اطبع هذه الصفحة


وشاح جنين

د. نهى قاطرجي

 
هرع عبد الله مسرعاً إلى البيت وهو يقفز على درج فرحاً ، فتح الباب وهو يقول : أمي ، أبي ، باركا لي ، لقد جاءني القبول ، سأسافر ، سأسافر ، سأترك البلد.
الوجوم يسيطر على المكان ، أم عبدالله لا تفتح فاهها ، لا تصدق أن ابنها سيغادرها ، هي تركته يتقدم بطلب عمل إلى بلاد الخليج لأنها كانت متيقنة أنهم لا يأخذون الفلسطينيين ، ولكن الآن سيغادر ، ماذا ستفعل ؟
أما الأب فلم يتفوه بكلمة واحدة ، بل اكتفى بأن قال لابنه : مبروك ، مبروك .
* شكراً يا أبي ، شكراً . يا أبي ، أين جدي ؟ أين جدتي ؟ جدي ، بارك لي ، بارك لي . لم يجب الجد ، بقي صامتاً ، وهو يقول : الأرض ... الأرض .
* ما بكم ؟ لم هذا الوجوم ؟! لقد انتظرت هذه الفرصة بفارغ الصبر ، هل تظنون أني أريد أن أسافر لأجلي ؟ أنا أفكر بكم جميعاً ، هل تعجبكم عيشة الذل التي نعيشها داخل المخيم ؟ ألا تكفي سنين العذاب ؟ أنا سأسافر وسأعمل وسآخذكم جميعاً لعندي ، ... إيه جدتي ، هل ستأتين ؟ لم تجب الجدة ، بقيت صامتة فترة من الزمن ، إلى أن قطع الصمت دوي انفجار ضخم جعل الجميع ينظرون إلى بعض
* ماذا حصل ؟ ألم يتربى هؤلاء الـ... ؟ لقد حاولوا اقتحام المخيم سبع مرات وفشلوا ، ألم ييأسوا ؟ قال عبد الله موجهاً كلامه لأبيه الذي كان ينظر إلى الخارج قلقاً، ثم ما لبثت الأم أن قالت وهي تحتضن ابنها الصغير أيمن: أين "وشاح"؟ هو لم يعد إلى الآن، ألم يخبرك أين ذهب ؟
* لا ، لم يخبرني ، أين هو يا ترى ؟ اسمعوا ، ها هو ، أنا أسمع وقع أقدامه.
فتح وشاح الباب بسرعة ودخل وهو يلهث من التعب .
* أين كنت ؟ بادرته أمه بالسؤال، وما هذه الرائحة التي تفوح منك ؟
* لا شيء ، لا شيء ، سأدخل لأستحم . دَقُّ الباب أنقذ "وشاح" في تلك اللحظة، كان القادم أبو محمد، أحد الجيران الذي يشغل منصباً مهما ً في كتائب "عز الدين القسام"، حيّى الجميع ثم جلس، وقال موجهاً كلامه للأب: مبروك يا أبا عبد الله، لقد قمنا اليوم بمهمة عظيمة ، هل سمعتم دوي الانفجار منذ بعض الوقت ؟
* نعم سمعنا ، ما كان هذا ؟ * كان هذا يا صديقي انفجار دبابة صهيونية ، وهل تدري من فجرها إنه ابنك "وشاح"، لقد قام هذا الشبل البطل بمهمة تصعب على الكبار ، تمكَّن من الدخول في فوهات الصرف الصحي واقترب من الدبابة وباغتها وفجرها بعبوة زنتها 50كغ ؟
* طبعاً يفعلها ولماذا تستغرب ، إنه ابني ، وهو مستعد أن يقدم دمه من أجل فلسطين ، وليس مثل غيره ؟ ونظرت الأم إلى عبد الله الذي حاول أن يخبئ نظراته خجلاً ، هل تشرب معنا الشاي ؟
* لا، وشكراً ، يجب أن أغادر ، الوضع جد خطير، ونحن يجب أن نكون على استعداد دائم لاحتمال محاولتهم اقتحام المخيم مجدداً في أية لحظة. أراد أبو محمد أن يغادر، ولكنه سمع مكبِّر الصوت وهو يقول : يا نساء المخيم اغتنمن الفرصة ، يمكنكن الخروج ، نحن نتعهد لكن بأننا لن نمسكن بسوء ... يا نساء المخيم
...
* ما هذا الكلام ؟ سأل أبو عبد الله جاره مستغرباً ، نغمة جديدة هذه ؟ ما رأيك يا أم عبد الله ؟
* ما رأيي، تسألني ما رأيي ؟ أنا لن أغادر المخيم إلا وأنا جثة هامدة ، وهل يعتقد هؤلاء الأوغاد أن رجالنا وشبابنا هم فقط الذين يحاربون ؟ لا والله ، لا والله ، قم يا أبا محمد ، قم خذني إلى القيادة ، أنا سأقوم بتفجير نفسي في هؤلاء الأوغاد ، هم سمحوا لنا بالخروج ، هكذا لن يشكّوا بالأمر ، وسأنجح في تفجير نفسي ، قم بنا ، قم بنا . *اهدئي ، اهدئي يا أم عبد الله ، إن قيادة المقاومة لن تسمح لك بهذا ، اهدئي سأغادر الآن ، وسنبقى على اتصال ، قال أبو محمد مودعاً.
ما أن غادر أبو محمد البيت ، حتى شعر الجميع أن هذه الليلة لن تمر على خير ، وفعلاً لم يمض وقت قصير ، حتى بدأ دوي الرصاص والقذائف يسمع في كل أنحاء المخيم . *اللهم الْطُف ... اللهم الطُف ... وشاح ، أين أنت ؟ أين أنت ؟ نادت الأم ابنها كي يأتي إليها ، تعال يا بني ، بارك الله فيك ، لقد قمت بعمل بطولي اليوم ، أنا فخورة بك دوي انفجار آخر ، وإذا بباب الباب يُقرع بشدة ، والعائلة كلها تنظر إلى الباب دون أن يتجرأ أحد على القيام لفتحه . قام أبو عبد الله ليفتح الباب ، وهو يدرك أنهم جنود الاحتلال جاءوا ليأخذوا ابنه بعد أن انتشر خبر حادث الدبابة . وهذا بالفعل ما حصل ، دخل الجنود إلى البيت وسألوا عن "وشاح"، وقف البطل وشاح ابن العشر سنوات أمام الجنود معتزاً بفعله ، وقال لهم:" أنا وشاح" أنت هو إذا ً ، تعال معنا ...
أخذوه مع أبيه وأخيه عبد الله الذي لم تنفع توسلات الأب في تركه وانطلقوا بهم إلى الساحة العامة ، عندها هرعت الأم إلى النافذة كي ترى أين يأخذونهم فقام قناص برميها برصاصة سريعة لم تمهلها حتى تلقي النظرة الأخيرة على عائلتها.
في ذلك الوقت اقتاد الجنود أفراد العائلة إلى وسط الشارع ، أوقفوا "وشاح" في منتصف الطريق ، أمسك به قائدهم وصفعه صفعة قوية : من تظن نفسك حتى تتحدانـا ؟ -اقتلوه ...
لم يكد القائد ينهي كلامه حتى كان "وشاح" يتخبط بدمه أرضاً أمام أعيُن أبيه وأخيه اللذين لم يسمح لهما الجنود باستيعاب ما يجري إذ سرعان ما أجبروهما على خلع ملابسهما باستثناء الداخلية منها ، ثم قاموا بختم أجسامهما كما تختم الغنم التي تساق للذبح ، بعد ذلك نقلوهما إلى غرفة في أحد المباني مليئة بالزجاج المكسور وألقوهما فيها بعد أن أوثقوا أيديهما بقسوة. لم يدر أبو عبد الله وابنه كم بقيا على هذه الحال ، ساعة ؟ ساعتين ؟ ثلاث ؟ بعد ذلك دخل الجنود إلى الغرفة واقتادوا أبا عبد الله وابنه إلى غرفة أخرى من المبنى نفسه، وأوقفوهما ... كُلٌّ أمام نافذة ووضع جنديان بنادقهما على كتفيهما وشرعا بإطلاق النار.
استمر الجنود في إطلاق النار وأبو عبد الله مستمر في توسله لهم بإطلاق سراح ابنه وأخذه هو فقط ، ولكنهم لم يوافقوا على طلبه إلا بعد فترة من الزمن ، بعد أن فقد حاسة السمع في أذنه اليمنى من جهة ، وبعد أن انتهوا من مهمتهم التي كانوا يحتاجون فيها إلى دروع بشرية يختبئون وراءها ، عندئذ اقتادوا "أبا عبد الله" إلى معسكر "سالم" الاعتقالي ، لاستكمال تعذيبه ، وأطلقوا سراح عبد الله . عندما خرج عبد الله إلى الشارع كان أزيز الرصاص يتفاعل في أذنه ، وكلما ركض كلما ازداد الصوت قوة ، إلا أن عبد الله لم يتوقف عن الركض لخوفه أن يقع في الأسر مجدداً، أو تقتنصه رصاصة طائشة من هنا وهناك ، لذلك ظل يركض إلى أن وصل إلى الحي الذي يقطن فيه .

لم يصدق عبد الله عند الوهلة الأولى أن الأرض التي يقف عليها هي أرض مخيم جنين ، لا يمكن ، فالأرض التي عهدها أزقتها ضيقة ، والبيوت داخلها متراصة ، أما هذه فالطرقات فيها واسعة ، وهي محاطة على جانبيها بتلال من الحجارة والردم ... ولكن ، لا يمكن أن أتيه عن بيتي وحيّي ، هنا بيت أبو أحمد ، وهنا المدرسة الابتدائية التي درست بها ، ما الذي يحصل ؟ لا ، لا يمكن ، هل يمكن أن يكون الأمر قد تم بهذه السرعة ؟ بقي عبد الله واقفاً مكانه فترة من الزمن إلى أن سمع صوتاً من خلفه يقول له : الحمد لله على سلامتك يا عبد الله . التفت فوجد أمامه رفيقه "أحمد" وهو يجره بيده ليحميه من أعين القناصة المنتشرين في المكان ويقول له: لا تستغرب ، لقد قامت الجرافات بجرف المنازل على من فيها من السكان، آخ، لو رأيت الناس كيف كانوا يخرجون من المنازل وكأنهم صرعى ، "وكأنه يوم القيامة"، يحملون أطفالهم على أكفهم ويصرخون فزعاً بينما سائق الجرافة مستمر في عمله وكأنه لا يرى البشر الذين يركضون ويتعثرون بالركام . المهم ، لا وقت لديك ، أسرع ، يجب أن تخرج أهلك من المنزل قبل أن يصيبهم ما أصاب غيرهم . انتبه عبد الله فجأة ، وركض بكل قواه إلى البيت وهو ينادي : أمي ، جدي ، جدتي ، وعندما فتح الباب ، وجد جدّه وجدّته جالسين على الأرض يبكيان وأمامهما وجد جثة أمه مسجاة على الأرض ، وعلى حضنها ينام ابنها أيمن . *ما هذا ؟ ماذا حدث ؟ أمي ، أمي
* عبد الله ، الحمد الله الذي جئت يا بني ، قالت الجدة وهي تبكي وتتنهد وتخبره كيف أصاب القناص أمه بعد خروجهم مباشرة ، ثم طلبت منه أن ينتزع أخاه من أحضانها ، فهو على هذه الحال منذ ذلك الوقت ، وهو لم يرض أن يأكل أو يشرب.
أحس عبد الله عندئذ بالمسؤولية، فهو أمام جثة بدأت رائحتها تفوح، وجده وجدته عجوزان كبيران يجب أن يخرجهما، ماذا يفعل ؟
* أيمن ، حبيبي اشرب ، اشرب جرعة ماء .
* لا ، لن أشرب ، لن أشرب إلا من أمي ، أمي ، افتحي عينيك ، اسقيني يا أمي، أريد أن أشرب ، أمي ، أمي ... شعر عبد الله بالاضطراب ، ماذا يفعل ؟ كيف يخرجهم من هنا ؟ لقد بدأ صوت الجرافات يقترب .. طلب من جده مساعدته ، ولكن جده لم يسمعه ، وبقي يقول : الأرض ... الأرض؟ يا الله ... ماذ أفعل ؟ أفضل شيء أحمل أخي أيمن أضعه في مكان آمن ثم أطلب مساعدة كي أنقل العجوزين . حمل أخاه الذي كان لا زال يصرخ ينادي أمه ، وخرج من البيت مسرعاً على أن يعود لاتمام ما بدأ به ، إلا أن ما حصل هو أن عبد الله لم يستطع العودة، لم يتمكن من الوصول مجدداً إلى البيت الذي كانت الجرافات أسرع منه في الوصول إليه ، فقامت بمهمتها ودمرت البيت على من فيه ... ولما عاد عبد الله بعد أن سمح لهم العدو بالدخول ، وقف على حطام منزله وسمع من وراءه صوت جده الذي كان يربت على كتفيه ويقول له: الأرض ... الأرض.
 

د.نهى قاطرجي
  • مـقـالات عامة
  • مـقـالات نسائية
  • مـقـالات موسمية
  • مـقـالات الأمة
  • المكتبة
  • القصة
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط