صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







السهام المسمومة

هيا الرشيد

 
بسم الله الرحمن الرحيم


عندما توفيت والدتي،قرر والدي أن يكرس حياته لتربيتي مع شقيقاتي،فقد كنّا سبع شقيقات وأعمارنا متقاربة،ولكن لحكمة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى كان هناك اختلاف كبير بيننا في الشكل والمستوى الدراسي،وقد تفوقت في دراستي وحصلت على شهادة،ووظيفة ولكن بعض شقيقاتي قد أخفقن حتى في تجاوز المرحلة المتوسطة،ولكننا بالرغم من كل شيء كنّا نتمتع بعلاقات أخوية قوية،فلم تؤثر علينا هذه الفروق،ولم تتغير علاقاتنا تبعاً لذلك.
مرّت الأيام ورزقنا الله بأزواج صالحين ما عدا شقيقتي الصغرى التي بقيت دون وظيفة أو زواج،وتبعتها شقيقتي الأكبر مني عندما طلقها زوجها وعادت إلى البيت تحمل وليدها بين يديها،أمّا أنا والبقية فقد كانت ظروفنا مستقرة في بيوتنا وفي وظائفنا،وكان بيت والدي عاماً بعد آخر يزدان بمولود جديد لإحدانا،وكما هو الحال في هذه الحياة فدوام الحال من المحال،فمتاعب والدي الصحية تتابعت عليه بشكل كبير،وأصبح لا يكاد يغادر المستشفى حتى يعود إليها مرّة أخرى.
في ذلك الصباح الحزين،تلقيت نبأ وفاة والدي،وذهبت للوقوف إلى جانب شقيقاتي في هذا المصاب،وبقيت هناك أياماً،وكلما هممت بالعودة إلى البيت أبدى زوجي تسامحاً لا حدود له لأبقى هناك،وبعد فترة عدت إلى بيتي،ولكنني كنت أقوم بزيارة شقيقاتي بشكل متواصل،وكنت ألبي طلباتهن،وأعمل على توفير احتياجاتهن،وكانت شقيقاتي الأخريات يساهمن معي برعاية بيت الوالد ومن فيه،واستمرت بنا الحياة على هذا الشكل فترة من الزمن.
استبد الملل بشقيقتي الصغرى،وكانت دائمة الشكوى والتذمر،وكنّا نتباحث أمرها دائماً،تبادرت إلى أذهاننا فكرة عودتها إلى مقاعد الدّراسة،ولكنها رفضت الفكرة تماماً،فقلنا إذاً دار التحفيظ هو الحل،نعم هو الحل الأصلح لحالها،ولكن خاب ظني إذ ذهبت لفترة يسيرة وامتنعت بعدها بحجج لا حصر لها،ولكن لا بأس فقد افتتح بالقرب من المنزل معهداً خاصاً لتعليم الحاسب واللغة الإنجليزية،ذهبت إليه فترة وعاودتها حالة السأم والتذمّر من جديد،أهملت المتابعة فأخفقت من أول نتيجة.
في كثير من الأحيان كنت أتباحث مع بقية شقيقاتي بشأن شقيقتنا الصغرى،فحالها ووحدتها لم تكن مريحة لنا،وتذمرها المستمر سبب لنا حالة من التوتر،وكانت كل واحدة منّا تبادر باقتراح من هنا أو هناك لعله يناسبها،مزاجها الصعب جعل كل ما نتفوه به غير مقبول،بيني وبين نفسي كنت أتمنى لها زوجاً صالحاً ينتشلها مما هي فيه،وكم تمنيت لها أطفالاً تنشغل بتربيتهم وخدمتهم بدلاً من هذا الفراغ الذي تعيشه،في بعض الفترات تكون في حال سلم وسلام مع أطفالنا،تداعب هذا،وتراعي هذا،وفي فترات أخرى ينقلب الحال،عراك مستمر،وانزعاج شديد من لعبهم وصخبهم.
في بعض الأحيان كنّا نتناوب في الخروج معها لجلب مستلزماتها من أقرب مكان،وفي أحيان أخرى كنت أحضر حاجياتها معي،فبيت الوالد لا يوجد فيه سائق،وقد كان وجوده من فضل الله مرفوضاً من قبل الجميع،وكنّا نعد ونحسب خطواتنا،فسمعتنا في ظل هذه الظروف ثمينة،خروجنا محدد للحاجة القصوى،لا سهر خارج المنزل،السوق نذهب إليه للضرورة في أضيق نطاق،لا اختلاط بالجيران ولا الصديقات،مكالمات هاتفية عابرة بيننا وبين زميلاتنا،استمر بنا الحال هكذا بين بيوتنا وبيت والدنا رحمه الله،واستمرت شقيقتنا في شكواها من الملل ووقت الفراغ الطويل.
تباحثت يوماً مع زوجي في شأنها،تحمس لحل مشكلتها ولكنه لم يجد هذا الحل،شقيقاتي الأخريات بثثن همها لأزواجهن ولكن ما من حل،شقيقتي المطلقة كانت أحسن حالاً منها،إذ كانت تمضي ساعات طويلة في الوظيفة الجديدة التي حصلت عليها ومن ثم الساعات الأطول مع صغيرها،كل منا كانت تدلي بدلوها ولكنها هداها الله صمّت أذانها عن كل ما هو مفيد،تريد تزجية الفراغ وحسب،ما هي الطريقة،لم تكن تهتم،مرّة تقترح علينا الذهاب في رحلة لمدينة أخرى،ومرّة تجس النبض في نزهة خلوية،وأخرى تريدها لقاء للأقارب والمعارف دون مناسبة،كنّا نبادر قدر الاستطاعة،وفي حدود طاقتنا،ولكن عندما تبالغ في طلباتها كانت كلمة -لا- لها بالمرصاد.
في ذلك اليوم ذهبت إلى بيت والدي بعد غياب يومين،دخلت البيت وإذا بالأجواء النفسية بين الجميع ملبدة بالغيوم،استطلعت الأمر ولكن الجميع تهرب من الرد،كان الانقسام واضحاً،الصغرى والمطلقة في جهة، والبقية في جهة أخرى تماماً،تساءلت مرّة أخرى عن الأمر،فوقعت عليّ النتيجة كالصاعقة،أبداً لا يمكن،لم يكن هذا ما تعاهدنا عليه من قبل،وهذا بالضبط ما حذرنا منه والدنا رحمه الله قبل وفاته،أبواب بيتنا لا بد وأن توصد أمام كل ما من شأنه أن يفسد علينا حياتنا في الدنيا والآخرة،لن أسمح ومهماً يكن بطبول الفساد أن تدق في بيتنا،إنه شر كبير ولن أسمح بدخوله بيتنا،بيتنا الذي اعتدنا عليه طاهراً ونقياً من كل ما يغضب الله سبحانه وتعالى.
الفضائيات ذلك الحل السقيم الذي وجدته شقيقتي لطرد الملل والسأم من حياتها،تريد أن تحضر الطبق ليعلو منزلنا بعد كل هذه السنوات من المعارضة،لقد سوّلت لها نفسها بأن مزيداً من القنوات ستغير من حياتها،وستكسر حاجز الروتين الذي عاشته لسنوات طويلة،ارتفع صوتي - لا – لن يكون ذلك،ولن يعلو الطبق سطح منزلنا،لو كان والدي موجوداً لما تجرأت إحداكن على مثل هذا الطلب،وسيظل بيتنا رمزاً لمن حولنا كما كان،تعالت أصواتهن،وقلنها بصراحة وجرأة غريبة:-
البيت ليس لك وحدك،ولست حرة التصرف فيه.
ذهلت للرد،وأسقط في يدي،اتصلت بزوجي،وعدت إلى بيتي غاضبة.
مرّت الأيام،لم تتصل إحداهن كالعادة عندما أتغيب،ما الأمر،أرفع سمّاعة الهاتف،أضعها دون أن أتصل،أين البقية؟؟ولماذا لم يتصلن؟؟ماذا حدث بشأن ذلك الموضوع؟؟هل أذهب لأستطلع الأمر؟؟أم أبقى لحين اتصال إحداهن؟؟
قررت الذهاب،وعندما أقبلت على البيت إذا بالطبق يقابلني وقد اعتلى سطح بيتنا،وكأنه يقول لي بوقاحة:-
انتصرت عليك،ودخلت بيت والدك بالرغم عنك.
دخلت البيت،قابلني الجميع كالمعتاد،احتفاء بي وبأطفالي،وكأن شيئاً لم يكن،قبلت الوضع على مضض،وكان التلفاز الموصل بهذه القنوات في مكان معين،الأطفال لديهم أفلامهم الكرتونية التي كنّا ننتقيها لهم بكل حرص في مكان آخر،سار الوضع لفترة يسيرة بهذا الشكل،وشيئاً فشيئاً بدأ اهتمام شقيقاتي الأخريات بهذه التقنية،كنت ألومهن على هذا الانجراف،ولكن العذر دائماً كان لشيء بسيط فحسب،مشاهدة عرض للأزياء،أو رؤية مذيعة بهرت المجتمع بجمالها،أو متابعة لقطة قصيرة لممثلة أنيقة،كنت أردد بيني وبين نفسي كلمة- لابأس-،فترة مؤقتة ويعود الحال كما كان.
في ذلك اليوم حضرت إلى بيت والدي،وجدت الجميع في متابعة لبرنامج في إحدى القنوات،حتى شقيقاتي اللاتي عارضن بالأمس بدأن في متابعة ما زعمن أنه هادف ومفيد،جلست بينهن وشخصت ببصري نحو هذا العالم الغريب،وجدت نفسي مشدودة لكل لقطة،وجوه جديدة،وأزياء حديثة،وبرامج مشوقة،لا أعرف لماذا تقبلت نفسي هذه الجلسة برحابة صدر،ولم أشعر بالملل،ولم أحاول حتى مغادرة المكان،ولكن عندما بدأ ذلك المسلسل اشمأزت نفسي من المتابعة،عدت إلى المكان بعد فترة،ومرّة أخرى هذا فلم طويل،-لا- لن أتابع فالبرامج شيء،والأفلام والمسلسلات شيء آخر.
كنت أعود إلى بيتي ومن ثم أزور شقيقاتي،وأحياناً يصر زوجي على بقائي يومين أو ثلاثة،في البداية كنت أعارض البقاء لفترات طويلة،ولكن بمرور الوقت كنت أفرح لذلك،والحقيقة لم تكن لبقائي بالقرب من شقيقاتي،ولكن الحقيقة لبقائي أمام هذا الكم من القنوات،وبعد مرحلة من المتابعة وجدت نفسي لا تمانع في بعض اللقطات البسيطة من المسلسلات،ولا تجد بأساً في بعض المشاهد للأفلام القديمة،وهكذا كان إلى أن وجدت نفسي أتابع كل شيء بشغف شديد،بدأ زوجي في ملاحظة رغبتي الدائمة للبقاء في بيت والدي،وأبدى استغرابه لوضعي الجديد،فبالأمس كنت أمانع في البقاء،واليوم أصر عليه.
بدأت حياتي تتغير منذ معرفتي بهذا الطبق،أسهر أمامة إلى الفجر،وأذهب متثاقلة إلى عملي،أهملت أطفالي،اعتمدت على الخادمة للقيام بكل أعمالي المنزلية،فلا وقت لدي،سهر،ووظيفة،وفي النهار يحين غالباً وقت النوم،لم ترق الحياة الجديدة لزوجي،ولم يجد مبرراً لهذا التغير،ودبت بيننا الخلافات حول الذهاب والمجيء،كنت أشعر بالفرح عندما يغادر غاضباً،فالمهم أن أبقى،حاولت إحدى شقيقاتي إصلاح الوضع،ولكني لم أكن لأجرؤ أن أطلب منه تركيب ذلك الطبق في بيتنا،سيواجهني بتناقضي،وسيتهمني بالجنون،فعلاً تناقض بين الماضي والحاضر،ولا زلت أعرف وأدرك تماماً بخطورته وضرره،ولكن الرغبة في متابعة دقائقه تلح عليّ في كل لحظة،ولم أستطع الخلاص من ذلك.

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
هيا الرشيد
  • الأسرة والمجتمع
  • الفكر والثقافة
  • القصص
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط