اطبع هذه الصفحة


جمود التماثيل

هيا الرشيد

 
بسم الله الرحمن الرحيم


ابتسمت وهي تعتلي الميزان وترى نتائج النظام الغذائي الصارم الذي تتبعه منذ فترة ليست بالقصيرة،قارب قوامها على الوصول إلى الشكل المطلوب،وآمال عريضة تحدوها بأناقة وشكل جديد،الفترة الطويلة التي قضتها وهي تعاني السمنة أقضت مضجعها بشكل كبير،ومرارة الحرمان من شتى أنواع الملابس قد كان له أكبر الأثر في شعورها بالانكسار النفسي،كانت نظراتها دائماً تلاحق صويحبات الرشاقة،وغبطتها لهن كانت على أشدها،تحلم دائماً بأن تكون مثلهن،وترتدي الملابس الشبيهة بملابسهن،حلم الرشاقة عانق مخيلتها لفترة طويلة،وهاهي تقترب من تحقيق هذا الحلم الذي تعده كبيراً.

لم تفرح بهذا الإنجاز فحسب،بل أن هاجسها الآن هو المحافظة على ما تم إنجازه،وانصب تفكيرها أيضاً على نواح أخرى تسير جنباً إلى جنب مع الوضع الجديد الذي تستعد لأن تعيشه،فلون الشعر يجب أن يتغير تمشياً مع روح العصر،وقصة شعرها الجديدة التي تنطق بالشباب الدائم ضرورية لتخفض من منسوب عمرها سنوات عديدة،ولن تنسى بطبيعة الحال العدسات الملونة،ومعدات الجمال من كريمات لتفتيح البشرة وغيرها،ألقت نظرة عابرة على المرآة،وتذكرت على الفور قرارها بأن تغير من شكل حواجبها بطريقة ما،تريد أن يراها الكل بهذا القالب الجديد،تتمنى أن تأسر نظرات زوجها الذي يحب الأناقة والرشاقة.

بدأت في تنفيذ مخطّطاتها الجديدة نحو شكل جديد،وقالب ينطق بروح العصر،والتمدن الذي طال أغلب النساء،كانت بين اللحظة والأخرى تقترب من مرآتها الكبيرة،تقترب أكثر فأكثر لتتأمل دقائق وجهها وبشرتها،تلك البثور الخفيفة كانت تؤرقها بعض الشيء،تريد بشرتها نضرة لا يشوبها شيء،وتريد لونها فاتحاً أكثر من ذلك،تبتسم كلما تذكرت تلك الإعلانات في كثير من الصحف والمجلات،فكل مشكلة في شكل المرأة لها ألف حل وحل لدى محلات مستحضرات التجميل،وكذلك العيادات،كانت تحدّث نفسها بأنها لن تقوم بفعل شيء أفتى العلماء بتحريمه،ولكنها كانت ترى في تجاوزاتها في النفقات،والمبالغة في الزينة شيء عادي من حقها أن تقوم به مادام فيه كثير من النتائج الباهرة.

قامت بتقسيم وقتها بعد حصولها على القوام الرشيق الذي حلمت به لسنوات عديدة،فشراء ملابس مناسبة لهذا القوام الممشوق هو أول الخطوات نحو حياتها الجديدة،واقتناء كثير من الأشياء التي تعتبرها من مكمّلات أناقتها،ولن تنسى بطبيعة الحال مستحضرات التجميل المستوردة من أشهر المصانع الأوربية،ترددت قليلاً وفكرت،ومن ثم قررت تأجيل شراء مستحضرات التجميل وما يتبعها من مساحيق وكريمات متنوعة في وقت لاحق،تريد أن تذهب إلى مراكز التجميل التي انتشرت في الآونة الأخيرة،وتنتظر بكل لهفة ما تمليه أخصائية التجميل عليها من نصائح وتعليمات،ولن تنسى بطبيعة الحال استشارتها حول النوعية التي تناسب بشرتها من أدوات التجميل المختلفة.

لم تعد تحتمل الانتظار لمزيد من الوقت،سارعت بالذهاب إلى مركز تجميل قد ذاع صيته وأصبح معلماً مشهوراً في حياة كثير من النساء،دخلت المركز على استحياء،فلم يغيب عن ذهنها لحظة واحدة أنها قد تجاوزت منتصف العقد الرابع من عمرها،نظرت إلى الحاضرات،تفحصت وجوههن،تنهدت بعمق وكأن كابوساً قد انزاح عن صدرها،لقد وجدت نساء من مختلف الأعمار،فوجودهن قد أعاد الثقة إلى نفسها،ويعتبر أيضاً دليلاً ملموساً على أنها تعيش فترة الصبا ولم تكبر بعد،فكيف تفكر بقضية العمر وقد وجدت نساء أكبر منها بسنوات عديدة،أعطت لنفسها مسوغاً آخر،فلم يعد السن حاجزاً دون طلب الأناقة والجمال،ولن يكون للنساء من حولها حجة عليها في الشكل الجديد الذي تطمح للوصول إليه.

تجولت في هذا المركز،أمعنت النظر في العاملات ومرتادات المكان،صالات كبرى وحجرات جانبية تعج بالحركة والنشاط،الكل يعمل على قدم وساق يسابق الدقائق والساعات،وأفواج تدخل،وأخرى تخرج،ونظرات المسئولات في المكان مصوبة نحوها،وابتساماتهن العريضة تسألها بصمت عن رغباتها،بادلتهن الابتسام،وأوحت لهن بأنها ترغب في جولة لتتعرف على ما يتم عمله في هذا المكان،أدركت للوهلة الأولى بأن هناك أشياء كثيرة تحدث لم تكن تعرفها،تبسمت وهي تؤمل نفسها بمعرفة كل شيء يجري هنا،وبتعايش كامل لهذا العالم الجديد،حلم التغيير مسيطر على فكرها،وهاجس الأناقة والرشاقة والجمال أصبح محوراً لحياتها،يوجهها دون أن تشعر،ويقيد حركاتها وسكناتها وحتى ساعات نومها،والأقسى من ذلك سيطرة ذلك الهاجس على نوعية وكمية طعامها.

بعد جولات متكررة في المركز توجهت نحو موظفة الاستقبال لتملي عليها طلباتها،كان المبلغ باهظاً،والدفع مقدماً،وجدت في نفسها عدم قبول لهذا الغلاء الفاحش،ولكنها تمتمت بكلمة لا بأس،فمن أجل هدفها الذي تسعى لتحقيقه لا بد لها من التضحية والعطاء،أخرجت محفظة نقودها،وسلمتهن المطلوب،تناولت ورقة تثبت أنها قد سددت حسابها،وتوجهت للمسئولة عنها،وضعت نفسها بين يديها،واستسلمت لأصابعها تعبث بطبيعتها كيفما شاءت،كان قلبها يخفق بشدة،فكل خطاً يقع ستلازمها نتائجه لشهور طويلة،وإصلاح الأخطاء في مثل هذا الحالات يستغرق وقتاً وجهداً،رددت بينها وبين نفسها عبارات مطمئنة،هدأ روعها بعض الشيء،ومر الوقت بطيئاً ثقيلاً على نفسها،كانت تنظر في ساعتها بين اللحظة والأخرى،تريد أن ترى نتيجة هذه الخطوات على شكلها،انتهى كل شيء،نظرت إلى المرآة،تبسمت قليلاً لكون النتيجة مرضية،شكرت العاملات ووعدتهن بالعودة لاستكمال الخطوات المرسومة في الأيام القادمة.

عادت إلى البيت،زوجها لم يحضر بعد،سارعت إلى المرآة،تفحصت التغيرات تحت الإضاءة المنزلية،نظرت إلى الساعة الحائطية،زوجها لم يعد،تريد أن ترى أثر هذه التغيرات عليه،تتمنى أن تسمع منه عبارات المديح والثناء،صوت الباب يفتح،سارعت لاستقباله بابتسامة عريضة،التقت به وجهاً لوجه،وقف أمامها متأملاً،كان يتفحصها من أعلى رأسها إلى أسفل قدميها،كانت تستعجل رأيه ولكنه كسر حاجز الصمت بسؤال غريب،سؤال أصابها في الصميم،سألها باستهجان:-
وكم كانت تكلفة كل هذا من المال والوقت؟؟؟؟
أسقط في يدها،وعقدت الدهشة لسانها،توجه إلى حجرته،وتركها وحيدة تتقافز أمام مخيلتها ألف علامة استفهام،أسرعت إلى أقرب مرآه،نظرت إلى نفسها بإمعان،لا ترى خطأ منفر،ولم يكن من ضمن تغيراتها ما يثير الامتعاض،تبسمت قليلاً وقد تذكرت بأنها لم تنهي بعد إجراءاتها التجميلية،وحدّثت نفسها بأن النهاية ستكون حتماً في صالحها،وقطعت على نفسها عهداً بأن تكمل المطلوب في أقرب فرصة.

مرّ الوقت سريعاً،وذهبت للمركز التجميلي مرّة أخرى،كانت هذه المرّة أكثر حماساً وأشد لهفة من سابقتها،فقصة الشعر وتغيير لونه في الزيارة السابقة غير كاف لها،فاليوم جاء دور البشرة والحواجب،وكالعادة وجدت مركز التجميل يغصّ بالباحثات عن الصبا والجمال،مختلف الأعمار والمستويات الاجتماعية،تقدمت للمسئولة عن تسجيل المطلوب،ذكرت مرادها من هذه الزيارة،مبلغ باهظ للمرة الثانية،أخرجته دون تردد مع وجود انتقاد مكتوم لهذا الغلاء الفاحش،جاء دورها سريعاً،استسلمت للعاملة الشرق آسيوية التي تعدها مقدماً،وهاهي خبيرة التجميل تحضر لعمل المطلوب،شعرت بالقلق يداهم مشاعرها مرّة أخرى،خبيرة التجميل تعبث ببشرتها وتتحدث إليها بمرح واضح،كانت في عالم آخر،وتشعر بأن الوقت بطيئاً بل لم يعد يتحرك،ها هي تتلقى الإشارة بقرب نهاية العمل،تنفست الصعداء ونظرت إلى ساعتها،نهضت من مكانها لتنظر إلى وجهها،رأت نفسها بالشكل الذي كانت ترغبه،ولكن الشكل الجامد الذي أعجبها على الأخريات لم تكن لتستسيغه على نفسها،وحواجبها أضفت عليها مزيداً من الجمود،لم تشعر هذه المرة بالسعادة،ولكنها سارعت بإلقاء التحية ووجهها تعلوه ابتسامة صفراء،وغادرت المكان وعادت إلى بيتها.

عندما وصلت أسرعت إلى مرآتها الكبيرة،تذكرت نظرتها القديمة لبعض النساء المبالغات في الزينة،وتذكرت تشبيهها لملامحهن وجمودها لملامح التماثيل،لا تعرف في هذه اللحظة لماذا قفزت إلى ذهنها مقارنة بين الهيئة الطبيعية التي كانت تتصف بها،وبين هذه الهيئة المصطنعة التي أبعد ما تكون عن الطبيعة التي خلقت عليها،نظرت لشكلها الجديد بإمعان،لقد حصلت على ما كانت تصبو إليه،ولكنها لا تشعر بالسعادة،تمنت حضور زوجها،تريد منه نظرة استحسان تهدئ من ثورتها على نفسها،لحظات ويحضر،أسرعت إليه ولزمت الصمت،نظرت إليه تريد منه أن ينطق برأيه بسرعة،أمعن النظر،كان بادياً على ملامح وجهه عدم الاستحسان،أسرع إلى مكان آخر،فكرت في رأيه،لعله افتقد الطبيعة في شكلها كما افتقدته هي في بادئ الأمر،أو لعل جمود التماثيل الذي تنطق به هيئتها الجديدة لم يرق له.


 

هيا الرشيد
  • الأسرة والمجتمع
  • الفكر والثقافة
  • القصص
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط