اطبع هذه الصفحة


معلِّمة بشهادة جـلاد!!

د.أفراح بنت علي الحميضي

 
في بداية العام الدراسي وحين استوينا على مقعدنا المتصل (حين كانت تلك المقاعد متصلة بعضها مع بعض وليس حال المقاعد الآن) ثلاث طالبات صغيرات على مقعد خشبي متصل بطاولة ذات درجين، حين دخلت المعلِّمة إلى غرفتنا ولأنَّها أكبر منَّا ولأنَّ أعمارنا وأحجامنا أصغر وأصغر منها، فقد أخذنا نتطلّع إليها من أسفل إلى أعلى، رافعين قامتنا متطاولين برقابنا محدقين بنظراتنا إليها.
معلِّمتنا هذه التي دخلت علينا الفصل ولأوَّل مرة نراها، لم تكن في حصتها الأصلية، بل كانت في حصّة احتياط أو فراغ (ويبدو أنَّ حصّة الفراغ هذه لا يزال لها من اسمها نصيب).
جلست المعلِّمة على الطاولة التي أمامنا بعد أن حشرت الطالبات في زاوية الكرسي المتعلِّق بها، ثمَّ خطر لها فكرة أن تقطع وقت الفراغ هذا بالسؤال المعتاد عن أسماء الطالبات، أو لعلّها الرغبة الحقيقية في التعرُّف على أسمائهن، وبدأت سلسلة الأسماء تتابع، فلانة، فلانة، فلانة.. حتى جاء دوري وحيث كنت في حال يرثى لها من الخوف منها (ولا أدري حتى هذه الساعة لماذا؟!) وبعد أن تقلّصت كل الكلمات على شفتي وبعد أن تقزَّمت في مكاني على ضآلة حجمي آنذاك، خرج اسمي من فمي "أفراح" ردّت معلمتي بكلمات ما زالت منقوشة بذاكرتي: "اسم على غير مسمي"!
خرجت هذه العبارة من فمها ونسيتها قبل أن تخرج من فصلنا، لكنّها حفرت في عمق ذاكرتي أخاديد موجعة.. على غير مسمى لماذا؟ هل بيني وبينها سابق موقف؟
معلِّمتي التي عرفت اسمها بعد ذلك "رجاء"، لأي شيء ترجوها تلميذة صغيرة مثلي بعد أن صدمتني فزادت خوفي استياءً منها حينذاك، وحين كنت تلميذة أو بالأحرى عجينة تلميذة، لم تكن تستهويني "أبلة رجاء" ولا حصّة "أبلة رجاء"، وكانت هي عندي "اسماً على غير مسمي".
هيّجني مقال للدكتور الفاضل "مساعد المحيا" وأثار في نفسي زوابع من الشجون والذكريات، بل سلسلة من المشاهدات والمرئيات ماضياً وحاضراً، حتى إذا وصلت إلى نهاية المقال ورفعت رأسي إلى عنوانه وقرأت "هؤلاء المعلِّمات من أين لهن القسوة؟!" سللتُ قلمي وكتبت: أمَا زالت المشكلة موجودة في مدارسنا، هل هناك من لا يزال يضجُّ بالشكوي، ويرفع صوته بالأنين؟ .. أبعد هذا التطور في إعداد المعلِّمة وتمكينها من مهنتها بالمواد التربوية والتطبيقات العملية، أتكون هناك من تحمل شهادة جلاد؟
لا،لا.. حتماً ليست كلّ المدارس بؤراً للرعب، وليست كلّ المعلمات والإداريات يحوين بين صدورهن قلوباً قدّت من صخر.. لا.. وجذبتني الذاكرة مرّة أخرى إلى الصف الذي كنت فيه "اسماً على غير مسمى" آنذاك، حين كانت معلِّماتنا خريجات معاهد المعلِّمات، عندما كانت نفوسنا الغضّة البرئية تجد لها مرتعاً تنمو فيه في حصّة "أبلة نورة فالح السعدون" و"أبلة نورة عبيد السعدون" ، بل "أبلة هيا الفليح" التي كنّا حين نمرُّ على منزلها ونحن في طريقنا إلى المدرسة، فتمضي معنا أمً حولها بناتها، وحين كانت تحتوينا جميعاً "أبلة لولوة النعيم" لمّا كانت خطوطنا تتعثّر فتقيمها حتى غدت شبيهة بخط "أبلة لولوة" . وعندما نخرج إلى ساحة المدرسة لا تزال تحرّكات وتوجيهات إدارية مدرستنا "أبلة سارة الأحمد" محفورة في ذاكراتنا.
معلِّماتي لم يكنَّ خريجات كلية تربوية أو دورة إدارية، لقد تلقين من المواد التربوية أبسطها، لكن العملية التعليمية عندهن كانت أشمل من تعويدنا تهجية الحروف وقراءة الأرقام وضبط عملية الحضور صباحاً بأسلوب عسكري جاف.
أقول: كانت أشمل من ذلك لتغدو العملية التعليمية عملية توجيهية تربوية، بل كانت بعض معلِّماتنا يمارسن مهنة الأم البديلة في فترة مكوثنا في المدرسة.

ما التطور الذي حدث؟ ألم يبلغ عدد الكليات التربوية عندنا أكثر من ستين كلية تربوية؟ ألم تتخرّج لدينا كل سنة الآلاف من المعلّمات؟ ألم نجتهد في كلياتنا في دارسة المواد التربوية والنظرية والعملية المعينة على تحقيق الأهداف السلوكية؟
ألم يهتموا بدفتر التحضير وطريقة التحضير؟ قالوا لنا في البدء: تكتب طريقة التحضير بأسلوب رأسي تشمل الهدف العام، الخاص... إلخ.
ثم غيّرت الطريقة تبعاً لتطوُّر الدراسات التربوية إلى طريقة عرضية، فقلبت المعلَّمات دفاترهن وكتبن ذات الدرس ولكن بطريقة عرضية أفقية..

وبعد ما الذي تغير؟ لا شئ! لماذا لا تشمل تلك الدراسات أسلوب علاقة المعلمة بطالباتها؟ ما حدود تلك العلاقة؟ لماذا لا يُجرى اختبار تحمُّل نفسي لكل متخرِّجة ترغب في الانضمام لسلك التربية والتعليم؟ .. فليس كل امرأة قادرة على أن تكون معلِّمة وليست كل معلِّمة قادرة على أن تكون مربية، وبالتالي فليست كلّ معلِّمة على استطاعة أن تبني علاقات موجبة مع الطالبات مستندة إلى فهم صحيح لنفسياتهن، فبعض الطالبات تردعهن النظرة، وبعضهن لا يبالين حتى بالعقاب البدني.

المشكلة موجودة، نعم، والمعلِّمات الإداريات اللاتي يفقدن الشفافية في التعامل السليم مع الطالبات موجودات، وحيث إنَّني لا أريد أن تكون هذه الأسطر مزيداً من النعي لواقع موجود لا نستطيع أن نغمض أعيننا عنه، فإنِّي أؤكد على:

* أنَّ من لوازم العملية التربوية أن تدرك المعلِّمات والإداريات وأولياء الأمور أنَّ العلاقة بين المدرسة والمنزل يجب أن تتعدى كونها كيانين في إطار المجتمع إلى كيان واحد كبير، فما تبنيه المدرسة يجب أن تتعاهده البيوت، وما تحرص عليه البيوت يجب أن تدعمه المدرسة.

* أن تبحث المعلِّمات والإداريات عن أفضل الضوابط التي تحكم سلوكيات الطالبات بأسلوب لا ينفِّر التلميذة من المدرسة، بل يجعلها مكان شوق لهنّ كل صباح، وبهذا تكون المدرسة معامل للسلوك الحسن ومختبرات للتربية والتقويم.

* "العملية التعليمية التربوية مهمة إبداعية" جملة لو دوَّنتها كلّ معلِّمة على دفتر تحضيرها وكلّ إدارية على ملفاتها لأغنتنا عن كثير من التعاميم.

* سلامة النيّة لا تغني عن التثبت، فعلى الإداريات ـ دون ممارسة أي نوع من أنواع الشد مع الطالبات ـ الاتصال بأولياء أمورهن للاستيضاح حول تأخرهن أو أي تصرُّف لا تستطيع إدارة المدرسة تفسيره.

* القسوة أقبح إطار يؤطر السلوكيات الفاسدة فيزيدها قبحاً، ولا يخرج إلا من النفسيات المستبدة المتهالكة، وهي المؤشر العادل للشعور بالنقص.

* الطالبات يخطئن، نعم، لكن هناك ألف طريقة وطريقة لتقويم اعوجاجهن واستثمار طاقاتهن، فكم حطّمت القسوة جدار الثقة بين المعلِّمة والطالبة، وكم اقتلعت عاصفة القسوة شجرة الطموح، وكم دمَّرت القسوة والاستهزاء نفسيات بريئة، وكم أورثت القسوة اللامبالاة والتحدي.. ودمتم.
 

المصدر : لها أون لاين
 

أفرح الحميضي
  • مـقـالات
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط