اطبع هذه الصفحة


صوت الضمير

هيا الرشيد

 
بسم الله الرحمن الرحيم


حضرت متأخرة في ذلك اليوم،وبوادر مشاحنة جديدة بينها وبين زوجها بادية على وجهها،ومديرة المدرسة تمعن في تأنيبها في كل مرة تتأخر فيها،إدارية وتتأخر!!وجدت نفسها وحيدة في الغرفة، زميلاتها سبقنها لحضور طابور الصباح،فعلاً دقائق وتدخل الطالبات إلى فصولهن،ومجيئها متأخرة كل يوم يخل بجدول الأعمال الموزع بين الإداريات،تدخل زميلاتها دفعة واحدة،أصواتهن تخترق سمعها،هذه تلقي التحية،والأخرى تسأل عن سبب التأخر،وتلك تلقي بمزحة ثقيلة،تنظر إليهن باستياء واضح،مزاجها اليوم ليس مناسباً لتساؤلاتهن الكثيرة،وأعصابها ليست على ما يرام، قالت أقربهن إليها:- لا بد أنه الموضوع ذاته .
أومأت برأسها علامة الإيجاب،ولاذت بالصمت علامة عدم تقبل الخوض في التفاصيل.
انكبت على عملها،وصبت همومها اليومية بين جنبات ملفاتها،محاولات يائسة لنسيان الموضوع،حياتها الزوجية في خطر،لا تريد أن تخسر زوجها،تريد أن تحافظ على عش الزوجية،تتمنى الاستقرار لأطفالها الأربعة،شتات ذهني تعيشه منذ أيام،بل بالتحديد منذ طلاق أخته،عمة أولادها،طلاقها الذي جاء لينسف الأحلام،ويقلب الموازين في بيتها،ويغير كل اتفاق بينها وبين زوجها.
قبل خمسة عشر عاماً عندما تزوجت منه،وكانت قد تعينت بالشهادة الثانوية،كان هو الآخر يعمل بالشهادة ذاتها،وكان من الأولويات بينهما التعاون في كل شيء،لا خلاف أبداً من أجل المادة،المهم أن تكون حياتهما سعيدة وهانئة،ظروف أهله مستقرة،وكذلك أهلها،لا أثر للتدخل في حياتهما من الطرفين،والعلاقات متينة وقائمة على المحبة والتفاهم.
مبدأ التعاون بينها وبينه في كل شيء، استمر ذلك طوال هذه السنوات ،إنفاق متزن،وتوفير أكثر اتزان،العطاء بحدود،وكذلك الإمساك،لا إسراف مع الأقارب،ولا تقصير في جانبهم،تؤدي إلى جانبه حق الكبير والصغير،وتشارك معه في أفراح القريب والبعيد.
دوام الحال من المحال،والحياة لا تستقر على وتيرة واحدة،وظروف الإنسان تتغير في غضون ساعات أو أقل،والدته كانت تعيش في كنف أبيه،وأخته متزوجة،وبين ليلة وضحاها يتبدل الحال،تترمل الأم،وتصبح الأخت مطلقة،وكلتاهما بدون عمل،وليس لديهما أي مورد مادي،والده لم يكن غنياً،ولم يترك ميراثاً يذكر،وكان يعمل عملاً حراً،فلم يلتحق بعمل حكومي،وليس له راتب تقاعد.
على حين غرة،وفي ظل هذه الظروف،تداهمها مقومات الأنانية،وتتغلغل إلى أعماقها كلمة أنا،أنا أعمل،أنا كافحت،أنا أستحق،أنا محقة،سأحافظ على بيتي،سأحمي مالي، وهكذا تذوب هذه الكلمة في إناء أفكارها،وتتسرب إلى أوعية مشاعرها،تضعها قانوناً عادلاً وفق هواها،وتصدق قانونها،تشعر بصدق دعواها،وصحة رأيها،والجميع من حولها على خطأ.
الأم الكسيرة تلمح،وليس لها بعد الله إلا ابنها،والأخت تصرح،فإلى من تذهب ،وإلى من يكلها بعد المولى عز وجل،وهو شقيقها الوحيد، البيت خاوٍ،والحياة لا بد أن تستمر،تحتاجان إلى المال،وليس لهما أي مورد،يقع في حرج شديد،أمه وأخته أمانة في عنقه،وها هي زوجته تقف له بالمرصاد،يدرك أنهما تطلبان حقهما الشرعي،ولكنها تزمجر في وجه الجميع لتحمي شقاء الأعوام،وعرق السنين.
فكرها يعمل باستمرار،ومبدأ الحفاظ على كل شيء يلح عليها،وطلب أمه وأخته للنفقة ينغص عليها حياتها،ويؤثر على استقلالها،اعتادت الحرية،واعتادت التصرف في مملكتها،ولكن وبعد سنوات يأتي من يطرق باب مملكتها،ويسلب جزءاً من خصوصيتها،ويتدخل في شئونها،ويشاركها في مالها،لا،لا ،كانت تقولها لا شعورياً بينها وبين نفسها،أحياناً كلمة لا تصدر منها بصوت مسموع، تلتفت إليها زميلاتها،تنتبه إلى نفسها،وتنكب مرة أخرى على أوراقها.
مر الوقت سريعاً،انتصف اليوم الدراسي،خرجت الطالبات في استراحة قصيرة،كان الدور عليها في الخروج معهن،عشرون دقيقة وتعود إلى مكتبها،كانت نفسها قد هدأت كثيراً عن الصباح،استشعرت زميلاتها هذا الهدوء،حب الاستطلاع قد بلغ ببعضهن مداه،يرغبن في سماع قصة جديدة،حكاية واقعية من أي بيت،المهم أن هناك مجال للحديث،كل واحدة قد شمرت عن ساعديها،تستعد لأن تدلي برأيها.
نظرت إليهن مبتسمة،هزت أكتافها علامة أن جديدها هو القديم ذاته،تفجرت مشكلتها معه ولم تلتئم بعد،هو محتار،وهي تصر على رأيها،تعالت الأصوات والكل مؤيد،كيف بها أن تفرط بشقاء عمرها من أجل أمه وأخته؟؟لو أن أخته كانت مكانها لما فرطت بقرش من مالها من أجل أحد،ولو أن المال لأمه لما لان قلبها لهذا أو ذاك،والكل هكذا،وهذا قانون في هذه الحياة،فكيف تشذ عن القاعدة وتفرط؟؟كيف لها أن تفتح المجال لمن يشاركها ويشارك أطفالها مالهم؟؟كيف؟؟كيف؟؟
سبحان الله!!تعالت الأصوات،وصدرت الآراء،التأييد كامل، بدا لها هذا التأييد وكأنه حقيقة،واجب لا بد من التزامه،ولا يجب عليها التواني عن تحقيقه،أو بالأحرى تنفيذه،والسير قدماً ليكون واقعاً تعيشه،جاءت في الصباح بحماس لقضيتها،والآن تضاعف حماسها،ستقف في وجه الجميع،وستقاوم الأعاصير مهماً كانت حدتها،ستصمد،وستحافظ على كل شيء، وستكون لها الغلبة في النهاية.
يمر الوقت،والعاصفة لا تهدأ،كلما صمتت،جاءت إحدى الزميلات بالجديد،قاومي،كوني قوية،لا تستسلمي،وهكذا التشجيع،تشعر بأنهن محقات،حريصات على مصلحتها،كلما خبت جذوة الأنانية في نفسها،أتت إحداهن بما يغذيها،تلميحات،تصريحات،آراء لا نهاية لها،صواب أم خطأ كان آخر شيء يتبادر إلى الأذهان.
في لحظة انشغالها،ترفع عينها،وإذا بزميلة من غرفة أخرى،تستأذنها في استخدام الهاتف،تومئ برأسها،وتجلس الأخرى،مكالمة قصيرة،ومن ثم تشكرها،وتقف لتنصرف،أشارت إليها بالبقاء،تريد استشارتها،ومعرفة رأيها، بدأت الحكاية بصوت خافت،تأملت رأياً محايداَ،ولا تريد تدخل الأخريات،دقائق وتنتهي،تتلهف للنتيجة،وكأنها في قاعة الاختبار.
تأتيها الابتسامة اللطيفة،المشوبة بالنظرة الحانية،وتتحرك الشفاه لتصيغ أسئلة قد غابت طويلاً عن ذهنها:-
أخيتي،أسألك بالله،من لهن بعد الله في هذه الحياة،أليس زوجك وحده؟؟
ألم يكن زوجك ابنهم قبل أن تعرفيه؟؟
أتضمنين الدنيا أن تستمر لك يانعة نظرة كما هي الآن؟؟
ألا تخشين تقلب الأيام،وتغير الظروف،بأن يكون اليوم لك،وغداً عليك؟؟
إلى أين يذهبن؟وممن يطلبن المال؟فكري جيداً قبل أن تجيبين.
تسمرت في مكانها،وحركت شفتيها،لكن الكلمات أبت أن تخرج،صعبت عليها الإجابة عن هذه الأسئلة،حركت يدها في حركة لا إرادية،ولكن زميلتها سارعت بالذهاب،ألقت بمخزون فكرها،وآثرت الانسحاب،مصداقية في الرد في زمن غص بالأباطيل،زميلاتها في العمل،وصديقاتها خارجه،عجزن عن هذه الأسئلة،وعقلياتهن المحدودة،عجزت عن تسطير الإجابات الصحيحة،صوت الحق يعلو،وأصوات الباطل تذعن في استياء،صوت نطق للحظات،تبخرت إزاء شموخه العشرات.
انتصبت واقفة،ومن ثم جلست بقوة،اضطربت حركتها،وكانت تحاول أن تخفي عدم اتزانها،لم تكن جبانة،ولكن الشجاعة في نظرها هذه المرة ليست في التصريح،بالذات في هذه اللحظات،إن عبرت عما يعتمل في صدرها،فألف رمح سيصوب إلى أفكارها،وسيتم وأد قراراتها في مهدها، شاركت الزميلات والصديقات في مشكلتها،ولكن النتيجة بعيدة كل البعد عن بر الأمان،والزميلة الأخرى التي لم تكن تعرف عنها سوى اتزانها،وصدقها،ها هي تلقي إليها بالحل جذرياً في قالب أخوي مقنع.
تساءلت لبرهة وبصمت،ما بال الكم الهائل من الحلول السابقة لم يطفئ من حدة ثورتها؟ولم يتلائم مع طبيعتها؟وما بال هذا التلميح البسيط قد أيقضها من سباتها،وضرب على وتر حساس في كيانها؟تلك الغشاوة التي علت عينها بدأت تنقشع بالتدريج،والسواد الذي غلف قلبها بدأ بالزوال.
تفكرت في لحظات في حال هذا العالم وأفراده،اليوم صفاء وفرح،وغداً لا يعلمه إلا الله،تعيش الآن آمنة مطمئنة،ولكن المستقبل علمه عند الله،في هذه اللحظات شعرت بأن ماديات العالم كله لا تساوي عند تفريج كربة المسلم شيئاً،وأن ما عملت من أجله سنوات طويلة يبدو رخيصاً جداً مقابل دعوة صادقة من إنسان محروم،أو ابتسامة رضا من قريب قد عاكسته الظروف.
تذكرت أمه وكفاحها،أتكون الخاتمة عقوق تتسبب في وجودها،فكرت في أخته التي هي في سنها،ولديها أربعة من الأطفال أيضاً، حرمت من العيش معهم،شعرت بقشعريرة تسري في جسدها من مجرد التفكير بأن تتعرض يوماً ما لما تعرضت له أخته،نظرت للمال الذي بين يديها،وتذكرت نعمة الله عليها،وأدركت تماماً قيمة الشكر والثناء لله وحده،وشعرت بضرورة لين الجانب الذي يجب أن تتحلى به تجاه الآخرين،ولم تنسى في هذه اللحظات أهمية انسلاخها من حب التملك والتعالي،وضرورة مشاركتها للآخرين همومهم ومشاكلهم ليس إرضاءً للزوج فحسب بل الحرص على الرضا في هذه الظروف يكون خالصاً لله سبحانه وتعالى.
انتهى وقت الدوام،وسارعت بالاستعداد،حملت حاجياتها وخرجت،سارت باتجاه بيتها،تشعر بالسعادة لقرارها الجديد،تبددت تلك الغيوم السوداء،وحل مكانها صفاء الفكر والنفس،عندما وصلت كانت تترقب وصوله هو الآخر،تريد أن تخلصه مما هو فيه،تضع النقاط على الحروف،تنهي الوضع الذي تأزم بينهما ،تغيرت نظرتها للوضع، وأدركت أن ظروف اليوم ليست كالأمس،ولن تكن كالغد على كل حال،وأصبحت ترى محيطها بعيني فكرها لا قلبها.
عاد متعباً،منهك الجسد والفكر،استقبلته بشكل مختلف،نظراتها تزف إليه بشرى التغير،توحي له بالتراجع عمّا سبق،وتعلن بصمت وقناعة عن قبول والدته وشقيقته ضمن أسرتها الصغيرة.

 

هيا الرشيد
  • الأسرة والمجتمع
  • الفكر والثقافة
  • القصص
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط