اطبع هذه الصفحة


عندما تستيقظ الغيرة!!!!

هيا الرشيد

 
بسم الله الرحمن الرحيم


عندما ازدادت مسئولياته بزيادة عدد أفراد أسرته شعر بالتعب الجسدي والنفسي،فمتطلبات البيت كثيرة،وطلبات أبنائه وبناته اليومية أكثر من أن يتحملها،يريدون أغراض المدرسة أن تكون كاملة،ويطلبون المزيد من الحاجيات للبيت أو للخروج،يتنافسون في تحصيل رغباتهم،وأكثر ما يثير انزعاجه آلات اللهو واللعب التي لا تنتهي،فأشرطة الفيديو متصلة يحضرها الواحد تلو الآخر،والألعاب الإلكترونية سرعان ما يفقدون متعتها عندما يحدثهم أقرانهم في المدرسة عن إنتاج جديد،ويكون التعب على أشده عندما يلبي طلباتهم في الخروج،فالطرق مزدحمة،وتلبية حاجة أحدهم في الذهاب لمكان معين تأخذ منه نهاراً كاملاً.

في كل صباح يستيقظ معهم،يأخذ كل منهم إلى مدرسته،خصام شديد بين الأبناء والبنات في الدور الأول،في البداية كان يرفع صوته عالياً عندما يتجرع منهم كمية الإزعاج الصباحية فيلوذون بالصمت،وفي الأيام الأخيرة جعل الأولوية متتالية بينهم،فلكل منهم نصيب منها كل ثلاثة أيام،وعندما ينتهي منهم لا يكون هناك وقتاً كافياً للعودة إلى البيت ولو لشرب كوباً من الشاي،بالكاد يصل إلى مقر عمله،يصل إلى المكتب وينظر إلى زملائه،يقارن بين نفسه وبينهم،يشعر بالتعب من بداية يومه،ويراهم يتدفقون حيوية ونشاطاً،يقبلون على أعمالهم برغبة عارمة،ويكون نصيبه التململ إلى وقت الظهيرة،وتكون استراحته دورة قاسية تحت أشعة الشمس المحرقة لإعادة أبنائه وبناته إلى البيت،ومن ثم يعود إلى عمله مرّة أخرى،ولم يكن يصل إلى بيته بعد انتهاء العمل إلا قبيل العصر من كل يوم.

بعد العصر تكون هناك معاناة من نوع آخر،أغراض منزلية لا تنقطع،وإصلاحات تخص السباكة والكهرباء،وإذا لم يعرف الخلل فالمشقة تكون أكبر لأنه لا بد له من إحضار عامل من أقرب ورشة،ومن ثم يقف معه لاستطلاع الأمر،وبعدها دوران بالسيارة بين المحلات لشراء المطلوب لإصلاح العطل،وبعد انتهاء كل شيء يعيد العامل إلى محله،ويعود إلى البيت ليسرق لنفسه من وقته الثمين لحظات راحة واسترخاء،كان يحدّث نفسه في بعض الأحيان عن هذا العناء الذي يعيشه بشكل يومي،ويسأل نفسه أيضاً عن الحل الجذري لذلك،فأعصابه لم تعد تحتمل،ونفسيته أصبحت متذبذبة ولا تطيق كل ذلك،فكّر في أصدقائه،وتذكر زملاءه في العمل،وتساءل عنهم وعن حياتهم وهل يعيشون وضعاً مشابهاً لوضعه أم لا؟؟فكر قليلاً وتذكر بأنهم جميعاً يعيشون حياة أسرية مشابهة،ولديهم الأولاد والبنات الذين هم في مثل أعمار أولاده،ولكنه لاحظ عليهم علامات الاستقرار والراحة،فلا أثر عليهم للشقاء الذي يعيشه،ولا المتاعب اليومية التي يعاني منها.

في صباح اليوم التالي كان الدورة الصباحية المعتادة بأبنائه،وبعدها توجه إلى مقر عمله،كان هذه المرّة يحدّث نفسه بسؤال زملائه عن أوضاعهم،وعن طريقتهم في تدبر احتياجات أسرهم اليومية،دخل زملاءه الواحد تلو الأخر،تردد قليلاً ولكنه في النهاية ألقى عليهم بسؤاله الذي كان يتردد بين جنبات صدره،سألهم عن أطفالهم،وعن أغراض بيوتهم،وتأمين احتياجات أسرهم،استغرب بعضهم السؤال ولكن أحد الزملاء انفجر ضاحكاً ورد رداً حاسماً:-
• السائق يا أخي هو الحل لمشكلتك.
• ماذا سائق في البيت.
• نعم،إنه يقوم بكل المهام الصعبة التي تشتكي منها.
• ألا ترى أن وجوده دون ضرورة غير مناسب؟
• ضرورة!!وأي ضرورة أكثر من ظروفك الآن،ولا تنس أنك ستتخلص من كل هذا العناء مقابل 800 ريال فقط في الشهر.

بدأت الأفكار تدور في رأسه،ووجد في فكرة استقدام السائق حلاً مناسباً،ولكنه تساءل عن إمكانية أن يأتمن رجل أجنبياً على أسرار بيته وأطفاله،شعر بأنه في حيرة من أمره،متطلبات الحياة كثيرة،وكثير من زملاءه وأصدقاء سبقوه بجلب سائقين إلى منازلهم،فهل يصبح مثلهم ويسير على منوالهم ويريح رأسه من هذا العناء؟؟أم يستمر في دوامة لا تنتهي من العمل الشاق؟؟
عدة أيام مضت وهو يفكر في هذا الموضوع،زملاءه في العمل أمطروه بعبارات مشجعة لاتخاذ القرار،أوحوا له بأنه يشعر بالهيبة الآن وأنها سرعان ما تنقضي مع إمساك السائق بزمام الأمور،قرر بينه وبين نفسه أن يخوض التجربة،وبدأ بالإجراءات المطلوبة وسط اعتراضات شديدة من زوجته،بعد مضي أيام قليلة كانت الأوراق كاملة،دفع بها إلى مكتب الاستقدام،وانتظر النتيجة بفارغ الصبر،وبعد مرور شهر ونصف تلقى اتصالاً من مكتب الاستقدام يفيد وصول السائق وأنه يجب عليه أن يذهب لاستلامه في المطار،ذهب على عجل وأنهى إجراءات استلامه،وأحضره إلى مكانه المخصص في المنزل،حجرة مستقلة بجانب الباب الرئيسي للبيت.

في صباح اليوم التالي بدأ في توجيهاته للسائق،يريد منه أن يستلم مهامه في أقرب وقت،سقاية الزرع وتنظيف الفناء الخارجي هي الأعمال الصباحية التي تسبق ذهاب الأطفال إلى مدارسهم،كان السائق على درجة من الذكاء،وأصبح يتلقى الأوامر بصدر رحب،أيام قليلة واستلم عمله بكفاءة عالية،تفانى في عمله في محاولة كبيرة لكسب ثقة أصحاب البيت،نظر إلى السائق بتمعن شديد،شاب في مقتبل العمر من أقصى شرق الكرة الأرضية،حضر إلى هنا لتأمين لقمة العيش،نظر إليه مرّة أخرى،شعر نحوه بمشاعر لم يستطيع تفسيرها في تلك اللحظة،حدّث نفسه بأنها مسألة وقت،وبعد ذلك ستظهر الصورة جلية للعيان.

مرّت الأيام،وشعر بالفرق بين حاله سابقاً والحال التي يعيشها الآن،شعر بالراحة الجسدية،ولكن القناعة والراحة النفسية لم يجد لهما مكان في حياته،راقب الوضع عن كثب،زوجته بين الحين والآخر تطلب منه مالاً فقط فالسائق سيحضر كل شيء،أطفاله يذهبون إلى والدتهم لتأمين احتياجاتهم،السائق يأخذ أبنائه إلى مدارسهم صباحاً قبل أن يستيقظ من نومه،بعد انتهاء عمله يجد أطفاله قد استسلموا للنوم،فالسائق قد سحب بساط الأبوة من تحت قدميه،بدأ يستشعر الخطر،وبدأ تحولاً غريباً يصيب مجرى حياته،استبعد المقارنة في هذه اللحظة بينه وبين الآخرين،فالقناعات تختلف من شخص إلى آخر،أعطى نفسه فرصة أخرى لمتابعة الوضع،وقرر أن يمنح فكره المتعب مزيداً من الوقت لاتخاذ القرار.

السائق يحضر الخبز في الصباح،يروي حديقة البيت،ينظف الفناء الخارجي،يأخذ الأولاد والبنات إلى مدارسهم،يحضر مستلزمات الطبخ في الساعة التاسعة،يعود بالجميع إلى البيت بعد الظهر،وفي العصر هذا يحتاج إلى أدوات مدرسية فيحضرها السائق،الصغير حرارته مرتفعة فتأخذه الأم برفقة السائق إلى أقرب مستشفى،هناك مناسبة للأقارب فيكون الذهاب أيضاً مع السائق،البيت بحاجة إلى عامل لإصلاح بعض أعطال الكهرباء فيذهب السائق لإحضاره والوقوف معه لحين الانتهاء،اليوم سيحضر ضيوف إلى المنزل والسائق يقوم بكل شيء خارجي،السائق،السائق،السائق،هبّ من مكانه مذعوراً وهو يردد كلمة السائق.

خرج من حجرته بسرعة،نادى عليها بصوت مرتفع،طلب منها أن تجمع أطفاله،يريد أن يراهم،هذا التغير الذي أحدثه وجود السائق تسبب في فقدانه لهم،يشعر بالحنين لطلباتهم التي انقطعت،ويشتاق لصخبهم الصباحي في سيارته،يفتقد الشعور بالأبوّة،يريد أن يعود إلى سابق عهده،الراحة التي كان ينشدها ظلّت طريقها إليه،والعناء الذي كان يشعر به كان أساس أبوته،لم يجد لذّة للراحة الجديدة،ولم يعد يطيق صبراً على بعد أطفاله،سيعود إلى سابق عهده معهم،سيأخذهم إلى المدرسة،وسيعود بهم ظهراً تحت أشعة الشمس المحرقة،أغراضهم الخاصة ستكون من اختصاصة ولا علاقة للسائق فيها،سيعود ليمثل دوره الحقيقي في البيت مرّة أخرى،ولن يعطي لغريب فرصة ليفصل بينه وبين أطفاله.

بدأ يمارس حياته كالسابق،والسائق قد أبدى دهشته لذلك،حصر دور السائق في أشياء هامشية،وعاد مجدداً لحمل كثير من الأعباء،عاد مجدداً إلى المعاناة اليومية،وعادت إليه حالة التعب والإرهاق،ابتسم عن رضا وقناعة،ووجد راحة النفس والقناعة التي تكسوها أكبر بكثير من راحة جسدية عابرة،استشعر الراحة النفسية لأول مرّة منذ أن جلب السائق،وشعر بالسعادة تملأ فؤاده مرّة أخرى،لم يكتفي بذلك بل قرر فيما بينه وبين نفسه الخلاص من السائق تماماً،وأن يعود إلى تحمل مسئولية بيته بالكامل،تذكر بأن الله سيعينه إن شاء الله،وأن بيته وزوجته وأطفاله أمانة في عنقة ولا يليق به أن يفرط في الأمانة مع رجل غريب لا يعلم عنه شيئاً.


 

هيا الرشيد
  • الأسرة والمجتمع
  • الفكر والثقافة
  • القصص
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط