اطبع هذه الصفحة


أبغض الحلال

هيا الرشيد

 
بسم الله الرحمن الرحيم


هربت وأنا أحمل خيبة الأمل بين جوانحي.. أمسك بيدي طفلي البريئان..وعار الطلاق يغلف صدري الذي ازداد ضيقا بعد ضيق..هذا الهروب الذي شاء الواحد الأحد أن يكون في هذا الزمان الصعب الذي لا يجد فيه المرء إلا السواد أو البياض..فاللون الرمادي صار معدوما..والتوسط لا يوجد له أثر..

ذهبت إلى عملي وأنا ألتفت يمينا ويسارا..فقد يكون الهمس حولي..وقد تكون النظرات مليئة بالتساؤلات..هكذا كنت أظن مع إنني كتمت الخبر في البداية ولمدة طويلة..حمل ثقيل حط على كاهلي بالرغم من إنه اختياري..ولكنه اختيار المضطر..كم كرهت أبغض الحلال..وكم كرهت لقب مطلقة..وكم حملت نفسي الكسيرة من هم الناس وما يقولون..

لم أكمل السادسة والعشرين بعد ومطلقة..الحيرة تلفني.. كلام الناس يحاصرني.. نظراتهم سياطا تلسع مشاعري وأحاسيسي..في مقتبل العمر.. أتمتع بالصحة.. أملك المال..وليس أمامي إلا الفراغ..يا لها من حياة غريبة..الحياة التي أملك فيها كل شيء..وأفتقر فيها إلى كل شيء..صحة ومال ..وفقدان للراحة والأمان..

في بادئ الأمر كانت العزلة.. معانقة الوحدة.. الخجل من مواجهة المجتمع..كان النسيان مؤقتا عند الانشغال بأفلام الفيديو..ومطالعة شتى أنواع المجلات..وعندما تهيج المواجع والآلام هناك المزيد من الملهيات..أشرطة الأغاني لكبار المطربين..ولكن هناك ثغرة بالرغم من كل شيء..فوقع الأفلام على نفسي ليس كالسابق.. المجلات لم تعد لها تلك المتعة..الأغاني ليس لها أثر.. الهوة النفسية تتسع.. الحيرة تزداد..الشعور بالحسرة والألم دائم.. المقارنة بين حياتي وحياة الأخريات مستمرة..أحياناَ ألوم نفسي..وأحياناَ أخرى ألقي باللوم على هذا وذاك..ما أضيق العالم على رحابته..وما أصغر الأرض على اتساعها..مرت أيام طويلة..حالتي النفسية تزداد سوءا..فراغ..حيرة..حزن..انكسار..خجل..خوف..مشاعر مختلطة..وأحاسيس مختلفة..

في ذلك اليوم العجيب..حدث شيء جديد..صعدت إلى حجرتي باكراَ..أطفأت الأنوار..تركت مصباحاَ بضوء خافت..فأنا أخاف الظلام..نام الأطفال.. بقيت وحيدة أصارع همومي.. أقلب أحزاني..أما من وسيلة لجلاء الهم؟؟ ألا يوجد طريقة للخروج من هذه الحالة الكئيبة؟؟ لم أستطع النوم..نهضت كالمذعورة..أريد أن أصرخ بأعلى صوتي..أريد أن أبوح بما يعتمل في صدري.. أنا حزينة.. مهمومة..مكتئبة..أين الراحة؟؟ أين السعادة؟؟ أريد الأمان..كيف السبيل إلى ذلك؟؟

جلت ببصري في أنحاء غرفتي..أبحث عن شيء لتزجية الوقت..لعل النوم يغافلني ويتسرب إلى أجفاني..وجدت شيئاَ غريباَ لم يكن لي به سابق معرفة..ملقىَ بإهمال شديد.. كتاب صغير دخيل على حياتي..لم أعرف لمن هو.. كيف جاء إلى هذا المكان..لعل أحد الأطفال أدخله بطريق الخطأ..كتاب عن أهوال يوم القيامة!! قلبت الكتاب مرات ومرات..العنوان مخيف..فماذا عن المحتوى؟؟ هل أقرأ أم لا؟؟ أنا شغوفة بالقراءة..ولكن هذا النوع من الكتب لم أجربه من قبل..قراءاتي كانت للأدب العالمي..المجلات..كتب المعرفة..الخيال العلمي..سألت نفسي في هذه اللحظة..ما المانع من قراءة الكتاب..ولو من باب التسلية وحب الاستطلاع..بدأت بالكتاب..الأسلوب مشوق..المواضيع مثيرة..قلبت الصفحة تلو الأخرى..يا لها من معلومات رهيبة..ويا لها من أخبار غريبة..بدأت التهم الصفحات..وبدأ القلب بالخفقان..شعرت بانتفاضة غريبة..انتابني خوف لم أعهده..تردد نظري بين الكتاب وجهاز الفيديو..نظرت إلى أكوام الأفلام..إلى أشرطة الأغاني..أغلفة المجلات..هناك فرق..وفرق شاسع جداَ..شعرت بأني امرأة في مهب الريح..تيار من هنا وتيار من هناك..وأنا واقفة في مكاني..نظرت إلى الملهيات التي عانقت شبابي..وشاركتني رحلة عمري..قارنت بينها وبين هذا الكتاب..بين ما تحمله من فساد.. وما يحمله الكتاب من صلاح ..يا لي من امرأة جاهلة..حمقاء..أضعت أجمل سنوات العمر في هذا الهراء..عرضت نفسي لخسائر فادحة..ملايين العالم لن تعيد خسارتي..ولن تمحو الشعور بالندم والذي بدأ يكتسح أعماقي..أعدت النظر في الكتاب.. بل قضيت الليل بطوله وأنا أنظر فيه..

في الصباح ذهبت إلى عملي كالمعتاد..شعرت بأن المدرسة قد تغيرت..الزميلات لسن كالسابق..تلميذاتي لم يعدن تلميذات الأمس..سرت في الطرقات..نظرات زائغة..وفكر مشغول..وسؤال يتردد بين جنبات صدري..كيف أبدأ الطريق؟؟ من يساعدني؟؟ من يساندني؟؟ فكرت في الزميلات..الصديقات..الأقارب..لم أجد أحداَ..من ينتشلني مما أنا فيه؟؟ من ينقذني من هذا الضياع؟؟ أريد أن أتوب..أفتح صفحة جديدة.. أين نقطة البداية؟؟

فجأة وبدون مقدمات..خطرت لي فكرة سريعة..أن أطلب المساعدة ممن قال( ادعوني أستجب لكم )..أدعوه ليساعدني في محنتي..ألجأ إليه ليفرج كربتي..أستعين به لينير دربي..فالله سبحانه وتعالى هو القادر على كل شيء..فاللجوء إليه..والاستعانة به..هما الطريقان الصحيحان لبر الأمان..

عدت إلى البيت..افترشت سجادتي..لففت ردائي..توجهت إلى الله..كانت صلاة غريبة..كأنها أول صلاة أؤديها ..شعرت بالصلة بيني وبين خالقي..أديت فرضي..تناولت مصحفاَ..قلبت صفحاته..ومرت الأيام..وأنا على هذا الحال..في بداية الطريق..أمسكت بطرفه..ولكني لم أخطو خطوة واحدة..

انتقلت إلى مدرسة جديدة.. استلمت جدولاَ جديداَ..بعيداَ عن تخصصي..جدول العلوم الدينية..فرحت بخوض التجربة..واجهت مشكلة الجهل.. تلقفتني إحدى الزميلات..بدأت كتلميذة جديدة..أتردد بينها وبين الكتب..كانت تمد لي يد العون..وتساعدني في كل صغيرة وكبيرة..ولكن مادة التجويد وقفت لي بالمرصاد..تعلمها ليس بهذه السهولة..شعرت المرشدة الطلابية بحيرتي..الرغبة في تعلم هذه المادة وتعليمها موجودة..ولكن الجهل بها يقف حجر عثرة في سبيل ذلك..نصحتني بتعلمها في دار التحفيظ..دار التحفيظ!! سألتها متعجبة.. ما معنى دار تحفيظ؟؟

في عصر نفس اليوم.. ذهبت للدار..وصلت للحي المذكور..وجدت المدرسة..النساء في دخول وخروج..دخلت المكان..وجوه غريبة..ملامح جديدة..فناء واسع يكتظ بالنساء والفتيات..وفي المقدمة حجرة كتبت على بابها عبارة إدارة الدار..اقتربت ..ثلاثة مكاتب..وثلاثة موظفات..يعملن بكل جد واجتهاد..والابتسامة تعلو وجوههن..لم يؤثر عليها شدة الحر والزحام..ينادين الصغيرة بابنتي..والكبيرة بخالتي..ملابس ساترة..ألوان هادئة..الشعر مصفف بطريقة محترمة..لا أصباغ شاذة..ولا قصات غريبة..عجباَ لأفراد هذا المجتمع..وعجباَ للهيئة التي يبدون بها..

سألت عن التسجيل..لم يكن هناك أوراق مطلوبة..بيانات عادية تؤخذ بكل بساطة..أما الرسوم فياللعجب!! فصل دراسي كامل بثلاثين ريالاَ!!عادت بي الذاكرة إلى الوراء..تذكرت آخر دورة التحقت بها..كانت لتعلم اللغة الإنجليزية..وكانت الرسوم لدورة واحدة ألف وأربعمائة ريال..والكتاب بسعر آخر..وكذلك الشريط..وهذه الدورة لتعلم القرآن والتجويد بهذا المبلغ الزهيد!!

السبت القادم..إنه يوم مميز..حيث تبدأ الدورة..انتظرت هذا اليوم بفارغ الصبر..جاء الموعد..حملت حقيبة متسعة..وضعت مصحفي..وأوراقي..وأقلامي..بالضبط كتلميذة مستجدة..ذهبت في أول رحلة حقيقية لطلب العلم..دخلت الدار..وضعت عباءتي في حقيبتي..وسرت في الطرقات..لا أعرف أحداَ..ولكن الكل ينظر إلي مبتسماَ..إنهم يرحبون بي..لعلهم يشعرون بحيرتي..تفحصت الوجوه..دققت في الملامح..هذا مجتمع من نوع آخر..مجتمع غريب في هذا الزمان..لا أسمع الضحك العالي..ولا الصوت المجلجل..ولا أرى أثراَ لأساليب الحضارة الزائفة..وصلت إلى الفصل..المستوى الأول.. مستوى النون الساكنة والتنوين..أخذت المقعد الثاني..دخلت المعلمة..رحبت بنا..ذكرتنا بفضل القرآن..وضرورة حفظه..لكني لم أحضر لذلك..لقد حضرت لتعلم التجويد فقط..وليس عندي مقدرة للحفظ..هكذا قلت لنفسي..لزمت الصمت..فلا ضرر من خوض التجربة..

مرت الأيام الثلاثة بسرعة..تعرفت على جميع الدارسات..هذه سعودية..وهذه يمنية..والأخرى مصرية..وتليها السورية..سبحان الله..خليط عجيب..جمعهم القرآن..وغلف قلوبهم الإيمان..جاء اليوم الرابع سريعاَ..لا درس جديد..تسميع فقط.. تطرق الإدارية الباب..إلى المحاضرة..محاضرة!! لملمت حاجياتي بسرعة..وذهبت أسوة بالجميع..منظر لم تألفه عيناي..امرأة على كرسي بسيط..والنساء يتحلقن حولها..أخذت مكاني بينهن..أمسكت بمكبر الصوت..وها هي تلقي بمحتوى أوراقها..نظرت إليها نظرة إعجاب..لم أكن منصتة تماماَ..كنت أتفحص وجوه الحاضرات..أمعن النظر فيهن.. انتهت المحاضرة..وتوالت الأسئلة..أريد أن أسأل ولكن..في مخيلتي ألف وألف سؤال..لو سألتها لبقيت في مكانها أياماَ تجيب عليها..عدت إلى المنزل..سهرت تلك الليلة..كانت سهرة مختلفة..انحصر تفكيري فيها بعالمي الجديد.. بالحياة التي بدأت أحياها.. بالنساء اللاتي تعرفت عليهن..لا أعرف لماذا شعرت بأنهن سعيدات..راضيات عن حياتهن..قانعات بمستواهن.. قارنت للمرة الثانية..بين حياتي وحياتهن..بين هدفي وأهدافهن..فما المانع من أن أكون مثلهن..وأعيش حياتهن؟؟

لم أصبر إلى الصباح..أريد أن أحقق لنفسي السعادة..أريد الراحة..أريد الأمان..أريد الرضا والقناعة..وقفت أمام محتوى غرفتي.. اجتاحتني ثورة عارمة..تحول الحب إلى بغض..والإعجاب إلى اشمئزاز..هجمت وبكل شراسة..أمزق وأحطم..سرت على الحطام بأقدامي..شعرت ببعض الراحة..وكأنني انتقمت لنفسي..انتقمت من عدو خدعني..ويا لها من خديعة..استمرت لسنوات طويلة..ولكني قلت لنفسي..الحمد لله على كل حال..فالله غفور رحيم..والتوبة تجب ما قبلها..

في صباح اليوم التالي..بدأت بإعداد مكتبتي الجديدة ..مكتبة من نوع آخر.. فقد كان هناك كتباَ بدلاَ من الممزقة..وأشرطة عوضاَ عن المحطمة..وبدأت رحلتي الممتعة مع كتاب الله..بدأ الانسجام بيني وبين عالمي الجديد..واظبت على دروس الدار..انضبطت في عملي..لم أعد أحب التكاسل..عاديت الخمول..في الصباح معلمة نشيطة.. في المساء طالبة مجتهدة..هذه هي الحياة الحقيقية..سعادة غامرة..راحة نفسية..متعة لا توصف..والأهم من ذا وذاك الشعور بالأمان.. ذهبت تلك الحسرة..انمحى ذلك الألم..لم أعد مكتئبة كما كنت..تلاشى كل أثر للانكسار النفسي.. لم يعد لدي وقت فراغ..صداقات الدار أعادت ثقتي بنفسي..وعلوم الدار أعادتني إلى الحياة..كتاب الله طهر أعماقي..ومجالس الذكر غسلت همومي..ولقب مطلقة لم يعد يضايقني..وظروفي الاجتماعية لم تعد تهمني..فقد أصبحت إنسانة أخرى..أنسانة جديرة بالحياة..

 

هيا الرشيد
  • الأسرة والمجتمع
  • الفكر والثقافة
  • القصص
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط