اطبع هذه الصفحة


سلطة ولي الأمر في المال العام

د. خالد بن محمد الماجد


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم إلى يوم الدين، أما بعد:

المقصود بهذا بيان الحق الذي جعله الشرع لولي الأمر في المال العام.
وهذا ما يتطلب بحث مسألتين:
المسألة الأولى: مالك المال العام.
المسألة الثانية: وظيفة ولي الأمر في المال العام.

المسألة الأولى: مالك المال العام
اتفق الفقهاء على أن مالك المال العام هم المسلمون – مسلمو الدولة الإسلامية – وأنه لا يختص به أحد دون أحد، وأن ولي الأمر ليس بمالك للمال العام، وأنه فيه بمنزلة أحد الرعية، سوى ما له من حق الأخذ منه قدر كفايته ومن يعول، وحق التصرف فيه بالمصلحة.
ولما كان ما وقفت عليه من كلام الفقهاء في هذا الصدد ليس على درجة واحدة في بيان ذلك، إذ منهم من صرح ومنهم من ألمح، رأيت أن أصنف ما جمعت تحت نقاط؛ ليتضح منزع القول بالاتفاق، على النحو الآتي:
أولاً: النص على أن المال العام ملك المسلمين، وليس ملك ولي الأمر، قال ابن قدامة: مال بيت المال مملوك للمسلمين(1)، وقال السرخسي: ولا شيء لأهل الذمة في بيت المال.. لأنه مال المسلمين، فلا يصرف إلى غيرهم(2) وقال أبو عبيد: ومال بيت المال ليس مال الخليفة بل فيء الله(3)، وقال الشوكاني: بيت المال هو بيت مال المسلمين، وهم المستحقون له(4).

ثانياً: النص على مصرف المال العام مصالح المسلمين. قال ابن رجب: الخراج والجزية تصرف في المصالح العامة(5) وقال الكشناوي: المأخوذ بغير إيجاف... كالخمس والخراج.. يأخذ الإمام كفايته بالمعروف ويصرف الباقي بالاجتهاد في مصالح المسلمين(6).
فإذا كان مصرفه مصالحهم، كان ملكهم، إذ المال يصرف عادة في مصالح المالك لا مصالح غيره.
ثالثاً: القول بأنه إنما يجب لولي الأمر من المال العام كفايته، وكفاية من يعول(7)، وما زاد على ذلك فحرام عليه استئثاره به دون المسلمين، فإن فعل كان غلولاً؛ فعن المستورد بن شداد الفهري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً، قال أبو بكر: أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اتخذ غير ذلك فهو غال، أو سارق(8). فلو كان ولي الأمر يملك المال العام لما حرم أن يأخذ منه ما زاد على كفايته.

رابعاً: النص على أن ولي الأمر لا يملك ما أهدي إليه في حال كونه ولي أمر المسلمين، بل يكون فيئاً؛ لأنه إنما أهدي إليه من أجل مكانه من المسلمين، لا من أجل شخصه، فلم يكن أولى بالهدية(9) منهم، واحتجوا بحديث أبي حميد الساعدي في قصة ابن اللتبية حيث أنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه أخذ ما أهدي إليه بسبب ولايته، وعدَّه غلولاً(10).
فإذا لم يملك ولي الأمر ما خصه به المهدي فأولى ألا يملك غيره من المال العام.
خامساً: فرق الفقهاء بين جناية ولي الأمر المتعدية وغير المتعدية، فجعلوا ضمان المتعدية على العاقلة، وغير المتعدية على بيت المال(11). فلو كان المال العام ملك ولي الأمر لكان ضمان الجناية على بيت المال في الحالين.
سادساً: ميَّز الفقهاء بين المال العام وبين مال ولي الأمر الخاص به، فأجازوا له التصرف في ماله بما شاء، فله أن يعطي ويمنع، كما يشاء، وأجازوا له التصرف في ماله بغير الأصلح، كما يجوز لغيره، بخلاف المال العام، فلم يبيحوا له التصرف فيه وفق مشيئته، بل أوجبوا عليه فعل الأصلح، فدل ذلك على عدم ملكه المال العام؛ لأنه لو كان كذلك لكان حكمه حكم ماله الخاص(12).

سابعاً: حكم الفقهاء برد تصرف ولي الأمر في المال العام إذا خالف فيه الحق، فوضعه في مصارف غير مشروعة، قال الشافعي – بعد ذكره ما يجب على ولي الأمر فعله في أرض العنوة-: وكل ما وصفت أنه يجب قسمه فإن تركه الإمام ولم يقسمه، فوقفه المسلمون، أو تركه لأهله، رُدَّ حكم الإمام فيه؛ لأنه مخالف للكتاب والسنة معاً(13).
فلو كان المال العام ملكه لنفذ تصرفه هذا، ولما رد.
المسألة الثانية: وظيفة ولي الأمر في المال العام:
اتفق الفقهاء على أن وظيفة ولي الأمر في المال العام وظيفة النائب، وهي فرع وظيفته العامة على شؤون المسلمين، قال ابن العربي: الأمير.. نائب عن الجميع في جلب المنافع، ودفع المضار(14) وقال ابن تيمية: وليس لولاة الأمور أن يقسموها(15) بحسب أهوائهم، كما يقسم المالك ملكه، فإنما هم أمناء ونواب.. ليسوا ملاكاً(16)، وقال ابن رجب: والإمام هو النائب لهم، والمجتهد في تعيين مصالحهم(17)، وقال الدسوقي: الإمام.. إنما هو نائب عن المسلمين(18)، وربما عبر بعض أهل العلم عن تلك الوظيفة بتعبير مقارب، وهو أنه وكيل عن المسلمين، أو وصي(19)، وهذه الألفاظ الثلاثة وإن قدر أن بينها اختلافاً في الأحكام، غير أنها تشترك في الدلالة على أمر هو المقصود – هنا – وهو أن ولي الأمر حين يتصرف في المال العام فإنه لا يتصرف فيه بالأصالة، وإنما بالنيابة، أو الوكالة.

الأدلة على أن مالك المال العام المسلمون، وأن وظيفة ولي الأمر فيه وظيفة النائب لا المالك(20):
الدليل الأول: قال الله – عز وجل -: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر: 7-10)، بين الله – عز وجل – في هذه الآيات مصارف الفيء وهو من موارد المال العام فاستوعب المسلمين جميعاً، وعلل صرفه إلى هؤلاء بقوله: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) ومن هذا البيان والتعليل نستفيد أمرين:

1 – أن الفيء ليس بملك فرد، ولا يجوز لفرد ولا طائفة الاختصاص بتملكه أو الانتفاع بشيء منه دون المسلمين، سواء أكان هذا الفرد ولي الأمر أم غيره.
2 – أن مالك الفيء المسلمون جميعاً؛ لأن مصرفه إليهم جميعاً.
ويدل لهذا أن عمر لما قرأ هذه الآيات قال: استوعبت هذه الآية الناس، فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق – أو قال حظ – إلا بعض من تملكون من أرقائكم، وإن عشت – إن شاء الله – ليؤتين كل مسلم حقه – أو قال حظه – حتى يأتي الراعي بِسَرْوِ حِمْيَر، ولم يعرق فيه جبينه(21).
الدليل الثاني/ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أعطيكم، ولا أمنعكم، أنا قاسم، أضع حيث أمرت(22) وفي لفظ: إن أنا إلا خازن(23).
وجه الدلالة من الحديث:
دل الحديث على عدم ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم المال العام بنفيه ملك إعطاء أحد، أو منعه، وأن وظيفته فيه الحفظ والقسم؛ إذ لو كان ملكه لملك حق الإعطاء والمنع كسائر المالكين(24).

قال ابن تيمية – بعد إيراده هذا الحديث-: فهذا رسول رب العالمين قد أخبر أنه ليس المنع والعطاء بإرادته واختياره، كما يفعل المالك الذي أبيح له التصرف في ماله..(25) فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم – على عظم منزلته – لا يملك المال العام، كان من بعده من ولاة الأمور أولى بذلك؛ لأن غاية منزلتهم أن يكونوا خلفاءه.
الدليل الثالث: عن خولة الأنصارية قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة(26)، وفي رواية: إن هذا المال خضرة حلوة، من أصابه بحقه بورك له فيه، ورب متخوض فيما شاءت نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار(27).
وجه الدلالة من الحديث: المراد بالمال هنا المال العام؛ لأنه يسمى مال الله وتوضح ذلك رواية الترمذي من مال الله ورسوله؛ إذ هذه الإضافة خاصة بالمال العام الذي لا يملكه فرد بعينه، والمراد بالتخوض: أخذه وتملكه والتصرف فيه تصرف المالكين(28)، ففي الحديث الوعيد الشديد للمتخوضين في المال العام، وأولى من يتوجه له هذا الوعيد ولي الأمر؛ إذ الغالب أنه لا يقدر على التخوض في المال العام إلا هو، أو من له به صلة، فلو كان المال ماله لما توجه إليه الوعيد، ولجاز له التصرف فيه، كما يتصرف المالك في ملكه، فلما كان ممنوعاً من ذلك دل على أنه لا يملكه.
الدليل الرابع/ دلت سيرة الخلفاء الراشدين في المال العام على أنهم لم يكونوا يرون لهم فيه حقاً دون المسلمين، فضلاً عن أن يروه ملكهم، ومما جاء في هذا:
1 – عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: لما استخلف أبو بكر قال: قد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي، وشغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، وأحترف للمسلمين فيه(29).
وجه الدلالة من الأثر: أفاد اعتذار أبي بكر عن الأخذ من المال الذي وليه للمسلمين بانشغاله بأمرهم، واحترافه لهم فيه أمرين:
الأول: أنه ليس بماله؛ إذ لو كان ماله لما احتاج أن يعتذر عن الأخذ منه.
الثاني: أنه مال المسلمين؛ لأنه علل الأخذ منه بانشغاله بأمرهم، وإلا لم تظهر مناسبة بين العلة والمعلول، فكأنه قال: إنما أخذت من مالهم عوض عملي لهم.
2 – عن يرفأ قال: قال لي عمر بن الخطاب: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم إن احتجت أخذت منه، فإذا أيسرت رددته، وإن استغنيت استعففت(30). وفي رواية: وإنما أنا ومالكم كولي اليتيم(31).
في هذا الأثر دلالتان:
الأولى: في قوله مالك فأضافه إليهم، فدل على ملكهم له، والمراد بالمال – هنا – المال العام، الذي وليه لهم، لا الخاص بهم؛ لأنه لا ولاية له عليهم فيه.
الثانية: في قوله بمنزلة ولي اليتيم نص على وظيفة الإمام في مال المسلمين العام، التي تشبه وظيفة ولي اليتيم في مال اليتيم، وولي اليتيم نائب عن اليتيم، فكذلك ولي الأمر نائب عن المسلمين.
3 – عن عبيد بن عمير أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: والله لأزيدن الناس ما زاد المال.. هو مالهم يأخذونه(32). فسماه مالهم، لا ماله.
4 – وعن ناشر بن سُمَي قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول يوم الجابية – وهو يخطب الناس -: إن الله جعلني خازناً لهذا المال وقاسماً له(33).
فنص على أن وظيفته فيه حفظه وقسمه بين أهله على وفق شرع الله لا وظيفة المالك الذي يصرفه كيف شاء.
5 – وعن الربيع بن زياد الحارثي أنه وفد على عمر.. وفيه قال عمر: ألا أخبرك بمثلي ومثل هؤلاء، إنما مثلنا كمثل قوم سافروا، فجمعوا منهم مالاً، وسلموه إلى واحد ينفقه عليهم، فهل يحل لذلك الرجل أن يستأثر عنهم من أموالهم؟(34).
وهذا نص صريح في المسألتين، فمالك المال المسلمون، ونائبهم عليه ولي الأمر.
6 – وعن مالك بن أوس قال: كان عمر يحلف على أيمان ثلاث: والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد، وما أنا أحق به من أحد(35).
هذا الأثر نص صريح في أن ولي الأمر بمنزلة فرد من رعيته في الاستحقاق من المال العام.
وبعد هذه النصوص الصريحة الصحيحة لا تبقى شبهة في أن المال العام هو حق لجميع المسلمين، ليس لأحد منهم أن يختص به دون الآخر، وأن وظيفة ولي الأمر فيه وظيفة النائب.
ويترتب على هذا جملة من الواجبات والحقوق على ولي الأمر، وله:
أولاً: ما يجب على ولي الأمر فعله في المال العام:
1 – رعاية مصلحة المسلمين فيه، بحفظه، واستثماره، وإنفاقه على مصالحهم.
2 – فعل أصلح الوجوه، في حفظ المال العام واستثماره، إنفاقه، والاجتهاد في ذلك.
3 – تحقيق العدل فيه بين المسلمين، في الاستحقاق والعدل.
4 – مشاورة أهل العلم والرأي من المسلمين في كل ما يتعلق بالمال العام، مورداً ومصرفاً.

ثانياً: حقوق ولي الأمر في المال العام:
1 – اختصاصه بالتصرف فيه على وجه المصلحة، فأما غيره من أفراد الأمة فلا يجوز له أن يتصرف فيه إلا بإذن ولي الأمر، حتى ولو كان تصرفه فيه على وجه المصلحة.
2 – الأخذ منه بمقدار الكفاية.
وسيأتي تفصيل هذه الأمور وبيان ضوابطها.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 

-------------------------------------
(1) المغني (6/204).
(2) المبسوط (3/19).
(3) الأموال (265).
(4) السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار للشوكاني (3/333).
(5) الاستخراج لأحكام الخراج لابن رجب (459).
(6) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك للكشناوي (2/15).
(7) سيأتي هذا مفصلاً في الجزء الثاني من البحث.
(8) أخرجه أبو داود في الخراج، باب في أرزاق العمال، سننه مع عون المعبود (8/161-162) وأحمد في المسند (4/229)، والحاكم في المستدرك (1/406) وقال: هذا صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي، وأخرجه البيهقي في قسم الفيء، باب ما يكون للوالي الأعظم، السنن الكبرى (6/355)، والحديث أعله أبو حاتم من جهة سنده فإنه جاء عند أبي داود هكذا عن الحارث بن يزيد عن جبير بن نفير عن المستورد فقال أبو حاتم هذا خطأ، إنما هو على ما رواه الليث بن سعد عن الحارث بن يزيد عن رجل عن المستورد علل ابن أبي حاتم برقم (636) ص (1/219) والحديث سكت عنه المنذري، عون المعبود (8/162).
(9) شرح النووي على صحيح مسلم (12/114)، وخبايا الزوايا للزركشي (318).
(10) حديث ابن اللتبية في الصحيحين وسيأتي تخريجه صحيفة (288) وينظر التمهيد لابن عبد البر (2/14-15).
(11) الأم للشافعي.
(12) إحياء علوم الدين للغزالي (2/138)، والأحكام السلطانية للماوردي (228-229)، والمبسوط للسرخسي (23/203).
(13) الأم (4/181).
(14) أحكام القرآن (2/903).
(15) أي أموال بيت المال.
(16) السياسة الشرعية لابن تيمية (40).
(17) الاستخراج لابن رجب (460).
(18) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/487).
(19) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/256).
(20) إنما جمعت أدلة المسألتين لارتباطهما ببعض ولعدم التكرار.
(21) أخرجه النسائي في كتاب قسم الفيء بسنده عن أوس بن مالك عن عمر – مطولاً – سننه مع شرح السيوطي (7/136-137)، وأبو عبيد في الأموال برقم (41)، وص (21-22)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/352)، وأبو داود عن الزهري عن عمر في الخراج، باب صفايا رسول الله، عون المعبود (7/187، وهذا منقطع لأن الزهري لم يسمع من عمر، مختصر سنن أبي داود للمنذري (8/187).
(22) أخرجه البخاري في فرض الخمس باب قول الله تعالى: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) فتح الباري (6/251).
(23) أخرجه أبو داود في الخراج، باب فيما يلزم الإمام من أمر الرعية والحجبة عنهم، سننه مع عون المعبود (8/166).
(24) ينظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر (6/251)، ونيل الأوطار للشوكاني (8/82).
(25) السياسة الشرعية لابن تيمية (40-41).
(26) أخرجه البخاري في فرض الخمس باب قول الله تعالى: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) صحيحه مع فتح الباري (6/251).
(27) أخرج هذه الرواية الترمذي في الزهد، باب ما جاء في أخذ المال بحقه، جامعه مع تحفة الأحوذي (7/43).
(28) جامع الأصول لابن الأثير (10/566).
(29) أخرجه البخاري في البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده، صحيحه مع فتح الباري (4/355).
(30) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (4/1534) بتحقيق الحميد، وقال ابن كثير: إسناده صحيح، مسند الفاروق (1/353).
(31) أخرجها أبو يوسف في الخراج (117).
(32) أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/305).
(33) أخرجه البيهقي في قسم الفيء باب التفضيل على السابقة والنسب، السنن الكبرى (6/350)، وأخرجه عن علي بن رباح عن أبيه أن عمر.. أبو عبيد في الأموال برقم (548)، ص (235-236)، وسعيد بن منصور في سننه، تحقيق الحميد برقم (2319)، ص (2/124). وقال الهيثمي في المجمع (6/6): أخرجه أحمد ورجاله ثقات.
(34) أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/280-281).
(35) أخرجه أبو داود في الخراج والفيء، باب ما يلزم الإمام من أمر الرعية والحجبة عنهم، عون المعبود (8/166-167)، وأحمد في مسنده بتحقيق أحمد شاكر برقم (294) ص (1/281) وقال أحمد شاكر إسناده صحيح والبيهقي في قسم الفيء باب ما جاء في قسم ذلك على قدر الكفاية، السنن الكبرى (6/346-347)، وفيه محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن، عون المعبود (8/167)، وقال أحمد البنا في الفتح الرباني (14/87)، وفيه محمد بن مُيَسَّر ضعيف.
 


ضوابط تصرف ولي الأمر في المال العام  (1/2)


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم إلى يوم الدين، أما بعد:

ضوابط تصرف ولي الأمر في المال العام، وفيه أربعة فروع
الفرع الأول: ضابط مراعاة المصلحة في الإنفاق.
يوصف المال العام بأنه مال المصالح، ومال المصالح العامة، وفي هذه الإضافة إشارة إلى ضابط في غاية الأهمية من ضوابط الإنفاق العام، بل هو أساسها، وهو: المصلحة، وهي ضد المفسدة، فلا بد أن يحقق الإنفاق مصلحة للمسلمين ويشترط في هذه المصلحة ثلاثة شروط:
الشرط الأول: كونها خالصة أو راجحة، فإن كانت المصلحة مساوية للمفسدة فلا يشرع الإنفاق حينئذٍ، وكذا لو كان لا يحقق أي مصلحة من باب أولى.
الشرط الثاني: كون المصلحة عامة: فلا يكفي للحكم بمشروعية الإنفاق أن يكون على مصلحة، بل حتى تكون هذه المصلحة عامة، يعود نفعها على المسلمين، كبناء المساجد والمدارس، وإنشاء الطرق، أو على طائفة منهم لا تعيين لأشخاصهم بل لصفاتهم، كرواتب موظفي الدولة أو عطاء أهل الحاجات الذين لم يسد حاجاتهم مال الزكاة، فإن الإنفاق على هؤلاء من المال العام وإن كان ظاهره إعطاء أفراد، إلا أن الإعطاء لم يكن لذواتهم، بل إما لقيامهم بمصالح المسلمين، فيجب على المسلمين القيام بكفايتهم نظير ما قاموا به من مصالحهم، أو لما قام بهم من الحاجة التي يجب على المسلمين سدها، والمال العام محل ذلك، إن لم يكف مال الزكاة(1).
والمصلحة التي تتوقف على رجحانها مشروعية الإنفاق تشمل مصالح المسلمين الدينية والدنيوية، فالإنفاق على الدعوة إلى الله، ونشر العلم الشرعي، والجهاد لإعلاء كلمة الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل ذلك من الإنفاق المشروع، بل الواجب؛ لأنها مصالح متعلقة بالدين، ولا شك أن مصالح المسلمين الدينية – التي يحصل برعايتها العزة والتمكين في الدنيا والنجاة في الآخرة – من أولى ما يجب على الدولة الإسلامية توجيه الإنفاق العام إليه، بما يضمن تحصيلها.
والإنفاق على توفير العيش الكريم، وعلى تعليم العلم الدنيوي، كالطب، والهندسة، والعلوم، التي بها تحفظ الأبدان، ويستعد بالقوة العلمية والعسكرية، والإنفاق على بناء المصانع والمرافق العامة، كالطرق، وصيانة المنشآت، وغير ذلك من مصالح المسلمين الدنيوية، كل هذا من الإنفاق المشروع؛ لأنه لا قيام للدين إلا بالدنيا، إذ هما توأمان، لا يستغني أحدهما عن الآخر(2).
وهذا الضابط يمثل قيداً لتصرفات ولي الأمر – وغيره – في المال العام، وهو من فروع القاعدة الكبرى التي تضبط تصرف ولي الأمر في شؤون الرعية كلها المالية وغيرها، وهي: تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة.

ولقد جاء في كلام أهل العلم التأكيد على أهمية رعاية المصلحة؛ لضمان حسن التصرف في المال العام من جميع المتصرفين فيه، ويمكن بيان هذا من خلال النقاط الآتية:
أولاً: النص على أن مصرف المال العام المصالح العامة: قال الماوردي: يُحْمَل ما يفضل من مال الخراج إلى الخليفة؛ ليضعه في بيت المال العام، المعد للمصالح العامة(3)، وعلل البهوتي إيجاب فداء الأسير المسلم من بيت المال بأنه موضوع لمصالح المسلمين(4).
ثانياً: النص على عدم إباحة صرفه إلى الجهات التي لا يتحقق بالصرف إليها مصلحة للمسلمين، ولا دفع حاجة؛ إذ قد تقدم أن الاستحقاق من المال العام يكون بأحد أمرين، إما حاجة في الآخذ لم تسد من مال الزكاة، أو قيامه بمصلحة للمسلمين، وما سوى هذين فقد نص الفقهاء على أنه لا يجوز تخصيص أحد بشيء من المال العام من دون المسلمين، قال الغزالي: لا يجوز صرف المال إلا لمن فيه مصلحة عامة، أو هو محتاج إليه عاجز عن الكسب(5)؛ معللين ذلك بأنه لا مصلحة في إعطاء غير المستحقين(6).

وكما منعوا الولاة من إعطاء غير المستحقين حرَّموا على هؤلاء الأخذ، قال البلاطنسي: والمأخوذ حرام على الآخذ غير المستحق(7) ولما ساق النووي الخلاف في حكم قبول عطية السلطان قال: والصحيح أنه إن غلب الحرام فيما في يد السلطان حرمت، وكذا إن أعطى من لا يستحق(8) ثم قال: وإن لم يغلب الحرام فمباح إن لم يكن في القابض مانع يمنع من استحقاق الأخذ(9).
فأنت ترى أن الاستحقاق شرط في إباحة المأخوذ، سواء غلب الحرام فيما في يد السلطان أو لم يغلب، وهذا صريح في تحريم أخذ غير المستحقين من المال العام.
ولقد عد بعض أهل العلم الاستئثار بالأخذ من المال العام من غير اتصاف بصفة استحقاق بدعة أضرت بمصالح المسلمين في دينهم ودنياهم(10).
ثالثاً: القاعدة الفقهية: تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة(11) وهذه القاعدة أشبه بالمجمع عليها، قلَّ أن يغفل من تكلم في القواعد الفقهية عن ذكرها، وهي تعد الصياغة الفقهية الشرعية لما يجب على ولي الأمر وغيره فعله في شؤون المسلمين كلها، ومنها المال العام، وعلى هذا فحيث تجد الفقهاء يطلقون التخيير لولي الأمر في شؤون المسلمين، كقولهم: الحكم في الأسرى، وفي تفريق أموال بيت المال، وفي تولية القضاء، فإنهم لا يعنون – بحال – إطلاق الاختيار له، بحسب هواه، بل تقييده بمقتضى هذه القاعدة، وهو اختيار الأصلح(12). وتسميتهم ذلك خيرة يقصدون به أنه لا يتحتم عليه قبل الفكر والنظر فعل خصلة من الخصال، وإنما يجب عليه أن يبذل غاية الجهد في اختيار ما هو أصلح للمسلمين(13)، فإذا استوعب الفكر والنظر في وجوه المصالح، فوجد مصلحة هي أرجح للمسلمين، تحتم عليه تحصيلها، وأثم بتفويتها(14).

فمثلاً معنى تخييره في صرف أموال بيت المال: أنه يجب عليه الاجتهاد والنظر في تعيين مصالح الإنفاق، والأخذ بالراجح، وتقديم الأهم، واجتناب كل ما يؤدي إلى إضاعة المال، أو حرمان المستحقين من حقوقهم فيه، أو إيثار شخص أو طائفة به.
ويلخص ذلك العز بن عبد السلام بقوله: وكل تصرف جر فساداً، أو دفع صلاحاً فهو منهي عنه، كإضاعة المال بغير فائدة(15).
وقد اشتد نكير أهل العلم على من ظن أن لولي الأمر أن يتصرف في مال المسلمين العام بحسب هواه، اعتقاداً منهم أنه ملكه، يتصرف فيه بما شاء، قال البلاطنسي: واعتقد الجهال أن للسلطان أن يعطي من بيت المال ما شاء لمن شاء، ويقف ما شاء، على من يشاء، ويرزق ما يشاء، لمن يشاء، من غير تمييز بين مستحق وغيره، ولا نظر في مصلحة، بل بحسب الهوى والتشهي، وهو خطأ صريح، وجهل قبيح، فإن أموال بيت المال لا تباح بالإباحة(16).

وتقييد التصرف بالمصلحة يظهر أكثر وضوحاً من خلال تتبع فروع المسائل التي يذكرها الفقهاء تحت هذا الباب – تصرف الإمام في شؤون الرعية – حيث تجدهم يقيدون كل تصرف بظهور المصلحة فيه، ومن أمثلة ذلك:
أنهم قيدوا جواز الوقف من بيت المال(17)، والبيع(18)، والإقطاع(19)، والحكم في الأسرى(20)، وفي حد المحارب(21)، والإبراء من حق واجب لبيت المال(22)، والزيادة في مقدار الخراج المضروب على الأرض والنقصان منه(23)، وتنفيل بعض المقاتلين من الغنيمة(24)، وجواز الصلح مع الكفار(25)، وفي مقدار التعزير(26)، قيدوا ذلك كله بكونه الأصلح للمسلمين(27).
وقد اشترط الفقهاء في المصلحة المعتبرة لمشروعية التصرف في المال العام أن تكون متحققة أو يغلب الظن بتحققها، ولا يكفي مجرد الظن، قال ابن جماعة وأما من ليس في عطائه مصلحة عامة، بل قصدت مصلحة خاصة، كمن يعطى لمجرد ظن صلاحه؛ لوجاهته، من غير حاجة.. فلا يجوز صرف مال المسلمين إليه(28) ووجه ذلك: حتى لا تتخذ المصلحة ستاراً يوارى به التصرف الضار بالمال العام.
رابعاً: عدم نفاذ كل تصرف لا مصلحة فيه، وإبطاله إذا كان مما يقبل الإبطال، قال القرافي: الأئمة معزولون عما هو ليس بأصلح، حتى وإن كان صالحاً(29)، وقال علاء الدين الإمام: ليس للإمام أن يقطع ما لا غنى للمسلمين عنه.. ولو فعل فالمُقْطَعُ وغيره سواء(30) أي سواء في الانتفاع بالإقطاع، وهذا إبطال للتخصيص لما كان غير مشروع، وقال الشافعي – بعد أن قرر ما يجب على ولي الأمر فعله في أرض العنوة-: وكل ما وصفت أنه يجب قسمه فإن تركه الإمام، ولم يقسمه.. أو تركه لأهله، رد حكم الإمام فيه؛ لأنه مخالف للكتاب والسنة(31)، واستدل البلاطنسي على صحة الحكم بالبطلان بأن مقتضى قول الله – جل وعلا -: "وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (الأنعام: 152) وقوله صلى الله عليه وسلم: ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح، إلا لم يدخل معهم الجنة(32). مع قوله صلى الله عليه وسلم: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد(33) أن يكون جميع المتصرفين من الولاة ونوابهم – وغيرهم – ممنوعين عن المفسدة الراجحة، والمصلحة المرجوحة، والمساوية، وما لا مفسدة فيه ولا مصلحة لأن هذه الأقسام الأربعة ليست مما هو أحسن، وتكون الولاية إنما تتناول جلب المصلحة الخالصة أو الراجحة، أو درء المفسدة الخالصة أو الراجحة(34)، ويكون تصرفهم بغير ذلك – لو تصرفوا – باطلاً، غير نافذ.

وليعلم أن هذا الضابط – التصرف بالمصلحة – غير خاص بتصرف ولي الأمر، بل هو قيد عام على كل متصرف في شيء من المال العام، ممن أذن له بالتصرف فيه، من آحاد الناس، كما تفيده القاعدة الفقهية بأن كل متصرف عن الغير فيجب عليه أن يتصرف بالمصلحة(35).
أدلة اعتبار ضابط مراعاة المصلحة العامة في الإنفاق العام:
الدليل الأول: عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع، وهو مسؤول عن رعيته(36) ومقتضى الرعاية فعل الأصلح بالرعية في شؤونهم كلها، ومن أهمها المال العام.
الدليل الثاني: عن الحسن قال: عاد عبيد الله بن زياد معقل بن يسار المزني – في مرضه الذي مات فيه-، فقال معقل: إني محدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو علمت أن لي حياة ما حدثتك به، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت – يوم يموت – وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة(37).
وجه الدلالة: أن عدم فعل الأصلح – مع القدرة عليه – غش للأمة؛ لأنه يناقض أمر الله – عز وجل-، ويناقض مقتضى الولاية والرعاية، والغش محرم؛ لأن مثل هذا الوعيد الشديد لا يكون إلا على أمر محرم؛ بل كبيرة من الكبائر؛ فإذا كان الاكتفاء بالفعل الصالح وترك الفعل الأصلح غشاً للأمة، كان فعل ما لا مصلحة فيه أعظم غشاً.
الدليل الثالث: أوجب الله – جل وعلا – على ولي اليتيم فعل الأحسن في مال اليتيم، حين نهاه أن يقربه إلا بالتي هي أحسن، في قوله سبحانه: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الأنعام: 152) ومعنى الأحسن: تحصيل المصلحة الخالصة، أو الراجحة، وعدم الاكتفاء بالصالح مع إمكان الأصلح، فضلاً عن الفساد. فكان الواجب على ولي الأمر في مال المسلمين نظير الواجب على الولي في مال اليتيم؛ لأنه بمنزلته، كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم. والولايات كلها سواء من حيث وجوب التصرف بالمصلحة في حق المولَّى عليهم، قال القرافي: كل من ولي الخلافة فما دونها إلى الوصية لا يحل له أن يتصرف إلا بجلب مصلحة، أو درء مفسدة(38) بل إن وجوب فعل الأصلح على ولي الأمر في المال العام آكد من وجوبه على ولي اليتيم في مال اليتيم؛ لأن اعتناء الشرع بمصالح العامة أوفر وأعظم من اعتنائه بمصالح الخاصة(39).

وأخيراً فإن مراعاة المصلحة في إنفاق المال العام تعد ضابطاً هاماً من ضوابط حسن التصرف في المال العام، تمنع إذا توفرت لها الضمانات من استغلال السلطة في ما لا يحل.

الفرع الثاني
ضابط العدل في الإنفاق العام

معنى الضابط: المراد: تحقيق العدل في المال العام بين المسلمين استحقاقاً وقسماً.
أدلة مشروعية ضابط العدل في الإنفاق:
دل على مشروعية هذا الضابط، بل على وجوبه، الكتاب والسنة والمعقول:
أولاً: من الكتاب: قول الله – عز وجل-: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" (النحل:90). فهذا أمر بإقامة العدل، والعدل اسم جامع لكل ما قام في النفوس أنه مستقيم(40)، وهو ضد الجور، ومما يتضمنه اسما لعدل، العدل في الأموال – عطاءً وتقديراً – فيكون مأموراً به، بل دخول المال في الآية أولوي؛ لعظم مكانة المال في النفوس، وشدة الشح به، وهو من أخطر أسباب التباغض والشحناء(41).

ثانياً: من السنة:
1 – الأحاديث التي دلت على عقوبة من لم يعدل في رعيته، ومنها:
أ – عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً، لا يفكه إلا العدل، أو يوبقه الجور(42).
ب – وعن معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليس من والي أمة – قلَّت أو كثرت – لا يعدل فيها إلا كبَّه الله تبارك وتعالى على وجهه في النار(43).
دل الحديثان على وجوب عدل ولي الأمر في شؤون رعيته، وتحريم الجور فيها؛ إذ مثل هذا الوعيد الشديد لا يمكن أن يكون إلا على فعل كبيرة من كباشر الذنوب، ولا شك أن من آكد شؤون المسلمين التي يجب العدل فيها المال؛ فإنه قسيم النفس، قال ابن حجر في بيان ما يقع به الجور ويحصل ذلك بظلمه لهم، وبأخذ أموالهم، أو سفك دمائهم، أو انتهاك أعراضهم، وحبس حقوقهم.. (44) ونقل عن ابن بطال قوله: .. وهذا وعيد شديد على أئمة الجور، فمن ضيع من استرعاه الله، أو خانهم، أو ظلمهم، فقد توجه إليه الطلب بمظالم العباد يوم القيامة، فكيف يقدر على التحلل من ظلم أمة عظيمة.

2 – الأحاديث التي دلت على فضيلة الإمام العادل في رعيته، والأجر العظيم الذي ينتظره يوم القيامة، ومنها:
أ – عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحب الناس إلى الله يوم القيامة، وأدناهم منه مجلساً، إمام عادل، وأبغض الناس إلى الله يوم القيامة، وأبعدهم منه مجلساً إمام جائر(45).
ب – عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل... (46).
ج – عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن – وكلتا يديه يمين – الذي يعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما ولوا(47).
ففي هذه الأحاديث حث عظيم لأهل الولايات على العدل فيما ولوا، وهو يشعر بمدى أهمية العدل في الولاية، حتى وعد المتصف به بكل هذه الفضائل التي قل أن تجتمع في شيء، قال النووي شارحاً قوله صلى الله عليه وسلم: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا: معناه: أن هذا الفضل إنما هو لمن عدل فيما تقلده من خلافة، أو قضاء، أو حسبة، أو نظر... (48)، والمال مما يليه ولي الأمر للمسلمين، فكان من جملة الأمور التي يترتب على إقامة العدل فيها هذا الأجر العظيم.

ثالثاً: من المعقول:
أ – إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالعدل في القسم بين الأولاد، ونهى أن يخص الأب أحدهم بشيء دون الآخر، وعد التخصيص بالعطية جوراً(49). فإذا كان المرء مأموراً بالعدل ومنهياً عن الظلم في ماله الذي يملكه، وبين أولاده الذين مالُهم مالُه، فأولى أن يثبت هذا الأمر والنهي في حق ولي الأمر، الذي يتصرف على من ليسوا بأولاد، ولا هم إخوة، وفي مال ليس بماله، بل مالُهم جميعاً.
ب – إنه إذا تقرر وجوب أن يتصرف ولي الأمر في المال العام بالأصلح للمسلمين – كما تقدم – فإن مقتضى ذلك العدل بينهم في قسم مالهم؛ لأن هذا أصلح لهم.
ما يتحقق به العدل في إنفاق المال العام: يتحقق العدل في المال العام بما يأتي:
أولاً: إعطاء كل ذي حق حقه:
كل من ثبت استحقاقه في المال العام وجب على ولي الأمر أن يعطيه حقه؛ لأن ذلك جزء من المسؤولية المنوطة به في المال العام، فإن الله – عز وجل – قد خوله قسم المال بين مستحقيه، فإن منع الحق عن مستحقه فقد أخل بمسؤوليته، بل إن من مسؤوليته البحث عن المستحقين، وإيصال حقوقهم إليهم. قال ابن تيمية: فعلى ذي السلطان ونوابه في العطاء أن يؤتوا كلَّ ذي حق حقه(50). وعليه إعطاء الحق كاملاً غير منقوص، فإن كان المستحق من أهل المصالح وجب إعطاؤهم ما يقوم بكفايته، وإن كان من أهل الحاجات وجب إعطاؤه ما يسد حاجته، قال السرخسي: فعلى الإمام أن يتقي الله في صرف الأموال إلى المصارف، فلا يدع فقيراص إلا أعطاه حقه من الصدقات، حتى يغنيه وعياله(51).

ثانياً: أن يكون ثبوت الاستحقاق في المال العام وفق الشرع:
ويثبت الاستحقاق في المال العام بأحد أمرين:
1 – الحاجة. 2 – المصلحة.
وما عدا هذين فلا يستحق به أحد شيئاً من المال العام – كما تقدم-.
وعلى هذا فليس لولي الأمر أن يثبت لأحد حقاً في المال العام بسبب آخر غير هذين السببين، ككونه قريباً له، أو من أعضاء جماعته، أو حزبه، أو لما بينهما من مصالح خاصة؛ لأن ذلك ظلم ينافي العدل الواجب في المال العام، وكما ليس له ذلك، فليس له أن يخصه بعطاء وإن لم يُثْبِت له استحقاقاً – دائماً – لأنه خلاف العدل، قال ابن تيمية: لا يجوز للإمام أن يعطي أحداً ما لا يستحقه؛ لهوى نفسه، من قرابة بينهما، أو مودة ونحو ذلك(52).
ثالثاً: التسوية في العطاء:
والمراد: التسوية بين المسلمين في دفع الحاجات، لا في قدر العطاء؛ لأن المقصود الأعظم بالإنفاق دفع حاجات الناس، وحاجاتهم تتفاوت من حيث مقدار ما تندفع به، فما تندفع به حاجة فقير لا يعول إلا نفسه لا تندفع به حاجة فقير آخر ذي زوجة وذرية. فكان العدل أن يعطى كل امرئ ما تندفع به حاجته، وإن ترتب على ذلك زيادة مقدار ما يعطى على مقدار ما يعطاه غيره؛ لأنه وإن كان تفضيلاً في صورته إلا أنه تسوية وعدل في حقيقته(53).

قال العز بن عبد السلام: تقدير النفقات بالحاجات مع تفاوتها عدل وتسوية(54) وقال الشافعي وإن فضل بعضهم على بعض في العطاء فذلك تسوية إذا كان ما يعطى لكل واحد منهما لسد خلته(55).
فإذا تساوت الحاجات حرم التفضيل؛ لزوال سببه الموجب له(56).
وحيث تبين أن المعتبر في قدر الاستحقاق من المال العام الكفاية، فإنه يعتبر في قدرها ثلاثة أمور:
1 – عدد من يعولهم المستحق من المال العام.
2 – حال البلد من حيث الغلاء والرخص.
3 – حال المستحق(57).
ففي اعتبار عدد من يعول يقول أبو يعلى – مبيناً ما على ولي الأمر اعتباره عند تقدير عطاء الجند-: ويعرف قدر حاجاتهم، وكفايتهم، ويزداد ذو الولد من أجل ولده، وذو الفرس من أجل فرسه... (58).
وفي اعتبار حال البلد من حيث الغلاء والرخص يقول الشافعي: ويختلف مبلغ العطايا باختلاف أسعار البلدان، وحالات الناس فيها، فإن المؤنة في بعض البلدان أثقل منها في بعض.. (59)، وقال ابن قدامة: .. وينظر في أسعارها في بلدانهم؛ لأن أسعار البلدان تختلف، والغرض الكفاية.. (60) وكذا يعتبر في الكفاية حال المستحق، فيفرض له ما يليق بمثله في بلده، إذ الناس متفاوتون في أقدارهم ومسؤولياتهم، وما يترتب على ذلك من تبعات، فليس عطاء الأمير الملتزم بما يلزم الأمير عادة كعطاء الموظف الخفيف الحمل من تلك الالتزامات، ولا عطاء القاضي الذي يفصل بين الناس ويصلح بينهم، وربما تحمل في ذلك تبعات مالية، كعطاء من لا يسأل إلا عن نفسه. فلكل من هؤلاء عطاء يليق بمثله، وقد ذكر الله – عز وجل – في كتابه تفاوت درجات الخلق في الدنيا فقال: "وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً" (الزخرف: من الآية32) فسرت الآية بأن الله – سبحانه – فاضل بين الخلق، فجعل بعضهم أفضل من بعض في الدنيا بالرزق والرياسة والقوة والحرية والعقل والعلم(61).

قال الشافعي – منبهاً ولي الأمر إلى اعتبار حال المستحقين عند قسم الأرزاق والعطايا-: ويعرف قدر نفقاتهم، وما يحتاجون إليه في مؤناتهم، بقدر معاش مثلهم.. (62).
ويدخل في هذا تقسيم الوظائف العامة للدولة إلى درجات (سُلَّم وظيفي) إذا بلغ أي موظف درجةً استحق مرتبها المالي، ويكون العدل المطلوب – حينئذ – العدل بين الموظفين في استحقاق درجات السلم الوظيفي، وذلك بوضع معيار لاستحقاقها، يخضع له جميع الموظفين، ولا يكون للاعتبارات الشخصية أثر في الاستحقاق، بحيث تكون الفرصة متاحة لكل موظف يريد أن يثبت كفاءته.
وأما الأمور التي يجب تحقيق الكفاية فيها فهي كل ما يحتاجه الإنسان لحياته وحياة من يعوله حياة كريمة، من غير سرف ولا تقتير، وبحسب توفر المال العام.
وما تقدم من وجوب التسوية بين المستحقين في دفع الحاجات بقدر الكفاية هو ما دلت عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، ومنها:
الدليل الأول/ عن عوف بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه الفيء قسمه من يومه، فأعطى الآهل حظين، وأعطى العزب حظاً(63).
وجه الدلالة: تمييز النبي صلى الله عليه وسلم بين المتزوج والعزب في قدر العطاء دليل على اعتبار كفاية المستحق، حيث اعتبر حاجة الزوجة إلى الكفاية، وليس هذا الاعتبار خاصاً بالزوجة، بل يدخل فيه غيرها، ممن تلزم نفقته على المستحق، قال الشوكاني: فيه دليل على أنه ينبغي أن يكون العطاء على مقدار أتباع الرجل الذي تلزمه نفقتهم من النساء وغيرهن؛ إذ غير الزوجة مثلها في الاحتياج إلى المؤونة(64).
الدليل الثاني/ إن النبي صلى الله عليه وسلم فاضل في قسم الغنائم بحسب الحاجة، فقسم للراجل سهماً وللفارس ثلاثة أسهم، فقد أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر للفرس سهمين وللراجل سهماً وفسره نافع فقال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، فإن لم يكن له فرس فله سهم(65)؛ وذلك لأن حاجة الفارس أكثر من حاجة الراجل، فإن للراجل حاجة واحدة – وهي حاجة نفسه – فجعل له سهماً واحداً، وأما الفارس فله ثلاث حاجات: حاجة لنفسه، وأخرى لفرسه، وثالثة لسائس فرسه(66). ففي هذا ما يدل على اعتبار قدر الكفاية في الاستحقاق.


الدليل الثالث/ عن مالك بن أوس قال: ذكر عمر يوماً الفيء فقال: ما أنا أحق بهذا الفيء منكم، وما أحد منا أحق به من أحد، إلا أنا على منازلنا من كتاب الله، وقسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالرجل وقدمه، والرجل وبلاؤه، والرجل وعياله، والرجل وحاجته.. حيث اعتبر عمر في قدر العطاء أموراً، منها:
1 – عدد العيال. 2 – قدر الحاجة.
الدليل الرابع/ إن عمر بن الخطاب كان يفرض لعماله عطاءً متفاوتاً بحسب حاجة كل منهم، فقد أعطى عماراً أمير العراق كل يوم نصف شاة، وأعطى ابن مسعود ربعها، ولعل ذلك بسبب تفاوت حاجتهم(67).
المفاضلة بحسب المصلحة:
وكما تجوز المفاضلة في قدر العطاء بحسب الحاجة، كذلك تجوز بحسب المصلحة العامة العائدة على المسلمين(68)، وهذا يتفق مع ما سبق تقريره من وجوب مراعاة المصلحة في الإنفاق، وهو ما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعن رافع بن خديج - رضي الله عنه - قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، كلَّ إنسان منهم مئة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك، فأنشد عباس شعراً، فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة(69).
حيث فضلهم النبي صلى الله عليه وسلم على غيرهم؛ نظراً منه إلى المصلحة، وهي التأليف؛ لأنهم كانوا سادة أقوامهم؛ ويدل لهذا أنه لما توقف تأليف عباس بن مرداس على إتمام عطائه مئة أتمه له، فدل على جواز التفضيل بحسب المصلحة العامة.
المفاضلة في العطاء لغير حاجة ولا مصلحة:
اختلف أهل العلم في حكم التفضيل في العطاء من المال العام، لغير حاجة، ولا مصلحة، بل لمقتض آخر، هو الفضيلة الدينية، كالعلم، وعظم البلاء للدين بالدعوة والجهاد، وكان خلافهم على قولين:
القول الأول: لا يجوز التفضيل في العطاء بالفضيلة الدينية، وهذا قول أبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب – رضي الله عنهما – وعطاء(70)، وهو قول الشافعي(71)، وقول عند الحنفية(72)، ورواية عن مالك(73)، ورواية عن أحمد(74).
القول الثاني: يجوز التفضيل. وهذا قول عمر وعثمان(75) – رضي الله عنهما – والقول الثاني عند الحنفية(76)، ونسبه ا بن تيمية إلى مذهب مالك(77)، والرواية الثانية عن أحمد اختارها ابن قدامة(78).
الأدلة:
أولاً: استدل القائلون بعدم جواز التفضيل: بالآتي:
الدليل الأول: إن الله – عز وجل – قسم المواريث على العدد، ولم يفضل بعض الأبناء على بعض، مع كونهم متفاضلين في الغناء عن الميت، والصلة في الحياة، والحفظ بعد الموت، فكذلك لا تفضيل في العطاء(79).
الدليل الثاني: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أربعة أخماس الغنيمة على الغانمين، ولم يفضل، مع تفاضلهم في الغناء، فإن منهم من يغني غاية الغناء، حتى يكون الفتح على يديه، ومنهم من يكون حضوره إما غير نافع، وإما ضرراً على المسلمين بالفرار والجبن والتخذيل،ن فإذا لم يجز التفضيل بين الغانمين فكذلك بين مستحقي العطاء(80).
ونوقش بأمرين:
المناقشة الأولى: قياس ميتحقي العطاء على الورثة والغانمين قياس مع الفارق؛ لأن الميراث والغنيمة مستحقان بسب، لا بعمل، وأما العطاء فمستحق بعمل(81).
ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة بأنه لا يسلم أن قسم الغنيمة مستحق بسبب، بل هو مستحق بعمل، وقد قال الله – عز وجل -: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ) (الأنفال: من الآية41) فجعل الغنيمة من عملهم(82).
المناقشة الثانية: لا يسلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفضل بعض الغانمين على بعض، بل ثبت ذلك، حيث كان يفضل بعضهم بالنفل زيادة على سهمه في الغنيمة(83).
الدليل الثالث: إن الفضل ثوابه على الله – عز وجل – وأما العطاء فمعاش، فالأسوة فيه خير من الأثرة(84).
ويمكن أن يناقش: بأنه مع التسليم بأن الفضل ثوابه على الله – عز وجل – إلا أن ذلك لا ينافي جواز الإثابة في الدنيا.
ثانياً: أدلة أصحاب القول الثاني القائلين بالجواز:
الدليل الأول: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فضل بعض الغانمين على بعض من أربعة أخماس الغنيمة على عظم البلاء، ومما ثبت في هذا:
1 – عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أغار في أرض العدو نفَّل الربع، وإذا أقبل راجعاً وكلَّ الناس نفَّل الثلث(85).
دل الحديث على جواز التفضيل من وجهين:
1 – أن النبي صلى الله عليه وسلم فضل بعض الغانمين على بعض من أربعة أخماس الغنيمة لبلائهم؛ إذ النَّفل زيادة على سهم الغنيمة، قال ابن تيمية: وهذا تفضيل لبعض الغانمين من أربعة الأخماس(86).
ب – أنه صلى الله عليه وسلم أجرى المفاضلة بين من فضَّله بالنفل – أيضاً – حيث نفَّل السرية إذا أغارت والجيش قد قفل راجعاً من الغزو أكثر مما نفلها به إذا أغارت في مبتدأ الغزو والناس مقبلون عليه؛ نظراً منه صلى الله عليه وسلم إلى شدة البلاء؛ لأن الإغارة عند قفول الجيش أشق عليهم وأعظم خطراً؛ لقوة الظهر عند دخولهم، وضعفه عند خروجهم، وهم في الأول أنشط للسير والإمعان في بلاد العدو، بينما عند القفول أضعف، وأفتر، وأشهى للرجوع إلى بلادهم، فزادهم لذلك(87).
2 – وعن سلمة بن الأكوع حديث غزوة ذي قُرَد، حين أغار عبد الرحمن الفزاري على سرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستاقه.. وفيها أبلى سلمة بن الأكوع وأبو قتادة بلاءً عظيماً، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان خيرَ فرساننا أبو قتادة، وخيرَ رجالتنا سلمة قال سلمة ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين سهم الفارس وسهم الراجل، فجمعهما إليَّ جميعاً(88).
فإعطاؤه صلى الله عليه وسلم سلمة سهم فارس نفل؛ لأن سلمة إنما يستحق سهم راجل؛ لكونه في تلك الغزوة كان راجلاً، وما كانت هذه الزيادة إلا لعظم بلائه.
فإذا جاز التفضيل في الغنيمة – مع أن مستحقيها معينون – جاز في العطاء من المال العام؛ لأن مستحقيه غير معينين.
الدليل الثاني: قول عمر – حين قسم المال -: ولكنا على منازلنا من كتاب الله، وقسمة رسول الله، فالرجل وبلاؤه، والرجل وقدمه، والرجل وحاجته، والرجل وعياله، فقول عمر ولكنا على منازلنا من كتاب الله، وقسمة رسول الله فيه إشعار بأن التفضيل لم يقع من عمر اجتهاداً، بل بما علمه من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم(89).
ونوقش بأن أبا بكر قد خالفه، ويبعد أن تخفى عليه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القضية مع شدة متابعته للرسول، فلو كانت سنة ما تركها، ولعل هذا فهم من عمر لم يوافق عليه، فلا حجة فيه مع مخالفة أبي بكر.

الترجيح/ الراجح أن الأصل التسوية، ويجوز التفضيل، على أن يتحرى فيه ولي الأمر العدل والنصفة، بحيث لا يفضل لهوى؛ وذلك للآتي:
1 – إن أدلة المانعين ليس فيها ما يدل على عدم الجواز – مطلقاً – وإنما غاية ما فيها إثبات أن الأصل التسوية، وهذا لا ينافي ثبوت التفضيل – أحياناً – لاعتبارات صحيحة.
2 – إن المنافسة على الخير، وتحصيل الفضائل الدينية، والاجتهاد للدين وأهله، من مقاصد الشرع التي ندب إليها، وأثاب عليها، ومن الناس من لا ينبعث إلى الخير إلا مع حظ من الدنيا، فجاز التفضيل؛ تحقيقاً لمقاصد الشرع، وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم أحد الأجرين الموعود بهما المجاهد الغنيمة، وهي حظ دنيوي؛ ليحصل مقصود الشرع، وهو إقامة الجهاد.
فإذا تبين أن التفضيل في العطاء لا يكون إلا لحاجة، أو مصلحة، أو فضيلة مردها إلى تقديم من قدمه الله ورسوله، فيحرم على ولي الأمر تفضيل أحد ليس في تفضيله مصلحة، ولا دفع حاجة، ولا رعاية فضيلة دينية، فإن فضل لهوى فقد أعطى ما لا يجوز له إعطاؤه، وكان الآخذ آخذاً ما لا يستحق، قال ابن تيمية: وإذا عرفت أن العطاء يكون بحسب منفعة الرجل، وبحسب حاجته في مال المصالح.. فما زاد على ذلك لا يستحقه الرجل إلا كما يستحقه نظراؤه.. (90). ويكون المأخوذ – حينئذ – أمانة في يد الآخذ، يجب ردها لبيت المال، قال البلاطنسي: ولو أطلق (لأحد) من بيت المال فوق ما يستحقه؛ إما غلطاً من الإمام، أو جوراً، فإن ذلك الزائد لا يستحقه المطلق له، بل يبقى في يده أمانة شرعية، يجب ردها لبيت المال(91) ويكون المعطي المفضِّل لهوى مسيئاً بهذا التفضيل، مستحقاً للطعن فيه، قال ابن تيمية: وإنما يطعن في تفضيل من فضل لهوى(92)؛ وذلك لأنه تصرفَ فيما لا يملك تصرُّفَ المالكين.

وسيأتي بإذن الله في القسم الثاني بيان ما بقي من الفروع.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


--------------------------------------
(1) الموافقات للشاطبي (2/367)، وإحياء علوم الدين للغزالي (2/138).
(2) إحياء علوم الدين (2/138).
(3) الأحكام السلطانية (74).
(4) كشاف القناع (3/55).
(5) إحياء علوم الدين (2/138).
(6) المهذب مع تكملة المجموع للشيرازي (19/382)، والفروع لابن مفلح (6/290). وتحرير المقال للبلاطنسي (91).
(7) تحرير المقال (206).
(8) شرحه على صحيح مسلم (7/134-135).
(9) شرح النووي على صحيح مسلم (7/134-135).
(10) تحرير المقال، البلاطنسي (89).
(11) الأشباه والنظائر للسيوطي (233)، ولابن نجيم (123)، وشرح القواعد الفقهية لمصطفى الزرقاء (247) برقم (57)، المواهب السنية للجوهري (2/123).
(12) الأحكام للماوردي (329)، ولأبي يعلى (142)، الكشاف للبهوتي (3/53)، والاستخراج لابن رجب (459) تحرير المقال للبلاطنسي (141).
(13) تحرير المقال للبلاطنسي (141)، المبسوط (10/63).
(14) تحرير المقال (141).
(15) قواعد الأحكام (2/252).
(16) تحرير المقال (148).
(17) تحرير المقال للبلاطنسي (207-208).
(18) شرح فتح القدير لكمال ابن الهمام (6/34).
(19) الخراج لأبي يوسف (66)، ومواهب الجليل للحطاب (2/336)، ونهاية المحتاج لشمس الدين الرملي (5/333).
(20) المقدمات والممهدات لابن رشد الحفيد (1/367).
(21) المصدر السابق (3/230).
(22) الخراج لأبي يوسف (86).
(23) المصدر السابق (84).
(24) مواهب الجليل للحطاب (2/367),
(25) فتح الباري لابن حجر (6/318).
(26) شرح فتح القدير لابن الهمام (5/331).
(27) تحرير المقال للبلاطنسي (202، 203، 204).
(28) تحرير الأحكام لابن جماعة (100)، وينظر: المبسوط للسرخسي (3/19).
(29) الفروق للقرافي (4/36)، رقم 223.
(30) الدر المنتقى مع مجمع الأنهر (2/561).
(31) الأم (4/181).
(32) أخرجه بهذا اللفظ مسلم في الإيمان، باب استحقاق الوالي الغاش النار، مسلم بشرح النووي 2/166.
(33) أخرجه مسلم عن عائشة – رضي الله عنها – في الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، مسلم بشرح النووي (12/16).
(34) تحرير المقال (143).
(35) الأشباه والنظائر للسبكي (1/310).
(36) أخرجه البخاري في النكاح باب المرأة راعية في بيت زوجها فتح الباري (13/210)، وأخرجه مسلم بلفظ ألا كلكم راع في الإمارة باب فضيلة الأمير العادل، مسلم بشرح النووي (12/213).
(37) أخرجه البخاري في الأحكام، باب من استرعى رعية فلم ينصح، فتح الباري (13/135)، وأخرجه مسلم في الإيمان باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، مسلم بشرح النووي (2/165).
(38) الفروق (4/36)، رقم 223.
(39) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (252)، وانظر كشاف القناع للبهوتي (3/53)، والاعتصام للشاطبي (2/122).
(40) لسان العرب لابن منظور مادة (عدل) ص (11/430).
(41) ولقد استدل العز بن عبد السلام بهذه الآية على وجوب دفع رغيف إلى مضطرين متساويين في الحاجة والفضل، وعدم جواز تخصيص أحدهما به فقال معللاً حكمه ذلك لأن الله سبحانه وتعالى أمر بالعدل والإنصاف، والعدل التسوية، فدفعه إليهما عدل وإنصاف وإحسان مندرج في قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ" قواعد العز بن عبد السلام (1/55).
(42) أخرجه أحمد في مسنده، الفتح الرباني (23/14)، وقال الهيثمي في المجمع (5/208): رواه البزار والطبراني في الأوسط.. ورجال.. البزار رجال الصحيح وللحديث شواهد منها: عن أبي أمامة أخرجه أحمد الفتح الرباني (23/15)، وقال الهيثمي في المجمع (5/208): رواه أحمد.. وووفيه يزيد بن أبي ملك وثقه ابن حبان وغيره، وبقية رجاله ثقات. ومنها: عن سعد بن عبادة وعن أنس وعن عمر بن الخطاب، تنظر في مجمع الزوائد (5/208).
(43) أخرجه أحمد، الفتح الرباني (23/14)، وأخرج البخاري ومسلم عن معقل نحو هذا الحديث وقد تقدم تخريجه ص (51). وللحديث طرق وشواهد كثيرة تراجع في مجمع الزوائد للهيثمي (5/215-216).
(44) ابن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري (13/137).
(45) أخرجه الترمذي في الأحكام باب ما جاء في الإمام العادل، وقال: وفي الباب عن ابن أبي أوفى، حديث أبي سعيد حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه جامع الترمذي مع تحفة الأحوذي (4/559-560)، ثم أخرج حديث ابن أبي أوفى وقال: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمران القطان. وأخرج حديث أبي سعيد أحمد في مسنده، الفتح الرباني (23/14)، وقال البنا: فيه فضيل وعطية، وقد ضعفوهما، وقال القطان الحديث حسن وانظر تقريب التهذيب لابن حجر.
(46) أخرجه البخاري في الزكاة، باب الصدقة باليمين، صحيحه مع فتح الباري (3/344)، ومسلم في الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، مسلم بشرح النووي (7/120-121).
(47) أخرجه مسلم في صحيحه، باب فضيلة الإمام العادل، مسلم بشرح النووي (12/212).
(48) شرح النووي على صحيح مسلم (12/212).
(49) الحديث نصه: عن النعمان بن بشر أن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمَّه – بنت رواحة – أعجبها أن أشهدك على الذي وهبت لابنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بشر ألك ولد سوى هذا؟ قال: نعم قال: أكلهم وهبت له مثل هذا؟ قال: لا قال: فلا تشهدي إذاً؛ فإني لا أشهد على جور أخرجه البخاري في الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور، فتح الباري (5/306)، ومسلم في الهبات باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، مسلم بشرح النووي (11/68) وهذا لفظه.
(50) ابن تيمية في السياسة الشرعية (39).
(51) المبسوط (3/18).
(52) السياسة الشرعية (55).
(53) قواعد الأحكام (2/211) تحرير الأحكام (118).
(54) قواعد الأحكام (1/57).
(55) الأم (4/156).
(56) المنثور في القواعد للزركشي (1/309).
(57) الأم (4/145) الأحكام السلطانية للماوردي (344).
(58) المغني (7/310).
(59) الأم (4/154).
(60) المغني (7/310).
(61) فتح القدير للشوكاني (4/554).
(62) الأم (4/154).
(63) أخرجه أبو داود في الخراج، والفيء، باب في قسم الفيء، سننه مع عون المعبود (8/169-170)، وأحمد في المسند (6/25)، وقال البنا في الفتح الرباني (14/86) سنده جيد والبيهقي في قسم الفيء، باب ما جاء في قسم ذلك على قدر الكفاية، السنن الكبرى (6/346)، وقال الهيثمي في المجمع (5/344): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ولكن زاد الطبراني في الحديث زيادة استنكرها الهيثمي.
(64) نيل الأوطار، للشوكاني (8/82).
(65) أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة خيبر برقم (4228) فتح الباري (7/553). ومسلم في الجهاد، باب كيفية قسمة الغنيمة، مسلم بشرح النووي (12/83)، ولكن ليس فيه قول نافع، وبدل للراجل للرجل.
(66) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (1/239).
(67) ينظر مسند الفاروق لابن كثير (2/486)، وينظر ابن سعد في الطبقات (3/279-280) فلقد ذكر أصل القصة لكن لم يذكر إعطاء عمر لهم.
(68) القرطبي الجامع لأحكام القرآن (18/16).
(69) أخرجه مسلم في الزكاة باب إعطاء المؤلفة ومن يخاف على إيمانه، مسلم بشرح النووي (7/155).
(70) الأم (4/155)، الأحكام السلطانية للماوردي (338-339)، مجموع الفتاوى (28/582)، ومنهاج السنة (6/101-102) والمغني (7/309).
(71) الأم (4/155)، المهذب (19/382) والأحكام السلطانية الماوردي (339)، قواعد الأحكام للعز (1/55).
(72) الأشباه والنظائر لابن نجيم (123)، ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية (6/102).
(73) الكافي لابن عبد البر (1/478) الأحكام السلطانية للماوردي (339).
(74) منهاج السنة (62/102).
(75) ما سبق من الممصادر قبل حاشيتين.
(76) الأشباه والنظائر لابن نجيم (123-124)، وهو لمتأخريهم، والأحكام السلطانية للماوردي (339).
(77) منهاج السنة النبوية لابن تيمية (6/102).
(78) الأحكام السلطانية لأبي يعلى (240)، والمغني (7/309)، ومنهاج السنة (6/102).
(79) الأم (4/155)، المغني (7/309)، منهاج السنة لابن تيمية (6/102).
(80) الأم (4/155)، المغني (7/309)، المنهاج (6/102).
(81) المنهاج (6/102).
(82) هذا جواب فضيلة د. عبد الله الركبان.
(83) سيأتي ذكر الدليل على هذا في أدلة القول الثاني.
(84) الخراج لأبي يوسف (42)، والأحكام السلطانية للماوردي (338-339)، وهذا ما احتج به أبو بكر على عمر.
(85) أخرجه أحمد – وهذا لفظه – في المسند، الفتح الرباني (14/85)، وأخرجه الترمذي وحسنه في السير، باب النفل، جامع الترمذي (4/130)، وابن ماجه، في الجهاد، باب النفل، سننه (2/146)، وله شاهد عن حبيب بن مسملة، أخرجه أبو داود في الجهاد، باب فيمن قال الخمس قبل النفل، سننه مع عون المعبود (7/424-425)، وابن ماجه في الجهاد، باب النفل، سننه (2/146)، وأحمد في المسند، الفتح الرباني (14/85)، ومعنى الحديث: كان إذا نهضت سرية من جملة العسكر المقبل على العدو فأوقعت بهم نفلها الربع مما غنمت، وإذا فعلت ذلك عند عودة العسكر نفلها الثلث، عون المعبود (7/425).
(86) منهاج السنة النبوية، لابن تيمية (6/100).
(87) مسلم في الجهاد، باب غزوة ذي قرد وغيرها، مسلم بشرح النووي (12/178) وأخرج أصل القصة البخاري في المغازي باب غزوة ذات القرد، الفتح (7/526) لكن ليس في حديثه تنفيل سلمة.
(88) منهاج السنة النبوية لابن تيمية (6/101).
(89) نيل الأوطار (8/85).
(90) السياسة الشرعية لابن تيمية (55).
(91) تحرير المقال للبلاطنسي (155).
(92) منهاج السنة النبوية لابن تيمية (6/104).
 


ضوابط تصرف ولي الأمر في المال العام (2/2)
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم إلى يوم الدين، أما بعد:
هذه تكملة لما سبق طرحه في البحث السابق

الفرع الثالث
ضابط التوسط في الإنفاق العام

معنى الضابط: أن يكون الإنفاق العام وسطاً بين الإسراف والتقتير، بما يحقق القوام(1).
وليتضح معنى القاعدة فلا بد من بيان هذه الكلمات الثالث: الإسراف، والتقتير، والقوام.
أولاً: الإسراف: الإسراف في اللغة: مجاوزة القصد(2).
وأما الإسراف المنهي عنه في الشرع: فقد اختلف أهل العلم في المراد به على قولين:
الأول: إن الإسراف مجاوزة الحد في النفقة، كمعناه في اللغة(3).
الثاني: إن الإسراف الإنفاق في المعصية، أو في غير طاعة الله – عز وجل -(4).
وبين المعنيين فرق؛ إذ الإسراف على المعنى الأول يشمل الإنفاق في الخير إذا جاوز الحد، وأما على المعنى الثاني فيختص الإسراف بالإنفاق في المعاصي أو في غير طاعة الله مهما قلَّ، وأما الإنفاق في الخير وفي طاعة الله فليس بإسراف مهما كثر.

ويظهر أن المعنى الأول هو الأقرب، وأن الإسراف يعم الإنفاق في الخير إذا جاوز الحد؛ للآتي:
1 – قول الله – جل وعلا -: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (الإسراء:26) حيث عقب الله – عز وجل – على أمره بالإنفاق على ذوي القربى – وهو طاعة – بالنهي عن التبذير – وهو إسراف – فأشعر ذلك أن الإنفاق في الخير إذا جاوز الحد كان إسرافاً.
2 – موافقته لمعنى الإسراف اللغوي.
3 – شموله.
4 – كون الحديث عن المال العام، الذي يتفق الجميع على وجوب إنفاقه في الأصلح، ومجاوزة الحد بالإنفاق خلاف الأصلح، حتى ولو كان الوجه المنفق عليه خيراً.
وقد نص الفقهاء على أنه لا يجوز لولي اليتيم أن يتبرع بشيء من مال اليتيم على وجه خيري، ولا أن يسامح فيه؛ لأن ذلك خلاف مصلحة اليتيم، وولي الأمر في المال العام بمنزلة الولي في مال اليتيم.
ثانياً: التقتير: ومعناه في اللغة: التضييق في الإنفاق، والقصور عن حد الكفاية(5)، وهذا هو المعنى المراد في الآية(6).

ثالثاً: القوام: بفتح القاف معناه: العدل بين الشيئين. وبالكسر معناه: ما يقام به الشيء، يقال أنت قوامنا بمعنى: ما تقام به الحاجة، لا يفضل عنها، ولا ينقص(7).
والمعنيان متفقان؛ إذ الاعتدال في النفقة بين الإسراف والتقتير قيام بالحاجة بما لا يفضل عنها، ولا ينقص. وهذا المعنى هو ما يراد بالتوسط في الإنفاق في هذا الضابط.
وقد حدّ ابن كثير النفقة المأمور بها في الشرع بحد حسن، أصبح من أركان الاقتصاد في العصر الحديث، وهو تحقيق الموازنة بين الدخل والإنفاق، بحيث لا يزيد الإنفاق على الدخل، قال في تفسير قول الله – عز وجل – (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) (الإسراء: 29): أي: ولا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق طاقعتك، وتخرج أكثر من دخلك، فتقعد ملوماً، محسوراً(8).
ومما تقدم يمكن تحديد مفهوم الوسطية في الإنفاق في أمرين:
الأول: عدم الإسراف والتبذير؛ لأنهما إضاعة للمال بلا منفعة.

الثاني: عدم الشح والتقتير؛ لأنهما يعطلان وظيفة الإنفاق في سد الحاجة، وتحقيق نمو المجتمع(9).
وقد اعتبر الفقهاء هذا الضابط في النفقة العامة، باعتباره مقتضى وجوب فعل الأصلح في المال العام، ولذا جعلوه من ضمن واجبات ولي الأمر، قال الماوردي وهو يعدد واجبات الإمام تجاه الأمة: الثامن: تقدير العطايا، وما يستحق في بيت المال، من غير سرف، ولا تقتير(10)، وجعل البلاطنسي ذلك من المسؤوليات التي أناطها الشرع بولي الأمر فقال: والشرع قد أناط حفظ تلك الأموال، وصرفها، وتقديرها بالأئمة والولاة، على الوجه المأذون لهم فيه شرعاً، من غير سرف، ولا تقتير(11).
أدلة اعتبار ضابط التوسط في الإنفاق:
أولاً: الكتاب: دل القرآن الكريم على اعتبار هذا الضابط من خلال النصوص التي حثت على انتهاج التوسط في الإنفاق، وهي وإن كانت في النفقة الخاصة – كما يفيد ظاهرها – إلا أن دلالتها على ثبوت ذلك في النفقة العامة أوَّلية، لأمرين:
1 – كون الواجب في إنفاق المال العام رعاية الأصلح، والتوسط في الإنفاق الذي حثَّ عليه القرآن هو الأصلح.

2 – إن ما ثبت من أمر بإصلاح المال الخاص ثبت نظيره للمال العام بطريق الأولى؛ لأنه متعلق بالعامة، وعناية الشرع بما يتعلق بالعامة، أعظم من عنايته بما يتعلق بالخاصة. ومن تلك الآيات التي دعت إلى مبدأ الوسطية في النفقة:
1 – قوله – جل وعلا -: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67) جاءت هذه الآية في معرض بيان صفات المؤمنين، فوصفت نفقتهم بأنها قوام، لا إسراف فيها ولا تقتير، وهو نتيجة انتهاج مبدأ التوسط في النفقة، الذي لا يتجاوز الكفاية، ولا يقصر عنها، قال ابن كثير: في تفسيرها أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم، فلا يكفونهم، بل عدلاً خياراً، وخير الأمور أوسطها(12).
2 – قول الله – تبارك وتعالى -: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (الإسراء:26).
وجه الدلالة: إن الله – عز وجل – جمع في الآية الأمر بالإنفاق والنهي عن الإسراف، فدل على وجوب التوسط بينهما.
3 – قال الله – جل وعلا -: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء:29).
نهى الله – عز وجل – نبيه وأمته من بعده عن التقتير والإسراف، وعبر عنهما بغل اليد وبسطها، كناية عن الإمساك الذي يصير فيه مضيقاً على نفسه وعلى أهله، والتوسع بما لا حاجة له فيه فيصير به مسرفاً، وبين أن عاقبة الغَلِّ والتضييق لوم الأهل والناس وذمُّهم له، ثم استغناؤهم عنه، وأن عاقبة البسط والإسراف الحسرة، حين يقعد المسرف بلا نفقة، ولا مال(13)، فأفاد ذلك الأمر بنهج التوسط بين إطلاق اليد وقبضها.
ثانياً: من السنة: عن ورّاد مولى المغيرة بن شعبة قال: أملى عليَّ المغيرة بن شعبة في كتاب إلى معاوية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال، وكثرة السؤال... (14) دل الحديث على تحريم إضاعة المال، والإسراف إضاعة؛ لأنه نفقة بلا عائد، فكان حراماً(15).

ثالثاً: من المعقول: دليلان:
1 – إذا تقرر أن الواجب في المال العام إنفاقه على الوجه الأصلح، اقتضى ذلك وجوب التوسط في الإنفاق؛ لأنه الأصلح.
2 – إن الله عز وجل أمر بالحجر على السفيه المسرف الذي يبذر ماله في المعاصي، أو يجاوز به الحد في المباح؛ مراعاة لمصلحته؛ لئلا يضيع ماله(16)، فكذلك يثبت المنع من الإسراف في إنفاق المال العام، سواء أكان المتصرف ولي الأمر أم غيره؛ لئلا يضيع مال المسلمين.
ما تتحقق به الوسطية في الإنفاق: لتحقيق التوسط في الإنفاق لا بد من معرفة ما يقع به الإسراف والتقتير؛ إذ بمعرفة ذلك يمكن لمنفق المال العام أن يجتنبه فيكون قد حقق التوسط. وفي ضوء ما تقدم في معنى هذا الضابط يمكن حصر ما يقع فيه الإسراف والتقتير في أمرين:
الأول: أصل النفقة.
الثاني: قدرها(17).
أولاً: الإسراف والتقتير في أصل النفقة:
أ – الإسراف: يحصل الإسراف في أصل النفقة بإنفاق المال العام على جهات يحرم الإنفاق عليها؛ إما لما فيها من محادة الله ورسوله، كإمداد الكفار بالمال ليستعينوا به على المسلمين، أو إنشاء بنوك الربا، أو لما فيها من إفساد العقول والأبدان، كالمسكرات، أو لما فيها من إفساد الأعراض والأخلاق، كإنشاء مسارح الرقص والغناء أو شراء وإصدار الأشرطة والمجلات الماجنة، أو لما فيها من الظلم كاستئثار أفراد بشيء من المال العام بغير حق. فإنفاق اليسير على هذه المحرمات ونظائرها إسراف، بل إنه مناقض لأصل جواز التصرف في المال العام، وهو التصرف بالأصلح.

ويشتد التحريم إذا أدى الإنفاق على هذه المحرمات إلى ترك أو إهمال الإنفاق على مصالح المسلمين.
ب – التقتير في أصل النفقة: يقع التقتير في أصل النفقة بعدم الإنفاق على مصالح المسلمين، كعدم بناء المدارس – مثلاً – ويعد هذا الترك تضييعاً للمسؤولية التي حملها الله ولاة الأمور، وتفريطاً في بعض المصالح التي من أجلها وجب قيام الدولة الإسلامية(18).
وهذا المعنى للإسراف والتقتير في أصل النفقة هو ما فسرهما به كثير من المفسرين، حتى عده النحاس من أحسن ما فُسرا به، فقال: ومن أحين ما قيل في معنى الإسراف، من أنفق في غير طاعة فهو الإسراف، ومن أمسك عن طاعة فهو الإقتار، ومن أنفق في طاعة الله فهو القوام(19)، وقال ابن عباس في تفسير قوله – عز وجل -: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) (الفرقان: من الآية67) قال: هم المؤمنون لا يسرفون فينفقوا في معصية الله، ولا يقترون فيمنعوا حقوق الله(20)، ولا شك أن الإنفاق على المحرمات، وعدم الإنفاق على مصالح المسلمين من منع حقوق الله – جل وعلا -.

ثانياً: الإسراف والتقتير في قدر النفقة:
يقع الإسراف في قدر النفقة بالإنفاق على مصرف مستحق من مصارف المال العام فوق الكفاية(21).
ويقع التقتير في قدر النفقة بالتقصير في الإنفاق على المصالح، أي قصور الإنفاق عن حد الكفاية.
وكل من الإسراف والتقتير إخلال بضابط الوسطية في الإنفاق؛ لأن الإسراف إضاعة للمال العام فيما لا حاجة إليه ولا مصلحة فيه، والتقتير ترك لبعض الواجب، وتعطيل للمال عن وظيفته.
فالواجب على ولي الأمر أن يكون إنفاقه على مصارف المال العام على قدر الكفاية، بما يسع المصارف كلها، ويحقق المصالح كلها(22).
وتشتد الحاجة إلى مراعاة عدم الزيادة على قدر الكفاية إذا ضعفت موارد المال العام عن تغطية النفقات العامة(23)، وهوما يسمى بـالعجز(24). ومما تقدم يمكن إجمال ما تتحقق به الوسطية في إنفاق المال العام في الآتي:
1 – عدم الإنفاق على المرحمات وما لا نفع فيه من المباحات.
2 – الإنفاق على مصالح المسلمين، بقدر الكفاية.

الفرع الرابع
ضابط اعتبار الأولوية في الإنفاق العام

المراد: مراعاة المصرف الأهم عند إنفاق المال العام.
ما تتحقق به مراعاة الأولوية: يختلف ما تتحقق به المراعاة بحسب توفر المال العام وعدم توفره.
1 – ففي حال توفر المال العام بحيث يتسع للإنفاق عل المصارف كلها، تكون مراعاة الأولوية بتقديم المصرف الأهم منها؛ لأنه ربما عجزت الدولة عن توجيه النفقات كلها دفعة واحدة إلى مصارفها، فتضطر إلى تفريقها على فترة زمنية طويلة أو قصيرة فيراعى المصرف الأهم منها.
2 – وفي حال عدم توفر المال العام: أي نقص المال العام بحيث لا يمكنه تغطية نفقات المصارف كلها، بل بعضها، وهنا تختلف المعالجة:
أ – فإن أمكن الإنفاق على جميع المصارف لكن مع تحقيق الحد الأدنى لما يحتاجه كل مصرف، فهذا هو الواجب الذي تتحقق به مراعاة الأولوية؛ لأن ما زاد على قدر الواجب في مصرف فهو مندوب، فلا يراعى المندوب الزائد على قدر الواجب في هذا المصرف، وتترك مراعاة القدر الواجب في مصرف آخر.

ب – وإن عجز المال العام عن تحقيق الحد الأدنى في النفقة على مصارفه مجتمعة وقدر على تحقيقه في بعضها، فمراعاة الأولوية تقضي – هنا – بتوجيه النفقة إلى الأهم منها.
ما يعتبر في معرفة الأولوية: يعتبر لمعرفة الأولوية في الإنفاق المصلحة، فمتى كان الإنفاق على جهة أصلح للمسلمين كان الأولى الإنفاق عليها، وهذا ينظر فيه إلى جهتين:
الجهة الأولى: المصرف: بأن يكون أهم المصارف، ويحدد ذلك الحاجة، فأي المصارف كانت حاجة المسلمين إليه أشد فهو الأهم، والحاجة المعتبرة نوعان:
1 – حاجة دينية، كبناء المساجد، ونشر الدين بالدعوة والجهاد.
2 – حاجة دنيوية، كإيصال خدمة الكهرباء، والهاتف، وإنشاء المرافق العامة.
وعند المفاضلة بين الحاجات بنوعيها – الدينية والدنيوية – لمعرفة الأهم، قد تكون المفاضلة بين حاجات نوع واحد، كالمفاضلة بين التعليم وبين إيصال خدمة الهاتف، وقد تكون المفاضلة بين حاجات النوعين، كالمفاضلة بين بناء مسجد وبين سد عوز مسلمين الدولة، فالإنفاق على التعليم أولى منه على الهاتف، والإنفاق على سد فقر المسلمين أولى منه على بناء المساجد، وعلى هذا فليست الحاجة إذا كانت دينية كانت أهم مطلقاً ولا العكس – أيضاً – بل المعتبر في هذا حاجة المسلمين، فمتى كانت حاجتهم إلى مصرف ديني أو دنيوي أشد فهو الأهم.

الجهة الثانية/ بيت المال: مصلحة بيت المال معتبرة عند المفاضلة، بيان ذلك: إذا كان الإنفاق على مصرف يدفع عن بيت المال تحمل تبعات مالية مرهقة لو وجه الإنفاق إلى غيره فإن ذلك المصرف أولى بتوجيه النفقة إليه، مثال ذلك: يذكر الفقهاء أن مصارف المال العام تنقسم من حيث استحقاق الإنفاق عليها مع يسار بيت المال وإعساره قسمين:
الأول: مصارف تستحق النفقة عليها من المال العام مع يسار بيت المال، وإعساره، فإن كان موسراً وجب الإنفاق، وإن كان معسراً بقى ديناً عليه لهذه المصارف، وذلك كمتبات موظفي الدولة.
الثاني: مصارف تستحق النفقة عليها من المال العام مع يسار بيت المال، دون إعساره، فإن كان موسراً وجب الإنفاق، وإن كان معسراً سقط الوجوب، ولا يبقى ديناً على بيت المال، كبناء مرفق عام.
فإذا عجز بيت المال عن الإنفاق على هذين المصرفين فأولاهما بتوجيه النفقة إليه مرتبات الموظفين؛ لأنها إن لم توف بقيت ديناً على بيت المال، وفي هذا إثقال عليه، وهو خلاف مصلحة المسلمين(25).

ومما تقدم يمكن القول بأن الأولوية من موارد الاجتهاد؛ لأن مدارها على المصلحة، وهي تختلف بحسب ما تقدم، وبحسب الزمن والمكان – أيضاً – فقد يترجح اعتبار مصرف في وقت دون آخر، أو مكان دون مكان، ولذا فإن من الواجب العناية بتحقيق المفاضلة بين المصارف، ويحصل هذا بأمرين:
1 – العهد بمسؤولية المفاضلة إلى مجموعة من المختصين، بحسب أنواع الحاجات الواجب الصرف إليها.
2 – قيام من يسند إليهم بمسؤولية المفاضلة بوضع خطة دقيقة تتضمن قواعد محددة يعمل بمقتضاها عند إجراء المفاضلة.
مشروعية مراعاة الأولوية في الإنفاق:
عني الفقهاء بإبراز الأولوية ضابطاً هاماً من ضوابط الإنفاق العام، حتى جعلوها مما يجب على ولي الأمر عند إنفاق المال العام، قال ابن تيمية: فالواجب أن يبدأ في القسمة بالأهم، فالأهم من مصالح المسلمين العامة”(26) وقال البلاطيسي يجب عليه(17) أن ينظر في مصالح الصرف، ويجب عليه تقديم أهمها، فأهمها، ويحرم عليه العدول عن ذلك(28) ونص البهوتي وشمس الدين الرملي عند حديثهما عن كيفية إنفاق ولي الأمر المال العام على أنه يقدم الأهم فالأهم، وجوباً(29) وعد العز بن عبد السلام فيما يقدم من الحقوق – لرجحان ذلك في جلب المصالح ودرء المفاسد - تقديم ذوي الضرورات على ذوي الحاجات فيما ينفق من الأموال العامة(30).

ويراعي الفقهاء الأولوية حتى في أفراد المصرف الواحد، فإذا صرف من المال العام إلى جنس المحتاجين كالعاجزين عن الاكتساب، فإنه يقدر منهم الأحوج، فالأحوج(31)، وفي هذا مزيد اهتمام بهذا الضابط.
الأدلة على مشروعية مراعاة الأولوية في صرف المال العام على مصارفه:
الدلي الأول: عن أم الحكم بنت الزبير – رضي الله عنها – قالت: أصاب النبي صلى الله عليه وسلم سبياً، فذهبت أنا وأختي فاطمة نسأله، فقال: سبقكما يتامى بدر(32).
الدليل الثاني: عن علي بن أبي طالب أنه وفاطمة – رضي الله عنهما – أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي: يا رسول الله، والله لقد سنوت(33) حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: قد طحنت حتى مجلت يداي(34)، وقد جاءك الله بسبي، وسعة، فأخدمنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لا أعطيكما، وأدع أهل الصفة تَطْوَى بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم(35).
وجه الدلالة من الحديثين: أن علياً وفاطمة وأهل الصفة من مستحقي السبي؛ لأنهم من أهل خمس الغنيمة، وقد آثر النبي صلى الله عليه وسلم بالعطاء أهل الصفة؛ لكونهم أشد حاجة إلى النفقة، فدل ذلك على أمرين:

1 – اعتبار الأولوية في الإنفاق.
2 – اعتبار الحاجة في معرفة الأولى.
قال ابن حجر – معلقاً على حديث علي - في هذا الحديث أن للإمام أن يؤثر بعض مستحقي الخمس على بعض، ويعطي الأوكد، فالأوكد(36).
الدليل الثاني: عن ناشر بن سُمَيّ قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول يوم الجابية – وهو يخطب الناس -: إن الله جعلني خازناً لهذا المال، وقاسماً له، ثم قال: بل الله يقسمه، وأنا باد بأهل النبي صلى الله عليه وسلم ثم أشرفهم، ففرض لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم...
وعن محمد بن عجلان قال: لما دون لنا عمر الدواوين قال: بمن نبدأ؟ قالوا: بنفسك فابدأ، قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إمامنا، فبرهطه نبدأ، ثم بالأقرب، فالأقرب(37).
وجه الدلالة من الأثرين: أن عمر - رضي الله عنه - راعى الأولوية في تقديم مستحقي العطاء، وجعل المعتبر في المراعاة القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ تعظيماً لحقه، ولم يقع التقديم اتفاقاً، بل قصداً، كما يفيده الأثر الثاني، فدل ذلك على اعتبار الأولوية في الإنفاق، وإذا اعتبرت في الأولوية الفضيلة والشرف فاعتبار الحاجة فيها آكد.

الدليل الثالث: إن الأخذ بالأولوية يحقق العمل بضوابط الإنفاق المتقدمة؛ لأن فيه عملاً بالمصلحة، وتحقيقاً للعدل في القسم بين المستحقين، وفيه ترشيد للنفقة بما يحقق الوسطية في الإنفاق، وهذا يجعل لها من المشروعية والاعتبار ما لتلك الضوابط.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 

------------------------------
(1) المذكور في قوله – عز وجل -: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67).
(2) لسان العرب (9/148)، مادة (سرف).
(3) جامع البيان لابن جرير (19/37)، والجامع للقرطبي (13/73)، وتفسير ابن كثير، (3/338)، والكشاف للزمخشري (3/100)، وفتح القدير للشوكاني (4/86).
(4) المصادر السابقة.
(5) لسان العرب (5/71) مادة (قتر).
(6) جامع البيان لابن جرير (19/36)، والجامع للقرطبي (13/73)، وتفسير ابن كثير (3/338)، والكشاف للزمخشري (3/100)، وفتح القدير (4/86).
(7) الكشاف للزمخشري (3/100)، والجامع للقرطبي (13/74).
(8) تفسير القرآن العظيم (3/40).
(9) مالية الدولة الإسلامية لمحمد الشباني (138).
(10) الأحكام السلطانية (52).
(11) تحرير المقال (100).
(12) تفسير ابن كثير (3/338).
(13) تفسير القرآن العظيم ابن كثير (3/40)، في فتح القدير الشوكاني (3/222).
(14) أخرجه البخاري في الاعتصام، باب ما يكره من كثرة السؤال، فتح الباري (13/278-279)، ومسلم في الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل، مسلم بشرح النووي (12/11-12).
(15) ينظر السياسة المالية لعمر بن عبد العزيز، لقطب محمد (132).
(16) العقود، لابن تيمية (18).
(17) العقود لابن تيمية (18).
(18) العقود لابن تيمية (18).
(19) إعراب القرآن للنحاس (3/168).
(20) أخرجه ابن جرير بسنده عن ابن عباس، جامع البيان (19/37).
(21) العقود لابن تيمية (18).
(22) ينظر الأشباه والنظائر لابن نجيم (123).
(23) السياسة المالية لعمر بن عبد العزيز قطب محمد (132).
(24) العجز هو: زيادة النفقات عن الإيرادات بالنسبة للموازنة العامة. موسوعة المصطلحات الاقتصادية والإحصائية عبد العزيز فهمي كيلان مصطلح عجز ص (207)، أو هو: زيادة مجموع الإنفاق الجاري والاستثمارات عن الإيرادات التي تحصل عليها الحكومة، موسوعة المصطلحات الاقتصادية، حسن عمر (148).
(25) تحرير الأحكام لابن جماعة (150).
(26) السياسية الشرعية (54).
(27) أي: ولي الأمر.
(28) تحرير المقال (142).
(29) كشاف القناع (3/101)، نهاية المحتاج (6/136).
(30) قواعد الأحكام (1/125).
(31) نهاية المحتاج للرملي (6/137).
(32) أخرجه أبو داود في الخراج، باب في صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، سننه مع عون المعبود (8/212)، وقال في عون المعبود: سكت عنه المنذري (8/213)، والحديث الذي بعده شاهد له.
(33) أي: استقيت الماء بمعنى أنه كان يجلب الماء بنفسه، لسان العرب مادة (سنا) ص (14/404).
(34) أي: نفطت وصلبت وثخن جلدها من العمل بالأشياء الصلبة الخشنة، لسان العرب مادة (مجل) ص (11/616).
(35) أخرجه أحمد في مسند علي، وقال أحمد شاكر: صحيح الإسناد (2/149) برقم (838)، وأخرج البخاري عن علي نحوه ولم يذكر ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل الصفة، في كتاب الخمس – باب الدليل على أن الخمس لنوائب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتح الباري (6/248-249).
(36) فتح الباري (6/250).
(37) أخرجه أبو عبيد في الأموال برقم (549) ص (236).


المصدر : موقع المسلم

 

بحوث علمية
  • بحوث في التوحيد
  • بحوث فقهية
  • بحوث حديثية
  • بحوث في التفسير
  • بحوث في اللغة
  • بحوث متفرقة
  • الصفحة الرئيسية