اطبع هذه الصفحة


نظرة للوراء

هيا الرشيد

 
بسم الله الرحمن الرحيم


في ذلك اليوم تجولت في أرجاء بيتها الكبير , و تأملت عدة مرات جدرانه و قطع أثاثه الفاخرة , و قارنت تلقائيا بين ماضيها بمتاعبه الجمة , وبين حاضرها الذي يكتظ بأدوات الرفاهية و قارنت للمرة الثانية بين الظروف الاجتماعية في تلك الفترة و العلاقات في الوقت الحاضر تذكرت بداية حياتها عندما فتحت عينيها في بيت كبير في قريتها قبل أن تأتي للمدينة و تتدرج في مراحل متعددة من الحضارة و الثراء طفولتها في بيت طيني واسع و يقع فنائه في الوسط حيث تقف أشجار النخيل شامخة في وسط ذلك الفناء بشكل تلقائي و تتذكر جيدا تسابقها و أشقائها في جني الرطب من النخل و الأواني التي تحضرها والدتها لملأها للجيران و الأقارب و الأصدقاء في شدة الحر و تحت أشعة الشمس و في أغلب أيام فصل الصيف كانت تضع قطعة من القماش و تنظر إلى إنائها لعلها تملأه قبل أخواتها كانت تفرح بكلمات الإطراء الممزوجة بالحنان و التي تسمعها بين الحين و الآخر من والديها و استرسلت في ذكرياتها فتذكرت تلك الحجرات كثيرة العدد قليلة العدة حيث أحاطت بجوانب ذلك الفناء الواسع .

أكثر ما يغمرها بالسعادة هو تذكرها لسكان ذلك البيت , فقد كان جدها و جدتها هما الأساس لتلك الأسرة و هما عماد ذلك البيت الكبير , و لن تنسى أعمامها و زوجاتهم و أبناؤهم و بناتهم , و بين الحين و الآخر تحل إحدى عماتها في ذلك البيت لعدة أيام حيث تستقبل مولودا جديدا , طفولة سعيدة و مرحة , و علاقات اجتماعية قوية , و صلات بالجيران و الأقارب , يشوبها بعض الخلافات أحيانا و لكن الجميع يعودون إلى سابق عهدهم في الود و الصفاء , تجوب مع أبناء و بنات أعمامها جوانب ذلك البيت العامر , يرفعون أصواتهم بأناشيد شعبية بريئة , و عندما يتذمر أحد الكبار من ضجيجهم يتراكضون إلى الشارع الضيق أمام منزلهم و يكملون لهوهم البريء مع أبناء الجيران .

عندما كبرت قليلا و امتنعت عن اللعب , وجدت نفسها بين يدي والدتها و جدتها و هما تمطرانها بكثير من التوجيهات حول شئون البيت سواء في الداخل أو الخارج , كانت تشعر بالسعادة لكونها أصبحت محل ثقة من الكبار , و شيئا فشيئا وجدت نفسها تتحمل مسئوليات أخرى , أكثر شيء كان يبعث السعادة في نفسها هو عنايتها بأخواتها الصغار لدى انشغال والدتها ببعض الأمور , كانت في تلك الفترة تدرك تماما أن جدها و جدتها هما أساس البيت , و أن مسئولية الأمر و النهي منوطة بهما فقط , فجميع سكان البيت يعرفون ذلك جيدا و يسيرون في حياتهم بناء عليه .

لن تنسى ذلك اليوم الحزين , عندما افتقدت جدها إلى الأبد , لم يقل لها أحد أي شيء , و لكن التحركات التي كانت تجري في البيت تشير إلى ذلك , رجال و نساء يدخلون البيت لدقائق معدودة ثم يخرجون , و بعد عدة أيام هدأ كل شيء إلا حرقة تشعر بها عندما تتذكره , ترى بعينيها أثار قد تركها خلفه , و تتحسس الأماكن التي كان يجلس فيها , فهنا يستقبل ضيوفه و يصنع لهم القهوة , و هنا يقوم بصنع بعض الأغراض بيده , و هناك مكان آخر أكثر أهمية , رف خشبي يحتفظ فيه بنسخة كبيرة من القرآن الكريم , يقرأ فيه كل يوم , و يعيده إلى مكانه على الفور , لم يكن أحد الأطفال يجرؤ على مسه أو تحريكه من مكانه , و لكن جدها لم يكن يمانع بمطالعته معه أو الإنصات إلى تلاوته .

عندما توفي جدها آلت رئاسة البيت إلى جدتها تلقائيا , و كان الجميع يعاملونها باحترام فائق , و يستشيرونها في جميع شئون حياتهم , و عرفت عندئذ أن جدتها قد أصبحت كبيرة العائلة , مرت الأيام الماضية متشابهة , و كان أجمل ما تتذكره ذلك الباب المفتوح طوال ساعات النهار للجيران و الأقارب , لا هواتف , لا مواعيد , لا مبالغات أو مظاهر تفسد هذه الزيارات , كل شيء يبقى على طبيعته , و البساطة سمة واضحة لكل شيء , و بعد فترة من الزمن تنتقل الجدة إلى رحمة الله , و تستشعر بعدها و كأن ميزان البيت قد اختل , أكبر أعمامها ذهب للعمل في المنطقة الغربية , و كلمة البقية الباقية في البيت قد تفرقت , كان من الواضح لديها أن هناك بوادر لعدم التفاهم تلوح في الأفق بين والدها و أعمامها في ظل تلك المعمعة تتغير حياتها فجأة بانتقالها إلى بيت آخر برفقة زوجها , التاريخ يعيد نفسه في بيتها الجديد , تعيش مع زوجها و أخوته و زوجاتهم والده و والدته هما عماد ذلك البيت أيضا , و باب مفتوح للخير و العطاء , رأت في والدي زوجها صورة مطابقة لما كان عليه أجدادها , و استشعرت السعادة في كثير من جوانب حياتها الجديدة , والدة زوجها امرأة تخاف الله , و تلتزم العدل في كل شيء بين زوجات أبنائها و أحفادها , أما والد زوجها فكان رمزا للعطاء بالرغم من قلة ذات اليد , و كانت تضحك دائما من ردة فعله لكل موقف و ربطه بمثل شعبي قديم .

مرت الأيام و هي تتواصل مع أهلها بزيارات في نهاية كل أسبوع , كانت تشعر بالأسى و هي ترى البيت الذي عاشت طفولتها فيه يتهاوى يوما بعد يوم , فقد تفرق السكان , و والدتها تلح على والدها ببيت أصغر منه , فقد أعيتها الخدمة فيه , و عدم الحاجة إلى كثير من حجراته التي خلت من ساكنيها , كانت تتمنى لوالدتها الراحة , و لكنها تجد في نفسها حبا جارفا لكل أرجاء ذلك البيت , فهو يذكرها بصديقات طفولتها و صباها , بنات أعمامها , و بنات الجيران , و الأقارب الذين يفاجئونهم بزيارات تلقائية في كل حين , لم تعلق على رغبة والدتها , و لم تبح بمكنون فؤادها , و طرق مسامعها ذات يوم قرار والدها بعد مشاورته لأخوته ببيع البيت و تقسيم ثمنه على الورثة طبقا لشرع الله تعالى .

غافلت الأيام استقرارها في بيت أهل زوجها بمفاجأة جديدة , فزوجها يعد العدة للرحيل , و الذهاب للعمل في إحدى المدن الكبرى , تغادر قريتها , و تغادر للمرة الثانية بيتا كبيرا أحبته من أعماقها , و أحبت الحياة فيه بحلوها و مرها , أعدت حاجياتها , و أغراض أطفالها , و استعدت لانطلاقة جديدة في هذه الحياة , استقرت في بيتها الجديد غير الكبير , و عاشت فيه حياة هادئة , و كانت تقضي جل وقتها في شئون البيت و خدمة الزوج و الأطفال , قضت الفترة الأولى من حياتها في المدينة تتنقل من بيت إلى آخر , و كل بيت يكون أكثر اتساعا و جمالا من سابقه , أولادها و بناتها يملأون البيت بصخبهم و ضجيجهم , سنوات و يصبح بيتها كبيرا و يضم أسرة كبيرة , لم تعد تستطيع خدمة الجميع , و البنات يقضين جل أوقاتهن في استذكار دروسهن , يشعر زوجها بمتاعبها و يجد الحل في استقدام الخادمة , تركن إلى الراحة و هي تتابع بفرح أطفالها و قد أصبحوا كبارا , لم تكن الحياة لتستقر على حال لديها أو لدى غيرها من البشر , فالبنات قد تزوجن الواحدة تلو الأخرى , و الأولاد قد تفرقوا لطلب العلم في جامعات مختلفة , و من ثم تزوجوا و استقروا في بيوت مستقلة .

عندما خلا بيتها من الأولاد و البنات و أحيل زوجها إلى التقاعد , حاولت بشتى الطرق إقناع أصغر أبنائها بالزواج و الاستقرار عندها , و لكنه صمم على الاستقرار في منزل منفرد أسوة بإخوته , زوجها سارع بمشاركة أحد أصدقائه بافتتاح محل تجارى , و أصبحت تجوب أرجاء البيت جيئة و ذهابا , تنتظر يوم الخميس بفارغ الصبر , حيث تأتي البنات و بعض الأولاد لزيارتها الأسبوعية , راقبت بأسى الأرضيات الرخامية اللامعة التي قلما تطأها الأقدام , و تذكرت الأرضيات الترابية التي لم تخلو يوما من مرور الكبار و الصغار عليها , و رمقت الأبواب الموصدة بإحكام بأسى شديد و هي تتذكر مواربة أبواب الماضي التي توحي بانتظار أصحاب البيت لأي ضيف و في أي ساعة كانت , نظرت إلى الهاتف و ما من رنين , ثم عالجت جرس الباب بنظرة أخرى و لكن الصمت كان لذكرياتها بالمرصاد , ساعات تمر عليها و هي تقارن بين سكون البيوت في الوقت الحاضر , و بيوت الماضي التي تعج صوتا و حركة .


 

هيا الرشيد
  • الأسرة والمجتمع
  • الفكر والثقافة
  • القصص
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط