اطبع هذه الصفحة


الحسبة.. ولاية تكاد تندثر!

هيا الرشيد

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم المهام، ومن أولويات الأعمال التي حرص عليها سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وهي (الحسبة) فرض عين على كل مسلم ومسلمة كل بحسب علمه وقدرته، وقد بدأ العمل بها في الإسلام منذ نزول أول نص قرآني يأمر بها، فقام بها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم، والسلف الصالح من بعدهم إلى يومنا هذا، وقد اشتدت الحاجة لوجود ولاية للحسبة عندما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية وكثرت مسؤولياتها، فإن كانت الحسبة قد تعود أحياناً لاجتهاد المحتسب، فولاية الحسبة تربط المحتسب بها برباط رسمي حيث إنها وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتجعل لوالي الحسبة أو المحتسب الرسمي سمات تميزه عن غيره من المتطوعين.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سهمان من سهام الإسلام، وقد أمر الله سبحانه وتعالى عموم المسلمين بهما من خلال عدة نصوص قرآنية صريحة، منها قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (104) سورة آل عمران.

كما أمر رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بالحسبة من خلال قوله: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".

ومع ذلك فإن الحسبة أصبحت أمرا نكاد نفتقده في طبقات ومناطق كثيرة من عالمنا الإسلامي فضلاً عن الولاية الرسمية للحسبة والتي يفترض أن يقيمها المسؤول في كل دولة إسلامية، فولاية الحسبة ولاية تكاد تندثر في العالم الإسلامي حيث لا يوجد لها أثر يُذكر إلا في مناطق محدودة جداً، وبقيود كثيرة تحد من نشاط أفرادها، وبطبيعة الحال فإن الهيئات التطوعية للاحتساب لا تُعتبر منها لأنها غير رسمية ولم تقم بأمر من الحاكم وولي الأمر الرسمي، فتكون صلاحياتها محدودة جداً، فحكمها وحكم أفرادها يكون ضمن الاحتساب التطوعي الذي ينقص كثيراً في صلاحياته عن الاحتساب الرسمي المصرَّح به من ولي الأمر، ومع ذلك فإننا نُذكر بواجب الحسبة ولو كان تطوعياً حيث أنه لا يحتاج إلى فسح رسمي كما هو الشأن في كثير من الدول الإسلامية التي قام بعض أفرادها باجتهاد منهم بإقامة جمعيات بديلة لولاية الحسبة يقوم من خلالها المحتسب المتطوع بهذا الواجب في إطار محدود.

منذ عهد النبوة وما تلاه والناس في حاجة لمن يأخذ على أيديهم بين الحين والآخر دون تعد على خصوصياتهم، حيث إن الأمر أحياناً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحقوق الآخرين، فيكون لزاماً على المحتسب المبادرة بواجبه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد تكون الأمور المنكرة التي تحتاج للاحتساب قبل قرون من الزمان أخف حدة وأقل عدداً من الآن؛ لأن غالبها يرتبط بأمور الديون والتطفيف في المكاييل ومضايقة الناس في الطرقات، عوضاً عن أن الوازع الديني قديماً كان على أوجه، ولم تكن قد ازدهرت بعد بضائع شياطين الإنس التي ماجت بها كافة طبقات المجتمع المسلم في وقتنا الحاضر.

في أواخر القرن العاشر الهجري بدأ الضعف الحقيقي يدبُّ في جسد الدولة الإسلامية فأصبحت الفرصة سانحة أمام الجحافل المعادية للإسلام بأن تحط برحالها الثقافية والأخلاقية والاجتماعية النتنة على أنقاض الجسد المتهالك، فتنخر فيه باسم العلم والفن والثقافة والمدنية والحضارة حتى أصبح هذا الجسد مخدراً ببضاعتها المغرية، وصار يتلهب ويطلب المزيد من هذا الإنتاج العفن لإرواء ظمأ كثير من أفراده، فانتكست المفاهيم، وتبدلت الأحوال، وبدأ الناس في نسيان مبادئ دينهم، وقوانين شريعتهم، وبدأت عيونهم وأسماعهم تألف كل محرم وقبيح، وكثر المساس بالمنكرات عن طريق السمع والبصر واللمس فمرض الإحساس ولم يمت بعد، فكانت الحاجة ماسة في ظل هذه المؤامرات والمخططات من إحياء تلك الولاية مجدداً، وإذا لم تسنح الفرصة لذلك فلا أقل من تكاتف الجهود الفردية من أجل إقامتها ولو بشكل جمعيات تطوعية محدودة الصلاحيات لتقف مجدداً في وجه المستجدات المدمرة، فإذا كان العمل الرسمي للحسبة متهالكاً وفي طريقه للاندثار؛فالعمل التطوعي جماعياً كان أو فردياً سيقوم بنفس المهمة ويؤدي العمل ذاته في الأخذ على أيدي عموم الناس بالطرق والأساليب المحددة شرعاً والوقوف في وجه المنكرات وأصحابها، سواء كانت منكراتهم خاصة بهم ومعلنة أمام الملأ، أو كانت من النوع الأسوأ الذي يكون فيه ترويج للمنكر ذاته في المجتمع وتسهيل لارتكابه من قبل الأفراد.


 

هيا الرشيد
  • الأسرة والمجتمع
  • الفكر والثقافة
  • القصص
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط