واستجابة الله له يشملان جميع الناس في المحشر، وهذا محل اتفاق بين العلماء، وأن هذا بلا شك جزء من الرحمة الإلهية".

قلت: ليست كل الرحمات شاملة للمسلم والكافر في الدنيا، "والله يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم"، فيرحم الله تعالى المؤمنين بهدايتهم وتثبيتهم والدفاع عنهم ومنحهم الطمأنينة والسعادة وغفران الذنوب عند التوبة والاستغفار، وهذا كله يُحرَمُ منه الكافر في الدنيا لأنه أعرض عن ذكر الله، وإذا انغمس في الضلالة فإن الرحمن يزيده منها، "قل مَن كان في الضلالة فليَمْدُد له الرحمن مداً"؟!

وقول الدكتور: "وأنها شاملة لغير المؤمنين في بعض الأمور" يُفهم منه أنه يقصد بذلك الكافر بعد موته، فقد قال بعدها: "فمثلاً إن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة العظمى يوم القيامة (وهي الشفاعة بتعجيل الحساب للفصل بين العباد)، واستجابة الله له يشملان جميع الناس في المحشر، وهذا محل اتفاق بين العلماء، وأن هذا بلا شك جزء من الرحمة الإلهية".

قلت: يحسن التنبيه إلى أن هذه الشفاعة تشمل جميع أهل المحشر، ولا تدخل في مسألة الدعاء بالرحمة لمن مات كافراً، لأنها مكتوبة مقررة، لا يقدِّمها الدعاء ولا يؤخِّرها، وما سوى ذلك مما قال فيه الدكتور "في بعض الأمور" يحتاج إلى تمثيل وتدليل!

تحقيق قول البيهقي في تخفيف عذاب الكافر


- وقال فضيلة الدكتور: "كما أن جماعة من الفقهاء، منهم الإمام الحافظ الفقيه البيهقي، يرون أن الأعمال الخيِّرة للكافر تنفعه في تخفيف عذابه، وليس في مغفرته، ويدل على ذلك دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لتخفيف العذاب عن أبي طالب، حيث روى البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هو - أي أبو طالب - في ضحضاح من النار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" رواه البخاري رقم (3883) مسلم (357)".

قلت: ها هنا تنبيهان:

الأول: أن قول الدكتور: "أن جماعة من الفقهاء، منهم الإمام الحافظ الفقيه البيهقي، يرون أن الأعمال الخيِّرة للكافر تنفعه في تخفيف عذابه، وليس في مغفرته" غير دقيق.

فقد أخرج البيهقي في "البعث والنشور" (ص406) برقم (572) حديث العباس بن عبدالمطلب قال: قلت: يا رسول الله! إن أبا طَالِبٍ كان يَحُوطُك ويَنصُرك، فهل نَفعَه ذلك؟ قال: "نَعَم، وجَدته في غَمَرَاتٍ مِن النَّار، فَأخرجته إلى ضَحْضَاحٍ" متفق عليه.

ثم قال رحمه الله: "حديث أبي طالب هذا صحيحٌ من جهة الرواية، فلا معنى لإنكار من أنكر صحّته، ووجهه عندي، والله أعلم: أنّ الشفاعة للكفار إنما امتنعت لورود خبر الصّادق بأنه لا يشفع فيهم أحدٌ، وقد ورد الخبر بذلك عاماً، فورد هذا عليه مورد الخاص على العام - وحمله بعض أهل النّظر على أن جزاء الكفر من العذاب يكون واصلاً إليه، إلا أن الله يضع عنه ألواناً من العذاب على جنايات جناها سوى الكفر - تطييباً لقلب النبي صلى الله عليه وسلم، وثواباً له في نفسه، لا لأبي طالب؛ لأن حسنات أبي طالب صارت بموته على كفره هباءً منثوراً، وقد ورد الخبر بأن ثواب الكافر على إحسانه يكون في الدّنيا".

قلت: يتبين من كلامه أنه يرى أن تخفيف عذاب أبي طالب خاصٌّ به، لأن الشفاعة للكفار امتنعت لورود خبر الصادق بأنه لا يشفع فيهم أحدٌ، "وقد ورد الخبر بذلك عاماً، فورد هذا عليه مورد الخاص على العام، وأن هذا التخصيص لم يأتِ لخصوصية أبي طالب، إنما جاء "تطييباً لقلب النبي صلى الله عليه وسلم". وفيه تأكيد البيهقي على أن حسنات أبي طالب صارت بموته على الكفر هباءً منثوراً مصداقاً لقوله تعالى: {وقدِمْنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباءً منثوراً} (الفرقان: 23)، وأن ثواب الكافر على إحسانه إنما كان في الدنيا كما جاء في الحديث.

ثم نسب البيهقيُّ إلى "بعض أهل النظر" في جملة معترضة - دون أن يسميَهم - القول بأن الله قد يضع عن بعض الكفار ألواناً من العذاب؛ على جنايات جَنَوها سوى الكفر.

ثم استشهد على القول الأول الذي رجّحه بحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل: "إن الله لا يظلمُ المؤمنَ حسنةً، يُثاب عليها الرزق في الدنيا، ويُجزى بها في الآخرة. وأما الكافر؛ فيُعطى بحسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة - أو إلى ربه تعالى - لم يكن له حسنةٌ يُعطى بها خيراً" رواه مسلم.

ثم قال رحمه الله: "ومن قال بالأول؛ زَعَم أنّ هذا أيضاً وَرد عَاماً، وخَبر أبي طالبٍ خاص".

ثم أخرج حديث عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله! إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويُطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال: "لا ينفعه؛ لأنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" رواه مسلم.

ثم قال رحمه الله: "وهذا لا ينفي تَخْصِيص أبي طالِب بِأنه يَنفعه ما صَنَع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في التَّخفيفِ عَنه مِن عَذَابِه، وقَد يجوز أن يكونَ الحَديث وما وَرَد مِن الآياتِ والأخبار في بطلان خَيراتِ الكَافِر إِذَا مَات عَلَى كُفرِه؛ وَرَدَ في أَنَّه لا يكون لها مَوْقِع التَّخلِيص مِنَ النَّار، وإِدخَال الجنة، لكن يُخَفَّف عَنه مِن عَذَابِه الذي يَسْتَوجِبه عَلى جِنايَات ارْتَكَبها سِوى الكُفر؛ بِمَا فَعَل مِن الخَيراتِ، والله أعلم. وقد ورد في معناه خبرٌ في إسناده نَظَرٌ".

قلت: إذن هو ما يزال على رأيه أن الشفاعة خاصةٌ بأبي طالب. ثم ذكر توجيه القائلين بالقول الثاني للحديث، وهو أن يكون ما ورد في بطلان خيرات الكافر إذا مات على كفره؛ ورَدَ في أنه لا يكون لها موقع التخليص من النار وإدخال الجنة، وعلى هذا القول فإن من الجائز تخفيف عذاب الكافر الذي يستوجبه على جنايات ارتكبها سوى الكفر؛ بما فعله من الخيرات.

ثم ساق برقم (575) الخبر الذي في قال إن في إسناده نظر، وهو ما رواه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا أَحْسَن مُحْسِنٌ مِن مُسْلمٍ ولا كَافِرٍ، إلا أَثَابَه الله عز وجل"، قال: فقلنا: يا رسول الله، ما إثَابةُ الله للكافر؟ قال: "إن كَان قَد وَصَل رَحِماً، أو تَصَدَّق بِصَدَقَةٍ، أو عَمِلَ حَسنةً؛ أَثَابَه اللهُ المَالَ والوَلَدَ والصِّحَةَ، وأَشْبَاهَ ذَلِك"، قال: فقلنا: وما إثَابَتُهُ في الآخِرَة؟ فقال: "عَذَاباً دُونَ العَذَابِ"، قال: وقَرأَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (غافر: 46).

وفي إسناده عتبة بن يقظان ضعيف الحديث، وفيه عامر بن مدرك الحارثي لين الحديث.

إلا أن البيهقي قوّى هذا الحديث بحديث آخر رواه البخاري، وهو حديث عُرْوَةُ بنُ الزُّبَير، أن زَينب بِنت أبي سَلَمة، وأُمُّها أُم سَلَمة أَخبرته، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَة بِنتَ أبي سُفيانَ أَخْبرتها أنها، قالت: قلت: يا رسول الله، فذكر الحَديثَ في عَرضِهَا عَليه نِكَاحَ أُخْتِها، ثُم نِكَاح دُرَّة بنتِ أبي سلمة، فقال: "واللهِ! لَو أَنها لَم تَكُن رَبِيبَتي في حِجْرِي ما حَلَّت لِي، إنها لَابْنَةُ أَخِي مِن الرَّضَاعة، أَرْضَعَتني، وأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلا تَعْرِضَنَّ عَلَي بَنَاتَكُنَّ، ولا أَخَواتِكُنَّ".

قال عُروةُ: وثُوَيْبَة مَولَاةُ أَبي لَهَبٍ، كان أَبو لَهَب أَعْتَقَها، فَأرْضَعَت رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا مَات أبو لَهَب، أُرِيَهُ بَعضُ أَهلِه في النَّوم بِشَرِّ حِيْبَةٍ، فقال له: مَاذا لَقِيت؟ فقال أبو لهب: لَم نَرَ بَعْدَكم رَجَاءً، غَير أَنِّي سُقِيت في هَذِه مِنِّي، بِعِتَاقَتِي ثُوَيْبَة - وأَشَارَ إلى النَّقِيرَة التي بَينَ الإِبهَامِ والتِي تَلِيها -.

ومع ذلك؛ فلم يذكر البيهقي ما يفيد تراجعه عن القول الأول، وهو أن الشفاعة للكفار ممتنعة، وأن حديث أبي طالب خاصٌّ به.

وقال البيهقي في "شعب الإيمان" (1/438 - 443) بعد أن قرر أن أعمال الكفار توزن عليهم يوم القيامة، ورجّح أن الكفار مخاطبون بالشرائع، ومسؤولون عنها، ومُجزَون على ما أخلّوا به منها: "واختلفوا في كيفية الوزن، فذهب ذاهبون إلى أن الكافر قد يكون منه صلة الأرحام، ومواساة الناس، ورحمة الضعيف، وإغاثة اللهفان، والدفع عن المظلوم، وعتق المملوك، ونحوُها مما لو كانت من المسلم لكانت براً وطاعة، فمَن كان له أمثالُ هذه الخيرات من الكفار؛ فإنها تُجمَع وتوضَع في ميزانه؛ لأن الله تعالى قال: "فلا تُظلَمُ نفسٌ شيئاً" (الأنبياء: 47)، فتأخُذ مِن ميزانه شيئاً، غيرَ أن الكفرَ إذا قابلها رَجَحَ بها، وقد حَرَّمَ الله الجنة على الكفار، فجزاءُ خيراته أن يخفَّفَ عنه العذابُ، فيُعذَّبُ عذاباً دون عذاب، كأنه لم يصنع شيئاً من هذه الخيرات".

ثم ساق دليل القائلين بهذا القول، وهو حديث العباس بن عبدالمطلب قال: قلت يا رسول الله! هل نفعتَ أبا طالبٍ بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: "نعم، هو في ضحضاح من النار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" رواه البخاري ومسلم.

ثم قال رحمه الله: "وذهب ذاهبون إلى أن خيرات الكافر لا توزن ليُجزى بها بتخفيف العذاب عنه، وإنما توزن قطعاً لحجته، حتى إذا قابلها الكفر رجح بها وأحبطها، أو لا توزن أصلاً، ولكن يوضع كفرُه أو كفره وسائر سيئاته في إحدى كفتيه، ثم يقال له: هل لك من طاعةٍ نضعها في الكفة الأخرى، فلا يجدها فيتثاقل الميزان فترتفع الكفة الفارغة، وتبقى الكفة المشغولة، فذلك خفة ميزانه، فأما خيراته فإنها لا تُحسب بشيءٍ منها مع الكفر، قال الله عز وجل: {وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباءً منثوراً} (الفرقان: 23).

وساق أدلة القائلين بهذا القول، وهي:

- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله! إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال: "لا ينفعه؛ لأنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين".

- وحديث عدي بن حاتم أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه، فقال: "إن أباك طلب أمراً فأدركه" يعني الذِّكْر.

- وحديث أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يظلم المؤمن حسنة؛ يُثاب عليها في الدنيا، ويُجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيُعطى بحسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة؛ لم يكن له حسنةٌ فيُعطى بها خيراً".

ثم قال رحمه الله: "مَن قال بالأول؛ زعم أن المراد بالآية والأخبار أنه لا يكون لحسنات الكافر موقع التخليص من النار، والإدخال في الجنة، وقد يجوز أن يخفَّف عنه من عذابه الذي استوجبه بسيئاته بما تقدم منه في الشرك من خيراته".

ثم استشهد لهذا القول بحديث عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أحسن من محسنٍ كافرٍ، أو مسلم؛ إلا أثابه الله عز وجل".

قلنا: يا رسول الله! وما إثابة الله الكافرَ؟

قال: "إنْ كان وصل رحماً، أو تصدق بصدقة، أو عمل حسنةً؛ أثابه الله تعالى، وإثابته إياه المال، والولد، والصحة، وأشباه ذلك".

قال: قلنا: وما إثابته في الآخرة؟

قال: "عذابٌ دون العذاب"، وقرأ: {أَدخِلوا آلَ فرعون أشدَّ العذاب} (غافر: 46).

ثم قال رحمه الله: "وهذا إنْ ثبت ففيه الحجة، وإن لم يثبت؛ لأن في إسناده مَن لا يحتج به، وحديث أبي طالبٍ صحيحٌ، ولا معنى لإنكار الحليمي رحمه الله الحديث، ولا أدري كيف ذهبَ عنه صحة ذلك، فقد روي من أوجهٍ عن عبدالملك بن عميرٍ، وروي من وجهٍ آخر صحيحٍ عن أبي سعيدٍ الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه، وقد أخرجه صاحبا الصحيح وغيرهما من الأئمة في كتبهم الصحاح.

وإنما يصحُّ لمن ذهب المذهب الثاني (يقصد الأول) في خيرات الكافر أن يقول: حديث أبي طالبٍ خاصٌّ في التخفيف عن عذابه بما صنع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، خُصَّ به أبو طالب لأجل النبي صلى الله عليه وسلم، تطييباً لقلبه، وثواباً له في نفسه لا لأبي طالب، فإن حسنات أبي طالب صارت بموته على كفره هباءً منثوراً.

ومثل هذا حديثُ عروة بن الزبير في إعتاق أبي لهبٍ ثويبة وإرضاعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهبٍ أُرِيَهُ بعضُ أهله في النوم بشرِّ خيبةٍ فقال له: ماذا لقيت؟ فقال أبو لهبٍ: لم يُرَ بعدكم رخاء، غير أني سقيت في هذه مني بعتاقتي ثويبة، وأشار إلى النقيرة التي بين الإبهام والتي تليها، وهذا أيضاً لأن الإحسان كان مرجعه إلى صاحب النبوة، فلم يضيَّع، والله أعلم".

ونخلص مما سبق؛ إلى أن الإمام البيهقي رحمه الله؛ لم يحسم موقفه من هذه المسألة في "شعب الإيمان"، وإنما ساق القولين، ودلَّل على كل قول بأحاديث رواها بإسناده، وعليه فلا نستطيع أن ننسب إليه قولاً آخر غير الذي رجّحه في "البعث والنشور" وهو أنه لا شفاعة لكافر، وأن تخفيف العذاب عن أبي طالب خاصٌّ به.

وعليه؛ تعلم أن نسبة الإمام ابن حجر في "الفتح" (9/145) هذا القول للبيهقي - وكذا فضيلة الدكتور - غير صحيحة.

"لكل درجات مما عملوا"

- وقال فضيلة الدكتور: "وقال أهل التفسير من المحققين في تفسير قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} (الأنعام: 132) إنه شامل للمسلمين وغيرهم، فلا التابع كالمتبوع، ولا الرئيس كالمرؤوس، كذلك لا يمكن أن يساوي بين المجرم المشرك المحارب الذي آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه أو المؤمنين؛ بغيره، فهذا من عدل الله تعالى".

قلت: تفاوت عذاب الكفار في الآخرة شيء، والقول بأن سبب هذا التفاوت أعمالهم الحسنة في الدنيا شيء آخر، والحق أنهم يتفاوتون بحسب محاربتهم للإسلام، وإجرامهم وظلمهم للعباد لما دلت عليه الأدلة السابق ذكرها في ثنيات هذا البحث، والتي تؤكد أن الكافر لا ينتفع بأعماله الحسنة، وأنه يجازى عليها في الدنيا، وأن أعمال الكفار يوم القيامة تغدو هباءً منثوراً..

ولا يُقال: إن امتناع الكافر عن محاربة الإسلام وظلم الخليقة عملٌ صالح يُثاب عليه؛ لأنه لم يدَع ذلك لله، وإخلاص النية لله شرط لقبول العمل، فهذا التفاوت ليس لامتناع كافر عن ذلك، إنما لإقدام كافر آخر عليه.

وقد نقل القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (1/597) الإجماع على أن "الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يُثابون عليها بنعيم ولا بتخفيف عذاب".

وأضاف - رحمه الله -: "لكنهم بإضافة بعضهم للكفر كبائر المعاصى، وأعمال الشر، وأذى المؤمنين، وقتل الأنبياء والصالحين؛ يزدادون عذاباً، كما قال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ...} الآيات، وكذلك الكافِر يُعذَّبُ بكفره، ثم يزداد إجرامه وإفساده في الأرض وعُتوّه، وكثير إحداثه في العباد والبلاد، فذاك يُعذَّبُ أشدَّ العذاب كما قيل في فرعون، ومن لم يكن بهذه السبيل عُذِّب بقدر كفره، فكان أخف عذاباً ممِّن عُذِّب أشد العذاب، فليس إذاً عذابُ أبي طالب كعذاب أبي جهل، وإن اجتمعا في الكفر، ولا عذاب عاقِر الناقة من قوم ثمود كعذاب غيره من قومه، ولا عذاب قتلة عيسى (يقصد من سعوا لقتله) ويحيى وزكريا وغيرهم من الأنبياء كغيرهم من الكفار، فبهذا تتوجه خِفَّةُ العذاب، لا أنه على المجازاة على أفعال الخير".

هل اختلف السلف في المسألة؟


ولكن ابن رجب الحنبلي قال في تفسيره: "هذا فيه قولان للسلفِ وغيرِهم"!

قال رحمه الله (2/535):
"وأما الكفار إذا كانَ لهم حسنات في الدنيا من العدلِ والإحسانِ إلى الخلقِ، فهل يخففُ عنهم بذلكَ من العذابِ في النارِ أم لا؟

هذا فيه قولان للسلفِ وغيرِهم:

أحدُهُما: أنه يخففُ عنهم بذلك أيضاً، ورَوى ابنُ لهيعةَ عن عطاءِ بنِ دينار عن سعيدِ بن جبيرٍ معنى هذا القولِ، واختارَهُ ابنُ جرير الطبريُّ وغيرُهُ".

واستشهد لهذا القول بثلاثة أحاديث ضعّفها، عدا حديث أبي طالب.

ثم قال رحمه الله: "القولُ الثاني: أن الكافرَ لا ينتفعُ في الآخرةِ بشيء من الحسناتِ بحالٍ.

ومن حجةِ أهلِ هذا القولِ قولُهُ تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً منثوراً)، وقولُهُ تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ)، ونحوُ هذه الآياتِ.

وفي صحيح مسلم عن أنس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ اللَّه لا يظلم مؤمناً حسنةً يعطَى بها في الدنيا وبجزى بها في الآخرةِ، وأمَّا الكافرُ فيطعَمُ بحسنات ما عملَ بها للهِ في الدُّنيا حتى إذا أفضَى إلى الآخرةِ لم تكنْ له حسنةٌ يُجزى بِهَا).

وفي روايةٍ له أيضاً: (إنَّ الكافرَ إذا عملَ حسنةً أطعمَ بها طعمةً في الدنيا، وأما المؤمن فإنَّ الله يدخرُ له حسناتِه في الآخرةِ، وبعقبُ له رزقاً في الدنيا على طاعتِهِ)" اهـ كلامه.

ويهمّنا قوله: "أحدُهُما: أنه يخففُ عنهم بذلك أيضاً، ورَوى ابنُ لهيعةَ عن عطاءِ بنِ دينار عن سعيدِ بن جبيرٍ معنى هذا القولِ، واختارَهُ ابنُ جرير الطبريُّ وغيرُهُ".

قلت: نسب ابن رجب هذا القول لبعض السلف، ولم يذكر منهم سوى سعيد بن جبير، وما نسبه إليه ليس صريحاً، فهو يشير إلى أن ما روي عنه هو "معنى هذا القول"، لا نصّه!

وقد استعرضت ما نقله عطاء عن ابن جبير في "تفسير ابن أبي حاتم"، وهو الذي يكثر من النقل عنه، فلم أجد نصاً صريحاً بأن الله يخفف العذاب عن الكفار بأعمالهم الحسنة.

أما الطبري رحمه الله؛ فذكر في تفسير قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} (الزلزلة: 7-8) قولين:

الأول: أن المؤمن والكافر يرون أعمالهم يوم القيامة، فأما المؤمن فتُغفر له سيئاته، وأما الكافر فتُرد عليه حسناته، ويُعذَّبُ بسيئاته.

الثاني: أن المؤمن تُعجل له عقوبة سيئاته في الدنيا، ويؤخَّر له ثواب حسناته، والكافرُ يعجَّل له ثواب حسناته، وتؤخَّر له عقوبة سيئاته.

ثم سرد عدداً من الأحاديث والأخبار التي تدل على هذا القول، ثم قال (24/553): "فهذه الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ تُنبئ عن أن المؤمن إنما يرى عقوبة سيئاته في الدنيا، وثواب حسناته في الآخرة، وأن الكافر يرى ثواب حسناته في الدنيا، وعقوبة سيئاته في الآخرة، وأن الكافر لا ينفعه في الآخرة ما سلف له من إحسان في الدنيا مع كُفره".

وهذا صريحٌ من كلام الطبري، وهو يدل على وهم ابن رجب في نسبة هذا القول له، ويرجِّح أنه وهم أيضاً بنسبته لسعيد بن جبير رحمه الله.

ولكن البلية الأكبر هي في الربط بين هذه المسألة وبين مسألة الترحم على الكافر، والإيهام بأن كل قائلٍ بجواز تخفيف العذاب عن الكفار بأعمالهم الخيّرة يقول بجواز الترحم على الكافر، أو الاستغفار له عن ذنوبه دون الشرك. وهذا الإيهام يتعارض مع الأمانة العلمية بشكل صارخ، إذ لا تلازم بين القولين، فلا يستلزم من اعتقادي أو ترجيحي أن الكافر يخفف عنهم العذاب ببعض الأعمال؛ أن أستغفر له أو أترحم عليه، وقد جاء النهي صريحاً عن ذلك؟ ولكن المخالفين حينما لم يجدوا نصوصاً صريحة لدى العلماء بجواز الترحّم؛ ذهبوا إلى هذه المسألة ليوهموا العامة أن القائلين بها قائلون بإباحة الترحم، وفي ذلك خلطٌ كبير، ونقضٌ لأصول البحث العلمي.. والله المستعان.

التفريق بين الدعاء بالمغفرة والدعاء بالرحمة!


قال فضيلة الدكتور: "الخلاصة: إن بعض العلماء فرّقوا بين الدعاء بالمغفرة للكافر، وبين الدعاء بالرحمة، فاتفقوا على منع الأول، واختلفوا في الثاني، فأجاز بعضهم ذلك وبينوا بأن آية {إن الله لا يغفرُ أن يُشرَكَ به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48) تدل على التفرقة بين الشرك وغيره، وذكروا أنها أخص من دعوى مطلق الدعاء للكافر، وأن الذي لا يجوز هو الدعاء بالمغفرة على جريمة الشرك والكفر، وأما ما عدا ذلك فآخر الآية قد تدل على إمكانيته إن شاء الله تعالى.

والخلاصة أن الدعاء بالرحمة العامة التي وسعت كل شيء؛ لا تدخل ضمن الدعاء المنهي عنه في نصوص كثيرة" اهـ.

قلت: أولاً: من هم هؤلاء العلماء؟ ولماذا يوهم القارئ بأنها مسألة خلافية بين أهل العلم، مع الربط بينها وبين ما نُسب للإمام البيهقي؟!

إنه لا يُعلم أحدٌ فرّق بين الدعاء بالمغفرة للكافر، وبين الدعاء بالرحمة؛ قبل فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي. وأما أول من قال بالدعاء بالمغفرة والرحمة لمن مات على الكفر - فيما أعلم -؛ فهو الإمام شهاب الدين القليوبي الشافعي (ت 1069هـ)، حيث قال في حاشيته على "منهاج الطالبين" للنووي (315/1) ما نصه: "يجوز إجابة دعاء الكافر، ويجوز الدعاء له ولو بالمغفرة والرحمة، خلافاً لما في (الأذكار)، إلا مغفرة ذنب الكفر مع موته على الكفر فلا يجوز".

وهذا يعني أنه يجوز - عنده - الدعاء للكافر بالرحمة والمغفرة من الذنوب إلا ذنب الكفر، حتى لو مات على ذلك.

وقال ما هو أصرح من ذلك، فقد قال الإمام النووي في المنهاج: "ولو اختلط مسلمون بكفار؛ وجب غَسلُ الجميع والصلاة، فإنْ شاء صلى على الجميع بقصد المسلمين، وهو الأفضل والمنصوص، أو على واحدٍ فواحدٍ ناوياً الصلاة عليه إنْ كان مسلماً، ويقول: (اللهم اغفر له إنْ كان مسلماً)".

فعقّب القليوبي بالقول: "(قوله اغفر له إنْ كان مسلماً) فيه نظر؛ لأن الدعاء للكافر بالمغفرة جائز... إلخ".

وهو بيِّنٌ صريحٌ بأنه يقصد الكافر بعد موته، وهو قول شاذٌّ بلا ريب، والقول الشاذ حقيقٌ بأن يُهدَر.

والدكتور القرة داغي نفسه، في تتمة كلامه لا يقرر وجهاً لهذا التفريق، بل إنه عاد لينسب إلى هؤلاء العلماء القول بأن "الذي لا يجوز هو الدعاء بالمغفرة على جريمة الشرك والكفر"، ومع ذلك سنناقش القولين كلٌّ على حدة، مع أنهما في الحقيقة قول واحد!

ويحسن قبل مناقشة هذين القولين؛ أن أنقل كلاماً لأحد علماء الشافعية، وهو محمد سليمان الكردي (ت1194هـ)، قال - رحمه الله - في فتاويه (ص87): "وقد سمعت من شيخي المرحوم الشيخ يوسف الكردي، نقلاً عن مشائخه أو بعضهم، أن الشهاب القليوبي إذا خالف غيره لا يُعتمد على كلامه. وعلّله بأن الشيخ القليوبي كان له ذهنٌ وفهمٌ جيد، فربما يردُّ كلامَ غيره بفهمه، والفقهُ نقلٌ يجبُ اتباعُ ما نصُّوا عليه، سواء ظهَرَ وجهُه أم لا، كما نبّهوا عليه". اهـ.

مناقشة القول الأول: النهي عن الاستغفار وليس الترحم


يقول الله تعالى: {ما كان للنبيِّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم. وما كان استغفارُ إبراهيمَ لأبيه إلا عن موعدةٍ وعدَها إياه، فلمّا تبيَّن له أنه عدوٌّ لله تبرّأ منه، إن إبراهيم لأواهٌ حليم} (التوبة: 113-114).

قال الإمام الطبري في تفسيره: "يقول تعالى ذكره: ما كان ينبغي للنبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا به (أن يستغفروا) يقول: أن يدعوا بالمغفرة للمشركين، ولو كان المشركون الذين يستغفرون لهم (أولي قربى)، ذوي قرابة لهم (من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم)، يقول: من بعد ما ماتوا على شركهم بالله وعبادة الأوثان، وتبين لهم أنهم من أهل النار، لأن الله قد قضى أن لا يغفر لمشرك، فلا ينبغي لهم أن يسألوا ربهم أن يفعل ما قد علموا أنه لا يفعله.

فإن قالوا: فإن إبراهيم قد استغفر لأبيه وهو مشرك؟ فلم يكن استغفارُ إبراهيم لأبيه إلا لموعدة وعدها إياه. فلما تبين له وعلم أنه لله عدوٌّ، خلاه وتركه، وترك الاستغفار له، وآثر الله وأمرَه عليه، فتبرأ منه حين تبين له أمره".

ثم قال: "واختلف أهل التأويل في السبب الذي نزلت هذه الآية فيه:

فقال بعضهم: نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر له بعد موته، فنهاه الله عن ذلك...

وقال آخرون: بل نزلت في سبب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه أراد أن يستغفر لها؛ فمُنع من ذلك...

وقال آخرون: بل نزلت من أجل أن قوما من أهل الإيمان كانوا يستغفرون لموتاهم من المشركين، فنُهوا عن ذلك...

ثم قال: "وقد تأول قوم قول الله: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى..} الآية، أن النهي من الله عن الاستغفار للمشركين بعد مماتهم، لقوله: {من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم}، وقالوا: ذلك لا يتبيّنه أحدٌ إلا بأن يموت على كفره، وأما هو حي فلا سبيل إلى علم ذلك، فللمؤمنين أن يستغفروا لهم...

وتأول آخرون الاستغفار في هذا الموضوع بمعنى الصلاة...

وتأوله آخرون بمعنى الاستغفار الذي هو دعاء...

ثم قال الطبري: "وقد دللنا على أن معنى الاستغفار: مسألةُ العبدِ ربَّهُ غَفْرَ الذنوب؛ وإذ كان ذلك كذلك، وكانت مسألةُ العبدِ ربَّه ذلك قد تكون في الصلاة وفي غير الصلاة؛ لم يكن أحد القولين اللذين ذكرنا فاسداً؛ لأن الله عمَّ بالنهي عن الاستغفار للمشرك بعدما تبين له أنه من أصحاب الجحيم، ولم يخصص من ذلك حالاً أباح فيها الاستغفار له. وأما قوله: (من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) فإن معناه: ما قد بينت من أنه من بعد ما يعلمون بموته كافراً أنه من أهل النار" اهـ.

خلاصة ما مضى؛ أن الآية تنهى عن الدعاء للمشركين بأن يغفر الله ذنوبهم، وبغض النظر عن السبب الذي نزلت من أجله الآية؛ فإن جميع الأسباب المذكورة آنفاً تلتقي على المعنى ذاته. وأما القول بجواز الاستغفار للكفار قبل موتهم فمسألة أخرى ليس مدار بحثنا.

وأما القول بأن الاستغفار غير الترحم، وأن النهي عن الأول لا يشمل الثاني؛ وأن الاستغفار يعني طلب مغفرة الذنوب، وأما الترحم أو الاسترحام فيعني طلب تخفيف العذاب، فهذا من أعجب العجب، إذ إن الكافر يعذَّب بذنوبه - وأعظمها الشرك -، وطلب تخفيف العذاب هو في حقيقته طلبٌ لغفران بعض الذنوب التي استحق الكافر بها العذاب.

قال ابن منظور في "لسان العرب" (5/26): "غفر: الغَفُورُ الغَفّارُ، جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَهُمَا مِنْ أَبنية الْمُبَالَغَةِ وَمَعْنَاهُمَا السَّاتِرُ لِذُنُوبِ عِبَادِهِ الْمُتَجَاوِزُ عَنْ خَطَايَاهُمْ وَذُنُوبِهِمْ".

وقال (12/231): "رحم: الرَّحْمة: الرِّقَّةُ والتَّعَطُّفُ، والمرْحَمَةُ مِثْلُهُ، وَقَدْ رَحِمْتُهُ وتَرَحَّمْتُ عَلَيْهِ. وتَراحَمَ القومُ: رَحِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً. والرَّحْمَةُ: الْمَغْفِرَةُ".

فعرّف الرحمة بالمغفرة لما بينهما من تلازم، وهذا التلازم دلَّ عليه كتاب الله تعالى في عشرات - أو مئات - الآيات، ومنها:

قوله تعالى: "لولا تستغفرون الله لعلّكم تُرحمون" (النمل: 46).

وقوله تعالى: "قال ربِّ اغفر لي ولأخي وأدخِلْنا في رحمتك" (الأعراف: 151).

وقوله تعالى: "لَمَغفرةٌ من الله ورحمةٌ خيرٌ مما يجمعون" (آل عمران: 157).

وقوله تعالى: "سيُدخلُهم اللهُ في رحمته إن الله غفور رحيم" (التوبة: 99).

وقوله تعالى: "وقل ربِّ اغفرْ وارحَمْ وأنت الراحمين" (المؤمنون: 118).

وقوله تعالى: "ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءُوك فاستغفروا اللهَ واستغفرَ لهم الرسولُ لوَجَدوا الله تواباً رحيما" (النساء: 64).

وقوله تعالى: "قل يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم" (الزمر: 53).

وقوله تعالى: "قال سأستغفرُ لكم ربي إنه هو الغفورُ الرحيم" (يوسف: 98).

وقوله تعالى: "أولئك يرجون رحمتَ الله، والله غفور رحيم" (البقرة: 218).

وقوله تعالى: "وإلا تغفرْ لي وترحمْني أكُنْ من الخاسرين" (هود: 47).

وقوله تعالى: "إن النفس لأمَّارةٌ بالسُّوء إلا ما رحمَ ربي إن ربي غفورٌ رحيم" (يوسف: 53).

وقوله تعالى: "فأْذَنْ لمن شئتَ منهم، واستغفر لهم الله، إن الله غفورٌ رحيم" (النور: 62).

وقوله تعالى: "أولئك يرجون رحمةَ الله، والله غفورٌ رحيم" (البقرة: 218).

وقوله تعالى: "ويغفرْ لكم ذنوبَكم، والله غفورٌ رحيم" (آل عمران: 31).

وقوله تعالى: "وربُّك الغفور ذو الرحمة" (الأنعام: 133) و(الكهف: 58).

وقوله تعالى: "ومَن يعملْ سوءاً أو يظلمْ نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً" (النساء: 110).

ولو أردنا أن نتابع سرد الآيات بهذا المعنى؛ لطال بنا المقام!

ولِما سبق؛ قال النووي في "الأذكار" (ص364-365): "يحرمُ أن يُدعى بالمغفرة ونحوها لمن مات كافراً، قال الله تعالى: {ما كانَ لِلنَّبيّ والَّذينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لهم أنهم أصْحابُ الجَحِيمِ} (التوبة: 113، وقد جاء الحديث بمعناه، والمسلمون مُجْمِعون عليه".

فقوله: "ونحوها" لا شك أنه يشمل الدعاء بالرحمة.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "جامع المسائل (3/33): "فأما الكافر فيُزَار قبرُه ليُذكر الموت، ولا يجوز الاستغفارُ له ولا الدعاءُ له بالرحمة ونحو ذلك".

وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (4/ 315): "ولولا ما نهانا الله عنه من الاستغفار للمشركين؛ لاستغفرنا لأبي طالب وترحَّمنا عليه".

وقال أبو الحسين العمراني الشافعي (ت558هـ) في "البيان في مذهب الإمام الشافعي" (3/25): "ومن المعروف غسله إذا مات، ويخالف الصلاة، فإن القصد بها ‌الترحم ‌عليه، والترحم عليه لا يجوز، والقصد بالغسل التنظيف، وذلك يحصل بغسله".

وقال أبو الأستاذ المودودي رحمه الله في "تفهيم القرآن" (2/241) - كما جاء في "جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية" (2/575) -: "إن الاستغفار لأي شخص مذنب يتضمن لأمرين: أن للمستغفر شفقة ورحمة ومحبة لهذا المذنب، وأن ذنبه قابل للمغفرة. وهذان الأمران لا يتحققان إلا في عبد وفى بتوحيد الله ولكنه ارتكب ذنبا دون الشرك".

ولذلك أيضاً؛ استثنى أهل العلم الأبوين الكافرين من قوله تعالى: "وقل ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيراً"، بدليل قوله تعالى: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى".

قال الإمام الرازي في تفسيره (20/ 327):

"اختلف المفسّرون في هذه الآية على ثلاثة أقوال:

القول الأوّل: أنّها منسوخةٌ بقوله تعالى: {ما كان للنّبيّ والّذين آمنوا ‌أن ‌يستغفروا ‌للمشركين}، فلا ينبغي للمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين، ولا يقول: ربّ ارحمهما.

والقول الثّاني: أن هذه الآية غير منسوخة، ولكنها مخصوصةٌ في حقّ المشركين، وهذا أولى من القول الأوّل؛ لأنّ التّخصيص أولى من النّسخ.

والقول الثالث: أنه لا نسخ ولا تخصيص؛ لأن الوالدين إذا كانا كافرين فله أن يدعو لهما بالهداية والإرشاد، وأن يطلب الرّحمة لهما بعد حصول الإيمان".

وعلى الأقوال الثلاثة؛ يحرم الدعاء بالرحمة للوالدين بعد موتهما، للنهي عن الاستغفار للمشركين.. فتأمل!

ونقل الإمام الطبري القول بالنسخ عن ابن عباس، وعكرمة، ثم قال: "وقد تحتمل هذه الآية أن تكون - وإنْ كان ظاهرها عاماً في كلّ الآباء - بغير معنى النسخ، بأن يكون تأويلها على الخصوص، فيكون معنى الكلام: وقل ربّ ارحمهما إذا كانا مؤمنين، كما رَبياني صغيرا، فتكون مرادا بها الخصوص على ما قلنا غير منسوخ منها شيء".

مناقشة القول الثاني: جواز الدعاء بالمغفرة للكافر ما سوى الشرك والكفر

استشهد الدكتور بقوله تعالى: {إن الله لا يغفرُ أن يُشرَكَ به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48) على "التفرقة بين الشرك وغيره" في الدعاء لغير المسلم، وأن الذي "لا يجوز هو الدعاء بالمغفرة على جريمة الشرك والكفر، وأما ما عدى ذلك فآخر الآية قد يدل على إمكانيته إن شاء الله" وفق قوله.

قلت: أولاً: الآية لم تتحدث عن الدعاء البتة، فلو وافقنا تنزلاً على أن المقصود منها غفران ذنوب المشرك دون الشرك؛ فهذا لا يعني جواز الدعاء للمشرك بعد موته بأن يغفر الله ذنبه، إذ النهي عن ذلك متقرر في الشريعة كما بينّا آنفاً.

ثانياً: غاية ما تدل عليه الآية أن الله قد يغفر للعبد كل شيء إلا إذا أشرك بالله، فإنْ فعل ذلك حبط عمله، ولم يستحق مغفرة الذنوب، فالله لا يغفر لمن ليس أهلاً للمغفرة. قال الإمام الرازي في تفسيره هذه الآية (10/99): "(بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ)، ثم إنا نعلمُ أنه تعالى لا يزكّي إلا مَن كان أهلاً للتزكية، وإلا كان كذباً، والكذبُ على الله مُحال، فكذا هاهنا"، أي أن الله لا يغفر إلا لمن كان أهلاً للمغفرة.

والمشرك ليس أهلاً لهذه المغفرة بأدلة كثيرة، منها:


- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} ﴿النساء: 168﴾.

قال القرطبي رحمه الله: "أي ظلموا محمداً بكتمان نعته، وأنفسهم إذ كفروا، والناس إذ كتموهم؛ (لم يكن الله ليغفر لهم) هذا فيمن يموت على كفره ولم يتب".

- وقوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة: 80).

قال الطبري رحمه الله: "يقول: إنْ تسأل لهم أن تُستر عليهم ذنوبهم بالعفو منه لهم عنها، وترك فضيحتهم بها، فلن يستر الله عليهم، ولن يعفو لهم عنها، ولكنه يفضحهم بها على رؤوس الأشهاد يوم القيامة، (ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله) يقول - جل ثناؤه -: هذا الفعل من الله بهم - وهو ترك عفوه لهم عن ذنوبهم - من أجل أنهم جحدوا توحيد الله ورسالة رسوله".

وقوله تعالى: "يا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ (الأحقاف: 31﴾.

قال الطبري رحمه الله: "أجيبوا رسول الله محمداً إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله (وآمنوا به) يقول: وصدقوه فيما جاءكم به وقومه من أمر الله ونهيه، وغير ذلك مما دعاكم إلى التصديق به (يغفر لكم) يقول: يتغمد لكم ربكم من ذنوبكم فيسترها لكم ولا يفضحكم بها في الآخرة بعقوبته إياكم عليها.

- وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} (محمد: 34).

قال ابن كثير رحمه الله: هذا "كقوله {إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}".

- وقوله تعالى: {أولئكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} ﴿175 البقرة﴾.

قال القرطبي رحمه الله: "ولمّا كان العذاب تابعاً للضلالة، وكانت المغفرة تابعة للهدى الذي اطرحوه؛ دَخَلا في تجوز الشراء".

وغيرها من الآيات التي جاءت عامةً صريحةً في الذنوب كلها، الشرك وغيره، ولا يوجد ما يخصصها سوى فهمٍ سقيمٍ لقوله تعالى: "ويغفرُ ما دون ذلك لمن يشاء".

والآيات تقرر أيضاً أن الكافر لا يستحق مغفرة ذنوبه - وهذا يشمل جميع أصناف الذنوب -، إنما يستحق العذاب ، و"طلب الغفران لهم جارٍ مجرى طلبِ أن يُخلِفَ الله وعدَه ووعيدَه" كما قال الإمام الرازي في تفسيره (16/158).

ثم خلص الدكتور إلى القول: "والخلاصة أن الدعاء بالرحمة العامة التي وسعت كل شيء؛ لا تدخل ضمن الدعاء المنهي عنه في نصوص كثيرة".

وهو يشير في ذلك إلى قوله تعالى: "قال عذابي أصيبُ به من أشاء، ورحمتي وسعت كل شيء" (الأعراف: 156)، وهي محاولة لتسويغ الدعاء لغير المسلم إذا مات بالرحمة، وأن المقصود بذلك الرحمة العامة الواردة في هذه الآية، وعلى ذلك ملحظان:

الأول: أن الدعاء بالرحمة للكافر منهي عنه، فسعة رحمة الله تعالى شيء، والدعاء للكافر شيء آخر، ولا يجوز ضرب الآيات بعضها ببعض بهذه الطريقة.

الثاني: لم يقل أحدٌ من علماء التفسير - فيما نعلم - بما قاله الدكتور حفظه الله، وهذه بعض عباراتهم:

قال الإمام البغوي في تفسيره: "عمَّت كل شيء، قال الحسن وقتادة: وسِعَت رحمته في الدنيا البرَّ والفاجر، وهي يوم القيامة للمتقين خاصة. وقال عطية العوفي: وسعت كل شيء، ولكن لا تجب إلا للذين يتقون، وذلك أن الكافر يُرزق، ويُدفع عنه بالمؤمنين لسعة رحمة الله للمؤمنين، فيعيش فيها، فإذا صار إلى الآخرة وجبت للمؤمنين خاصةً، كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السراج بسراجه".

وقال الزمخشري في "كشافه": "وأمّا رَحْمَتِي؛ فمن حالها وصفتها أنها واسعة تبلغ كلَّ شيء، ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلبٌ في نعمتي... فسأكتب هذه الرحمة كتبة خاصة منكم يا بنى إسرائيل للذين يكونون في آخر الزمان من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، الذين هم بجميع آياتنا وكتبنا يؤمنون، لا يكفرون بشيء منها، الَّذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ الذي نوحى إليه كتاباً مختصاً به وهو القرآن".

وقال ابن عطية الأندلسي في "المحرر الوجيز" (2/461): "ثم وصف الله تعالى رحمته بأنها (وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)، فقال بعض العلماء: هو عموم في الرحمة، وخصوص في قوله (كُلَّ شَيْءٍ) والمراد من قد سبق في علم الله أن يرحمه دون من سواهم.

وقال بعضهم: هو عموم في رحمة الدنيا؛ لأن الكافر والمؤمن والحيوان كلهم متقلب في رحمة الله الدنيوية.

وقالت فرقة: قوله: (وَرَحْمَتِي) يُراد به التوبة، وهي خاصة على هذا في الرحمة وفي الأشياء؛ لأن المراد مَن قد تقع منه التوبة".

وعن القول الأول الذي ذكره ابن عطية؛ قال الإمام الطبري: "قال بعضهم: مخرَجُه عامٌّ، ومعناه خاص. والمراد به: ورحمتي وَسِعت المؤمنين بي من أمة محمّدٍ صلى الله عليه وسلم. واستشهد بالذي بعده من الكلام، وهو قوله: (فسأكتبها للذين يتقون...) الآية"، ونسب هذا القول إلى ابن عباس، وأبي بكر الهذلي، وابن جريج، وقتادة.

وقال الإمام الرازي في "تفسيره الكبير" (15/379): "(ورحمتي وَسِعَت كل شيء) هو أن رحمته في الدنيا عمت الكل، وأما في الآخرة فهي مختصةٌ بالمؤمنين، وإليه الإشارة بقوله: فسأكتبها للذين يتقون. وقيل: الوجود خيرٌ من العدم، وعلى هذا التقدير فلا موجودَ إلا وقد وَصَل إليه رحمته، وأقل المراتب وجوده... وقال أصحابنا: قوله: (ورحمتي وسعت كل شيء) من العام الذي أريد به الخاص، كقوله: وأوتيت من كل شيء".

وكان فضيلة الدكتور القره داغي حفظه الله، قد قال في تغريدة على موقع "تويتر" بتاريخ 13/1/2022 مفسراً قوله تعالى: {ورحمتي وسعت كلَّ شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} بقوله: "أي: رحمتي تعم وتشمل، فسأكرمُ بها عبادي المؤمنين الذين يتركون الشرك والمعاصي، ويخافون يوم الحساب، ويخشون عقوبة الله"!

أضف إلى ما سبق؛ أن ثمة آيات تؤكد أن الكفار لا رحمة لهم في الآخرة (سوى ما ذكرنا سابقاً من شمولهم بالشفاعة العظمى، وهي الشفاعة ببدء الحساب)، وأن الله تعالى لا يخفف عنهم العذاب، منها:

قوله تعالى: {والَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} ﴿العنكبوت: 23﴾.

قال ابن كثير في تفسيره (6/271): "أي لا نصيبَ لهم فيها".

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} (البقرة: 161-162).

قال الإمام الطبري في تفسيره (3/264): "وأما قوله: (لا يخفّف عنهم العذاب)؛ فإنه خبرٌ من الله تعالى ذِكْرُه عن دَوَام العذاب أبداً من غير توقيت ولا تخفيف، كما قال تعالى ذكره: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} (فاطر: 36)، وكما قال: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} (النساء: 56)".

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (آل عمران: 77)

قال الإمام الرازي في تفسيره (8/266): "فالمعنى: لا نصيب لهم في خير الآخرة ونعيمها. واعلم أن هذا العموم مشروطٌ بإجماع الأمة بعدم التوبة، فإنه إن تاب عنها سقط الوعيد بالإجماع، وعلى مذهبنا مشروطٌ أيضاً بعدم العفو، فإنه تعالى قال: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48)".

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أجمَعينَ} (البقرة: 161).

قال الإمام الطبري في تفسيره (3/261): "يعني تعالى ذكره بقوله: (إنّ الذين كفروا)، إن الذين جَحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكذبوا به من اليهود والنصارى وسائر أهل الملل، والمشركين من عَبدة الأوثان، (وماتوا وهم كفار) يعني: وماتوا وهم على جُحودهم ذلك، وتكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم، (أولئك عَليهم لَعنةُ الله والملائكة)، يعني: فأولئك ‌الذين ‌كفروا ‌وماتوا ‌وهم ‌كفار عليهم لعنة الله، يقول: أبعدهم الله وأسحقهم من رحمته، (والملائكة)، يعني: ولَعنهم الملائكةُ، والناس أجمعون. ولعنة الملائكة والناس إياهم قولهم: عليهم لعنة الله" اهـ.

وعليه؛ فإن التفريق بين الدعاء للكافر بالمغفرة من الشرك، والدعاء له بالمغفرة من الذنوب الأخرى؛ قولٌ شاذ لا أصل له في أحكام الشريعة الإسلامية.


 

بحوث علمية
  • بحوث في التوحيد
  • بحوث فقهية
  • بحوث حديثية
  • بحوث في التفسير
  • بحوث في اللغة
  • بحوث متفرقة
  • الصفحة الرئيسية