اطبع هذه الصفحة


رايةٌ خضراء وسبابةٌ تُشيرُ نحوَ السماء

 لبنى شرف - الأردن


ليسَ عَبثاً وليس غريباً أن يرفعَ المجاهدون في (حماس) إصبع السبّابةَ يُشيرون بها نحوَ السماءِ، فلقد عهدناهم دوماً يشيرون بها؛ فهي شارةُ التوحيد، نُشير بها في التَّشهّدِ في كل صلاة، ولكن شتّان بين مَن يشير بها وقلبُه مُعلَّقٌ بالدنيا، غافلاً عن معناها ومُقتضاها، وبين مَن يشير بها مُدركاً معناها، عامِلاً بمُقتضاها.


شتّان بين مَن يرفعُها حركةً اعتياديةً جوْفاء، وبين مَن يجعلُها شعاراً له في الحياة، مُستشعِراً معِيَّةَ الله، لا يذِلُّ إلا لله، واثقاً وموقِناً بنصر الله، وما النصرُ إلا مِن عند الله العزيزِ الجبّارِ القهّار، وإنّ العِزَّةَ لله ولرسولِه وللمؤمنين، والله غالبٌ على أمرِه ولكنَّ أكثر الناسِ لا يعلمون.


 

للسبّابةِ شأنٌ عظيمٌ مع المجاهدين والشهداء؛ فكم رأينا صوراً لشهداء يشيرون بالسبّابة (وهي الشاهد) وعلى مُحيّاهم ابتسامةُ السُّعداء، ولا أنسى (في العدوان الصهيوني الوحشي على غزة) صورة ذلك المجاهد الذي كان ينزف منه الدمُ ولكنه ما نسي (وهو على هذه الحال) أن يرفع سبّابتَه.
 


 

كم مرة اعتُقل فيها الشيخ رائد صلاح ـ أعزَّه الله ـ وسُجن؛ فما نالوا من همَّتِه، وما كسروا عزيمتَه؛ بقي رافعاً سبّابتَه، وعلى وجهِه ابتسامتُه.


 

رفعَها والقيدُ في يديْه عند اعتقالِه، ورفعها بعد خروجِه، مُعلناً أنه لا يخاف إلا الله، ولا ينحني إلا لله، ولا يخشى أحداً سِواه، واثقاً بنصرِ الله، ومَن كان مُستعصِماً بالله، فماذا يضيرُه كيدُ العبيد؟



ثبّتك اللهُ يا شيخَ الأقصى، وختمَ لكَ بخاتمةِ السُّعداء، وأنالَكَ منازلَ الشهداء، وما أظنُّ إلا أنَّ الأقصى يحبُّكَ كما تُحبُُّه.



أتى سيد قطب ـ رحمه الله، وتقبله في الشهداء ـ أحد الضبّاط أثناء المحاكمة وسأله: يا شيخ سيد، ما معنى كلمة "شهيد"؟
فقال: شهيد يعني أنّه شَهِدَ أنَّ شريعةَ الله أغلى عليه من حياته.

وبعد جلسة المحاكمة، عاتبَه أحدُ إخوانِه قائلاً: لماذا كنتَ صريحاً كل الصراحة في المحكمة التي تملك رقبتَك؟
قال سيّد: لأن التَّوْرِيَةَ لا تجوز في العقيدة، وليس للقائدِ أنْ يأخذَ بالرُّخصِ.

ثم صَدَّقَ جمالُ عبد الناصر على حُكمِ الإعدام، فلمّا سمِع سيد الحكمَ قال: الحمد لله، لقد عملتُ خمسةَ عشرَ عاماً لنيْلِ الشهادة.

ثم حاولت المخابراتُ الحربيةُ النَّيْلَ منه بشتى السُّبُل، ولكنه كان أمامهم كالطودِ الأشم. طلبوا منه الاعتذارَ مقابل إطلاق سراحه، فقال: مثلي يعتذرُ عن العمل مع الله؟

ثم طلبوا منه كتابةَ كلماتٍ يسترْحمُ عبد الناصر بها، فقال لهم (وهنا بيت القصيد): إنّ إصْبعَ السّبّابةِ الذي يشهدُ لله بالوحدانيةِ في اليومِ خمسَ مراتٍ ليرفضُ أن يكتبَ حرفاً يُقرُّ فيه حُكمَ طاغيةٍ. لماذا أسترحم؟ إن سُجنت بحقٍ، فأنا أقبل حُكمَ الحق، وإن سُجنت بباطل، فأنا أكبرُ مِن أنْ أسترحمَ الباطلَ.

ثم أتاه أحدُ الضباط قبل أن يُشنق بقليل؛ ليكتب لعبد الناصر والصحافة ووكالات الأنباء بِضعَ كلماتٍ؛ فيُفرج عنه، وكانت تلك الكلمات: "كنتُ مُخطئاً وإني أعتذر".
فابتسم وقال له بهدوء عجيب: أبداً، لن أشتري الحياةَ الزائلة بكذبة لن تزول.
فقال له الضابط: ولكنه الموتُ يا سيّد.
فقال: يا مرحباً بالموت في سبيل الله، افعلوا ما بدا لكم.

وبعد أن أدّى صلاةَ الفجرِ، سيق إلى حبلِ المشنقةِ لتنفيذِ الحكم، وجاءه شيخُ من الأزهر يُلقِّنه الشهادتين، فقال: قل معي يا سيد..
فقاطعه سيد قائلاً: يا مسكين، أنا أُساقُ إلى الموتِ مِن أجل "لا إله إلا الله"، وأنت تذهب لتأكل فتات الموائد بـ"لا إله إلا الله"، ثم ابتسمَ مُردِّداً الشهادتيْن.

رحمك الله يا صاحب الظلال؛ يا من قلتَ:

أخي ستبيدُ جيوشُ الظلام *** ويُشرقُ في الكونِ فجرٌ جديد
فأطلِقْ لروحِكَ إشراقها *** ترى الفجرَ يرْمقُنا مِن بعيد

أمّا الرايةُ الخضراء؛ فذلك لِباسُ أهل الجِنان ﴿عٰلِيَهُـﻤْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ﴾ {الإنسان:21}. وما أجمل اللون الأخضر؛ يُريحُ العينَ، ويبهجُ النفس.



دربُكم خضراء ـ بإذن الله ـ أيها المجاهدون الأحرار، ونحن أقزامٌ أمامَ ما تبذلون وما تُلاقون، فضَّلكُم الله علينا درجات؛ فقد قال رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ: "يا أبا سعيد، مَن رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ نبياً، وَجَبَتْ له الجنة. فعجب لها أبو سعيد، فقال: أعِدْها عليّ يا رسول الله، ففعل. ثم قال: وأخرى يُرفعُ بها العبدُ مائةَ درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله" [صحيح مسلم:1884].



 

لبنى شرف
  • مـقـالات
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط