اطبع هذه الصفحة


مأساة سارة وعائلتها

د. نهى قاطرجي

 
اليوم يوم الجمعة ، والطقس ماطر في الخارج ، والأطفال في عطلة ، كل الدلائل تشير إلى ليلة حميمية هادئة يمكن أن تقضيها العائلة في مثل هذه الظروف المناخية ، على الأقل هذا ما كانت توحي به كتب القراءة قديماً ، فقد كانت هذه الكتب تصف هذا المشهد كما يلي : في يوم من أيام الشتاء الممطر تجتمع العائلة حول الموقد ، الأب يقرأ الجرائد ، الأم تحيك الملابس ، الأولاد يلعبون، بينما الجد يشوي الكستناء ...
أما كتب القراءة الحديثة فالصورة فيها تشهد بعد الاختلافات الجزئية ، حيث يمكن أن نتخيلها على الشكل التالي : الأب يشاهد التلفاز ، الأم تُنهي أعمال المنزل المتراكمة وتحضِّر العشاء لأبنائها ، الأولاد كلٌّ في غرفته ، الفتاة ابنة الثانية عشرة تتكلم على الهاتف مع رفيقتها أو رفيقها - لا فرق - الولد ابن السابعة يلعب على الحاسوب ويتسلى بعلبة البطاطا (شيبس) ...هذه هي خشبة المسرح التي تجري عليها أحداث القصة ،و التي لا تختلف كثيراً عن أي بيت من البيوت المعاصرة .
إلى الآن كل شيئ عادي ، لا دلائل للمُشاهد تنبئه باحتمال تغيير في شكل هذه الخشبة ، ولا وقائع تنبئه بامكانية انقلاب جو الهدوء والطمأنينة التي تتمتع به هذه العائلة ، إلا أن من سمة المسرح أنه يأتي بكل ما هو غير متوقَّع ، وهذا أمر يدركه الممثلون فقط ، بمعنى آخر تدركه العائلة نفسها ، الأب والأم والأبناء ، فهؤلاء فقط يدركون بالتجربة وجود نار تحت الرماد ،إذ أن أي شيئ ممكن أن يعكس الصورة في أي لحظة ، ويحوِّل الجنة إلى نار بل إلى أتونِ من الجحيم ، وهذا ما حصل تماماً ، وهذه التفاصيل :
المشهد الأول
رُنَّ جرس الهاتف مباشرة بعد أن أنتهت الابنة من مكالمتها ، وسمعت الأم (سارة ) من المطبخ صوت ابنتها تنادي أباها : بابا ، تلفون ؟ في هذه اللحظة شعرت بأن قلبها يدقّ بسرعة 180 في الدقيقة الواحدة ، شعرت بخاطر ينبئها أن المخابرة تحمل شراً وخراباً ، و للأسف ما خاب ظنها ، فما إن استلم الزوج الهاتف حتى سمعت الجواب التالي :
- أهلاً ، حقاً ، آه ، عفواً ، كانت ابنتي تتكلم على الهاتف ، خير هل هناك شيء ،… نعم … نعم ، ماذا تقول … لا يمكن أن يكون قد حصل هذا ، لا أنا لم … ، لقد … ولكن دعني أشرح لك …حسناً نلتقي غدا ،ً إن شاء الله تعالى . وأقفل الخط…
الصمت التام يسود المكان ، حتى الأصوات التي كان يصدرها الابن من مفاتيح الحاسوب توقفت، الكل ينتظر … ماذا سيحصل …
فجأة شعر الابن بالجوع ، وكأن معدته تفاعلت مع خوفه وأوحت إليه أن نقله لإحساس الجوع يمكن أن يكسر هذا الصمت ، فانطلق إلى المطبخ بسرعة الصاروخ ليجد أمه متسمِّرة مكانها ، السكين بيدها وعيونها جاحظة ، مترقبة .
- أمي ، أمي ، أنا جائع …
سارة : الأكل سيجهز بعد قليل ، اذهب واغسل يديك وناد أختك وأباك … ركض الطفل ابن السبع سنوات إلى أخته واخبرها بالأمر ، كما نقل الخبر إلى الأب … الكل يتحرك من أجل الاجتماع على طاولة الطعام .

المشهد الثاني
الأسرة بكامل أعضائها مجتمعة على طاولة الطعام ، الأب والابن والابنة ، كلٌّ منهمكٌ بنفسه إلا سارة ، لم تكن اللقمة تمرُّ في حَلْقها بسهولة ، وكأن هذه اللقمة تدرك أنها بعد قليل لن تبقى كثيراً في الجوف ولا في المعدة لذلك فهي تحاول أن تتجنب هذه المرحلة .
فجأة تحرك الممثلون، وتَبدّل المشهد ، الولد الذي كان يُسرع في إنهاء طعامه كي يعود للعبته المفضلة أوقع كأس البيبسي على الطاولة ، الأم تُسرع لتمسح ما تَساقط ، الأب انشغل بأمر آخر ، انشغل بتأديب ابنه المهمل ، فصفعهُ صفعة قوية تحوَّل بها وجهُه إلى الاتجاه المعاكس بسرعة كبيرة كادت أن تخلف وراءها رضوضاً وكسوراً في الرقبة : ألن تتعلّم أبداً آداب الطعام ؟ إلى متى سأبقى أعلمك ؟…
سكت الطفل ، وحاول أن يترك الطاولة بحجّة الشّبَع ، لكن هذا العذر لم ينفعه ، فلقد ذكَّره أبوه ً بالتعب والجهد الذي يعاني منه ليلَ ونهار من أجل تأمين هذه اللقمة التي لم يراع حقها ويرميها في سلة المهملات بينما غيره يشتهي النعمة ...
* آه لو تدري كم أُهان وأُذل من الكبير والصغير من أجل تأمين هذه اللقمة ، ولكن الحق ليس عليك ، الحق على أمك التي لم تعلِّمك هذه الأمور .
لهذه الأسباب كلها لم تنفع محاولات الصبي بالهرب إلا بعد أن أكمل طعامه الممتزج بالدمع ...
أما الفتاة فقد كانت أذكى من ذلك ، حيث أكملت وجبتها بشكل سريع ، بعد أن احتفظت بكل البقايا في فمها ، لتأكلها بعيداً عن المطبخ هاربة بذلك من شيء متيقِّنة من حدوثه...
أما سارة المسكينة فقد أدركت بخبرتها أن لا شيء سينجيها مما ينتظرها ، وأدركت – بالخبرة أيضاً - ان الهرب لن ينفعها ، لذلك بقيت في مكانها تنتظر قَدَرها المحتوم ، وتستعجل حصوله حتى تنتهي منه وتعود إلى غرفتها … حاولت أن تكمل طعامها بصمت ، عندها سألها زوجها :
- يعني لا تتكلمين ، ولم تسأليني ما بي ؟ ومَن هذا الذي اتصل بي ؟ وكأني لستُ زوجك ، وكأن أمري لا يعنيك ؟
* سارة :…
-الزوج : اعرف ، أصلاً الحق كله عليك ، لو كنتُ مرتاحاً في المنزل لما حصل معي هذا التشويش في الذهن ولما وقعت في هذا الخطأ ، كل الحق عليك ...
* سارة : …
-الزوج : تعرفين ذات يوم سأطلقك ؟ نعم ، لم أعد استطيع أن اتحمَلَكِ، انت فال شؤم ، منذ أن تزوجتك والمصائب ترفُّ فوق رأسي ...
* سارة : لماذا…
- الزوج : أصلاً إن زواجي منك كان أكبر خطأ اقترفتُه في حياتي , رحم الله أمي ، أذكر كلامها تماماً، قالت لي : إن هذه الفتاة ستُتعبك ، مستواها العائلي ليس من مستواك ! انت مهندس وألف بنت تتمناك ! فلماذا تأخذ مُدَرِّسة ، راتبها لا يكاد يكفيها ؟ … لو سمعت كلمة أمي كنت تزوجت بنت خالتي الطبيبة ، ولكن ماذا أفعل ؟ حظي السيئ أوصلني إليك …
أنهت سارة لقمتها الأخيرة وقامت عن السُّفرة ترتبها بسرعة وكأنها تريد أن تسبق الزمن قبل أن يسبقها ، ورأت بعقلها الصغير أن تغيير المكان ممكن أن يسعفها في هذا الموقف .
وقفت وقالت : سأذهب إلى الحمام ،… خططت لهذا الأمر بينها وبين نفسها … فقالت : الحمام مكان آمن ، وفيه مفتاح أستطيع أن أقفله على نفسي حتى تهدأ ثورته … ولكن هيهات ، تجري الرياح بما لاتشتهي السفن ، لم يدعها تكمل خطتها ، أمسكها من يدها بعنف وقوة مما تسبب لها بآلام كثيرة … حاولت أن تنزع يدها ، بلا جدوى ، استمر الضغط على معصمها فترة لا تدرك مدتها إلى أن انتقل البطل إلى الخطوة التالية ، أمسك بشعر زوجته بعنف رماها أرضاً وأخذ يركلها برجليه ركلاً قوياً ، وهي لا تقاوم ، بل اكتفت بأن تتقوقع على نفسها كالحيّة محاولة في ذلك أن تحمي رأسها من أي اصابة قد تخسرها ما بقي من عقلها ، ولكن هيهات ، فإن هذا الزوج الحبيب حريص على أن يترك بصماته على كل مكان من جسدها … وبعد ذلك يتركها ملقاة على أرض المطبخ كالجثة الهامدة بلا حراك ، فبدت المسكينة أشبه بشاة مذبوحة تركها اللحَّام فترة من الزمن قبل أن يعود إليها مجدداً لسلخ الجلد عن اللحم ...
لم تدرك كم من الوقت بقيت على تلك الحالة ، إلى أن شعرت بشيء كالجبل يهوي عليها، إنها يد ابنتها الصغيرة التي انتهزت فرصة خروج الأب من المنزل كي تكشف على مكان الجريمة وتعاين الأضرار وتساعد الضحية ، هذا ما قصدته الابنة ولكن سارة ظنت لوهلة أن اليد التي وضعت عليها إنّما أرادت أن تُعيد مسلسل العنف من جديد... فارتعشت وفقدت وعيها ...
حاولت الابنة ايقاظ الأم بشتى الوسائل ، رمت عليها الماء ، رشّتها بالعطر ، ضربتها ضرباً خفيفاً على وجهها ، ولكن كل هذا لم ينجح في اعادة سارة إلى الحياة ، ... عندئذ فقدت الابنة أعصابها وابتدأت بالصراخ والبكاء بصوتٍ عالٍ ، لم تجد الفتاة حلاً لمشكلتها إلا البكاء ، رمت بنفسها على أمها تبكي و تقول لها :
-يا أمي لست مضطرة كي تتحملي كل هذا العذاب ؟ يا أمي ارجوكِ لا تتركينا ، فإذا لم تتلقِ أنتِ العذاب سنكون نحن مَن نتلقاه ؟
وأستمرت الابنة بالبكاء المُرّ الذي فعل فِعله في عقل الأم اللاواعي وأيقظها من غيبوبتها ، حاولت من اجل صغيرتها أن تُجاهد نفسها على القيام ، طلبت منها المساعدة ، عندها مسحت الفتاة دموعها بسرعة ، وكأنها لم تصدق أن أمها لا زالت حيَّة ، أمسكت بيد أمها وأخذت تصرخ وتنادي أخاها بصوت عالٍ كي يأتي لمساعدتها ...

المشهد الأخير
سارة داخل غرفتها ، ممدة على السرير ، ابنتها بجانبها ، تنظر اليها وتبكي ، مسحت سارة الأم دموع ابنتها وقالت لها :
لم يحدث شيء لقد وقعتُ على الأرض و ارتطم رأسي بالطاولة … هذا كل ما في الأمر ...
ما أسخف الأهل الذين يظنون أن الأولاد لا يسمعون ولا يَرْون ولا يشعرون ، وما أسخف هؤلاء إن ظنوا أن الأولاد يعجزون عن التمييز بين ضرب الإنسان وضرب الجماد ... إن هؤلاء الأطفال لا يصدِّقون ولكنهم يدَّعون التصديق لكي يواسوا أهلهم ويطلبون منهم الاستمرار بلعب دور الضحية كي لا يفقدوا هم أمنهم واستقرارهم ...
هذا ما فعلته الابنة بالظبط ، ادعت أنها صدَّقت أمها … وتركتها في غرفتها وحدها لتنام ...
ما أن خرجت الفتاة من الغرفة حتى دخلت سارة في صراع مرير مع الدموع التي أبت أن تغادر جفنها وكأنها تعلمها طريق المقاومة والرفص … وبدأت أفكارها تتخبط في ذهنها وتدور بشكل متسارع ، وكأنها تحاول ايجاد حل قبل أن يعود الزوج ، فتساءلت :
- لماذا لا أهرب ؟ أنا إذا اخبرت أهلي سيمنعونني من العودة إلى البيت ؟ لماذا لا أخبرهم وأضع حداً لمسلسل العذاب هذا ؟ ياربِّ ماذ أفعل؟ لقد تجاوز هذا الأمر قدرتي على الاحتمال ؟ يارب أما لهذا العذاب من نهاية ؟ … يا رب ما الذنب الذي فعلتُه كي استحق كل هذا العذاب ؟
- هذا هو ، لا بديل عن الطلاق ؟ لا بد من الطلاق ؟ إن حقي في الطلاق مؤكد ، إن القاضي عندما سيعلم بقصتي سيطلقني ، لقد قرأتُ مرة أن هذا النوع من الضرب لا يُجيزه الإسلام … هذا هو الحل، سأطلب الطلاق … سأُخبر أهلي بما يحصل معي وأطلب منهم أن يطلِّقوني منه … وتنتهي سلسلة عذاباتي .. ولكن ... هل سيصدقني أهلي ، وهم الذين يظنونه المهندس الكبير ، المتزن الأخلاق ، وهم ما زوجوه إلا بعد أن سألوا عن دينه وخلقه ، من سيصدقني ؟ ...
- ثم هناك أمر آخر ، الأولاد لمن أتركهم ، … انه إذا لم يضربني سيضربهم هم … وأنا لا أريد أن يصيبَهم ما أصابني … وهو لن يدعني آخذهم ، لقد تجاوزوا سن الحضانة ، ثم أليس في هذا التصرف قضاءً على مستقبلهم ، من سيتزوج الفتاة بعد أن يعلم أن أمها مطلقة ؟ ومن سيقبل تزويج الفتى بعد أن يعلم أن أبوه كان يضرب أمه ... ألا يقول المثل ذاك الشبل من ذاك الأسد ؟ ...
- ماذا أفعل يا ربي؟ ولكن ، لا ، هذه المرة لن أسكت ، لمصلحة الأولاد لن أسكت ، إذا بقيت أتلقى الضرب فسينشأ الأولاد معقدين ؟ وربما يعتقدون أن ضرب الزوج للزوجة أمر طبيعي … أو ربما سيكبرون ويضربون زوجاتهم ... أو ربما قد ترفض ابنتي الزواج لاعتقادها أن كل الأزواج يضربون زوجاتهم ، ألا يستحق هؤلاء الأولاد مني التضحية ، على الأقل حتى يكبروا ويقدروا على الاختيار ؟ …
-ثم لأكن صريحة مع نفسي لعل ما أصابني هو بسببي أنا ، فلعلني بالفعل زوجة سيئة ، فلو كنتُ زوجة صالحة لما استحققت هذا العذاب ! أنا التي دائماً استفزه وأدفعه كي يضربني ؟... ولكن هذه المرة لم افتح فمي !...
- يا رب ماذا أفعل ؟ يارب ماذ أفعل … انت القائل ﴿ أدعوني استجب لكم ﴾ وها انا أدعوك ، دعاء من قلت حيلته … فساعدني يا رب …

 

د.نهى قاطرجي
  • مـقـالات عامة
  • مـقـالات نسائية
  • مـقـالات موسمية
  • مـقـالات الأمة
  • المكتبة
  • القصة
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط