اطبع هذه الصفحة


شباب ... بنات

د. نهى قاطرجي

 
كم هو ضائع ذاك الشاب ، وكم هي تائهة تلك البنت ، وكم هو مسكين هذا الجيل الباحث عن ذاته في زوايا حضارة زائفة كاذبة .
إن الناظر إلى نماذج جيل ما بعد الحرب اللبنانية يجد تراجعاً كبيراً في أخلاقه وتصرفاته مقارنة بجيل ما قبل الحرب المحافظ على بعض القيم والعادات الموروثة من أجداده الذين عرفوا أمجاد الدين الإسلامي وعملوا بأحكام حلاله وحرامه .
إن السبب في هذا التراجع لا يعود إلى عامل الحرب فقط ، كما يحاول البعض الإيحاء ، بل إن هناك عواملَ أخرى أشد خطورة وأكثر تأثيراً أدت إلى هذا الوضع المشهود ، ليس على المستوى المحلي فقط وإنما على المستويات العربية والعالمية كافة ، ومن هذه العوامل الثورة التكنولوجية المتنوعة ، من وسائل اتصال وأقمار الاصطناعية وما إلى ذلك من اكتشافات حديثة عملت على تقريب المسافات بين الدول ووحدت المدن والقرى وجعلتها قرية واحدة تحكمها دولة واحدة تسيطر بالترغيب أو بالترهيب على العالم كله ، تُرغِّب البعض بالملذات الدنيوية ، وتُرهِّب الآخرين بالمجاعة والحروب النووية .
لقد بات التمتع بالملذات الدنيوية هو السبيل الذي يجد فيه الناس عامة والشباب والبنات خاصة طريقهم للوصول إلى السعادة المتمثلة في ذهنهم بإشباع الرغبات وتحصيل المكتسبات ، وبات لذلك كل شاب أو بنت ، إلا من رحم الله ، يتميز بصفات عامة يختص بها .

ومن هذه الصفات التي يمكن ملاحظتها على هؤلاء الشباب الشكل الخارجي الموحَّد المتمثل في بنطلون الجينز الذي يكاد يصل إلى كعب الرِّجل ، وفي الشعر الطويل المعقود أو لعله بالعكس القصير أو المحلوق أو المصبوغ ، لا فرق ، أشكال منفرة يستسيغها هؤلاء الشباب ويتمسكون بها ويسنهزئون ويرفضون كل شاب لا يحاكيهم فيها ولا يسسلك منهجهم ، معبرين بذلك عن انتمائهم إلى عالم غريب لعلهم هم أنفسهم لا يدرون من اخترعه وأين مقره الأصلي.

هذا عند الذكور ، أما عند الإناث فالزي الذي ذكرناه سابقاً يمكن أن نجده عند المتشبهات بالرجال منهن اللواتي يلبسن زيّهم ويمشين مشيتهم بل وحتى يجلسن جلستهم ، أما البعض الآخر ممن يفخرن بأنوثتهن ويحرصن على إظهارها فهن الكاسيات العاريات المائلات المميلات ، كما وصفهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللواتي لا نكاد نعرف ليس فقط الواحدة منهن من الأخرى بل نكاد لا نميز بين الفتاة الشريفة وفتاة الهوى منهن ، فالشكل الذي كان مخصصاً لبنات الهوى بات اليوم شكلاً موحداً لبنات اليوم حسب توجيهات مصممي الأزياء الحريصين دائماً على إبداء مفاتن الجسد .

أما أخصائيو التجميل فإنهم يطبقون نظرية أحد زملائهم الذي دخل يوماً مع رفيق له إلى حديقة للحيوانات في إحدى الدول الغربية ، فلفت نظره قرد أعجبه فأخذ يتأمله ويراقب الخطوط الحمراء والزرقاء التي تبدو حول عينيه وفمه ، ثم خطرت على باله فكرة شيطانية نقلها إلى رفيقه بقوله : " هل تراهن أني في خلال سنوات سأجعل المرأة تبدو كهذا ؟".
وكسب الرهان وباتت المساحيق التي تغطي الوجه تخضع لمقاييس عالمية تقرها وكالات عالمية وتباع على أساسها تشكيلات الربيع والخريف والصيف والشتاء ... كل ذلك لتبدو المرأة في كل أنحاء العالم نسخة واحدة وصورة مكررة ، فإذا كنت في هوليوود أو في مصر أو في بيروت ، أو في أي مكان من العالم ، لا فرق ، دائماً المرأة هناك هي نفسها هنا ، الشعر نفسه ، العيون نفسها ، القامة نفسها ... بل حتى الابتسامة نفسها .

لقد أدت الثورة العلمية في مجال الجراحة التجميلية بأحد أطباء التجميل إلى التصريح بعدم وجود فتاة قبيحة اليوم ، فلم يعد هناك شيء اسمه عيب خَلقي ، لا أنف معكوف ، لا أذن طويلة ، لا أسنان منفرة ، لا شيء من هذه الأمور التي كانت تسبب للفتاة فيما مضى العقد النفسية التي تُشعرها بالعجز عن لفت انتباه الرجل إليها... لا ، لا شيء من هذا يمكن أن يحدث اليوم ، بل إن الواحدة من هؤلاء قد تكون كاملة الخِلقة ولكنها تخضع لعملية تجميلية كي تجعل أنفها يشبه أنف تلك الممثلة السينمائية التي أعجبتها في آخر فيلم رأته لها ، لهذا ما عسانا نفعل إلا أن نواسِيَ ذاك الرجل الذي يبحث عن الفتاة الجميلة ، ذلك أنه لم يعد بإمكانه معرفة شكلَ فتاته التي سيتزوجها ، ولم يعد يستطيع أن يتصور شكل أبنائه في المستقبل ... لأنه لا يعرف شكل أمهم كيف كان !!

للأسف هذا هو واقعنا المأساوي اليومي الذي يمكن أن نجده في كل حي وشارع ، فالفتاة الملتزمة تمشي اليوم جنباً إلى جنب مع الفتاة السافرة التي قد تكون أمها أو أختها أو رفيقتها ، ولا تملك في كثير من الأحيان لها إلا الدعاء تستخدمه سلاحاً تدعو به للآخرين ومن جهة وتحمي به نفسها من أن يصيبها ما أصاب غيرها من السفهاء من جهة أخرى.

إن هذه الصورة المرئية للشكل الخارجي لشباب وبنات اليوم الذي بيّنا بعض ملامحه سابقاً لم تنشأ في نفوس هؤلاء من فراغ ، بل هي تعبير خارجي عن خلجات الروح والقلب والنفس التي وَجدت في هذه التصرفات وسيلة تعبيرية عن الكيان والوجود ، والمثل يقول : " الإناء ينضح بما فيه " ، وما يحتويه الإناء لم يعد مخفياً على أحد بل إنه قد طاف وفاض ونشر رذاذه على من حوله ، ومن هذه الأمور التي فاضت والتي يمكن ملاحظتها ما يلي :
أولا : الفراغ الروحي المتمثل بالبعد عن الله عز وجل أو إنكار وجوده، أواستبدال الحاسوب بأوامره سبحانه ، ذلك الذي أصبح كثير من الناس يحرصون على أوقاتهم معه أكثر من حرصهم على الصلاة التي أمرنا الله عز وجل بأدائها في وقتها ، والتي صارت علاقتهم بها كعلاقتهم بساعة المنبه التي تدقّ عند ساعات الفجر الأولى لتنبه إلى وجوب النوم الذي يمكن أن يستمر حتى ساعات العصر من اليوم التالي إن كان الغد يوم عطلة .
لا يقصد مما سبق نفي الإيمان عن هؤلاء نفياً مطلقاً ، لا بل على العكس من ذلك فإن بعض هؤلاء يدخلون بحكم استخدامهم للإنترنت وتعرفهم على الآخرين في حوارات كثيرة مع بعض المسلمين الذين يلعبون دور المربّين فيعرِّفون الناس على دينهم ويدخلون معهم في حوارات فكرية هامة .
كما أننا لا نستطيع أن ننكر تأثير بعض الزملاء الملتزمين الذين يذكِّر زيَّهم الإسلامي وتصرفاتهم وعقيدتهم هؤلاء الشباب والبنات بوجود الله عز وجل وبوجوب مخافته ، وإن كانوا في الغالب يتحاشون الدخول معهم في حوارات عقائدية خوفاً من أن يعقِّدوهم أو يجروهم إلى الدين ، لذا فإنك لا تستغرب إن وجدت أحدهم لا يعلم بوجود الجنة والنار بل لعله قد يدهش عندما يخبره أحدهم بما في الجنة من لذائذ ، كما حصل مع تلك الفتاة التي استغربت عندما علمت أن في الجنة خمرة ، وسألتني مستغربة : هل صحيح أن في الجنة أنهاراً من واين " wine" ؟

ثانياً : الفراغ الفكري المتأثر بالفكر المادي المنكر لوجود لله عز وجل المدَّعي اقتصار الوجود والحياة على الحياة الدنيا ، لذا نجد كثيراً من الشباب الموقن بهذه العقائد يطبق هذه النظريات ويسعى راكضاً لاهثاً وراء الأسباب المادية التي تحسِّن وجود في هذه الحياة الدنيا والتي هي مبتداه ومنتهاه في نظره .
من هنا ليس من المستغرب على من مَلَك تلك العقيدة المادية أن يحصر نظرته إلى السعادة في امتلاك الهاتف الخَلَوي أو الدراجة النارية أو السيارة الفاخرة المميزة بصوت محركها المزعج لكل نائم بعد منتصف الليل .
وليس من المستغرب استبدال هؤلاء الشباب والبنات بالمفاهيم والمعاني النبيلة الموجودة في الشرف والعفة والكرامة والشجاعة مفاهيم أخرى وجدوها في الأنانية والغرور والتفرد بالرأي وتحقير الآخرين والاستهزاء بهم وعدم احترام الكبير وغير ذلك من الصفات التي تدور في فلك " أنا ومن بعدي الطوفان " الذي حكم تعاملهم مع الآخرين من منطلق قاعدة " الغلبة للأقوى " التي يبنون عليها علاقاتهم الاجتماعية والأسرية .
لقد ترك هذا المفهوم الخاطئ عن حب الذات أثره السيء على علاقات هؤلاء الشباب والبنات بالآخرين ، فغابت عن قاموسهم كلمات مثل : العطاء ، المساعدة ، التضحية ، حب الخير وغير ذلك من المفردات والمعاني التي رأوا فيها سلاحاً للضعيف يستخدمه لإثبات ذاته وكسب رضى الآخرين ومحبتهم ، أما هم فإنهم بقوة شخصيتهم وقدرتهم على إثبات ذواتهم لا يحتاجون إلى هذه الوسائل الرخيصة من أجل استجلاب الأنظار إليهم ... بل هم يحصلون على ما يريدون بالقوة والحيلة والخداع وغير ذلك من التصرفات التي تجعل الإنسان في هذه الدنيا يبدو وكأنه يعيش في غابة لا بقاء فيها إلا للأقوى والتي يمثلها قول : " فإن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب " .

ثالثاً : الضياع النفسي الذي يلمسه بسهولة عند الاحتكاك بهؤلاء الشباب والبنات الضائعين ، ولعل أهم الآثار النفسية التي يمكن أن نشهدها الاضطراب والقلق والتشاؤم والنظرة السوداوية التي تغلف نظرتهم إلى الحياة ، والتي تجعلها في نظرهم تدور بلا هدف ولا غاية ، فلا فرق بين الأمس واليوم والغد، إلا أن يأتي الغد حاملاً الموت الذي يمكن أن يحرمهم من التمتع بهذه الحياة التي لن يكتب لهم العودة إليها مرة أخرى ، لذا لا وجود للأوامر والنواهي في برنامجهم اليومي،بل إن هذا البرنامج يتضمن الاستفادة من كل لحظة في اليوم قبل أن يأت ذاك اليوم الذي لا غد له ، لذا لا ينفع مع مثل هؤلاء الأشخاص أن نقول لهم الخمرة حرام ، أو إنك ترتكب كبيرة وأنك ستحاسب عليها ، كل هذا لا ينفع ، ففي مفهومهم الخاص الجنة تكون في اتباع اللذة والنار تكون في الحرمان منها، لذا هم يركضون وراء كل شيء يظنون أنه يوصلهم إلى نعيم الجنة الدنيوي ، حتى إذا لم يجدوه في الخمرة والزنا بحثوا عنه في المخدرات والعلاقات المحرمة وغير ذلك من المعاصي التي كلما انتهوا من معصية بحثوا عن أخرى ، وهكذا إلى ما لا نهاية .

إن كل هذه التصرفات التي ذكرناها لا يمكن تحميل مسئوليتها لهؤلاء الشباب والبنات الضائعين فقط ، إذ إن للأهل والمربين والمسؤولين وكل من له قدرة وسلطة دور مهم في إيصال الشاب والبنات إلى ما هم عليه ، ويكفي أن يؤمن بعض هؤلاء المربّين بالمبادئ التربوية الخاطئة حتى يفقد شباب اليوم هدفه بفقدانه قدوته ، لذا ليس من العجب أن يقوم هؤلاء بما يقومون به تحت أعين ومباركة الأهل الذين اعتبروا أن من حق أبنائهم عليهم أن يمنحوهم حرية التصرف ، مع أنهم لو أدركوا معناها ، حسب مفهوم فلاسفة الغرب على الأقل ، لوجدوا أن الحرية ليست في الانسياق وراء النزوات العاطفية وإشباع الرغبات ، بل هي طاعة القوانين ... وإن كان الفرق كبيراً بين شريعتنا السماوية وقوانينهم الوضعية .

 

د.نهى قاطرجي
  • مـقـالات عامة
  • مـقـالات نسائية
  • مـقـالات موسمية
  • مـقـالات الأمة
  • المكتبة
  • القصة
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط