اطبع هذه الصفحة


أين أنت يا أبي؟؟؟؟

هيا الرشيد

 
بسم الله الرحمن الرحيم


دخل المنزل مسبوقاً بمرحٍ طفوليَّ صاخب،ضحكات بريئة،وأيدي صغيرة ألقت بحقيبته المدرسية على عجل،أمسك بورقةٍ تحمل كماً هائلاً من أحلامه،بحث عن جدته وسرعان ما وجدها تعد الطعام له ولإخوته،لم يسأل عن طبقه المفضل كالمعتاد،ولم يعر اهتماماً لما تم إعداده من طعام،عاجل جدته بالمفاجأة،وزف إليها البشرى،انتظر أن تقفز معه فرحاً،ولكنها نكَّست رأسها كمداً،سنوات عمره القليلة لا تعطيه فرصةً للإلمام بكل شيء،والمرحلة الدراسية التي يدرس فيها لم تسعفه بعد بنضجٍ يحلل له طلاسم التعابير،في السابعة من عمره ويدرس في الصف الثاني،وظهر نبوغه جلياً ليتفوق على أقرانه،ولكن ما وراء الحدود كان بعيد المنال عن براءة طفولية انحصرت اهتماماتها بأداء واجب يومي وحفظ ما يتم أخذه من دروس في نفس اليوم،فكم يكون سعيداً عندما يحظى بقطعة حلوى من معلمه مكافأةً له على حسن خلقه،أو أداءه لواجبٍ صفي في سرعة قياسية،وكم يفرح لتلك الزيارات التي يقوم بها مدير المدرسة لصفه لأنه غالباً ما يشيد بسلوكه في الفصل ومتابعته لدقائق الدرس مع معلمه.

أمعن النظر في وجه جدته،وأعاد عليها المفاجأة،براءة الطفولة أوحت له بعدم فهمها للموقف،أعاد عليها صياغة الحدث بحروف تتقافز الفرحة بين ثناياها:

- جدتي..إنها الجائزة الكبرى في مسابقة القرآن الكريم..لقد أخذت المركز الأول للصفوف المبكرة.
- مبارك يا صغيري..أعرف ما تقول.
- إذاً لماذا هذا الحزن؟؟وماذا جرى لك؟؟
- لا،لا شيء.
- مسئول كبير من وزارة التعليم سيسلمني جائزتي،وسيعطيني أيضاً شهادة تقدير.
- مبروك..مبروك..أنت تستحق ذلك.
- جدتي..
- نعم يا بني.
- أين رقم والدي؟
- هناك في دليل الهاتف الصغير.
- لم أحفظه،ولدي بطاقة دعوة باسمه.

انطلق مسرعاً للبحث عن مفكرة الهاتف الخاصة بجدته،وجدها بالقرب من الهاتف،قَلَّبَ أوراقها الصغيرة،بحث عن اسم والده،وجده بعد لحظات،بدأ بالاتصال،الجوال لا يجيب،بادر بالاتصال على بيته،أيضاً لا جواب،إذاً لا بد من الاتصال على مكتبه وعلى عجل،يأتيه صوتٌ غريب ويجيبه بأنه في اجتماع ينتهي بعد نصف ساعة،راقب عقارب الساعة باهتمام،شعر بأنها تكاد لا تتحرك،يريد أن يستغل الفرصة قبل خروج والده من المكتب،نصف ساعة بالتمام والكمال،اتصال آخر ونفس الصوت يصيبه بخيبة أمل،لقد خرج والده للتو،أدار الهاتف مجدداً على الجوال،ينقطع الرنين وما من مجيب،يعاود الاتصال على بيته ولا أحد يرد،اقتربت الساعة من الثالثة عصراً،توقف قليلاً ليعاود الكرة بعد صلاة العصر،الرابعة تماماً،يبدأ محاولة جديدة،صوت نسائي على الطرف الآخر،يسأل عن والده،لقد خرج للتو،بدأت ملامح غصة تكتنف مشاعره،وخيبة أمل تسيطر على جوانحه،لم ييأس بعد،ولكن لوعة الحرمان بدأت تكتسح ثنايا أعماقه،وبدأت مرارة الذكريات تحيط فكره الصغير،نظر إلى جدته واستشف سبب الأسى الذي تعانيه،تذكر عدم فرحتها بفوزه بالمسابقة وأدرك جزءاً من السبب.

نظر إليها مرَّة أخرى،لم يتكلم،ولم يستفهم،عاودته الغصة مجدداً،وانحدرت على وجنتيه دمعة حارة،تذكر فراقه لأمه في ذلك الحادث الأليم،تلك الآلة الكهربائية عندما صعقتها في ذلك الشتاء القارس،فقدها في ذلك اليوم؛بل في تلك اللحظة التي مزقت صرختها نياط القلوب قبل أن تمزق صمت ذلك البيت،تغير كل شيءٍ بعد تلك الحادثة،أحضرهم والده إلى بيت جدته لأمه،يشعر بالحزن لفراق أمه،لكنه يعيش سعادةً لاهتمام جدته المتنامي به وبإخوتها،هو الكبير بينهم،وهو الوحيد الذي وصل إلى سن الالتحاق بالمدرسة،كان اهتمام والده بهم في البداية كبيراً،هذا الاهتمام خفَّ كثيراً بعد أن خفَّت حدة صدمة فقد والدته،وبعد فترة استشعر حدثاً غريباً،لم يفهم جيداً،ولم يستوعب كل الأحداث،ولكنه أدرك أن هناك في بيتهم امرأة أخرى قد أخذت مكان والدته،رآها مرَّةً واحدة في بيت جدته لوالده،شعر بالراحة نحوها،شعر بأنها امرأة طيبة،أخبرته بعودته هو وإخوته قريباً إلى المنزل،لم يفرح،ولم يحزن،ولكنه شعر بعدم تقبله لفراق جدته الغالية.

في الفترة التي تلت زواج والده بدأت زيارات والده تتناقص،لم يدرك السبب ولم يحدثه أحد عن ذلك،عندما يأتي خاله لزيارة جدته يتهادى إلى سمعه بعض الكلام،يشعر بأن جدته غير راضية عن الوضع،ولكنه متأكدٌ بالرغم من ذلك من حبها العميق له ولأخوته،في ذلك اليوم عرف دون قصد أنها تنتقد والده لتقصيره في النفقة،وأنه تغير عن السابق تماماً،سمع جدته تشكو لخاله مرَّةً أخرى ولكن ليس للتقصير فحسب؛بل للانقطاع التام عن الزيارة والنفقة،كان يمرح بين جنبات بيت جدته الرحب،ويتصنع عدم الفهم لما يجري،لم يكن ينقصه شيءٌ في حياته،ولكن جدته كانت تؤكد للآخرين ضرورة تواجد والدهم بينهم بين الحين والآخر،اعتاد على الوضع مع شعور بالأسى عندما يحضر أولاد الأقارب إليهم مع والدهم،أو حتى عندما يرى زملاء المدرسة مع آبائهم في الذهاب والإياب.

اقترب الوقت من المغرب،عاود الاتصال مجدداً على جميع هواتف والده،وجد الردود مطابقة لردود الظهر والعصر،غالبه البكاء هذه المرَّة،اقتربت منه جدته تخفف عنه وتلاطفه بكلام دون اقتناع منها،وجدت منه إصراراً عجيباً على حضور الحفل مع ولي أمره،ومن خلال الأخذ والرد بينهما التفت عليها فجأة وقال:

- ليذهب معي خالي،أو عمي،أو زوج خالتي،أي أحد يرافقني لحظة استلامي للجائزة.
- حسناً لتتصل بخالك.

كفكف دموعه،وكأنما قد وقع على كنز بهذه الفكرة،لقد وردت فكرة الأب البديل إلى ذهنه فجأةً،له زميلٌ في صفه دائماً يأتي خاله ليسأل عنه في المدرسة،لا يعرف سبب ذلك،ولكنه يدرك أن ذلك ليس عيباً،يجد خاله بسرعة ولكنه خارج المدينة بحكم عمله،يتصل بعمه ولكنه مشغولٌ في الغد ووقته لا يسمح له،تعاوده حالة الأسى ويطلب من جدته أن تتصل بدلاً منه بزوج خالته،تتصل وتأتي النتيجة مخيبة للآمال كسابقاتها،لم يقل شيئاً ولكن ملامح وجهه الحزينة نطقت بما يعتمل في أعماقه،استحال فرحه بنتيجة المسابقة حزناً لم يستطع تسطيره حروفاً ولا كلمات،كان يعاجل دموعه بيديه الصغيرتين كلما اقتربت من التساقط،لم يتعالى هذه المرَّة بكاؤه كالمرَّة السابقة،ولكن صدره الصغير اكتنز شحنات الأسى لواقعه الأليم،نظر بامتنان حزين إلى جدته،شعر بها تقف إلى جانبه دون الجميع،يعلم تماماً أن لاشيء بيدها،وأنها عاجزة تماماً عن تلبية كل ما يريد،شيعها بنظرته الحزينة وبهدوءه المتألم،وانسحب متوجهاً إلى حجرته.

في صباح اليوم التالي تدخل الجدة حجرته بهدوء،تجاهل صوتها،وتململ من إيقاظها،أصرت على استيقاظه،فتعلل ولأول مرَّة بأنه مريض ولن يذهب،ذكَّرته بالجائزة،ذكرته بالمسئول الذي سيسلمها له،ذكرته بالشهادة،ولكنه رفض كل شيء،حاولت مجدداً؛جلس هذه المرَّة،استند على وسادته،وأعطاها قراره النهائي:

- لن أذهب دون أب،سيسأل الجميع عنه،وسيكون منظري سيئاً بجوار مقعده الفارغ ...
- لن أذهب وحيداً أمام رفاقي ...ولن أحضر الحفل دون أن يرافقني أحد
- أين أنت يا أبي؟؟ولماذا تتركني كل هذا الوقت؟؟


 

هيا الرشيد
  • الأسرة والمجتمع
  • الفكر والثقافة
  • القصص
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط