اطبع هذه الصفحة


كثيراً من الحب..!

ندى بنت عبدالعزيز محمد اليوسفي

 
الحبّ..، كلمة لوهلةٍ أولى نجدها قد ارتبطت في أذهان بعض النّاس برواياتِ الساقطين..، وأفلام العاشقين..، و قصص المتأخّرين..، ونوادر المتقدّمين..، كل أولئِك قد شوّهوا الحبّ وربطوه بما يُعجبهم من رذائل وحمّلوا تلك الكلمة الجميلة ما لا تحتمل ولا تطيق من صورٍ بشعة لهلاك العاشقِ في أثرِ معشوقته، وجنون العاشق من فواتِ لقاء معشوقتهِ..، وهكذا.. دواليك.

الذين لا يحسنون من الحبّ ولا يعرفون عن الحبّ إلا ما تناول أولئك، ومثّل قيسٌ وليلى، و أبدعَ عنترة وعبلة، أولئكَ قلوبُهم فيها بأس، فطرُهم قد شوّهت، ومُلِئَت حُجَر قلوبهم الأربع غُباراً و سُدَاداتٍ أعمت أبصارهم وبصائرهم وأتَت على ما تبّقّى من بقيّة عقلٍ تلمّها أفئدتهم فكانت الكارثة، ونال المجتمع منهم ما ناله.

كم تمنيتُ أن يُنصِف أحدهم هذه الكلمة، وينقذها من براثن أولئك، كم تمنيت أن يأخذ أحدهم هذه الكلمة فيلبسها لباسها وينزلها منزلها ومكانتها، فتكون رواحاً لنا ومتنفّساً، لا نشعرُ بالذّنب كلما مرّت أمامنا خلسة، أو جرّتنا إليها أحاديثنا الغضّة البريئةٌ الخجِلَة.

وإن كان ابن القيّم قد أبدع في مصنّفه روضة المحبّيين ونزهةُ المشتاقين ؛ فيظلُّ فريداً في تصنيفه، قد لمّ شعثاً متناثراً، و نظلّ بحاجة للمزيد و لإفراد الكثير عن الحبّ الذي تحتاجه أمتنا هذا الوقت، الحب الذي يسمو بالنّفس إلى قمم العزة و الكرامة و دنيا العطاء غير المحدود. الحبّ الذي سيردّ بإذن الله ضالّها و يهدي ضائعها و يعين ضعيفها ويخرجها من دوّامة الألم إلى دنيا الأمل.

ذلك الحبّ الذي أُمرنا به، الحبّ الذي اتّصف الله به ، فالله يحبّ عباده المؤمنين، وهم أشدّ الناس حباً له، وهو الودود القائل جلّ وعلا في حديثه القدسي: ((مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَى عَبْدِى بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَى بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِى لأعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِى لأعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ))!!!

ذلك الحب الذي يُطرَح لصاحبه القبول في الأرض فيصل إلى كل القلوب ، حيث روى البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِى جِبْرِيلُ فِى أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِى الأَرْضِ))..!!!

وما فرح الصحابة بشيء فرحهم بقوله صلى الله عليه وسلم : (( المرء مع من أحبّ))، فذهب المحبون لله بشرف الدنيا والآخرة.

والمستقيم والمستقيمة على دين الله أشدّ الناس حبّاً لرفيقه وصاحبه في ذلك الميثاق الغليظ، لقاؤهما في الله ولله و حبّاً لله، وحبّ أحدهما للآخر حباً يتقربان به إلى الله، لم تنسف مشاعرهما تجارب سابقة، ولا قصص حبّ فاشلة ، ما ظنّكم بقلوبٍ غضّة طرية بريئةٍ نقية، لا تجتهد في إخفاء آثار جروح قديمة أو قصص بائدة عجيبة، لم تتقلب على نار الغضا حيناً ولم تقف على الاطلال أحياناً أخرى باكية مودّعة، تركت مشاعرها لحينها فكانت أروع ما تكون وكان أصحابها بها أكثر النّاس فرحاً وسعادةً بها.

إنه الحب الصادق النّقي العذب الطاهر الذي لا يتحرّج صاحبه من النطق باسم محبوبته بل يعتبر حبّه مما يُتَقرّب إلى الله به، ذلك الحب الذي جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بأمته وأصحابه و زوجاته وضرب لنا به أروع الأمثلة فيأتيه عمرو بن العاص رضي الله عنه كما روى البخاري لما بعثه على جيش ذات السلاسل فيسأله : أي الناس أحبّ إليك؟ فيحيب صلى الله عليه وسلم بسرعة ودون تحرّج أمام صحابته ويهتف باسم: عائشة..!!!!!، فيكرر عليه السؤال ظناً ويـأكّده بصيغة أخرى ويحدّده: من الرجال ؟ فيؤكّد صلى الله عليه وسلم الإجابة ويهتف بأبي وأمي هو صلوات الله وسلامه عليه: أبوها..!!، وفي رواية: " إنى لست أعنى النساء إنى أعنى الرجال"!!!!، وفى حديث أنس عند ابن حبان أيضا"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قيل له ليس عن أهلك نسألك" ..!!!!!!وما ظنّكم بقلوبٍ طاهرةٍ نقيّة، لم يطرق بابها العابثون، ولم يخض فيها المختالون المتكبّرون، ولم يقضِ عليها العشّاق الكاذبون؟!!!، ما ظنّكم بقلوبٍ لم تعرف الحبّ إلا حبّ الله وحبّ رسوله وحب طاعتهما..؟!!!!!

ما ظنّكم بقلوبٍ لم تعرف إلا الحبّ في الله وذاقت حلاوته، تحابوا بروح الله على غير أرحامٍ بينهم ولا أموال يتعاطونها، في وجوههم نور، وإنهم لعلى نور يوم الفصل كما أخبر الحبيب صلى الله عليه وسلم، هم الذين يقول الله لهم يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم بظلي يوم لا ظل إلا ظلي؟!!!

ماظنّكم بقلوب أحبّت و تركت الملذّات والشهوات طلباً لمحبة الحبيب الأسمى والأعلى؟!!!، ما ظنّكم بقلوبٍ أحبّت فكانت أرواحها ودماؤها وأموالها وأولادها فداء الحبيب دون حسرةٍ بل شعورٍ بالتقصير وعدم أداء حق الحبيب؟!!!

إنه الحب الذي يسمو بالروح، ويصل بها إلى أعلى مراتب العقيدة، حب الله ودينه وأهله عندما يتغلغل في النفس، فقدّم له الصحابة من قبل كل غالٍ ونفيس حين تساقطوا على درب العزة شهداءً وعشّاقاً للشهادة ولقاء المحبوب.

أحسب أنني لم آتِ على بعضِ مما أردتُ من معاني ، حسبي أنني قد فتحتُ لكم الباب لتأمّل ذلك الحب وحال المحبين الصادقين ،وفي آي القرآن و حوادث السيرة وقصص السلف و بعض المتأخّرين ما فيه الغناية والكفاية، وما لا يُدرَك كلّه؛ لا يُترَك جُلّه.

اللهم إنا نسألك حبّك وحب من يحبّك وحبّ عملٍ يقربنا إلى حبّك، اللهم ما رزقتننا فيه مما نحبّ فاجعله قوة لنا فيما تحبّ، وما زَويت عنا مما نحبّ فاجعله فراغاً لنا فيما تحب، اللهم اجعل حبّك أحبّ إلينا من أهلينا وأموالنا ومن الماء البارد على الظمأ، اللهم حببنا إليك وإلى ملائكتك وأنبيائك ورسلك وعبادك الصالحين، اللهم أحي قلوبنا بحبك واجعلنا لك كما تحبّ ، اللهم اجعلنا نحبّك بقلوبنا كلّها، ونرضيك بجهودنا كلّها، اللهم اجعل حبنا كله لك، وسعينا كله في مرضاتك.

نُشِرَ بمجلة المتميزة-عدد ذي الحجة1424هـ
 

ندى اليوسفي
  • مـقـالات
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط