اطبع هذه الصفحة


أم الشهداء

هيا الرشيد

 
بسم الله الرحمن الرحيم


أمسكت بعصاها وقامت متثاقلة، فقد أعيت الأحداث جسدها النحيل، سارت قليلاَ وأطلت برأسها من بيتها المتواضع في وسط المخيم، وتوجهت ببصرها إلى مسقط رأسها وموطن طفولتها، انحدرت دمعة حرى على وجنتيها، تذكرت آخر العنقود وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة بين أقدامهم، لا شعورياَ رفعت يدها اليسرى وأخذت تنظر إلى أصابعها وتقول:- كانوا خمسة.
ضمت أصابع يدها بقوة وتحسست عصاها وقالت :- لقد رحلوا ، لم يبق أحد ، ولكني لست وحيدة ، فالله معي ، ولن ينساني .

عندما تشعر بالملل،تسير قليلاَ بين البيوت،توزع ابتساماتها الحزينة على رفيقات دربها الشائك،وصديقات مشوارها الدامي،أطفال أبرياء يتراكضون هنا وهناك،شباب يتباحثون أوضاعهم الأليمة،نساء حيارى قد تجرحت مآقيهن من البكاء،شيوخ تفطرت أكبادهم من الحزن،هدوء صاخب،وسكون متوقد،وأصحاب شريعة الغاب يأتون بجرعات حقدهم التي لا تنقضي،دورياتهم في جولات مستمرة للتنكيل،مداهمات،تفتيش،اعتقالات،فوضى لا حدود لها،ومن ثم يغادرون وهم يقتادون بوحشية شديدة باقة يانعة من سكان المخيم.
عادت بها الذاكرة إلى الوراء،إلى الماضي البعيد القريب،البعيد عندما حضروا لمصادرة طفولتها الجميلة،ومحاصرة أحلامها الوردية،أما الماضي القريب بل القريب جداَ عندما وأدوا ابتسامتها،وأحالوا حياتها جحيماَ لا يطاق.

تذكرت طفولتها التي كانت بين بيت والدها،والبستان الذي يملكه،تذكرت المزارع المحيطة،وأشجار الزيتون والحمضيات،وأوقات الحصاد،كانت الأحداث قد بدأت،وازداد الجدل والتوجس،ولكن وعندما اشتعل الفتيل،تغيرت حياة الآلاف جذرياَ،قهر،وتشريد،ليالي حالكة السواد،مستقبل لا يعلمه إلا الله،أمهات ثكالى،أطفال يتامى،أرامل في مرحلة الصبا والشباب.
عندما كبرت،تزوجت من قريبها،لم تعرف في حياتها معه طعماَ للاستقرار،كانت تعرف كل شيء عنه،تتابع حركاته وسكناته،تعرف حق المعرفة أنه يعمل ليل نهار من أجل إعادة الحق السليب،وتدرك تماماَ أن حياته مهددة طوال الوقت،كانت أشد حماساَ منه،تشد من أزره بين الحين والآخر،وكان استشهاده أول المطاف،فبقيت مع أبنائها الأربعة،وكان كلاََ منهم يكبر ويحمل الراية عوضاَ عن والده،وكأنهم قد تعاهدوا على إتمام المسير،والسير قدماَ في نفس الطريق.

نظرت إلى تجمع شبابي على جانب المخيم،كانت تستشعر في نظراتهم وهمساتهم أفكار زوجها وأولادها الذين رحلوا،حماسهم هو نفس ذلك الحماس،وتوهجهم هو ذلك التوهج،لقد شعرت بكل ذلك ومنذ أن حطت قدماها هذا المكان، كانت في بيتها وبين أولادها تعيش هذا الشعور،حياتهم لم تعرف السكون،حركة دؤوب هنا وهناك،علاقات واسعة،صداقات حميمة،أهداف واضحة،كانت فيما بينها وبين نفسها تسمي كل واحد منهم باسم واحد من أبنائها،كانوا يشعرون بما يعتمل في نفسها،فقد كان بعضهم أصدقاء لأبنائها،فهذا هادئ ومتعقل كغسان،وهذا شديد الحماس والتسرع أحياناَ فهو مثل عمر،نعم عمر إنه كذلك،أما محمد وفارس فكان دأبهما العمل بصمت شديد وسرية تامة،أما التوقد والحماس فكان سمة للجميع.

مخططات تدور في الخفاء،إشارات وهمسات،اتفاق جماعي صامت،والنتيجة عمل بطولي متفجر كالبركان،يأتي الحدث تلو الآخر،يتناقلون دقائقه،ويتبادلون تفاصيله بفرحة كبرى،ونشوة غامرة،ولكن وعلى النقيض تماماَ،تقع مجريات مثل هذا الحدث على الطرف الآخر وقع الصاعقة،وفي لمح البصر يتواجد المئات لمعاينة المكان،رجال الأمن،الأطباء،الصحافة والأعلام،تهديد ووعيد،سبحان الله قطرة الدماء عندهم تراق لها مئات القطرات، وتحصد مقابلها عشرات الأرواح،ولكنه قانونهم القهري،وتشريعهم الحيواني ،فالحياة غالية لدى مستوطنيهم،ورخيصة باعتقادهم عند غيرهم.
بين صراخ الأمهات،واعتراضات الشيوخ،ونظرات الصغار،تحين ساعة الانتقام،حضروا عشوائياَ لهذا المكان،لم يتثبتوا بعد،ولكن لا يهم،المهم التشفي وعلى أي شكل كان، يمعن الطغاة في وحشيتهم،ويعتقلون الشباب بأسلوب مهين،وجل همهم أن ينالوا من كرامتهم،ويستنقصوا عزتهم، ولكن هيهات أن تذل النفوس الأبية،أو تطأطيء الروؤس الشامخة،كبرياء تعانق النجوم،وعزة لا حدود لها.
أشاحت بوجهها قليلاَ،إنه نفس الموقف،يتكرر يومياَ،تجرعت مرارته عدة مرات،وتجرعت مرارته مثلها آلاف النساء في البلد السليب،أعمار فتية،أجساد غضة،أحلام بحجم الجبال،شباب البلد،أمل الأمة،جحافل الظلم لها بالمرصاد،تزحف على طموحها،وتطيح بآمالها،وتغتال حقها،وتستحل دمائها،حجج واهية،ادعاءات فجة،والنتيجة عشرات الضحايا،أخبار،صور،استنكار وشجب،ومن ثم ملفات ضخمة تملأ أرفف أقبية مظلمة،وبعدها يلوذ العالم بالصمت الجبان، والسكوت الرهيب.

جرحها الغائر لا زال ينزف حزناَ،آلامها ينابيع لا تنضب أبداَ،مرارة فراق الأحبة لا تكاد تفارقها،أين الجموع من مشاعرها،مشاهد تشييع الشهداء بشكل يومي مسحت ذكرى أبنائها من العقول،وتكرار العزاء بين هنا وهناك أودى بالحزن عليهم من القلوب،ذكراهم باتت بين جوانحها فقط،والحزن عليهم صار حياَ في فؤادها،لم تشعر باللوم تجاه أحد،بل تشعر بجام الغضب يصب نحو المعتدين،أحزانها المتراكمة ملأت قلوب الكثيرات،فكم من عروس فقدت فرحتها ليلة عرسها،وكم من امرأة فجعت بابنها بين عشية وضحاها،وكم من طفلة تسأل بصمت عن أبيها،لم يتبقى بيتاَ لم يفجع بغال لديه،ولم تسلم عائلة من مرور مراسيم العزاء عندها.

بالرغم من تجرعها للحزن مرات عديدة،إلا إن أصعبها على نفسها يوم فقدانها لابنها عمر،ليس لأنه الأغلى بينهم،بل لعل السبب في استشهاده أمام عينها،تلك اللحظات الأليمة أصبحت كابوساَ يطاردها ليلاَ ونهاراَ،صارت دمعتها تسابق ذاكرتها في استحضار ذلك الموقف الحزين،لن تنسى تلك الساعة التي أحضروا فيها آلتهم الضخمة لهدم بيتها،كانت تحمد الله كل لحظة أنه لم يكن موجوداَ،ولكنها لم تفرح بذلك سوى لحظات محدودة،قدم إليها وهو يزمجر غاضباَ،لقد استقبله الصبية بالخبر،كان يتوعد ويهدد،حاولت جاهدة تهدئته ولكن محاولاتها ذهبت أدراج الرياح.
تفكرت في مشاعرها،وتساءلت عن موقفها،إنها لم تجبن ولم تخاف،لقد أعدت زوجها فيما مضى،وكانت تحض أخوة عمر على مواصلة النضال،ولكن هذه المرة مختلفة تماما،هذه المرة تشعر بالخوف من تصديه لهم،إنه يواجههم كل يوم مع رفاقه،يلقي بمحتوى يديه ويختبئ،يعيد الكرة مرات ومرات،يمد الرفاق بالحجارة،ويساعد الجرحى،ويعود إليها وهو ينفض غبار المعركة عن ملابسه،لكن هذه المرة مواجهة فردية،ومعركة غير متكافئة،ونتيجة محسومة مسبقاَ،لم تعد تتحمل صدمة جديدة،جراح أحبتها لم تندمل بعد.
هدأ الوضع لدقائق معدودة،لم تعد تسمع شيئاَ، فمرة تمسح أركان حجرتها ذهاباَ وإياباَ،ومرة تفترش سجادتها وتدعو الله تعالى،خرجت إلى حجرته،استرقت السمع،الوضع هادئ،عادت إلى مكانها على أمل أن يستمر السكون.

ذهبت إلى حجرته مرة أخرى ،كانت تتمنى أن يكون كعادته قد خرج مع رفاقه،فتحت الباب، ولكنها وجدته قد فتح نافذة حجرته يترقب عودتهم،وكأنما قد أعد العدة لمواجهتهم،صرخت في وجهه معترضة على بقائه هكذا،فالتفت إليها بيديه الخاليتين وأجابها بأنه سيواجه طغيانهم بإيمانه، بجسده،بروحه،بمبادئه،وأنه هنا ومع كل هذه الأشياء مجاهد كما لو كان بين رفاقه يحمل الحجارة ويرشق بها أولئك الأوغاد،وإن كانت يديه خاليتي الوفاض فيكفيه قلبه الذي ملأه الإيمان.

خرجت من حجرته،ومن ثم غادرت المنزل على عجل،كانت تنادي بأعلى صوتها،أصدقاء زوجها،أصدقاء أبنائها،معارفها،جيرانها،نظراتها الحزينة أوحت لهم بالحقيقة المرة،الدور على بيتها إذاَ،تعرف مسبقاَ أنها ستخسر البيت،ولكن محاولاتها إنما هي للحفاظ على صاحب البيت فقط، ندائها يمزق نياط القلوب،وصوتها يحرك الأفئدة، لعله يتراجع عن قراره،مجابهتهم تعني الموت،لا بأس بجهاده اليومي،مناضل يذهب وعلى أمل أن يعود،ولكن الوضع مختلف الآن،مواجهة فردية لقوى الظلم والعدوان،خرج بدوره،لثم جبينها،وقبل يديها،ونظر إليها معاتباَ،وبادرها بقوله:-
أين أبي؟أين أخوتي؟أين الكثير من أحبتي؟ألم يسقط بعضهم مدافعاَ عن الأرض؟أننسى من أستشهد في عمل فدائي؟ألا تتذكري من دخل المعتقل على رجليه،وخرج منه جثة هامدة؟هل ترضين لي بالذل والهوان؟هل أجبن دوناَ عن الجميع؟أمي الحبيبة،إننا بحاجة لمن يقاوم قراراتهم الجبانة،لا بد لهم أن يعرفوا أننا لن نستسلم،وأننا سنتصدى لهم في كل حركة،وسنكون أمامهم دائماَ، حقاَ سيكون الثمن غاليا ولكن لا بأس،القدس غالية،وتراب أرضنا الطاهر يستحق أكثر.

استسلمت لجوابه،واستودعته الله عز وجل،ونظرت إليه نظرة المودعة،ورفعت يديها تدعو له بحرارة،وذرفت الدموع الحارقة،وتذكرت المقدسات،والأرض،والأعداد الهائلة من الشهداء،أقنعت نفسها بصحة رده،وسمو هدفة،وأخلت بينه وبين ما يريد.

بعد بضعة دقائق كانت على موعد مع طغيانهم،لقد جاءوا مرة أخرى،عادوا بأسوأ مما ذهبوا به،آلات الهدم والدمار تهز الأرض من تحت أقدامهم،انتفضت من مكانها،وخرجت من بيتها،تجمهر كالعادة،احتجاج،أوراق،إثباتات،كان في المقدمة،يديه في ارتفاع وانخفاض،صوته يجلجل كالرعد،اتصال قصير منهم،ويأتي المدد سريعاَ،سيارات مملوءة بالجنود،ينتشرون في لمح البصر،يصوبون سلاحهم نحو السماء،يطلقون عدة أعيرة لتفريق الجموع،لم يتحرك أحد،توجهوا بالسلاح نحو الصدور،تراجع البعض قليلاَ، جاءت لتحول بينه وبينهم،دعته للابتعاد،رفض الانسحاب،وتعالت الأصوات،دفعه أحدهم بقوة،وقع على الأرض،هبت لمساعدته على النهوض،هب بدوره من مكانه يريد الانقضاض ولكن،كان طلق ناري من أحدهم أسرع بكثير من محاولته للنهوض،سقط مرة أخرى مضرجاَ بدماء زكية طاهرة،كان العرق يتصبب من جبينه،نظر إلى أمه وأنفاسه تتسارع،كان يريد منها كلمة،يريد أن يسمع منها كلمة الرضا، كانت ترد عليه بنظراتها الحانية،وتومئ إليه برأسها،انكب عليه صديق والده،كان يلقنه الشهادة،نطق بها،صوب نظرته الأخيرة نحوها،ابتسم وأسلم الروح، سيارة الإسعاف كانت على أهبة الاستعداد،حمله الرفاق في لحظات،شيعته بنظراتها،وسارت خلفهم، تراجعت إلى الوراء،إلى بيتها،كانوا قد انقضوا عليه،خدشوا وجهه الجميل،هاهم يعيدون الكرة مرة أخرى،وضعت يديها على عينيها،فالمنظر أصعب من أن تراه، أمسكت بها إحدى جاراتها،وأخذتها بعيداَ،تخيلت النتيجة المؤلمة،سيتساوى بيتها مع التراب في لحظات معدودة،ولكن لا يهم الآن،لقد خسرت الأهم.

كان يوم جنازته مميزاَ،إذ لم يكن هو الوحيد في ذلك اليوم،عدد من الشهداء سقطوا في ذلك اليوم،والجميع بين كلمات العزاء والتهاني،العزاء إنما كان لفراق الأحبة فقط،والتهاني كانت لنيل الشهادة على ثرى المقدسات الغالية،وبذل الروح رخيصة في سبيل هدف سام.

 

هيا الرشيد
  • الأسرة والمجتمع
  • الفكر والثقافة
  • القصص
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط