اطبع هذه الصفحة


فتاة الثورة

د. نهى قاطرجي

 
بسم الله الرحمن الرحيم


لم تكن أسماء تفكر في يوم من الأيام أنها يمكن أن تكون وراء ثورة شعبية تهز العالم وتغير النظام الذي استبد بالناس طوال ثلاثين سنة. كل ما كانت تفكر به أسماء في ذلك اليوم هو حث الناس على المشاركة في تظاهرة صغيرة كالتي نظمت في 6 ابريل عام 2008، والتي على رغم أنها انتهت كالعادة بسيطرة الشرطة واقتياد المجموعة التي قامت بها إلى غياهب السجون ، إلا أنها كانت نموذجاً من نماذج التعبير عن الرفض للذل والهوان الذي كان يمارس ضد 80 مليون إنسان خلال عقود من الزمن.

لقد كان تاريخ السادس من ابريل تاريخاً مميزا في حياة أسماء ، إذ من بعده ، تحولت حياتها بالكامل، وتغيرت اهتماماتها من طالبة جامعية عادية إلى مناضلة سياسية فاعلة على الأرض ، وتمكنت بعد ذلك، بمشاركة زميلاتها وزملائها من تغيير النظرة السائدة حول الشباب المصري المغيب عن الساحة السياسية، إما غرقاً في مشاكل الفقر والحاجة، أو انغماساً في حياة الترف.

ما ورد لا يعني بأن أسماء كانت بعيدة عن الجو السياسي بشكل عام ، فقد تربت منذ الصغر على الحوار والانفتاح والعلم، وكان والدها يناقشها في الأخبار التي تكتب في الجرائد ويتحاور معها حولها، وقد ترك لها الحرية في اختيار الرأي الذي يتناسب مع قناعاتها، وإن كان بشكل عام غير مؤيد لنشاطها السياسي، ليس لعدم ثقته بها ، بل لخوفه عليها من الأذية التي يمكن أن تتعرض لها ، وكان يقول لها " أنت بنت ومش وش بهدلة " . إلا انه على رغم موقفه المستمد من سنوات القهر والهوان، لكنه لم يمنع ابنته من القيام بدورها ، غير آبه بالضغوطات والتهديدات والمضايقات الأمنية التي تعرض لها هو وعائلته إثر القبض عليها في مظاهرات 6 ابريل . وعندما بدأت نتائج ثورة 25 يناير بالظهور ، ودخل اسم "أسماء محفوظ " ابنة السادسة والعشرين ربيعاٌ التاريخ، قال لها والداها بكل اعتزاز : " نحن فخورون بك " .
تقول أسماء عن يوم السادس من ابريل بأنه كان اليوم الوحيد الذي توقفت فيه عن البكاء، وذكرت السبب قائلة : " لم أتمكن من البكاء إلا آخر اليوم بعد كل الذي حصل وبعد الضرب والإهانة، لأن البكاء وقت الضرب كان معناه الضعف وبنات مصر و6 أبريل أثبتوا أنهم أرجل من النظام ومن يقولون أنهم رجالته، النظام الذي سرق حلمنا، والبلطجية الذين خطفوا شبابنا، واللصوص الذين سرقوا "موبيلاتنا"، سحل في الشارع وسرقة لأجهزة "الموبايل" وفلوسنا ، وكل هذا لأننا نطالب بحقوقنا " .

جاء قرار أسماء ورفاقها "وائل" و" اسراء" وغيرهم بدعوة الناس إلى التظاهر اثر أحداث تونس التي نجح فيها الشعب في إسقاط نظام باغي متسلط نهب شعبه وسرق ثرواته ... وهذا الأمر بث الأمل في نفس أسماء التي قررت ورفاقها الدعوة إلى التظاهر في 25 يناير ، وقد بدأت دعوتها بتوزيع أوراق الدعوات في الأوساط والأحياء الشعبية ، ولكنها لاحظت بأن هذا الأمر لن يجد نفعا ولن يحقق الأمل المنشود ، لذلك سجلت بالصوت والصورة خطاباً على كاميرا فيديو نشرته على موقع اليوتيوب دعت فيه الناس إلى التظاهر يوم الجمعة ، وقالت بأنها ستقوم بالتظاهر ولو وحدها وأنها ستنزل يوم 25 كفتاة مصرية تدافع عن كرامتها وحقوقها .... وقد استغربت من هذا الكم الهائل من المؤيدين لها حتى أنها قامت بتسجيل 4 فيديوهات قبل موعد الاحتجاج ...

في اليوم الموعود وبعد صلاة الجمعة مباشرة مشت أسماء ورفاقها في احد شوارع القاهرة ، كانوا في البداية قلة، ولكن فجأة بدأ الناس يتوافدون عليهم من كل حدب وصوب، يلتحمون معهم مكملين طريقهم بكل ثقة إلى ميدان التحرير، وكانت أسماء وهي تسير بين الحشود تشعر بالسعادة والفخر وخاصة عندما كانت تصادف أناسا يتعرفون إليها ويقولون لها : " أنت بتاعة الفيديو ؟ احنا نزلنا الشارع علشانك وتأثرنا بكلامك في الفيديو جدا " ... لم تكن أسماء تتوقع هذا الدعم ، وخاصة أن التجارب السابقة، لم تكن مشجعه، ولكنها كانت تعلم بأن هذه المرة هناك أمر ما قد تغير، فما حدث مع الشعب التونسي قد كسر حاجز الخوف لدى الشعب العربي، وبث الأمل بأن كل شيء ممكن مع وجود الإرادة والتصميم والوحدة، لذلك كانت تطمح ورفاقها بأن يتجاوز عدد المتظاهرين العشرة آلاف ، ولكن أن يتجاوز العدد الملايين ، فهذا الأمر لا يقرأ إلا على أن ما يحدث أمر غير عادي، وان ساعة النصر قد آنت ....

إن هذه القراءة لم تكن أسماء الوحيدة التي قرأتها فقد استوعبها أيضاً أسياد النظام وأبواقه ، لذلك قاموا بالالتفاف على أسماء ورفاقها، فقبضوا على البعض منهم وبطشوا بالآخرين، فقتلوا من قتلوا وجرحوا من جرحوا من المتظاهرين، إلا أنهم لم يقدروا أن يكسروا عزيمة هؤلاء الناس المتمسكين بالفرصة الأخيرة . وكان من بين الأبواق المستخدمة الإعلام الرسمي الذي سعى إلى استضافة أسماء في أحد برامجه في محاولة لثنيها هي ورفاقها عن المضي في المسيرة المليونية، ومحاولا التقليل من شأنها وإظهارها بالفتاة الساذجة التي قامت ورفاقها بلعبة صبيانية لم تحسب عواقبها، لذلك كان التركيز في الأسئلة الموجهة إليها على أمور قد تهم كل فتاة في الظروف العادية ، من نوع هل تعرضت للتحرش الجنسي؟ أو لماذا لم تتزوجي بعد؟ ولكن سها عن بال المحاورين أن أسماء و إسراء وغيرهن من فتيات المصر المحجبات وغير المحجبات، قد اثبتن لرواد الحركة النسوية في مصر اللواتي يسعين لإيجاد دور سياسي للمرأة المصرية عبر نظام الكوتا والمشاركة السياسية وما إلى ذلك من شعارات غربية ، أن المشاركة السياسية الفعلية تنبع بحمل هموم الناس وبالنضال والكفاح ، وحمل الشعارات والمصطلحات النابعة من ثقافة الناس وحضارتهم، لا من أجندات عالمية هدفها بالدرجة الأولى السيطرة على كل مرافق وثروات الدول النامية .

إن الخوف على أسماء وأمثالها من الشباب النابض الذي نزل إلى الساحة في 25 كانون الثاني، ليس من النظام السابق الذي آذن بالرحيل، ولكن الخوف من الغدر الداخلي ومحاولات شق الصفوف التي قد تقوم بها جهات مأجورة أو غير مأجورة ، بحسن نية أحيانها و بغيرها أحياناً أخرى، من أجل الالتفاف على مطالب هؤلاء الشباب الذين فعلوا ما لم يفعل آبائهم من قبل ، والقيام ببعض الإصلاحات الوهمية مع تغيير في الوجوه والأسماء فقط ... وإذا حدث ووقع هذا الأمر فعلى الشعب المصري أن ينتظر ثلاثين سنة قادمة حتى ينشأ جيل جديد كجيل أسماء اليوم يتجرأ أن يعود لميدان التحرير من جديد ليعلن بصوت واحد" الشعب يريد إسقاط النظام " .

 

د.نهى قاطرجي
  • مـقـالات عامة
  • مـقـالات نسائية
  • مـقـالات موسمية
  • مـقـالات الأمة
  • المكتبة
  • القصة
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط