اطبع هذه الصفحة


نهاية المطاف

هيا الرشيد

 
بسم الله الرحمن الرحيم


العودة إلى مقاعد الدراسة بات هاجساً يؤرق مضجعه،وملاحقة الركب صار حلماً يداعب أجفانه،ووظيفته تقف حجر عثرة في الطريق،وزوجته وأطفاله ومتطلباتهم قد يكونون عقبة أخرى،فعندما تخرج من الثانوية العامة هو وكثير من رفاقه طرقوا على الفور أبواب الوظيفة التي كانت متوفرة في ذلك الحين،وبعد سنوات قليلة تغير الوضع،فالكل يواصل ويبحث عن تخصص يحتاجه المجتمع،كان يلوم نفسه بين الحين والآخر،وأحياناً يعاتب والديه لعدم نصحه في الوقت المناسب،فقد أمسك بزمام وظيفة عادية بعد حصوله على الشهادة الثانوية دون حاجة لذلك،فأحوال والده المادية كانت جيدة،ولم يكن مقصراً تجاه أولاده،إنهم رفاقه إذاً،لم يكن لديهم أدنى اهتمام لطلب العلم،وكانت طموحاتهم محدودة فحذا حذوهم،وما أن أقنعوا أنفسهم بعدم جدوى مواصلة الدراسة حتى أقنع نفسه معهم،ولكن الرغبة في تحصيل العلم،والحصول على شهادة عالية تحاصره الآن،ولم تبخل نفسه عليه ببعض المقارنات بينه وبين أخوته الأصغر سناً،فعبدالله توجه لدراسة الهندسة المعمارية،وخالد يدرس الطب،وعمر اختار الحاسب الآلي،أما هو فقد كان ينظر إلى نفسه شزراً وهو يقبع خلف مكتب جامد من الصباح إلى ما قبل العصر بقليل.

هاجس إكمال الدّراسة كان الشغل الشاغل لعقله،وفكره كان يعمل باستمرار،تذهب الفكرة أحياناَ ومن ثم تعود بشكل أقوى وأكبر،وكان يسأل نفسه بين الحين والآخر أسئلة لا يجد لها أجوبة:-
- هل من طريقة للتعويض عما فات؟؟
- هل يتحقق الأمل بوجود بيت وأطفال؟؟
- هل من سبيل للجمع بين العمل والوظيفة؟؟
- هل من الممكن التخلي عن جلسات الأصدقاء،ورحلاتهم الخلوية؟؟
هل،وهل،وهل،أسئلة كثيرة تكاد لا تفارقه لحظة واحدة،والفكرة تأخذ حيزاَ كبيراَ من وقته،وقد بدت آثارها واضحة على محياه،زوجته تتساءل عن تغيره وشروده الدائم،وزملاءه في العمل كذلك،وأصدقاءه لاحظوا أيضاَ،فلم يعد مرحاً كسابق عهده،ولم تكن له رغبة في إدارة حديث أو تصدر جلسة،جميعهم يتساءلون ولكنه يواجه تساؤلاتهم بصمت مطبق،كان فيما بينه وبين نفسه يتوقع السخرية من الجميع،ولم يجد حماساً للتعبير عمّا في نفسه لأي شخص كان،وكان لهذه الخطرات تأثيراً سلبياً على أداءه الوظيفي،وازداد الهمس حوله عن الحالة التي يعيشها مؤخراً،ولم يعد مديره يطيق صبراً،فالعمل أهم من كل شيء،والإخلال في أي جانب من جوانبه سيؤثر على الأداء بشكل عام.

استدعاه المدير على عجل،ورحب به في مكتبه،وبدأ معه حديثاً ودياً،كان من الواضح أنه يحاول استمالته،ومعرفة ملابسات وضعه الحالي،وهل هي من صميم العمل أم خارجية،في البدء شعر ببعض الحماس للبوح بمكنون أعماقه،ولكنه تردد قليلاَ وتساءل عن جدوى كلامه مع مديره،ومع إلحاح مديره وتلميحه بالمساعدة إذا كانت في مقدوره عاد الحماس إليه مجدداَ،يريد رأي المحيطين بفكرة عودته إلى مقاعد الدراسة،وهل ستكون هذه الفكرة محل ترحيب أم استهجان؟؟بدأ كلامه برموز لم تكن واضحة:-
- الحقيقة أني قد عملت بالشهادة الثانوية....................
- وماذا في ذلك؟؟
- المجتمع تغير وقد تغيرت النظرة أيضاَ إلى...............
- إلى ماذا؟؟
- إلى الشهادات التي يحملها كل شخص.
- لم أفهم معنى كلامك.
- انظر إلى تعامل أفراد المجتمع،وطريقة تعاملهم مع الآخرين وفق تخصصاتهم وأعمالهم.
- هذا شيء طبيعي.
- ومن ثم انظر إلى الوظائف ومستوياتها أيضاً.
- وهذا أيضاَ أسلوب طبيعي متبع في جميع دول العالم.
تململ مديره لحظات قصيرة وهو يفكر بمعنى هذا الحوار،وبعد قليل ابتسم علامة البدء في فهم المقصود:-
- تريد أن تكمل تعليمك إذاَ بعد هذه السنوات.
- لم أقرر وإنما أفكر فقط.
وقف المدير فجأة ومد يده مصافحاَ وقسمات وجهه تبارك هذه الفكرة،وهو يردد:-
- فكرة رائعة،خطوة جريئة،وفقك الله.

مد يده أيضاَ وهو يشعر ببعض الراحة،فأهم شخص في موضوعه قد أيده وأبدى استعداده للتعاون من خلال تنظيم العمل ومراعاته،ولكن هناك الرفاق والزوجة والأولاد،أولاده الذين كبروا والتحقوا بالمدارس،ذهب إلى مكتبه،ونظرات زملاء تستطلع خبر اجتماعه الخاص مع المدير،لم تكن لديه رغبة في مفاتحتهم الآن،فقد كان يفكر في زوجته،ويعتبرها الطرف الثاني في موضوعه من حيث الأهمية.
عاد إلى بيته هذا اليوم وهو أحسن حالاَ من الأيام السابقة،واستبشرت زوجته خيراَ بهذا التحسن،وسارعت لإعداد طعام الغداء،ولكنه ناداها لتكون الشخص الثاني الذي يبوح له بفكرته التي أقلقته لفترة طويلة،بدأ الحديث وهو يتأمل تأثيره على قسمات وجهها،ويتوقع معارضتها وقولها بأنه لا توافق بين دراسة جادة وبيت مليء بالأطفال،انتهى كلامه،وانتظر ردة فعلها سواء كانت بالسلب أو الإيجاب،ابتسمت له،وتمتمت ببعض الكلمات،فهم معناها،فها هي أيضاَ تشاركه الطموح،وتعلن أمامه أتم الاستعداد للتعاون معه لتحقيق هذه الرغبة،فبعض التنازلات لن تضرها شيئاَ،أما الشهادة التي يسعى للحصول عليها فستكون لصالح الجميع.

تغيرت حالته بسرعة،واتخذ القرار على عجل،تناسى فارق العمر بينه وبين طلبة الجامعات في هذا الوقت،وبات ليلته يفكر في التخصص المناسب،ومن أي كلية يبدأ انطلاقته،وبدأ في إعداد الأوراق المطلوبة،آخر شهادة حصل عليها،صورة للبطاقة الشخصية،وغيرها من الأوراق،وسارع بتقديم هذه الأوراق،وانتظر الموافقة من الجهة المسئولة،مقابلة شخصية وبعدها اتصال لإخطاره بالموافقة،ومع بداية العام الدراسي تبدأ رحلته مع كتب العلم والمعرفة،تنسيق بينه وبين مديرة في العمل للذهاب إلى الكلية في أوقات محددة،فدراسته عن طريق الانتساب صعبة،ولكنه يحاول كسر حاجز الصعوبة عن طريق الاتصال المباشر ببعض الطلبة والأساتذة،يتابع علومهم من خلال مجهوده الشخصي،ويسير وفق جداولهم اليومية،الجميع استشف حرصه وإقباله على العلم،فأقبلوا بدورهم عليه لمساعدته.

مرّت الفصول الدراسية الواحد تلو الآخر،وهو في نجاح مستمر،ومستوى تحصيله متفاوت من مادة إلى أخرى،افتقده الأصدقاء،وأمطروه بسخريتهم اللاذعة،وحاول بعضهم جذبه لبعض الوقت،ولكنه تصدى لإغراءاتهم بكل قوة وشموخ،ولم يتجاوب معهم إلا في الإجازات،كان يشعر ببعض التقصير تجاه بيته وأطفاله،ولكن زوجته كانت تهوّن الأمر عليه،وتشجعه على التسلح بالصبر،وتذكره بكثير من الأقارب والمعارف الذين أكملوا دراساتهم العليا بعد سنوات من العمل ومع ذلك نجحوا،فلا فرق في نظرها بين المراحل الدراسية،كانت بكلماتها تشد من أزره،وتشحذ همّته للمتابعة بعد التوكل على الله سبحانه وتعالى.
السنة النهائية كانت نهاية المطاف،كانت الأيام سريعة على المصاعب التي اعترتها،وكان يشعر بكثير من التعب والملل وهو بين أكوام الكتب والمجلدات،ولكن حبه للعلم ورغبته في تطوير ذاته كانا يخففان من حدّة الإرهاق الذي يشعر به،قسّم جلّ وقته بين عمله ودراسته وبيته،ولم يكن لديه متسع من الوقت لأي شيء آخر،اقترب العام الدراسي من نهايته،وازداد مديره في العمل في مراعاته،وكانت زوجته تشجعه أيضاَ،وعندما حانت اللحظة الحاسمة،وبدأت الاختبارات كان على أتم الاستعداد،ولكنه في نفس الوقت كان يشعر بالرهبة من خوضها،ويتوجس دائماَ من النتائج،ولكن تلك الفترة الحاسمة انتهت بسرعة،وكانت النتيجة باهرة،تلقى بعدها التهاني من الجميع،وفي ظل نجاحه وفرحته نسي معاناة السنوات الأربع السابقة،وأخذ يعد العدة لمواصلة طلب العلم في مراحل متقدمة.


 

هيا الرشيد
  • الأسرة والمجتمع
  • الفكر والثقافة
  • القصص
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط