اطبع هذه الصفحة


منهج التحرير

حمدي شفيق


منهج التحرير   -   الإحسان إلى المماليك  -  فَـك رقبـة

 



منهج التحرير


جاء الإسلام ليحدث في الأرض إصلاحاً على كل المستويات وفي جميع المجالات.. فهو ليس ديناً يكتفي بالجانب الروحي أو العبادات فقط ، وإنما يتولى تنظيم كافة شئون الدنيا بنصوص وقواعد عامة ثابتة – في القرآن الكريم والسنة المطهرة – تاركاً التفاصيل والفرعيات لاجتهاد العلماء في كل عصر ومصر حسب الظروف .
وهذا الاجتهاد الفقهي العبقري تراكم به على مر العصور ما يمكن أن نسميه نظريات عامة ومناهج كلية تغطي كل شئون الفرد والمجتمع .. وإذا كان المجتهدون من فقهاء المسلمين في كل عصر قد وضعوا حلولاً وفتاوى فقهية تناسب ما يستجد من أمور في عصورهم، فإن هذا يأتي في إطار القاعدة العامة التي تسمح بالاجتهاد والقياس فيما لم يرد فيه نص بالقرآن أو السنة . وبالرجوع إلى نصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة و كتب التفسير والفقه والسنن يمكن القول بيقين إن الإسلام العظيم قد أحدث إصلاحاً ثورياً غير مسبوق في مكافحة سرطان الرق الذي عمت به البلوى في مشارق الأرض ومغاربها قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم . هذا المنهج هو "التحرير" للعبيد كل العبيد تدريجياً وبخطوات هادئة ولكنها ثابتة . إنها خطة مدروسة ومحكمة وبالغة الدقة . وقبل أن نتناول هذه الخطة بالتفصيل علينا ان نرد على سؤال ملح يطرحه كل من لا علم له بالإسلام ، وهو : لماذا لم يحظر القرآن الرق جملة واحدة بآية قاطعة تحرر كل العبيد في كل العالم لحظة نزولها على الفور؟! للوهلة الأولى قد يظن البعض أن السائل محق، أو أنه كان على الإسلام أن يفعل هذا بضربة واحدة حاسمة تقضي على الاستعباد المنتشر في الأرض .. لكن العاقل المتأمل – والمنصف- سرعان ما يتضح له وجه الحقيقة .
نقول - وبالله التوفيق - أن الرق ظاهرة اجتماعية واقتصادية وفكرية بل "ونفسية" أيضاً .. ولمعالجة هذه الظاهرة لا مفر من النظر إليها من كل الجوانب لوضع أفضل السبل لمكافحتها .. فمن الناحية الفكرية كان لابد أولاً من تغيير النظرة الإجرامية – نظرية الاستعلاء على الآخر – الموجودة حتى الآن لدى كثير من الغربيين . والمثال الصارخ هم اليهود أعداء الله الذين يظنون أنهم شعب الله المختار، وأن الآخرين لم يخلقوا إلا ليكونوا عبيداً لهم !! .
فهل من المستطاع تغيير طريقة تفكير بل أسلوب حياة وتعامل الآخرين مع غيرهم بلمسة سحرية في لحظة واحدة ؟!
لقد كان الرومان والإغريق والفرس والهندوس واليهود والنصارى في كل العالم، كل أمة منهم تتعامل مع الآخرين من هذا المنظور ، هم السادة وغيرهم العبيد. فكان على الإسلام أن يصحح هذه المفاهيم الخاطئة أولاً كي تتغير بعدها أساليب التعامل مع الآخر، وتتحول الممارسات إلى الصواب والاعتدال،ثم يمكن بعد هذا الحديث عن التحرير. وذلك كله يحتاج إلى وقت ليؤتى ثماره المرجوة .
ومن الناحية الاجتماعية، فإن أي عالم بالاجتماع أو التاريخ أو حتى طبائع البشر يدرك تماماً أن إحداث تغيير جذري في المجتمع مثل إلغاء الرق أمر لا يمكن حدوثه في جيل واحد أو بضعة أجيال من عمر البشر .
لقد كان ربع سكان العالم من السادة ، وثلاثة أرباع البشر وقت بدء نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم هم من الأرقاء المستعبدين . فهل كان مجرد نزول آية قاطعة تقول: "حرروا العبيد فوراً" كافياً لتحرير ثلاثة أرباع العالم حالاً ؟!! بالطبع هذا مستحيل ، ومن يزعم غير هذا فهو إما ساذج أو مكابر أو خيالي حالم لا صلة له بالواقع ولا علم له بالبشر . وهذا يقودنا إلى الجانب الاقتصادي في الأمر.. إذ أن الرق كان نشاطاً اقتصادياً واسع النطاق في كل أنحاء العالم .. فإذا أردنا تحرير ثلاثة أرباع الناس من الأقلية "المستغلة" فإن هذا يعنى ضرورة إيجاد وسائل لإعاشة "المحررين الجدد"، وهم أغلب السكان كما رأينا، وفرص عمل لملايين العتقاء ، ومساكن لإيوائهم بعد مغادرتهم لبيوت السادة السابقين، إذ ليس من العدل ولا المنطق ولا الواقع أن تطالب السادة الذين فقدوا مصدراً هاماً وأساسياً للدخل - هو ما يدره عليهم عمل أولئك العبيد – لا يعقل أن نطالبهم بالاستمرار في الإنفاق على هؤلاء وإعالتهم، وقد انتهت العلاقة أو السبب القانوني لذلك، فضلاً عما يلحق بالملاك من خسائر اقتصادية فادحة بسبب هذا "التحرير" المفاجئ لعبيدهم . ولا مفر كذلك من تعويض هؤلاء عن هذه الخسائر، إما بمقابل مادي، أو على الأقل بجزاء معنوى – الجنَّة - يجعل نفوسهم تطيب بهذا العتق . وبالطبع فإن تدبير لوازم المعيشة المستقلة للمحررين ، وفرص عمل لهم ، وكذلك تدبير موارد لتعويض السادة السابقين ، كل ذلك يحتاج إلى وقت بلا خلاف .. ولعل أبلغ رد على من يتوهمون إمكانية إلغاء الرق بضربة واحدة حاسمة هو ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية .. فقد حاول الرئيس المصلح "أبراهام لنكولن" القضاء على الرق هناك بقانون حاسم فماذا كانت النتيجة ؟ اندلعت حرب أهلية طاحنة بين ولايات الشمال المطالبة بإلغاء الرق، والولايات الجنوبية داعمة الاستعباد، استمرت لسنوات ، وهلك فيها الملايين من الفريقين، وتعرضت البلاد لخراب شامل. بل لقي لنكولن نفسه مصرعه بسبب محاولته إلغاء الرق ، فقد اغتاله أحد المجرمين البيض الذين يرفضون السماح بتحرير السود ومساواتهم بالسادة !! وبقيت التفرقة العنصرية بعده قروناً عديدة بل مازالت العبودية هناك في صور أخرى كما رأينا !! ونشير أيضاً إلى مئات الثورات الدموية الرهيبة التي اندلعت من جانب العبيد على مر العصور، احتجاجاً على القهر والإذلال وإهدار الآدمية ، وتطلب قمع هذه الثورات – من جانب السادة – أنهاراً من الدماء، وخسائر اقتصادية فادحة . فهل هذا الهلاك للحرث والنسل والخراب الشامل مما يُلام الإسلام على تجنبه ؟! إن هذه الجزئية في حد ذاتها هي من دلائل عظمة الإسلام، وأنه بالفعل من عند الله الحكيم العليم بما يصلح خلقه وما يناسبهم من تشريعات تحقق العدل والمساواة بين الجميع ، وفي ذات الوقت تضمن الأمن والاستقرار في المجتمع .
لقد جاء الإسلام لحقن الدماء وحفظ الدين والعرض والعقل والمال أيضاً . أما حكاية الثورات الدموية الحمراء - على الطريقة الشيوعية البائدة - وشعارات "للحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق"، فهذا كله مما ترفضه العقول الذكية والطبائع السويّة فضلاً عن التشريعات السماوية . وعلى ذلك فالتدرج في التحرير على مراحل هو عين الحكمة والعدل . وهل يرضى عاقل بما اقترفته الشيوعية الدموية تلك من الفتك بعشرات الملايين من البشر في البلدان التي تسلّطت عليها – كما أشرنا – فضلاً عن الدمار الشامل لكل شيء؟؟ وتكفي نظرة على أحوال دول أوروبا الشرقية المتدهورة حتى الآن للتحقق من صحة ما نقول. وما حدث هو أن الشيوعية "استعبدت" الناس هناك حيناً من الدهر، فلما سقطت تسببت في الإيقاع بشعوب بلادها في أنواع جديدة من "الاستعباد"، ولكن "السادة الجدد" هم من "الغرب" هذه المرة!!! إنه استعباد اقتصادي وسياسي بل وجنسي أيضاً (1) . فهل يلومون الإسلام الذي حَظَرَ كل هذا وحَرَّمَه تمامًا ؟!! .
وهناك عبارة موجزة خالدة لعمر بن عبد العزيز تلخص بالضبط التصرف السليم تجاه مشكلة كالرق . فقد كان عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما شابا صالحا يحث أباه العظيم على الإسراع بالقضاء على كافة المظالم التي وقعت قبل توليه الخلافة . فقال الخليفة العظيم : "يا بنى .. لو حملناهم على الحق جملة لتركوه جملة"(2) .. والمعنى الواضح هو أن أغلب الناس لا يتحملون التغيير المفاجئ، وخاصة إذا كان تغييراً اجتماعياً واقتصادياً هائلاً مثل إلغاء الرق وتحرير العبيد الذين كانوا أكثر من الأحرار عدداً في كل المجتمعات . ومن شأن التشريع الذي يفعل هذا بخطوة واحدة متسرعة أن يفشل فشلاً ذريعاً، وبالتالي يتسبب في تثبيت دعائم المظالم وليس القضاء عليها . ونشير هنا مرة أخرى إلى أن كل المعاهدات الدولية والقوانين المحلية في كل الدول قد فشلت حتى الآن في القضاء على الرق - كما رأينا - وما زال عشرات الملايين من الفقراء – خاصة النساء والأطفال – ينضمون سنوياً – إلى جيوش الضحايا المستضعفين في الأرض .. المسألة ليست نصوصاً تصدر فينتهي الرق . إذ لا جدوى من تغييرالنصوص إذا لم تصلح النفوس. واصلاح الأنفس هو بالضبط ما فعله الإسلام أولا. وبدون إصلاح القلوب والعقول تتحول النصوص إلى مجرد "حبر على ورق" لا يسمن ولا يغني من جوع .
وأما من الناحية النفسية، فإن السادة يحتاجون وقتاً لتغيير نظرتهم إلى العبيد ، وقبول الواقع الجديد بعد التحرير والتعامل معه بلا سخط أو تذمر. وكذلك يحتاج العبيد إلى وقت أيضاً للتكيف مع الواقع الجديد . يقول الأستاذ محمد قطب : "إن التحرير بإصدار مرسوم كما يتخيل البعض لم يكن ليحرر الرقيق ! والتجربة الأمريكية في تحرير الرقيق بجرة قلم على يد إبراهام لنكولن خير شاهد لما نقول، فالعبيد الذين حررهم لنكولن – من الخارج – بالتشريع، لم يطيقوا الحرية، وعادوا إلى سادتهم يرجونهم أن يقبلوهم عبيداً لديهم كما كانوا، لأنهم - من الداخل - لم يكونوا قد تحرروا بعد" .
والمسألة على غرابتها ليست غريبة حين ينظر إليها على ضوء الحقائق النفسية. فالحياة عادة ، والملابسات التي يعيش فيها الإنسان هي التي تكيف مشاعره وتصوغ أحاسيسه وأجهزته النفسية . والكيان النفسي للعبد يختلف عن الكيان النفسي للحر، لا لأنه جنس آخر كما ظن القدماء، ولكن لأن حياته في ظل العبودية الدائمة جعلت أجهزته النفسية تتكيف بهذه الملابسات، فتنمو أجهزة الطاعة إلى أقصى حد، وتضمر أجهزة المسئولية واحتمال التبعات إلى أقصى حد ..
فالعبد يحسن القيام بكثير من الأمور حين يأمره بها سيده، فلا يكون عليه إلا الطاعة والتنفيذ . ولكنه لا يحسن شيئاً حين تقع مسئوليته على نفسه، ولو كان أبسط الأشياء، لا لأن جسمه يعجز عن القيام بها، ولا لأن فكره – في جميع الأحوال – يعجز عن فهمها ؛ ولكن لأن نفسه لا تطيق احتمال تبعاتها، فيتخيل فيها أخطاراً موهومة، ومشكلات لا حل لها، فيفر منها إبقاء على نفسه من الأخطار!
ولعل الذين يمعنون النظر في الحياة المصرية – والشرقية – في العهود الأخيرة يدركون أثر هذه العبودية الخفية التي وضعها الاستعمار الخبيث في نفوس الشرقيين ليستعبدهم . يدركونها في المشروعات المعطلة التي لا يعطلها – في كثير من الأحيان – إلا الجبن عن مواجهة نتائجها! والمشروعات المدروسة التي لا تنفذها الحكومات حتى تستقدم خبيراً روسيا أو إنجليزياً أو أمريكياً .. إلخ ليحتمل عنها مسئولية المشروع ، ويصدر الإذن بالتنفيذ ، ونلاحظ الشلل المروع الذي يخيم على الموظفين في الدواوين ويقيد إنتاجهم بالروتين المتحجر، لأن أحداً من الموظفين لا يستطيع أن يصنع إلا ما يأمره به "السيد" الموظف الكبير ، وهذا بدوره لا يملك إلا إطاعة "السيد" الوزير، لا لأن هؤلاء جميعاً يعجزون عن العمل، ولكن لأن جهاز التبعات عندهم معطل, وجهاز الطاعة عندهم متضخم، فهم أشبه شيء بالعبيد، وإن كانوا رسمياً من الأحرار! .
هذا التكيف النفسي للعبد هو الذي يستعبده. وهو ناشئ في أصله من الملابسات الخارجية بطبيعة الحال، ولكنه يستقل عنها، ويصبح شيئاً قائماً بذاته كفرع الشجرة الذي يتدلى إلى الأرض، ثم يمد جذورًا خاصة به ويستقل عن الأصل . وهذا التكيف النفسي لا يذهب به إعلان تصدره الدولة بإلغاء الرق . بل ينبغي أن يُغَّير من الداخل، بوضع ملابسات جديدة تكيف المشاعر على نحو آخر، وتنمّي الأجهزة الضامرة في نفس العبد، وتصنع كياناً بشرياً سوياً من كيانه المشوه الممسوخ ، وذلك ما صنعه الإسلام . فقد بدأ أولاً بالمعاملة الحسنة للرقيق . ولا شيء كحسن المعاملة يعيد توازن النفس المنحرفة، ويرد إليها اعتبارها، فتشعر بكيانها الإنساني، وكرامتها الذاتية، وحين ذلك تحس طعم الحرية فتتذوقه، ولا تنفر منه كما نفر عبيد أمريكا المحررون"(3) انتهى . وهكذا يتضح بكل جلاء أن التدرج واتباع خطة ذات مراحل زمنية ممتدة لعلاج الرق وتثبيت واقع التحرير الجديد هو أمر لا مفر منه ، اللهم إلا إذا كان الغرض الوحيد من المعارضة هنا هو فقط الشغب ومحاولة التشويش والتشويه المفتعل!!
أساس المنهج
إن من يتأمل النصوص يكتشف فوراً أن منهج التحرير ينطلق من صلب العقيدة الإسلامية ذاتها .. فالله سبحانه وتعالى هو وحده "رب العالمين" جميعاً بلا فرق بين عبد وحر، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين ذكر وأنثى ، ولا بين حاكم ومحكوم.. إلخ .
بل إن معنى شهادة لا إله إلا الله أنه لا معبود بحق إلا الله ، ويترتب على ذلك أن الكل هم عباد وعبيد لله وحده، مفتقرون ومتذللون له وحده ، ولا سلطان لأحد على الناس إلا لرب الناس، حرّهم وعبدهم، غنيهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم . فالكل ولد آدم وآدم من تراب . والله كَرَّم البشر جميعًا حُرّهم وعبدهم ، قال تعالى : (ولقد كَرَّمنا بنى آدم ..) من الآية 70 من سورة الإسراء . كما أن الآية الكريمة رقم 13 من سورة الحجرات واضحة كل الوضوح في هذا الصدد : (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ...) فالكل ولد آدم، ولا تمايز بينهم بسبب عرق أو لون أو جنس، ولا تفاضل بينهم إلا بالتقوى. والعبد التقي خير وأحب إلى الله من ملك فاجر، والأَمة السوداء المؤمنة خير من سيدتها الكافرة . كما نص القرآن الكريم على أن : (بعضكم من بعض) فى سورة النساء الآية 25 .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : "ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر – أبيض – على أسود إلا بالتقوى"(4) .
وفي جزء من حديث رواه مسلم "هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم"(5) .
فالعبد هو أخ للسيد في الإنسانية، وليس "متاعاً" أو "حيواناً" يملكه كما كان الآخرون قبل الإسلام يعتقدون .
وهناك أحاديث أخرى تنص على المساواة بين بني الإنسان أحراراً كانوا أم عبيداً، بيض البشرة أم سود أم حمر، من أقصى الشمال أو الجنوب أو الغرب أو الشرق ، كل ذلك لا يهم ولا يؤثر على قيمة الإنسان .. فهناك حديث "الناس كلهم ولد آدم وآدم من تراب" أخرجه ابن سعد من حديث أبي هريرة ، وليس فيه لفظ "كلهم" كما يقول الصنعاني في (سبل السلام – كتاب النكاح – باب الكفاءة) كما أورد الصنعاني حديثاً آخر "الناس كأسنان المُشط لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى" أخرجه ابن لال بلفظ قريب من لفظ حديث سهل بن سعد .
وأضاف الصنعاني :"أشار البخاري إلى نصرة هذا القول حيث استدل فى باب الأكفاء في الدين بقوله تعالى"وهو الذي خلق من الماء بشراً" سورة الفرقان:54 ،فاستنبط من الآية الكريمة المساواة بين بني آدم" ، ثم أردفه بمثال استشهد به هو أن أبا حذيفة رضي الله عنه زوج مولى هو" سالم" من ابنة أخيه "هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة" القرشية الحسيبة النسيبة، وكان سالم عبدا سابقا، لكن أبا حذيفة اختاره لدينه وعلمه وتقواه ..
وقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فقال – فيما يرويه الصنعاني- "الحمد لله الذي أذهب عنكم عبيـة الجاهلية وتكبّرها، أيها الناس إنما الناس رجلان : مؤمن تقي كريم على الله أو فاجر شقي هيّن على الله" ، ثم قرأ الآية ، وقال صلى الله عليه وسلم : "من سرّه أن يكون أكرم الناس فليتق الله" ، فجعل الالتفات إلى الأنساب من رواسب الجاهلية وقبائحها، فكيف يعتبرها المؤمن ويبني عليها حكماً شرعياً ؟! . ويضيف الصنعاني : وفي الحديث "أربع من أمور الجاهلية لا يتركها الناس" و ذكر منها الفخر بالأنساب، أخرجه ابن جرير من حديث ابن عباس . وفي الأحاديث شيء كثير في ذم التعالى والترفع بالأنساب (6) انتهى.
هكذا أثبتت النصوص أن العبيد بشر متساوون مع سادتهم في الحقوق والواجبات .
وبهذا رد الإسلام العظيم إليهم اعتبارهم وآدميتهم المهدرة ، وكان هذا أمراً ضرورياً قبل أي حديث عن تحرير هؤلاء المعذبين في الأرض .
إنك لا تستطيع زراعة الأرض - بوضع البذور فيها - قبل تمهيد التربة وتسميدها ، مع توفير المياه لضمان أفضل بيئة ممكنة لنمو هذه البذور بدون عوائق. وهذا بالضبط ما كان ضرورياً بالنسبة لمجتمع ثلاثة أرباعه من الرقيق .
فكان لابد من تهيئة أنفس "السادة" المتكبّرين بجعلهم يتقبّلون أولاً فكرة المساواة بين بني الإنسان جميعاً ، وذات الأمر بالنسبة للعبيد، فقد أرشدهم الإسلام أولاً الى أنهم بشر مثل سادتهم وليسوا متاعاً أو آلات أو بهائم . ومن ذلك ما يروى أن أبا
هريرة قال لرجل يركب وغلامه يمشي خلفه : احمله خلفك فإنه أخوك وروحه مثل روحك . هكذا أدركوا حقيقة المساواة فى زمن ما كان أحد فيه يظن أن للعبد روحا كما قال قائل الغرب!!. وبعد ترسيخ فكرة الأصل الواحد للبشر والمساواة الكاملة بينهم في العبادة والعبودية لله وحده لا شريك له ، يمكن مطالبة هؤلاء السادة بحسن معاملة إخوتهم في الله والأصل البشري الواحد ، ثم يأتي تحرير هؤلاء "الأخوة" بوسائل متعددة في سياق تدريجي سلس يتقبله الجميع برضا وطيب نفس وتسامح يزرعه الإسلام في القلوب المؤمنة .
 

----------------------
المراجـع
1- راجع الفصل الرابع "الاتجار بالبشر" .
2- راجع سيرة عمر بن عبد العزيز في : مناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ، البداية والنهاية لابن كثير ، حلية الأولياء لأبي نعيم ، سير أعلام النبلاء للذهبي ، وعمر بن عبد العزيز لخالد محمد خالد.
3- محمد قطب – شبهات حول الإسلام – طبعة دار الشروق – مصر – صـ 47-49
4- الحديث أخرجه الإمام الطبري في"آداب النفوس".
5- انظر صحيح مسلم بشرح النووي .
6- سبل السلام للصنعاني في كتاب الزواج .
 



الإحسان إلى المماليك


لم تعرف البشرية أحداً قبل الإسلام ، حرص على وضع قواعد صارمة تكفل حقوق الرقيق، وتأمر بالإحسان إليهم – طوال الفترة الانتقالية – إلى أن يجعل الله لهم سبيلاً إلى الحرية بالوسائل العديدة والمتنوعة التي وضعها لذلك .
قال الله تعالى في الآية 36 من سورة النساء : "وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم .." يقول الإمام القرطبي تعليقاً على قوله تعالى " وماملكت أيمانكم" : "أمر الله تعالى بالإحسان إلى المماليك" ، ثم أورد رضي الله عنه عدة أحاديث صحيحة تُفَصِّل كيفية معاملة العبيد بالحسنى ، منها ما رواه الإمام مسلم وغيره عن المعرور بن سويد قال: مررنا بأبي ذر بالربذة – من ضواحي المدينة المنورة – وعليه بُرُد (نوع من الثياب) وعلى غلامه مثله – أي وجدوه يُلْبس غلامه ثوباً كثوبه تماماً – فقلنا يا أبا ذر لو جمعت بينهما – بين الثوبين – كانت حُلّة ، فشرح لهم رضي الله عنه السبب في إكرامه لغلامه قائلاً : " إنه كان بيني وبين رجل من إخواني – الصحابة – كلام ، وكانت أمه أعجمية فَعَيَّرته بأمه ، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال " يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية" – أي فيك عيب من عيوب الجاهلية ما زال بطبعك وهو معايرة الناس بأصولهم وأمهاتهم – فقلت – القائل هو أبو ذر – يا رسول الله من سب الناس سبوا أباه وأمه، قال النبي : " يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم, فأطعموهم مما تأكلون ، وألبسوهم مما تلبسون, ولا تكلفوهم ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم فأعينوهم" .
والحديث رواه البخاري أيضاً باختلاف يسير في الألفاظ (1) .
والحديث الشريف قاطع الدلالة في النهي عن الإساءة إلى العبيد وإثبات " أخوتهم " لمالكيهم، وتحريم سبهم أو معايرتهم بالرق . كما أن في الحديث أمر نبوي نبيل بإطعامهم من ذات الطعام الذي يتناوله السادة ، وكسوتهم من ذات الثياب ، وكذلك تحريم تكليف الرقيق بالأعمال الشاقة التي ترهقهم ، فإن لم يكن هناك مفر من أداء تلك الأعمال الشاقة فلابد أن يساعدهم السادة على أدائها بأنفسهم أو باستئجار من يعينهم عليها . وهناك حديث آخر لمسلم بذات المعنى : " للمملوك طعامه وكسوته ولا يُكَلَّف من العمل إلا ما يطيق" .. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم حَرَّم مجرد أن يُنادى المملوك بكلمة : عبدي أو أمتي ، حفاظاً على مشاعر هؤلاء المساكين . وقال صلى الله عليه وسلم : "لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي" رواه البخاري وغيره . وهو أيضا التعبير الوارد فى الكتاب العزيز-فتى أو فتاة- فهل هناك تكريم ورعاية لمشاعر النفس الإنسانية المبتلاة بالرق أكثر من ذلك ؟!! ويعلق الإمام القرطبي على هذه الأحاديث الشريفة قائلاً : " ندب صلى الله عليه وسلم السادة إلى مكارم الأخلاق وحضَّهم عليها، وأرشدهم إلى الإحسان، وإلى سلوك طريق التواضع حتى لا يروا لأنفسهم مزيّة على عبيدهم ، إذ الكل عبيد الله والمال مال الله، ولكن سخَّر بعضهم لبعض " انتهى . وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم عطوفا رحيما بالرقيق . وثبت أنه أوصى بالضعيفين المملوك والمرأة .و روى شعبة عن أنس أن الرسول عليه السلام" كان يركب الحمار ويلبس الصوف ويجيب دعوة المملوك" ، أى يلبى دعوة العبد الى طعامه جبرا لخاطره و لايتكبر عليهم، كما أنه لم يشتم أو يضرب عبدا ولا جارية قط. وتطبيقاً لهذا الهدي النبوي كان علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه يخص غلامه بالثياب الجديدة ويكتفي هو بالقديم من الملابس ، فلما تساءل الغلام قال له : يا بني إنك شاب تحتاج إلى الجديد ، أما أنا فقد كبرت سني وتكفيني ملابسي تلك . وكان رضي الله عنه يقول : إني أستحي من الله أن أسترق من يؤمن بالله واليوم الآخر .. وكان على بن الحسين يجلس إلى عبد أسود يستزيد منه علمًا وفقهًا ، وعندما عاب عليه البعض ذلك أجابهم قائلاً : إنما يجلس المرء حيث ينتفع .
وتطبيقاً لذلك الهدي أيضاً، نَهَر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعض السادة عندما وجدهم يتناولون الطعام، بينما مماليكهم واقفين بعيداً لا يشاركونهم فيه، وأصر رضي الله عنه على أن يجلس الأرقاء مع سادتهم للأكل من ذات الإناء . وكان رضي الله عنه يتفقد في خلافته – منطقة "العوالي" بالمدينة ، فإذا رأى عبيداً يقومون بأداء أعمال شاقة ، يأمر السادة بالتخفيف عنهم أو مساعدتهم على إنجازها . وشوهد سلمان الفارسي يعجن دقيقا, فلما سُئل عن ذلك قال : بعثنا الخادم في شيء، فكرهنا أن نجمع عليه عملين، وعن عبد الله بن عمرو أنه سأل وكيله على المال : أعطيت الرقيق طعامهم ؟ قال الوكيل : لا ، فصاح به عبد الله أن يسارع بإطعامهم ، وروى فى ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوتهم"(2) . وكان الناس لا يعرفون عبد الرحمن بن عوف إذا سار وسط مماليكه ، لأن الكل يلبس ثياباً واحدة .

القصاص من السيد

وليس هذا فحسب، بل إن من ضرب مملوكه فكفارته أن يعتقه ، كما سنبين لاحقاً، وكذلك من يؤذي عبده أو جاريته بأية صورة من صور الإيذاء البدني أو المعنوي ، فضلاً عن القصاص إن لم يقبل العبد المجني عليه بالتعويض أو العفو عن الجاني .
روى الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من قتل عبده قتلناه ، ومن جَدَعَ عبده جدعناه ، ومن خصى عبده خصيناه "(3). واستناداً إلى هذا الحديث الشريف ذهب الرأي الراجح إلى أن الحُرّ يُقتل قِصاصاً إذا قتل عبداً متعمداً . قال الصنعاني في " سبل السلام " : والحديث دليل على أن السيد يُقاد بعبده في النفس – يُقتل إذا قتله – والأطراف – أي يقتص منه إذا قطع طرفاً أو جزءاً من جسم العبد – إذ الجدع هو قطع الأنف أو الأذن أو اليد أو الشفة كما في القاموس . ويقاس عليه إذا كان الجاني شخصا آخر غير السيد بطريق الأولى. وذهب النخعي وغيره إلى أنه يُقتل الحر بالعبد مطلقاً عملاً بالحديث المذكور، وأيده عموم قوله تعالى : "النفس بالنفس" المائدة : 45. انتهى(4) . ويحظر الحديث أيضاً عادة خصي العبيد الوحشية التي سادت في كل الأمم قبل الإسلام, وهي إزالة خصيتي العبد الذكر، ونص الحديث صراحة على خصي السيد نفسه إن أقدم على اغتيال رجولة العبد المسكين .
وحكى القرطبي عن نفر من الصحابة أنهم كانوا يقتصون من ولد السيد أيضاً إذا ضرب مملوك أبيه أو أمته أو جرحه ، فإذا أبى القصاص كانوا يحررون العبد أو الجارية المجني عليها عقاباً لأبيه المالك الذي لم يحسن تربية ولده و رعاية عبده (5) . ومنهم سويد بن مقرن رضى الله عنه الذى اقتص لعبد من ولده ، لأن ابنه لطم الفتى المسكين.
والواقع أن الأحاديث في الأمر بالإحسان إلى الرقيق والنهي عن أية إهانة أو إساءة إليهم هي أكثر من أن نحصرها جميعاً هنا ولكن نكتفي بعرض ما يتيسر منها .
وعلى سبيل المثال ذكّر النبي عليه السلام السادة بنعمة الله عليهم إذ جعلهم هم الأحرار وغيرهم مبتلى بالرق إلى حين . وقد خَصَّص الإمام الغزالي في كتابه الرائع "إحياء علوم الدين" بابًا كاملاً تحت عنوان : " حقوق المملوك " ، وكذلك فعل أبو داود فى سننه التى تحتوى بابا فى " حق المملوك" وغيرهم من علماء السلف رضي الله عنهم .
وذكر الإمام الغزالي في ذلك الباب قول الرسول صلى الله عليه وسلم للسادة " إن الله ملّككم إياهم، ولو شاء لملّكهم إياكم "(6) .فالله تعالى قادر على تبديل الحال إن شاء، فلتحمدوا الله أيها الأحرار، وبعض هذا الحمد أن تتقوا الله في الرقيق وتحسنوا إليهم، ولتلزموا التواضع لله ، ولتنبذوا الكبرياء والترفع عليهم ، وإلا أذاقكم الله هوان الرق بدوركم في الدنيا ، مع شدة العذاب في الآخرة . وقد ذكر الإمام القرطبي حديثاً في تفسيره للآية 36 من سورة النساء نصه : " لا يدخل الجنة سيئ الملكة " أي الذي يسيء معاملة من هم تحت يده . وقال عليه السلام أيضاً فيما يرويه القرطبي : " من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة ثمانين" ، أي إذا رمى السيد مملوكه البرئ بارتكاب الزنا ولم يقتص منه، فإن الله يطبق على السيد المفتري حد القذف يوم القيامة ثمانين جلدة ، وذلك هو العدل الإلهي المطلق ، فإن لم يطبق في الدنيا فلا مفر منه في الآخرة . وأورد القرطبي كذلك حديث أبي داود: قال صلى الله عليه وسلم "من لايمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون ، وأكسوه مما تكسون ، ومن لا يلايمكم منهم فبيعوه ، ولا تعذّبوا خلق الله"- لايمكم معناها وافقكم - والحديث نص صريح قاطع في الأمر بحسن المعاملة والنهي عن التعذيب(7) .

إباحة الزواج بالرقيق

ومن مفاخر الإسلام العظيمة أنه أباح زواج الأحرار من الرقيق، بل هو محمول على الندب عند الجمهور لعموم قوله تعالى "وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم .." الآية 32 من سورة النور . و كان هذا محظوراً قبل الإسلام، وكانت القبائل الأوروبية تحكم على الحُرّة التي تتزوج بعبد أن يحرقا معاًّ !! وإذا تزوج حُرّ بأمة كان يسترق بدوره ويصبح عبداً !! أما في الإسلام فقد اتفق الفقهاء على إباحة أن ينكح العبد أمة، وأن تنكح الحُرّة عبداً إذا رضيت بذلك ، والرأي الراجح أنه يجوز للحُرّ أن ينكح أمة بإطلاق(8) .
ومن يطالع السيرة العطرة وتاريخ الصحابة سوف يجد تطبيقات عملية كثيرة بهذا الخصوص . فقد زوّج النبي صلى الله عليه وسلم ابنة عمته زينب بنت جحش بمولاه زيد بن حارثة .. وذكر البخاري في باب الأكفاء في الدين أن أبا حذيفة زوّج ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة من مولى هو سالم رضي الله عنه . وأشار النبي صلى الله عليه وسلم على القرشية الحسيبة النسيبة فاطمة بنت قيس بالزواج من مولاه أسامة بن زيد , وفَضَّله على خاطبيها الآخرين معاوية بن أبي سفيان – وهو الحسيب النسيب – وأبي جهم وهو من الاحرار أيضا. وروى الحاكم وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقبيلة عربية عريقة : "يا بني بياضة أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه" ، وكان مولى لبني بياضة وكان حَجَّاماً . وتزوج بلال رضي الله عنه هالة بنت عوف وهي أخت عبد الرحمن بن عوف، وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على سلمان الفارسي رضي الله عنه قبل أن يخطبها النبي صلى الله عليه وسلم(9) انتهى .
وليس هناك في رأينا ما هو أقوى من هذا لإثبات أن الرقيق في الإسلام ظفر بمعاملة نبيلة يستحيل وجود مثلها في أية أمة أو ديانة أو حضارة أخرى .
بل إن القرآن العظيم قد نص صراحة على أن الزواج من جارية مؤمنة خير من الزواج من حُرَّة كافرة ، وكذلك فإن عبداً مؤمناً خير وأفضل عند الله من مشرك. قال تعالى : "ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم" (الآية 221 من سورة البقرة) .
وقد نزلت هذه الآية – كما يروي ابن كثير – في عبد الله بن رواحة رضي الله عنه الذي غضب على جارية له يوماً فلطمها . فأحس بتأنيب الضمير فانطلق إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فسأله الرسول عن أحوالها ، فأجاب عبد الله : تصوم وتصلي وتحسن الوضوء ، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال له معاتباً : "يا عبد الله هذه مؤمنة" ، فقال عبد الله : والذي بعثك بالحق لأعتقنّها ولأتزوجنّها . وبالفعل أعتقها عبد الله بن رواحة وتزوجها، فثار عليه نفر من المسلمين منتقدين فعلته تلك ، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في الحسب والنسب، وكانوا مازالوا حديثى عهد بالجاهلية ، ويأنفون من الزواج من الإماء، فأنزل الله تعالى فيهم : "ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم" (الآية : 221 من البقرة) . وفي ذات الآية أضاف تعالى بعدها قوله الحكيم : "ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم" . ويفسر الإمام ابن كثير هذا الجزء من الآية قائلاً : أي ولرجل مؤمن ولو كان عبداً حبشياً خير – وأفضل – من مشرك وإن كان رئيساً ثرياً (10) انتهى .
ونظن أنه بعد كل هذا أنه لا يمكن الزعم أن أحداً قد جاء بشيء أفضل ولا أعظم من هذا التشريع الإلهي الذي لم يكتف بالمساواة بين الأحرار والعبيد في كل شيء، بل جعل العبيد أفضل من السادة في حالة اختلاف الدين، فالعبد المؤمن أفضل من ملء الأرض من الملوك الكافرين، والجارية السوداء الفقيرة المؤمنة أعظم وأكرم عند الله من كل ملكات الأرض الكافرات ، ولو كن أجمل وأصغر وأغنى، فلا قيمة لكل هذا الحطام الدنيوي الفاني في ميزان الإسلام . . ومن العلماء من أوجب على السيد تزويج عبده إذا بلغ مبلغ الرجال ، وكذلك نرى أنه يجب عليه تزويج جاريته إذا بلغت سن الزواج ، ولم يكن له فيها مأرب . وذلك انطلاقاً من مسئوليته عنها كراع مسئول عن رعيته أمام الله ، ومن أوجب الواجبات عليه أن يحمي مماليكه من الزنا والفواحش ، وأن يُحصِّنَهم بالزواج ، كما يفعل مع أبنائه وبناته الذين هم من صلبه . ويكفي أن نشير إلى ما فعله النبي من تزويج مولاه زيد بن حارثة من مولاته أم أيمن .
ونذكّر بأن آخر وصاياه صلى الله عليه وسلم قبل موته بقليل كانت هي : "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم"(11) . فلم يوص بابنته فاطمة أو أحفاده أو زوجاته ، بل أوصى بالإحسان إلى الرقيق "ملك اليمين" ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً .

شهادات المنصفين
وفيما يلى بعض ما قاله نفر من المنصفين من غير المسلمين عن حسن معاملة العبيد في الإسلام . تقول المستشرقة الألمانية آنا ماري شيمل : "الإسلام يأمر بحسن معاملة العبيد ، فللعبيد مثلاً الحق في الحصول على رواتبهم في حالات العجز والمرض . وعتق العبيد من الأمور التي يدعو إليها الإسلام ، وللعبد الحق في شراء المحل الذي يعمل فيه ، وله الحق في الحصول على قدر من دخل العمل ، وقد قضى الإسلام نهائياً على الرق ، وتبوأ العبيد "أرفع" المراكز ، وهذا ما نلاحظه من قراءة التاريخ الإسلامي عامة" (12) . ويقول المفكر النصراني المصري الدكتور نظمي لوقا : "لقد سوّى الإسلام بين العبدان والأحابيش وملوك قريش"(13) . ويؤكد العلامة جوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب" أن أوضاع الرقيق في البلاد الإسلامية كانت أفضل بما لا يقاس من خدم المنازل في الغرب . فالرقيق - كما يلاحظ لوبون - كانوا يعتبرون من أفراد الأسرة ، لا فوارق بينهم وبين الأبناء ، فهم يتناولون ذات الطعام ، ويلبسون ملابس مماثلة لسادتهم، ويختلطون بهم في المعيشة اختلاطاً تامًا ، حتى يكاد الغريب عن المكان لا يعرف العبد من السيد في الأسرة العربية . وقد رفض كثير من الرقيق الحرية وفَضَّلوا البقاء مع سادتهم العرب لنبلهم وكرمهم(14). ولا يقتصر الأمر على ما ذكره هؤلاء المنصفون من الغرب . فالتاريخ يثبت أن المسلمين كانوا يعاملون الرقيق كالأبناء فعلاً وليس كلاماً فحسب . ولهذا نبغ الموالي في كل الأقطار الإسلامية في الحرف والمهن المختلفة ، ووصلوا إلى قيادة الجيوش والمناصب الإدارية العليا كالوزارة ، بل وصلوا إلى رئاسة الدولة كما حدث في مصر.. ألم تقم لهم دولة في مصر هي دولة المماليك الشهيرة ؟! .
وهل كان السلطان قطز قاهر التتار إلا مملوكاً عطف عليه سيده وربّاه وثقفه ، ثم دفع به إلى الصفوف الأولى حتى وصل إلى حكم مصر؟؟ وكذلك الظاهر بيبرس والملكة شجرة الدر وعز الدين أيبك وكافور الإخشيدي وغيرهم .. ولولا سماحة الإسلام ونبل معاملته للمماليك لما كان من هؤلاء حكام خلّدهم التاريخ الإسلامي كما لم يحدث في أية أمة أو حضارة أخرى . وصدق قول عبد الله بن عباس رضي الله عنه : "هكذا الإسلام يزيد الشريف شرفاً ويرفع المملوك على الأسّرة" .
و كان من أهم الشخصيات في التاريخ الإسلامي كله من كانوا عبيداً من قبل ، وأنعم الله عليهم بالإسلام والحرية ثم خلود الذكر . . ونكتفي ببعض الأمثلة لأننا لو أردنا حصر هؤلاء لاحتجنا إلى مجلدات مطولة . ألم يكن " بلال بن رباح " صاحب أول آذان " في تاريخ الإسلام" ثم مؤذن الرسول عليه السلام طوال حياته ؟! هل هناك أشرف من الآذان الذى يدعو الناس إلى بيت ربهم للصلاة والوقوف بين يدي الخالق جل وعلا ؟! ألا يدل تكليف النبي عليه السلام لبلال العبد السابق بهذه المهمة السامية على تشريف الإسلام لأولئك الذين استعبدوا وأهدرت إنسانيتهم حيناً من الدهر ؟! .
وكذلك أجمع علماء المسلمين على جواز إمامة العبد للمسلمين في الصلاة . . والصلاة هي عماد الدين وأهم أركان الإسلام بعد شهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله . فإذا صح أن يؤم الناس عبد في أداء تلك الفريضة وخلفه يصلي مالكه وسيده ، فماذا يراد من الإسلام أكثر من هذا ؟! وعلى سبيل المثال صلى " صهيب " إماماً بالصحابة صلاة الجنازة على عمر بن الخطاب رضي الله عن الجميع . لاحظ أن صهيباً رضي الله عنه كان إماماً في تلك الصلاة وخلفه وقف عثمان وعلي بن أبي طالب والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص وغيرهم من سادات العرب ، وهو العبد السابق الذي أعزّه الله بالإسلام. وتولى زيد بن حارثة – ثم ابنه أسامة من بعده – قيادة جيش المسلمين وكان من جنوده سادات وأكابر المهاجرين والأنصار .
وكان عمر رضي الله عنه يأذن لبلال بالدخول عليه قبل أبي سفيان بن حرب سيد مكة في الجاهلية . وأما العلماء فقد كان منهم عدد هائل من الموالي على مر العصور وفي كل أقاليم الدولة الإسلامية .. ويكفي أن نذكر بعضهم وعلى رأسهم الحسن البصري رضي الله عنه ومحمد بن سيرين ، فقد كان أبواهما من العبيد الذين تحرّروا بالإسلام، وكانت أم الحسن البصري مولاة للسيدة أم سلمة رضي الله عنها . ولسنا في حاجة إلى التعريف بمكانة و غزارة علم هذين العلمين الجليلين وتقواهما ومنزلتهما الرفيعة في قلوب السلف والخلف . وكان عكرمة مولى ابن عباس من أكثر الناس دراية بعلم البحر حبر الأمة سيده ابن عباس رضي الله عنهما ، وكذلك نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما . وهناك سالم مولى أبي حذيفة الذي قال عنه عمر رضي الله عنه : لو كان حياً لاستخلفته على المسلمين . وذات المقولة قالتها السيدة عائشة عن زيد بن حارثة ، أنه" لو كان حيّاً لاستخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين" ، أي جعله خليفة(15) . فهل يحلم أحد بأرفع من تلك المنزلة؟!!
 

-----------------------------
أهم المراجع
1- الجامع لأحكام القرآن الكريم – القرطبي – تفسير الآية 36 من سورة النساء .
والحديث في صحيح مسلم بشرح النووي وأيضاً فتح الباري شرح صحيح البخاري .
2- الحديث في صحيح مسلم أيضاً .
3- حديث القصاص من السيد إذا قتل أو جرح عبده شبه مجمع عليه من كل رواة الأحاديث الشريفة ، وهو يعتبر بحق من مفاخر الإسلام في العدالة و المساواة بين الناس .
4- سبل السلام للصنعاني – باب الجنايات ص 661 – طبعة دار الكتب العلمية – بيروت .
5- تفسير القرطبي – المرجع السابق .
6- حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي – إحياء علوم الدين – باب حقوق المملوك
7-الامام القرطبي – تفسير الآية 36 من سورة النساء – سبقت الإشارة إليه .
8- بداية المجتهد ونهاية المقتصد – ابن رشد – طبعة دار الشروق الدولية ص 412
9- سبل السلام – محمد بن إسماعيل الصنعاني ص 558 – 559 .
10- تفسير ابن كثير – تفسير الآية 221 من سورة البقرة .
11- زاد المعاد لابن القيم – سيرة ابن هشام – البداية والنهاية لابن كثير – الطبقات الكبرى لابن سعد – حلية الأولياء لأبي نعيم .
12- آنا ماري شيمل – الإسلام دين الإنسانية – طبعة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر – سلسلة قضايا إسلامية – مايو 2007 م – ص 82 .
13- نظمي لوقا – محمد الرسالة والرسول ص 185 .
14- العلّامة الفرنسي جوستاف لوبون – حضارة العرب – طبعة الهيئة العامة للكتاب – مصر – ضمن مشروع مكتبة الأسرة .
15- انظر تراجم هؤلاء العظماء في: سير أعلام النبلاء للذهبي – حلية الأولياء لأبي نعيم – البداية والنهاية لابن كثير – الطبقات الكبرى لابن سعد وغيرها من كتب الرجال .

 



فَـك رقبـة


آية حكيمة خالدة مكونة من كلمتين فقط حَرَّر الله تعالى بها عشرات الملايين من الأنفس على مدار 14 قرناً من الزمان . كلمتان فقط: "فك رقبة"- فى سورة البلد الآية:13- هما دستور الحرية والإعلان الإلهى لعتق المعذبين فى الأرض قبل الإسلام .. ولا ندرى كيف لا يخجل الزاعمون أن الإسلام يؤيد الرق من أنفسهم ، رغم وجود كل تلك النصوص الصريحة فى القرآن عن "تحرير رقبة" و"فك رقبة" ؟!! والمراد هنا العتق الاختيارى تقرباً إلى الله تعالى .
يؤكد المفسرون(1) تعليقاً على تلك الآية الخالدة التى جاءت فى سياق قوله تعالى : "فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة" أن اجتياز العقبة التى هى أهوال يوم القيامة – أو جهنم حسب رأى آخرين أو جبل فى جهنم – لا يكون إلا بالأعمال الصالحة فى الدنيا ، وعلى رأسها "فك رقبة" أى تخليص نفس من الرق ، إما بالعتق لها كلّيا بأن يحرّر السيد رقيقه بلا مقابل ، أو أن يشترى رقبة فيعتقها ، أو بإعانة مكاتب على دفع المستحق لمالكه نظير تحريره (2) .
وقد ذهب الإمام أبو حنيفة رضى الله عنه إلى أن العتق أفضل من الصدقة ، مستدلاً بهذه الآية الكريمة التى جاء ذكر فك الرقبة فيها قبل باقى الحسنات الأخرى مثل "أو إطعام فى يوم ذى مسغبة" (البلد:14) . وهو رأى عبقرى يدل على سعة أفق الإمام وإدراكه للقيمة العظمى للحرية فى الإسلام ، حتى أن الله تعالى قدمها على إطعام الفقراء والمساكين بل والأيتام من ذوى الأرحام .. وأورد الإمام القرطبى رضى الله عنه فى تفسير الآية أن رجلاً سأل الشّّعْبى : أين يضع فضل النفقة ، فى ذى قرابة أم يعتق رقبة ؟ فقال الشّعبى : عتق الرقبة أفضل ، مستدلاً بالحديث الشريف "من فك رقبة فك الله بكل عضو منها عضواً منه من النار" . وقال القرطبى رضى الله عنه : الفك : حل القيد، والرق قيد ، وسُمى المرقوق رقبة لأنه بالرق كالأسير المربوط فى رقبته ، وسُمى عتقها فكاً مثل فك الأسير من قيوده" . وأورد القرطبى كذلك حديثاً عن عقبة بن عامر الجُهنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : "من أعتق رقبة مؤمنة كانت فداءه من النار" . والأحاديث الشريفة فى العتق وفضله كثيرة ومتواترة فى كل كتب السُنِّة والصحيحين . كما أنه لا يخلو كتاب منها ولا من كتب الفقهاء القدامى من باب أو كتاب كبير يُسمى "العتق" .
وقد سأل رجل النبى عليه السلام عن عمل يُقرِّبه إلى الجنة ويباعده عن النار فأرشده قائلاً : "أعتق النسمة . وفك الرقبة" فقال الرجل : أو ليسا واحدا ؟ فأجابه عليه السلام: "لا . عتق النسمة أن تنفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين فى ثمنها" (3) .
ومن الأحاديث الواردة فى فضل العتق ما رواه الشيخان البخارى ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"أيَّما امرئ مسلم أعتق امرءًا مسلماً استنقذ الله بكل عضو منه عضواً منه من النار" وتمامه فى البخارى : "حتى فَرْجه بفَرْجه" (4) .
وقال الصنعانى فى سبل السلام : عتق الكافر يصح أيضاً ، وفى تقييد الرقبة المعتقة بالإسلام دليل على أن هذه الفضيلة لا تُنال إلا بعتق المسلمة ، وإن كان فى عتق الرقبة الكافرة فضل ، لكنه لا يبلغ ما وعد به هنا من الأجر . انتهى (5) .
وروى أبو داود "وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار". ويرى بعض الفقهاء أن عتق الذَكَرِ أفضل ، لكننا نرى صواب رأى فريق آخر ذهب إلى أن عتق الأنثى أفضل ، لأن ولدها كلهم يكونوا أحراراً سواءً تَزَوَّجت بِحرًّ أو عبدٍ ، فالأولاد يتبعون الأم فى الحرية ، وبذلك تكون دائرة التحرير أوسع نَطاقاً وأكثر عدداً . ونحن نرى كذلك أن الرق أشد وأقسى على الجارية ، لضعف المرأة ورقة حالها ، فتخليصها من الرق أولى عندنا من الذكر الذى يمكنه التحمل أكثر من أخته إلى أن يُيَسِّر الله له سبيلاً للتحرير بدوره بالمكاتبة أو غيرها . وروى البخارى ومسلم أيضاً عن أبى ذر رضى الله عنه : سألت النبى صلى الله عليه وسلم: أى العمل أفضل ؟ قال : "إيمان بالله وجهاد فى سبيله" قلت: فأى الرقاب أفضل ؟ قال : "أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها" متفق عليه (6) .
قال النووى : محل الحديث فيمن أراد أن يعتق رقبة واحدة ، أما لو كان مع شخص ألف درهم مثلاً فأراد أن يشترى بها رقاباً يعتقها ، فوجد رقبة بألف واثنتين بألف درهم ، فتحرير الإثنتين أفضل من الواحدة . ويبدو لنا بوضوح سعة أفق الإمام النووى رضى الله عنه وإدراكه الصائب لفلسفة التحرير فى الإسلام ، وأن المنهج هو التوسيع وزيادة أعداد المعتقين بقدر الإمكان . ولكن الصنعانى يستدرك على ما قاله النووى فيقول : الأولى ألا يؤخذ هذا كقاعدة كلية ، بل يختلف باختلاف الأشخاص ، فإن كان شخص بمحل عظيم من العلم والعمل وانتفاع المسلمين به أفضل ، فعتقه أفضل من عتق جماعة ليس فيهم هذه السمات ، فيكون الضابط اعتبار الأكثر نفعاً للمسلمين . ومعنى "أنفسها عند أهلها" أى ما كان سرورهم بها أشد ، وهو الموافق لقوله تعالى :"لن تنالوا البِرَّ حتى تنفقوا مما تحبون" آل عمران:92. انتهى (7) .
وروى البخارى عن أبى موسى : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من كانت له جارية فَعَلَّمها فأحسن إليها ثم أعتقها وتزوجها كان له أجران" . ويقول الدكتور موسى شاهين لاشين : له أجر التربية والإحسان وأجر زواجها من الحرّ ورفع مكانتها (8) .
تعـليق
هذا الحديث الشريف فى رأينا يظهر بوضوح حرص الإسلام على مصير الجوارى حتى بعد التحرير ، كما أنه يحث السادة على تعليم الرقيق وحسن تربيتهم بالضبط كما يفعلون مع أبنائهم وبناتهم الذين هم من أصلابهم . فعليهم أن يحصّّنوا الرقيق بكل العلوم النافعة والأخلاق الحميدة ، ثم لا يترك الجارية بعد عتقها للضياع فى المجتمع ، وقد لا يكون لها مكان تذهب إليه أصلاً سوى بيت السيد السابق .. وحيث أنها صارت أجنبية لا تحل له بعد تحريرها ، فلا سبيل سوى أن يتزوّجها هو أو أحد أقاربه أو معارفه من الأحرار الصالحين .
وقد أعتق الرسول صلى الله عليه وسلم جويرية وصفية وريحانة وتَزَوَّجَهن، فضرب بذلك المثل والقدوة لغيره من المسلمين . كما أعتق حاضنته أم أيمن وزَوَّجَهَا مولاه زيد بن حارثة . ومن ذلك نلاحظ كيف يقضى المنهج العظيم تدريجياً على آثار الرق البغيض فى المجتمع . فإذا تحرّر الرقيق ثم اختلط بالأحرار عن طريق الزواج والوَلاَء الذى هو كالنسب – قرابة الدم – فلا تبقى هناك أية فروق بين الفريقين ، وخلال جيل أو اثنين فقط تتلاشى تماماً آثار الرق ، ويصبح مجرد ذكرى غابرة لا يهتم بها أحد .

التوسع فى إجازة العتق

وكذلك نلاحظ أن فقهائنا العظماء قد توسعوا فى قبول تصرف العتق ، لشدة الحرص على توسيع نطاق الحرية فى المجتمع . ومن ذلك أنهم أجازوا للصبى الذى عمره عشر سنوات فقط أن يعتق عبده أو جاريته . كما أجازوا للبنت المالكة أن تعتق عبدًا أو جارية وهى فى سن التاسعة فقط . بل يذهب الإمام مالك رضى الله عنه إلى أبعد مدى ، فيُجيز العتق حتى ولو كان المالك قد نطق بكلمة التحرير على سبيل الخطأ ، ويُجيز عتق الناسى . كما قرر الفقهاء أن عتق السكران يصح عقاباً له من ناحية وحرصاً على حق المملوك فى الحرية من ناحية أخرى ، و عتق الهازل يكون سارى المفعول ، وهذا كله يأتى تغليباً لمصلحة المماليك فى الحصول على الحرية بأية وسيلة ولأى سبب ممكن .

امتداد العتق
هناك مبدأ عظيم يُعبَّر عنه الفقهاء بقولهم "سراية العتق" أى امتداده بقوة التشريع الإسلامى من الجزء إلى الكل والعكس ، ومن الأصل إلى الفرع والعكس أيضاً . كما يقرون أيضاً أن العتق لا يتجزأ ولا يتبعض . فكما رأينا إذ تحررت الأم يتحرر جنينها ومن ولدتهم بعد تحررها ، وإذا أنجبت الجارية من سيدها – ولو كان سقطاً – فإنها تتحرربنص الحديث "أعتقها ولدها". وأيضا يقرر الإسلام أنه إذا تحرر جزء من العبد – أو الجارية – فإنه يتحرر كله بقوة القانون . روى أبو داود والطيالسى أن رجلاً أعتق شقصاً – نصيباً - له من غلام ، فذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال :"ليس لله شريك" فأعتقه كله (9) . والمعنى أنه عليه السلام قضى بتحرير العبد كله إذا كان سيده هو المالك الوحيد له وأعتق منه جزءاً، لأن العتق يسرى إلى كل العبد فيتحرر جميعه . وقد توسع العلماء رضى الله عنهم فى ذلك ، حتى ذهب الحسن البصرى وغيره إلى أنه إذا أعتق المالك شَعْرَةً واحدةً أو إصبعاً واحداً من مملوكه فقد تحرّر كله فوراً .. وعتق الجنين هو عتق للأم كلها معه ولو لم يقصد المالك ذلك، لأن الجنين جزء منها ، وعتق الجزء يسرى إلى الكل كما رأينا .
وإذا كان العبد مشتركاً بين عدد من المُلاَّك وأعتق أحدهم نصيبه فإن العبد يتحرّر فوراً ، وكل ما هنالك أن من أعتقه يضمن لشركائه قيمة نصيب كل منهم إذا كان غنياً . أما إذا كان معسراً فإن العبد المحرّر يكون مطلوباً منه أن يسعى ويعمل لتسديد حقوق باقى مالكيه إن لم يعتقوه هم أيضاً طواعية (10) . والأحاديث فى ذلك كثيرة عند البخارى ومسلم وأبو داود وغيرهم . روى البخارى أنه صلى الله عليه وسلم قال :"من أعتق نصيباً – أو شقيصاً – فى مملوك فخلاصه عليه فى ماله إن كان له مال ، وإلا قوِّم عليه فأستُسعى به غير مشقوق عليه". ويقول الدكتور موسى شاهين لاشين شرحاً لذلك : وفى حالة عدم قدرة الشريك الذى أعتق على دفع كامل قيمة العبد ، فعلى العبد أن يسعى لتحرير نفسه بالعمل ، وتقسيط ما عليه لباقى الشركاء دون تكبيده مشقة (11) . ونحن نرى أنه فى حالة عجز العبد عن العمل لتسديد حقوق باقى الشركاء – كما لو كان مريضا أو صغيراً أو جارية – فإنه يمكن الأخذ بالرأى الوجيه للإمام ابن سيرين الذى يلزم بيت مال المسلمين بدفع باقى قيمة العبد لباقى الشركاء ، والمهم أن العبد قد تحرر كله هنا فى جميع الحالات.

أئمة التحرير
كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة فى العتق سواء فى الجاهلية أو فى الإسلام .. فقد أعتق كل من وصل إلى يده الشريفة من عبيد .
وتبعه أبو بكر رضى الله عنه ، فقد أعتق بمفرده ألفين من الرقيق على رأسهم بلال بن رباح ، فكان عمر بن الخطاب يقول : أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا ، رضى الله عنهم أجمعين . وكان أبو قحافة والد أبى بكر لم يُسلم بعد فى مكة ، فكان يقول لابنه: إنى أراك تعتق ضعافاً، فلو أعتقت عبيداً أقوياء يمنعوك – يحمونك من أذى الكفار – فكان أبو بكر يرد عليه : يا أبت لو كنت أعتقهم للدنيا لكان ما تقول خيراً ، إنما أعتقهم لله عزّ وجل . ولم يسمع رضى الله عنه بأى عبد مسلم يُعذِّبه سيده ليترك الإسلام إلا سعى واشتراه وأعتقه لله – وكذلك أعتق عمر رضى الله عنه وبنوه آلافاً من العبيد (12) . وبلغ عدد من حررهم ابنه عبد الله بن عمر وحده أكثر من ألفى عبد وجارية . وله فى ذلك مواقف مشهودة . فقد عرض عليه عبد الله بن جعفر رضى الله عنهما عشرة آلاف درهم ليبيع له غلامه "نافع" الفقيه المشهور ، فقال عبد الله بن عمر: أو خيراً من ذلك ؟ هو حرٌ لوجه الله تعالى (13) . واشترى غلاماً بأربعين ألفاً وأعتقه ، فقال له الغلام : يا مولاى حرّرتنى فهب لى شيئاً أعيش به ، فأعطاه أربعين ألفاً أخرى (14) . وكان رضى الله عنه يحب أن يحرّر العبيد الصالحين . مَرّ يوماً بغلام يرعى غنماً لسيده ، فأراد أن يختبره فطلب منه أن يذبح شاة ، فرفض الغلام لأن سيده ليس موجوداً ، فقال له ابن عمر : قل له أكلها الذئب، فصاح الغلام الأمين مستنكراً قائلاً للصحابى الجليل : اتق الله . فابتسم ابن عمر سعيداً بأمانة الصبى ، واشتراه من سيده وأعتقه ، كما اشترى الغنم ووهبها له ليعيش منها (15) . وقد عرف عبيد ابن عمر ذلك فيه ، فكانوا يطيلون الصلاة فى المسجد حتى يراهم فيسألهم : لمن صليتم هذه الصلاة ؟ فيجيبون : لله ، فيقول لهم رضى الله عنه : فأنتم أحرار لمن صليتم له ، فيقول له أصحابه : يا أبا عبد الرحمن إنهم يخدعونك ، فيرد رضى الله عنه بقولته الرائعة : ما خدعنا أحد بالله إلا انخدعنا له (16) . وكان يحب جارية له اسمها رميثة فحرّرها لله ، ثم زوّجها مولاه نافع عملاً بقوله تعالى "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" آل عمران: 92 .
وأعتق ذو الكلاع الحميرى ثمانية آلاف نفس فى يوم واحد فقط . وأعتق العباس بن عبد المطلب سبعين عبداً وجارية كما روى الحاكم .
أما على بن عبد طالب وبنوه فقد أعتقوا آلافاً مؤلفة من الرقيق ابتغاء مرضاة الله تعالى . وكان على يقول : إنى استحى أن أسترق من يوحّد الله . ويكفى أن حفيده على بن الحسين اشتهر بلقب "محرّر العبيد" لكثرة من أعتقهم . وهو صاحب القصة الشهيرة عندما كانت جارية تصب عليه ماء الوضوء، فوقع الإناء من يدها على رأسه فجرحه وأسال دمه ، فنظر إليها غاضباً فقالت له : سيدى إن الله تعالى يقول : "والكاظمين الغيظ" فأجاب : قد كظمت غيظى ، قالت : ويقول تعالى : "والعافين عن الناس" قال : قد عفوت عنك ، قالت : ويقول سبحانه : "والله يحب المحسنين"-الاّية 134 من سورة ال عمران- فقال عليه السلام : اذهبى فأنت حُرّة لوجه الله . وأما عثمان بن عفان رضى الله عنه فقد كان من عادته أن يعتق فى كل يوم جمعة عبداً أو جارية ، احتفالاً باليوم المبارك من كل أسبوع . وفى اليوم الذى استشهد فيه حرّر عشرين عبداً كانوا هم كل من تبقى لديه من الرقيق .
وأعتق حكيم بن حزام رضى الله عنه مائة رقبة فى الجاهلية قبل إسلامه ، ثم أعتق مائة رقبة أخرى بعد ما أسلم ، وعندما سأل النبى عما فعله من عتق قبل الإسلام أجابه صلى الله عليه وسلم : "أسلمت على ما سلف لك من خير" (17) . ويذكر التاريخ بكل فخر أن الصحابى الجليل عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه قد أعتق وحده ومن ماله الخاص ثلاثين ألفاً من الرقيق طوال حياته ، وهو رقم هائل لم يحرر نصفه ولا ثلثه رجل واحد بمفرده فى أية أمة أخرى من قبل ولا من بعد . وتكفى مقارنة بسيطة بين ما فعله الصحابى الجليل "ابن عوف" ، و العار الذى لحق بمؤسس الولايات المتحدة الأمريكية "جورج واشنطن" الذى مات وعنده فى مزرعته الخاصة ثلاثمائة عبد لم يحرّر واحداً منهم قط طوال حياته ، وهو الذى تزعم المطالبة بحرية أمريكا واستقلالها عن الإنجليز !!!
وكان التابعون ومن بعدهم رضى الله عنهم حريصون كذلك على العتق باعتباره من أعظم القربات . فكان أبو حاتم عبيد الله بن أبى بكرة الثقفى يُعْتق فى كل يوم عيد مائة عبد وجارية لوجه الله . وأعتق صلاح الدين الأيوبى وقُوّاد جيشه عشرات الألوف من النصارى الذين وقعوا فى الأسر بعد فتح القدس . وكان الصليبيون قد ذبحوا سبعين ألفًا من المسلمين فور اجتياحهم للقدس قبل ذلك . وهذا هو الفارق بين رحمة وسماحة الإسلام، ووحشية وجبروت الآخرين .

مولى القوم من أنفسهم

لا يكتفى الإسلام بمجرد تحرير العبيد والجوارى ، وتركهم هكذا بلا عوائل أو انتماء أو هوية . فالعبد فى هذه الحالة يكون فى مَسيس الحاجة إلى دفء الأسرة والقبيلة ، خاصة إذا كان قد تم جلبه من بلاد بعيدة فى صغره – كما هو الحال فى أغلب العبيد – وانقطعت الروابط بينه وبين قبيلته الأصلية . ولهذا أوجد الإسلام رابطة حميمة تشابه تماماً رابطة الدم – النسب – بين السيد الذى حَرَّر عبده والعبد الذى نال حريته تسمى "الولاء" . وكما هو واضح من الاسم فإنه يُفيد التراحم والتناصر والترابط ، أو كما نقول فى عصرنا هذا : "التضامن" و "التكافل الاجتماعى" . وأحد مظاهره أن السيد المُعْتق يرث عبده المُحْرَر إن لم يكن له وارث . ورابطة الولاء هى رابطة سامية ، لذلك لا يجوز بيعها ولا هبتها ولا نقل ملكيتها ولا المتاجرة بها فى أية حالة ولا بأية صورة من الصور . يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "الولاء لمن أعتق" رواه البخارى وغيره فى حديث الجارية بريرة المشهور والتى اشترتها السيدة عائشة وأعتقتها ، فمن أعتق غلاماً يثبت له الولاء معه (18) ، وكما لا يجوز بيع قرابة الدم فإنه لايجوز بيع الولاء . يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "الولاء لُحمة كَلُحمة النسب" وعند الشافعى بزيادة "لا يُباع ولا يُوهب" (19) . ويشرح الصنعانى الحديث بقوله : "معنى تشبيهه بلُحمة النسب أنه يجرى الولاء مجرى النسب فى الميراث ، كما تخالط اللُحمة سدى الثوب حتى يصيران كالشيئ الواحد . والحديث دليل على عدم صحة بيع الولاء ولا هبته ، فإن ذلك أمر معنوى كالنسب لا يتأتى انتقاله كالأبوة والأخوة لا يتأتى انتقالهما ، وكانوا فى الجاهلية ينقلون الولاء بالبيع وغيره ، فنهى الشرع عن ذلك ، وعليه جماهير العلماء" انتهى (20) ولا تقتصر رابطة الولاء على حق السيد المُعْتق فى أن يرث عبده السابق ، بل يصبح العبد المحرّر واحداً من السادة الذين كانوا يملكونه ، فيتزوج منهم ويخالطهم ، بل يسودهم إن كانت لديه المؤهلات الشخصية لذلك . يروى البخارى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : "مولى القوم من أنفسهم" (21) . وهكذا يبلغ الإسلام بالعبيد المحررين أعلى مقامات التكريم والمساواة المطلقة بالسادة السابقين . فالعبد بعد تحريره يصبح واحداً من أعضاء القبيلة التى ينتمى إليها سيده "من أنفسهم" كما عَبَّر الصادق الأمين الذى لا ينطق إلا بتشريع من ربه .. فهل هناك مزيد يمكن أن يحصل عليه العبيد ؟
 

----------------------------
المراجع
1- الجامع لأحكام القرآن – تفسير القرطبى – سورة البلد تفسير الآية 13 .
2- تفسير الآية 13 من سورة البلد "معالم التنزيل" للبغوى ، وأنظر أيضاً تفسيرها لدى ابن كثير ، وفى "فتح القدير" للشوكانى ، وعند الطبرى والنسفى ، و تفسير البيضاوى المسمى "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" .
3- رواه الإمام أحمد فى مسنده ، والذهبى ، والمنذرى فى الترغيب والترهيب (3/84) ، وابن حجر العسقلانى فى فتح البارى (5/174) والهيثمى فى مجمع الزوائد .
4- فتح البارى لابن حجر كتاب العتق ، وانظر صحيح مسلم بشرح النووى .
5- سبل السلام – الصنعانى- ط دار الكتب العلمية بيروت – كتاب العتق صـ826
6- فتح البارى لابن حجر – صحيح مسلم بشرح النووى .
7- سبل السلام – المرجع السابق – صـ827 .
8- صحيح البخارى 2544 – وانظر تعليق الدكتور لاشين فى تيسير صحيح البخارى جـ111 ( فى الهامش) .
9- سنن أبى داود ، والحديث رواه أيضا الإمام الطيالسى رضى الله عنه .
10- انظر أحكام العتق فى باب العتق فى : المغنى لابن قدامة المقدسى ، "والمحلى بالآثار" لابن حزم ، والعدة فى شرح العمدة لبهاء الدين المقدسى ، و"سُبل السلام" للصنعانى ، و"بداية المُجتهد ونهاية المقتصد" لابن رشد ، و"المبسوط" للإمام السرخسى .
11- تيسير صحيح البخارى جزء 2 صـ107 هامش رقم 7 .
12- انظر سير هؤلاء العظماء فى البداية والنهاية لابن كثير ، وسير أعلام النبلاء للذهبى ، والطبقات الكبرى لابن سعد ، وأسد الغابة لابن الأثير ، وحلية الأولياء لأبى نعيم وغيرها من كتب السير والتراجم .
13- البداية والنهاية 9/4 – صفة الصفوة 1/517 .
14- البداية والنهاية لابن كثير 9/4 .
15- الإصابة 2/349 .
16- وفيات الأعيان 3/30- البداية والنهاية 9/4 .
17- صحيح البخارى رقم 2538 .
18- حديث بُريرة التى أعتقتها السيدة عائشة فى الصحيحين كما رواه أغلب أصحاب السنن .
19- رواه البخارى ومسلم وصححه ابن حبان والحاكم والترمذى .
20- سبل السلام – الصنعانى صــ831-832 .
21- فتح البارى بشرح صحيح البخارى ، كما رواه عدد كبير من أصحاب السنن، وأنظر أيضاً تيسير صحيح البخارى للدكتور موسى شاهين لاشين .

 

بحوث علمية
  • بحوث في التوحيد
  • بحوث فقهية
  • بحوث حديثية
  • بحوث في التفسير
  • بحوث في اللغة
  • بحوث متفرقة
  • الصفحة الرئيسية