اطبع هذه الصفحة


بين محتسبتين.. (1)

مرفت عبدالجبار

 
يختلف الناس في احتسابهم وصبرهم على المتاعب بغية الوصول لأهدافهم ومطامعهم، أخروية كانت أم دنيوية..
فقد يبذل المرء نفسه وماله ووقته وجهده وكل ما يملك في سبيل ما يرجو؛ عملاً بقول الشاعر:

وما نيل المطالب بالتمني ** ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

وكل هذا النَّصَب والاحتساب يهون إذا كان بغية لرضا الخالق وطلباً لمرضاته سبحانه وتعالى، كما هان كل النصب والجراح بل الموت عند عبدالله الأنصاري رضي الله تعالى عنه حين قال مطمئناً:
اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى!
أو كان احتساب المرء في أمرٍ مباح، يعود عليه وعلى عقله وصحته بالخير والفائدة..
ومن خلال مشاهداتي اليومية:
تعجبت من حال محتسبتين من فتيات المسلمين..
الأولى كان لي معها هذا الموقف في نهار رمضان..

أثناء خروجي من الجامعة، وجدت إحدى الأخوات تقف في انتظار سيارتها، وكانت خصلات شعرها الذهبية متدلية من تحت خمارها..
فقلت: لعلها لم تتنبه، فغطيت شعرها الظاهر في هدوء ومضيت..
وعندما تخطيتها قالت لي بحدة:
" لا شأن لكِ بي "
فقلت عفواً: شعركِ كان ظاهراً، ولعلك لم تتنبهي فغطيته لكِ..
فأعادت الجملة بعصبية شديدة:
قلت: " لا شأن لكِ بي "
ذهلت، وترددت في الاعتذار، وقلت في نفسي: لِمَ انزعجت مني؟؟ حتى أني لم أنصحها ولم أذكرها بالله، كل ما في الأمر أني أصلحت غطاءها لظني أنها نسيت أو لم تتنبه، وهذا قد يحصل من المرء دون أن يتنبه!
وقلت: إذا كانت قد نسيت أن تغطي خصلاتها الذهبية، فما بال هذا الوجه سافراً أيضاً بهذا الغطاء الرقيق؟ وكنت أرى وجهها وملامحها المتجهمة وهي تصرخ في وجهي تماماً من خلف غطاء وجهي، فكيف بالآخرين!!
استغربت من الموقف وتعجبت أيما عجب، وصعدت إلى السيارة، فقالت صديقتي: لا تعجبي، ولو كانت ساهية لصمتت أو شكرت، هداها الله.

وأخرى أنعم الله تعالى عليها بنعمة الصحة والعافية، تخرج بعباءة تعبث بها الريح، كعباءة " الرجل الخفاش "، وقد كشفت عن ساقيها، وتفننت في وضع "الميك أب" ورسم العيون،وإخوانه،وقد يفتن من في قلبه مرض.
فالله المستعان يا من تنتسبن إلى بلاد الحرمين أو مشيتن على أرضها، هذان المنظران لم أرهما في باريس أو برلين، بل رأيتهما في أطهر البقاع إلى الله تعالى " مكة المكرمة "، واسألوا يوم العيد عن طوام فتن الزينة فيه وأين؟؟ في الحدائق أو المتنزهات أو البحر؟؟ كلا والله بل: " في بيت الله الحرام "!! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

هذه المواقف أثارت في نفسي مقارنة عجيبة بين هذه الأخوات وأخوات أخريات صادفتهن في طريقي لأحد أقسام الجامعة:
مررت بهن، وسألت عن مكتب إحدى الأستاذات، فقلن: بهذا الاتجاه، وسرت..
وبعد خروجي، تذكرت أن الأخوات اللاتي سألتهن " كفيفات "!!!!
فأخذني العجب! ليس من معرفتهن أين يكمن مكتب الأستاذة، ورد السلام كاملاً ببشاشة، ولا أخلاقهن العالية فقط، بل العجب من صبرهن وحرصهن على العلم، وطلبه والاجتهاد في الوصول إليه وتبليغه للناس، وأنا أعرف أنهن متفوقات في دراستهن، ومنهن من درست معي، بل أعرف أختاً كفيفة تدعو إلى الله تعالى في مدينة جدة، وكانت حريصة أيما حرص على مجالس العلم والإفادة والاستفادة، وهي منشرحة البال راضية بما قدره الله تعالى عليها من بلاء، وتردد بكل يقين قول الله تعالى في الحديث القدسي: (من أخذت حبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة)، وتعزي نفسها دائماً بهذا الحديث كلما أصابها سهم الحزن على عدم قراءة القرآن الكريم من المصحف.
وأخرى كنت أشاهدها في جامع الملك سعود في الدروس الصباحية التي كانت تقام بعد صلاة الفجر، أخت في كامل حجابها، تجلس عل الدرج الداخلي للمسجد لعجزها عن الجلوس مثل صحيحات البدن، مصطحبة ورقة وقلماً تكتب درس الشيخ، ومن ثم تأتي سيارتها وتأخذها إلى منزلها.
وأخرى حريصة على الصف الأول في المسجد في رمضان، حدثتها ذات مرة فابتسمت ولم تجب، فقالت لي من بجوارها: إنها لا تسمع ولا تتكلم!!

فبالله عليكن يا فتيات الإسلام، ألا تشعرن بالخجل أن يسبقكن إلى الله تعالى بالطاعات أخوات فاضلات قدر الله عليهن الإعاقة الجسدية وأنعم بتمام الصحة عليكن؟ فتحتسبن أيما احتساب في عصيان المولى والتقصير في الفرائض والإقدام على المنكرات عياناً جهاراً، بينما تحتسب أخواتنا العاجزات في طلب العلم والدعوة إلى الله تعالى، وتعليم الناس، والله إنا لنشعر بالخجل والغبطة إذا رأيناهن يسابقن في الميدان إلى الله تعالى ونحن في لهونا سادرات...
فشتان شتان...

إذا أبصر المرء المروءة والتقى**فإن عمى العينين ليس بضير
رأيت العمى أجراً وذخراً وعصمةً** وإني إلى تلك الثلاث فقير


(1) منشو ربمجلة الحسبة الحسبة السنة الخامسة عشرة العدد (82) رجب - شعبان 1429 هـ

 

مرفت عبدالجبار
  • فكر وقضايا معاصرة
  • جهاد وهموم أمة
  • دعويات
  • أسرة ومجتمع
  • موقف وقصة
  • عامة
  • لقاءات
  • مع الحسبة
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط