اطبع هذه الصفحة


قصة قالب الحلوى

د. نهى عدنان قاطرجي

 
يعدّ الكتاب المدرسي هو المكون الأول لثقافة الطفل، ومن خلاله ينطبع في ذهنه العديد من المفاهيم والقيم والاتجاهات المطروحة التي لا يمتلك القدرة على تحليلها أو نقدها، وإنما تقدم له على إنها أفكار يقينية يجب تصديقها والإيمان بها.
لهذا ولأهمية الكتاب في تكوين ثقافة الشعوب يتردد في كثير من الأوساط السياسية والثقافية الحديث عن ضرورة تغيير مناهج التدريس في كثير من الدول العربية والإسلامية من أجل أعادة تكوين ثقافة جديدة تتناسب مع تطلعات العالم الجديد القائمة على نبذ العنف وتشجيع الحريات وحماية حقوق المرأة وغير ذلك من الأمور التي تحفز وتشجع عليها ثقافة العولمة .
لقد كان من نتائج هذه الدعوات المغرضة أن قامت العديد من الدول العربية بتعديل برامجها كي تتناسب مع الثقافة الجديدة، كما تعمل دول أخرى الآن على إعادة النظر في مناهجها الدراسية حتى تلحق بركب التطور المزعوم وخاصة في مجال نبذ العنف والدعوة إلى السلام، ويذكر في هذا المجال ما أعلنته وزارة التربية في الأردن عن عزمها استخدام كتب مدرسية جديدة من شأنها تشجيع الطلبة على التمييز بين المقاومة المشروعة للاحتلال الخارجي وأعمال الإرهاب، إضافة إلى ما كشفته مصادر إسلامية للجزيرة نت أن الإسلاميين في الكويت اكتشفوا بعد مرور نحو شهر على العام الدراسي الحالي "أنه جرى حذف عدد من الموضوعات التي تتعلق بالجهاد والشجاعة والتربية الحربية من منهج اللغة العربية للسنة الرابعة الثانوية (الثانوية العامة)" .
إن الحديث عن إلغاء ثقافة الجهاد ليست الوحيدة التي يهدف إليها من وراء تغيير مناهج التدريس بل هناك أيضاً دعوات أخرى إلى تعديل النصوص اللغوية القديمة القائمة على تحقير دور المرأة وحصره في الأعمال المنزلية وبث النصوص الجديدة القائمة على المساوة بين المرأة والرجل .

ومن الأمور التي يعترض عليها دعاة التجديد في المناهج التربوية القديمة الأمور التالية :
"- الخطاب اللغوي للرجال وليس هناك أي مخاطبة للنساء فيها (اللغة الجنسوية) .
- ترسم الأدوار الرجولية التي تعطي الفتيان شعوراً بالتفوق بينما ترسم الأدوار الأنثوية التي تعطي الفتيات صورة سلبية عن أنفسهن.
- تُوجِّه الفتيات نحو مهن معينة مثل التربية الفنية والأشغال اليدوية، بينما يُوجِّه الفتيان نحو مهن أخرى مثل المهن الهندسية والميكانيكية ...
- يُوجِّه الفتيان نحو ممارسة بعض الألعاب الرياضية، في حين توجه الفتيات نحو ألعاب أخرى .
- تبرز صورة المرأة كأم وربة بيت في حين تبرز صورة الرجل كصاحب مهنة وسياسي ومسؤول".

أما كتب المناهج الجديدة التي يدعى إلى تأليفها فينبغي أن تركز على النظرة الجديدة للمرأة القائمة على أهمية إدماج مفهوم النوع الإجتماعي(الجندر) في الكتب المدرسية، وجاءت في هذا المجال توصيات المركز التربوي اللبناني إلى جميع المؤلفين من أجل الانتباه إلى هذه النقطة عند كتابتهم للنصوص، ومن الأمور التي شددوا عليها ما يلي :
"
أ- على الكتب المدرسية أن تظهر مشاعر التعاطف والتقدير ذاته نحو المتزوجات واللواتي لا يعملن خارج المنزل. لأن للمرأة دورها الفاعل إلى جانب الرجل في تكوين الأسرة الصالحة وبناء المجتمع، ويجب بالتالي تعزيز الفكرة القائلة بأهمية عمل المرأة في توفير الحياة اللائقة للعائلة .
ب- ينبغي الحرص على المساواة بين الصبيان والبنات في حق اختيار الألعاب ومواد الدراسة، وعليه يتم تشجيع البنات على الاهتمام بالرياضيات وعلم الميكانيك والرياضة بمختلف أنواعها، كما لا ينبغي أن يخجل الصبيان أبداً من الاهتمام بالفنون والآداب وأعمال المنزل واقتصادياته والعناية بالأطفال .
ج- ينبغي إظهار أن لدى المرأة القدرات والطموحات ذاتها لدى الرجل، فالصفات التي تقدّر عادة لدى الذكور كالجرأة وروح المبادرة والحاجة إلى إثبات الذات ينبغي أن تقدّر أيضاً لدى الإناث، كذلك من المفروض أن تقدر لدى الصبي صفات اللطف والوداعة والشفقة ورقة الإحساس .
د- ينبغي أن تصور النساء والفتيات، على غرار الرجال والصبيان، بأنهن نشيطات، شجاعات، عازمات، مثابرات، جدّيات ومكلّلات بالنجاح. ففي وسعهن أن يكن منطقيات، عازمات على حل أي مشكلة ومعالجة الأمور بالمنطق والقدرة على النجاح .
هـ- علينا، قدر الإمكان، أن نستعمل "هو" وهي بصورة تناوبية، كأن يقال "هي وزوجها" بقدر ما يقال "هو وزوجته" أو "نساء ورجال" .
و- عند الإشارة إلى مظاهر الحياة اليومية، يمكن اختيار أمثلة حيادية (لا مذكر ولا مؤنث) مثل: عند تنظيف الأسنان بالفرشاة كل صباح، بدلاً من أثناء الحلاقة" .
ومن نماذج القصص التي تتحدث عن ثقافة المساواة بين المرأة والرجل هذه قصة لصاحبتها "ديزي الأمير" تحت عنوان
" قالب الحلوى" والتي تدرس في بعض مدارس لبنان، ويمكن من خلال هذه القصة استنباط أهداف مهمة يسعى إلى غرزها في نفوس الأطفال، فلنستعرض القصة أولاً ثم يتم التعليق عليها لاحقاً
 

قالب الحلوى
قال:أسكتي الطفل، بكاؤه صدّع رأسي .
قالت:إنتظر حتى ينتهي قالب الحلوى الذي أعدّه له .
قال:إضربيه، اسكتيه بأية طريقة ، فأنا متعب .
قالت: وهو كذلك متعب، لأن امنيته البسيطة طال انتظاره لها.
قال: أنت تربّين طفلنا على تلبية كل طلباته ، وعلى حساب أعصابنا ...
قالت: وعلى حساب أعصابه ...
يقاطعها: وماذا يفهم هذا الصغير من تعب الأعصاب ؟
قالت: إنه يفهم أكثر منك ومني.
قال:سأبكي إذن وأصرخ لتتأكدي أنني متعب .
قالت: لن تبكي ولن تصرخ لأن المفاهيم والأعراف تمنعك من ذلك .
قال: ما لهذا الحصار الذي تضربينه حولي ؟
قالت: لست أنا من يضرب الحصار حولك، ... كونك رجلاً ...
قال: ألم ينته قالب الحلوى ؟
قالت:سينتهي...
قال: ويسكت الطفل فترة، ثم يدقّ الأرض بقدميه طالباً شيئاً آخر، وتخافين من نوبة صراخ جديدة فتلبّين .
قاطعته: ليس الخوف منه، بل خوفي من تضييع حقّه، فالأطفال وحدهم لهم الحق في الاعتراض إذا أحسّوا بالظلم .
قال: ونحن الكبار، ماذا نفعل إذا أحسسنا بالظلم ؟
قالت:نسكت، نصمت، نخنق رغباتنا، او نشتكي إلى القضاء .
صرخ :أرجوك، أرجوك إنه قالب حلوى .
قالت: يجب أن أنهيه وأقدمّه إلى طفلنا ليسعد .
قال: وانا كيف أسعد ؟
قالت:لن تسعد ما دمت إنساناً لك رغباتك التي لا يعترف أحد بحقك فيها .
قال:أكاد أجن، أكاد أختنق، لا تواجهيني بهذه الحقائق .
قالت: من ظلمك اليوم ؟
قال: كيف عرفت أني ظلمت ؟ كيف ؟
قالت:المظلوم يصب غضبه على اول ضعيف يصادفه .
قال: لقد حذفوا اسمي من الوفد.
قالت: حذفوه؟ والبحث الذي أمضيت الليالي الطويلة في إعداده؟
قال: سيلقيه رئيس الوفد الجديد باعتباره كاتبه .
قالت: هذا ظلم! هذه قسوة، هذه إساءة .
قال:إجلبي قالب الحلوى، وقدِّميه بسرعة إلى طفلنا .
قالت: طفلنا نام على دموعه منتظراً، وقالب الحلوى احترق منسياً في الفرن قال: غضبي أحرق قالب الحلوى وأنزل بطفلنا الظلم المرّ .
قالت: الظلم الذي وقع عليك فجّر غضبك. لم لم تقل ذلك وأنا اناقشك في أمور بسيطة؟ إهدأ الآن ولنفكّر في النسيان .
قال:كيف أنسى ؟ كيف أنسى الحيف الذي لحقني ؟
قالت:إذا لم تحاول نسيانه انفجر غضبك أكثر ، ووقع حريق أكبر ..
قال: نعم، كل قوالب الحلوى معرّضة للاحتراق .
ديزي الأمير
عن " على لائحة الانتظار " بتصرف

التعليق
أمور عديدة يمكن استباطها من هذه القصة، وهي لا تقتصر فقط على المساواة بين المرأة والرجل بل ان هناك نقاط عديدة أخرى ، منها :
- التنبيه إلى حقوق الطفل التي ذكرتها كثير من وثائق واتفاقيات الأمم المتحدة، ومنها حقه في الرعاية والاهتمام، وحقه في عدم التعرض للعنف الجسدي المتمثل في هذه القصة بضرب الطفل من أجل إسكاته، أو العنف المعنوي في زجره ولو بالكلام، بل ترك الحرية المطلقة له في التعبير عن رأيه على اعتبار أنه كائن معنوي له من الحقوق مثله مثل أي إنسان آخر، وقد تمثلت هذه الحقوق في هذه القصة بقالب الحلوى.
- التنبيه إلى حقوق الإنسان المهدورة في المجتمعات الإنسانية والتي تصيب كل من المرأة والرجل بالظلم مما يؤدي إلى كبت المشاعر والشعور بالحزن والتعاسة وتفريغ الظلم باتجاه عنصر بريء وهو في الغالب المرأة و الطفل .
- إبراز شخصية المرأة القوية المثقفة المتساوية للرجل في الحقوق، فهي ترفض الخضوع لأوامر زوجها بل تناقشه وتبرز رأيها بشجاعة وبثبات، بل وتتفوق عليه ذكاء وضبطاً للسلوك وذلك باكتشافها سبب غضب زوجها الأساسي واحتوائها لهذا الغضب إلى أن تتمكن في النهاية من التغلب عليه والحصول على تعاطفه وتبني موقفها .
- الهجوم على بعض الأعراف والتقاليد التي تربي كل من الرجل والمرأة تربية خاطئة فالمرأة هي الضعيفة والتي تبكي بينما الرجل هو الشجاع ، لذلك دائماً ما يقال للصبي عندما يبكي " الرجال لا يبكي"، ولهذا كثيراً ما تقدر عادة صفات الجرأة وروح المبادرة والحاجة إلى إثبات الذات عند الذكور وتفرض على الصبي صفات اللطف والوداعة والشفقة ورقة الإحساس.

أخيراً، ما ورد في هذه المقال هو محاولة لقراءة نقدية لجانب واحد من جوانب الثقافة الجديدة التي تغرس في نفوس أطفالنا، إلا أن هنالك جوانب أخرى عديدة ينبغي الاننتباه إليها منها ما يتعلق بتزوير حقائق التاريخ والجغرافيا أو ما يتعلق بالاعتداء وتشويه اللغة ... وغير ذلك كثير.

 

د.نهى قاطرجي
  • مـقـالات عامة
  • مـقـالات نسائية
  • مـقـالات موسمية
  • مـقـالات الأمة
  • المكتبة
  • القصة
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط