اطبع هذه الصفحة


هزيمة أم انتصار!!

هيا الرشيد

 
بسم الله الرحمن الرحيم


أعلن إسلامه عن قناعة تامة،ودخل بوابة السعادة من أوسع أبوابها،كان يدين بالفضل لله تعالى، ومن ثم لأصدقائه المسلمون،كانوا قد التحقوا معه في نفس الجامعة،وتوطدت بينهما عرى المحبة والصداقة،هو في بلده الأوربي،وهم غرباء، ومن بلاد بعيدة مختلفة،ولكن الرابط الأقوى موجود بينهم،متأصل في نفوسهم،رابط تعدى الحدود،وجاوز المسافات،رابط الدين جمعهم،وعمّق صلتهم، وها هو ينضم إلى عقدهم المبارك،ويصبح فرداً منهم.

كان في السنة النهائية،ينتظر التخرج بشوق ولهفة،هاجس الوظيفة يطارده أينما ذهب،ورفاقه يكيلون له بكميات وفيرة من النصائح،أهمها في نظرهم كتمان إسلامه عند طلب الوظيفة،ففي هذا المكان تشتد العداوة للدين الإسلامي،وستنتقل إليه هذه العداوة بلا شك ما دام مسلماً،يومئ برأسه دائماً علامة قبول آرائهم،ولكنه في قرارة نفسه يجد في هذه الآراء انهزامية مريرة،فكيف به يعتز بدينه ويضطر أن يخفيه؟؟
مرّت الأيام سريعة،وها هو يحمل شهادته بين يديه،حلمه الذي طالماًً داعب أجفانه،أصبح حقيقة ملموسة،واقعاً يعيشه الآن،تذكر نصائح الرفاق،الإسلام سري عند طلب الوظيفة،فالوظيفة المناسبة لن يحظى بها ما دام مسلماً،وأصحاب العمل لن يفرطوا بوظيفة مناسبة لمسلم،وستكون الأفضلية بطبيعة الحال لغيره،اقتنع بهذا الكلام،وصار يجوب الطرقات سيراً على الأقدام باحثاً عن وظيفة مناسبة ،فرص العمل قليلة،ولم يسأله أحد عن ديانته.

في بداية الأمر كان قد حدد نوعية خاصة من الأعمال،ولكن بعد عناء البحث لأيام متتالية بدأت التنازلات الإجبارية،فالمطلوب ليس متيسراً على كل حال،والآن غيّر وجهة نظره،إنه يريد وظيفة فحسب،يريد أن يكسب المال الحلال،ويشق طريقه في هذه الحياة،يتمنى أن يكوّن أسرة صغيرة مسلمة،ويعيش حياته آمناً مطمئناً،فأي وظيفة محترمة ستسد حاجته،يشعر بأنه لن يدقق ليقول تخصصي ودراستي،فالوظائف هنا شأنها كشأن الوظائف في كثير من الدول،المهم شهادة جامعية،والوظيفة كثيراً ما تكون بعيدة كل البعد عن مجال الدراسة،لقد سبقة كثير من معارفه وأصدقائه للحياة العملية،وجميعهم قد اضطرتهم الظروف لقبول أي وظيفة،وها هو يسير على منوالهم.

بعد أيام من البحث المضني جاءه أحد الأصدقاء بخبر عن فندق مشهور في حي راق من أحياء المدينة،فقد تخلى أصحاب هذا الفندق عن كثير من الموظفين،ويريدون الآن البديل عنهم،فرح بالفرصة وحمل أوراقه،وذهب على الفور،دخل البهو الكبير،وأصبح يمرر عينيه على جنبات المكان الفخم،ويتأمل الحضور،نزلاء من مختلف الجنسيات،وعدد كبير من الموظفين والعمال،وكل منهم يعمل على قدم وساق في مجاله،أناس قادمون،وآخرون مغادرون،تقدم ببطء نحو الاستقبال،طاقم من الموظفين،زي موحد،لباقة في الكلام،ابتسامة عريضة،خطر على بالهم بأنه نزيل جديد،رفع بملف أوراقه وقال على استحياء:- بلغني أنكم بحاجة إلى موظفين جدد،أشاروا له على مكان إدارة الفندق، وقالوا له:- يتحتم عليك مقابلة المدير.

توجه إلى المكان،طرق الباب بهدوء،سمع الإذن بالدخول،فتح الباب ودخل،وجد نفسه أمام مكتب واسع وجميل،وخلف المكتب يجلس المدير الذي دعاه للجلوس،ودار بينهما حديث طويل،استشف من خلاله بأنه مجرد مقابلة شخصية مغلّفة،كان محاوره على درجة من اللباقة والذكاء،لم يدع شيئاً إلا وسأله عنه،كان بينه وبين نفسه يتمنى عدم الخوض في مجال الدين،ولم يتعرض المدير لذلك أبداً،أدرك بأن المدير لم يتوقع بأنه مسلماً،وأعد نفسه في نفس الوقت للبوح بالحقيقة عند سؤاله،فقد أصبح مسلماً،وتعاليم الإسلام تنهى عن الكذب،بعد ساعة تقريباً من الحوار شعر بنظرات الإعجاب من المدير،ولكنه في نفس الوقت عرف بأنه سيمسك بوظيفة محترمة هنا من باب التجربة فقط،فإن تخطّى التجربة بنجاح فالوظيفة له،وإن لم يكن مناسباً لهذا المكان فسيكون الطرد من نصيبه.

هبّ المدير واقفاً،فوقف أيضاً معتقداً بأن المقابلة قد انتهت،ابتسم المدير وقال له :- سنحتفل بك قبل استلام الوظيفة،ولا تنسى بأنك محل تجربة فقط، ولن نضعك رسمياً إلا إذا أثبت جدارتك.

أومأ برأسه علامة الرضا والقبول،وأشار له المدير بأن يتبعه،اعتقد بأنه سيعرّفه على طبيعة عمله أولاً،ولكن المدير ابتسم وقال له:- سأحتفل بتعيينك قبل أن أسلمك العمل.فسار خلفه يتعرف على جنبات وأركان هذا الفندق الفاخر،طرقات طويلة وواسعة،إضاءات خافتة،لوحات رائعة على طول هذه الممرات،تحف جميلة،ومصاعد متعددة،وسلالم متشعبة،يسير مع مديره الجديد،ونظراته تسبقه لتصيد عينية المطعم الذي قد دعي إليه،وجده ولكن المدير استمر في سيره وهو معه صامتاً،ووجد مطعماً آخر وتكرر تجاهل المدير لذلك،وفي نهاية الممر كان هناك سلماً ضيقاً متجهاً إلى الأسفل،توقف المدير وأشار بيده يدعوه إلى النزول قبله،حانت منه التفاتة سريعة إلى جانب السلم،وإذا بلوحة كبيرة ملونة رسم عليها سهم مائل باتجاه نزول السلم،وكتبت عليها عبارة توحي بما يحدث في هذا المكان،إنه مكان خاص للشراب المحرّم.

تردد قليلاً،وتباطأ في الحركة،وأقبل من الأسفل بعض الرجال في حالة سيئة تثير الاشمئزاز،تظاهر بأنه يفسح لهم الطريق،وعقله يعمل بسرعة كبيرة،أيقبل الدعوة إمعاناً منه بإخفاء هويته الدينية؟؟أم يعلنها صريحة ليرضي الله عز وجل،وليخسر وظيفته التي لم يستلمها بعد؟؟إن حيرته كبيرة،والرائحة المحرّمة تزكم أنفه،ومديره يمد يده مشيراً له بالنزول،ويهز رأسه مندهشاً من وقوفه الذي طال،تذكر وصية رفاقه له،فالإسلام محارب في كل مكان،والمسلم في هذا البلد لن يحظى بوظيفة محترمة،فكثير من المسلمين معهم شهادات عالية بتخصصات صعبة ونادرة ومع ذلك فهم مجرد عمال في المصانع والشركات،أو موظفين برواتب بخسة في غير مجالات تخصصاتهم،أما هو فكيف الحال معه وهو بشهادة جامعية فقط بتخصص معتاد غير مميز،فالأولى أن يعمل بأقل من وظائف هؤلاء،عاد إلى واقعه فجأة على صوت مديره:- ماذا حدث؟؟أتشعر بشيء؟؟أترفض دعوتي؟؟مع كلمات المدير تسربت إلى عقله فكرة تشع بالثقة والإقدام،قرر أن يعتاد الانتصار،ويجرّد نفسه الأبية من الانهزامية المريرة،أسلم حديثاً وعن اقتناع،فليصرح بإسلامه وليكن ما يكون،شعر بدفعة قوية،توجه إلى مديره مبتسماً،وجرعة قوية من الثقة تدعم أعماقه وقالها بكل جرأة:- أعتذر بشدة،فأنا مسلم،والإسلام يحرم شرب الخمر.

اقترب مديره منه وقد تغيرت ملامحه فجأة،توقع منه أنواع شتى من ردود الفعل،كان أقربها هو حرمانه من هذه الوظيفة المرتقبة،أو حتى ازدرائه ببعض الكلمات،ولكنه لم يضعف ولم يتردد،فقد ثبت على موقفه،ولم يكن مهتماً لما سوف يحدث،ازداد اقتراب مديره منه،وابتسم له مجدداً،ومدّ يده مصافحاً،وقال له:-
يا لها من مفاجأة جميلة،أتصدق أن كونك مسلماً سيحل مشكلتي مع هذا الفندق،لقد طردت الموظفين السابقين لكثرة شربهم،ومن ثم إضاعتهم لمهام وظيفتهم،أما أنت فلن يتسبب تعيينك بأي مشكلة،سأسلمك الوظيفة الآن وليس على سبيل التجربة،بل سأكتب تعيينك فوراً،وستكون بيننا دائماً.


 

هيا الرشيد
  • الأسرة والمجتمع
  • الفكر والثقافة
  • القصص
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط