اطبع هذه الصفحة


البداية الجديدة

هيا الرشيد

 
بسم الله الرحمن الرحيم


كانت البداية الأولى مع والده،حيث بدأ بأعمال تجارية بسيطة،وجعله ساعده الأيمن،إذ كان الابن الأكبر بين أخوته الخمسة،وكان فرحاَ بكونه أصبح محل ثقة والده،ويوماً بعد يوم ازداد تعلقاً بالعمل التجاري،ومع نجاحه مع والده في فتح عدة محلات لأنشطة متنوعة كان يفكر في الطرق والأساليب التي تحافظ على هذا النجاح،وفي نفس الوقت كان يعمل على توسيع نطاق هذه الأنشطة،واختيار الكفاءات للتعاون معهم سواء من الداخل أو الخارج،وكان دائماً يتناوب مع والده في البقاء أو السفر،فالعمل بحاجة إلى متابعة على كافة الجبهات.
ازدادت أعباؤه كثافة،وبات رئيسه في العمل يتذمّر من كثرة إجازاته،فأصبح يفكر في ترك وظيفته الحكومية البسيطة،والتفرغ التام للعمل مع والده،فقد كان يفكر في محدودية دخلها،والوقت الكبير الذي تأخذه،فبادر بطرح فكرة الاستقالة على والده الذي تلقّاها بصدر رحب،وشجعه على الإسراع في اتخاذ هذه الخطوة،تردد قليلاً،واستشار كثير من رفاقه،ولم ينس طرح الفكرة على بعض الثقات من أقاربه،فوجد القبول من الجميع،فبادر بطلب الاستقالة في أسرع وقت.

بعد تفرغه للعمل مع والده،كان يبذل قصارى جهده لإنجاح العمل،وكان أميناً،ومتفانياً إلى أبعد الحدود،ولم يكن يأخذ مقابل ذلك إلا كفايته من المال،وكان بينه وبين نفسه يعتبر هذه التجارة مناصفة بينه وبين والده،ويرى أخوته قد تفرغوا للدراسة،وبعضهم قد اعتلى مناصب مرموقة،ولم يكن لأياً منهم أي اهتمامات تجارية،ومع ذلك فوالده لم يكن يبخل على أحد في أي طلب يريده،وكان ينظر للجميع بعين المساواة،ولم يكن يفضل أحد على آخر،فنظر لمساواة والده بينه وبين أخوته نظرة إنسانية،واستشعر الحكمة التي يتمتع بها والده في ذلك الوقت،وتوقع أن ذلك بهدف جمع الأخوة وعدم إشعارهم بتميزه عليهم.
كان والده يشعر بالسعادة لوقوفه بجانبه،وكان يفتخر به أيضاً بين رفاقه،فقد كانت علاقتهما محل غبطة المحيطين،ومثاراً للإعجاب في زمن قد تباعدت فيه المسافات بين الآباء والأبناء،وكان الأخوة أيضاً يتعاملون معه باحترام وتقدير،وقد اعتبروه أباً ثانياً لهم،فكان محل مشورتهم في كل صغيرة وكبيرة،ويفتح صدره لحل مشاكلهم وتلقي همومهم،وكان يقوم أحياناً بدور الوسيط بينهم وبين والده في بعض الأمور،ويعمل دائماً على تقريب وجهات النظر،وسد الفجوات النفسية التي تعكر الأجواء في بعض الأوقات.

مرّت السنوات سريعاً،وأصبح والده معروفاً في المجالات التي خاضها،وارتبط اسمه باسم والده،وصار الجميع ينظرون إلى هذه التجارة الناجحة على أنها شراكة بينهما إلا أخوته فقد كان لهم نظرة أخرى،نظرة ملؤها الترقب والحذر،كانت تلميحاتهم كثيرة حول هذه التجارة،وكانوا بين الحين والآخر يصرّحون بكونه موظفاً لدى والده أسوة ببقية الموظفين،كان يلزم الصمت،ويعتقد بأن لوالده فكراً مغايراً.
وعندما تزوج وأصبح أباً تغيرت الظروف،وازدادت التزاماته المادية،وكان والده لا زال يعامله كما يعامل بقية أخوته في العطاء،لم يقل شيئاً ولكنه كان يتمنى أن يشعر والده به وبظروفه التي تغيرت،ويخصص له راتباً مجزياً عوضاً عن وقته الذي يمضيه في إدارة أعماله،وكان يفكر أحياناً لو يطلب من والده أن يخصه الآن بشيء مقابل خدماته للسنوات السابقة،لم يكن قد عبّر عمّا يجول في نفسه،ولكنه كان يتمنى من أعماق نفسه أن يشعر والده به ويكفيه همّ الطلب،ولكن والده قد توقع هذه الأفكار،واستشف ما يجول في عقله،وخشي من مشاكل قد تشتعل بين الأخوة،فبادر بسحب جميع الأعمال منه،وطلب منه أن يعود إلى الوظيفة أسوة بأخوته،ولم يخصه بأي شيء دون أخوته.

صُعق لهذا التصرف،وقد رأى التأييد الكامل من قبل الأخوة الذين خشوا بعد هذه السنوات أن يستأثر بشيء دونهم،فآثر الصمت،وانسحب في هدوء،وكان يتساءل بينه وبين نفسه عن سبب ما حدث :-
- ما الذي حدث؟
- ماذا فعلت ليعاملني والدي هكذا؟
- ما الذي سيقوله الناس عني؟
- هل يضيع مجهود السنوات السابقة هباءً؟
- كيف أبدأ؟ ومن أين؟
أسئلة كثيرة لم يجد لأياً منها جواباً،ولكنه بدأ بتقبّل واقعه الجديد بشجاعة كبيرة،فبعد أن قبع في منزله لعدة أيام،أصبح يفكر في الخطوة القادمة،واستبعد مقدماً العودة إلى الوظيفة،وحاول جاهداً أن ينسى ما حدث بينه وبين والده،ويغض الطرف عن موقف أخوته حياله،وكان يدرك تماماً بأنهم أهله وأنه لا غنى له عنهم مهماً كانت الظروف،وكان يعمل على تناسي جهوده السابقة وتضحياته،ويحاول أن ينظر إلى الأمام فقط،فبدأ في التفكير الجاد بنقطة البداية،بداية عملية لمستقبل مشرق.
بعد فترة اتخذ قراره حول البداية الجديدة،سيبدأ عملاً تجارياً خاصاً به،وسيعمل في نفس المجالات التي عمل بها مع والده،لم يتجرأ أن يطلب المساعدة من والده،فاستدان مبلغاً من أحد زملاء تجارته السابقة،وبدأ من الصفر،وحرص كل الحرص في نفس الوقت على الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع والده وأخوته،وكان يتعامل معهم متغاضياً عن الماضي،وقد كان يشعر في بداية العمل برهبة شديدة،ويفكر ألف مرّة قبل أن يخطو أي خطوة جديدة.

بعد أيام من البداية شعر ببعض الرضا والراحة،وأحس بثقة كبيرة في النفس،فقد كان النجاح حليفه باختيار مكان مناسب،وكان لمكانته السابقة في هذا المجال أثراً طيباً في النفوس،فقد بادر كثير من زملاء المهنة بالتعامل معه في الأسابيع الأولى،ورأى عمله في تقدم سريع مقارنة ببدايته مع والده،وكان يشكر الله تعالى على ذلك،ويعرف تمام المعرفة إنما هذا التوفيق فضل من الله عز وجل،فشعر بدفعة مضاعفة من الحماس، واستثمر وقته كاملاً في تكوين تجارة جديدة خاصة به،لم تمض فترة طويلة إلا وقد بدأ بسداد ديونه السابقة،كان يسددها دفعات متتالية مراعياً التزاماته الأخرى،مما جعله محل ثقة المحيطين به،وولّد في نفوسهم رغبة كبيرة للتعامل معه،والارتباط معه ببعض الأعمال.

مرّت الأيام سريعة وهو منهمك في أعماله المتعددة،وشيئاً فشيئاً اكتمل سداده لديونه،وبدأ بفتح فروع متباعدة لأنشطته التي تنوعت،وبدأ مستواه المادي يرتفع يوماً بعد يوم،وأصبحت أعماله الناجحة محط الأنظار،وصار اسمه أشهر من نار على علم في عالم التجارة،وشعر بالفرحة تغمر والديه لنجاحه،وسمع مراراً تعليقات والده وتلميحاته بأن ابنه قد تفوق عليه،وارتبط اسمه مرّة أخرى بنوعية النشاط الذي يمارسه،وكان يشعر بالحرج أحياناً لإقبال بعضهم عليه دون والده،ويحاول ألا يخسر والده بسبب عمله التجاري،كان والده قد استشعر هذه المرّة أيضاً ما يعتمل في نفسه،وكان يهمس في أذنه ببعض العبارات التشجيعية التي كان لها أكبر الأثر في نفسه،وكان يذكّره أيضاً بأن ما وصل إليه من نجاح خلال سنوات قليلة إنما هو بفضل من الله تعالى ومن ثم جهوده الكبيرة وتفانيه في العمل،وذكّره أيضاً ببره بوالديه وحرصه على صلتهم بالرغم مما حدث،ومحافظته على روابط الأخوة وعدم ربطها بخلافات أصبح يعتبرها عابرة.


 

هيا الرشيد
  • الأسرة والمجتمع
  • الفكر والثقافة
  • القصص
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط