اطبع هذه الصفحة


أية لغة عربية نريد ؟؟

د. نهى عدنان قاطرجي

 
بسم الله الرحمن الرحيم


كنت في ذات يوم أمارس هوايتي المفضلة، وهي التنقل بين قنوات التلفاز، حين وقع نظري وسمعي على نقل لأحداث مؤتمر " تحديات اللغة العربية" الذي عقدته "جمعية فعل أمر" في احد فنادق بيروت. و مما استوقفني وجعلني أتابع الموضوع بشغف تصريح السيدة "سوزان تلحوق" رئيسة الجمعية، بأن ما استفزها وشجعها على تأسيس الجمعية في العام 2008م.، هو هجر الشباب اللبناني للغة العربية الأم وجهلهم بقواعدها، واستبدالهم لحروفها بحروف اللغة الأجنبية ،وخاصة الانجليزية منها.

وروت تلحوق حادثة حصلت في احدى المدارس عندما جاءت إحدى الأمهات إلى المعلمة لتشكو لها عجز ابنها عن فهم اللغة العربية، وطلبت منها بأن تقوم بترجمة الكلام الذي لا يفهمه ابنها إلى اللغة الانجليزية .

إن سماع خبر تأسيس الجمعية أفرحني في البداية، كما يفرح كل مسلم يدرك تماما أهمية هذه اللغة التي تمثل اللغة الأم لاكثر من 300 مليون عربي، واكثر من مليار مليون مسلم. ولا عجب من ذلك فهي أولاً وأخيراً لغة القرآن الكريم، وأن تعلّمها وإتقانها ومعرفة قواعدها وأسرارها واجب شرعي على كل مسلم يؤمن بالله عز وجل، ويسعى إلى اتباع أحكام دينه وشريعته التي ذكرها الله عز وجل في القرآن الكريم، وبيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة النبوية الشريفة، وفصّل مبهمها علماء الأمة، على مدى ما يزيد عن ألف واربعمئة سنة .

ولكن " يا فرحة ما تمت" كما يقول المثل، إذ إنني بعد ان اعجبت بالموضوع وقررت الكتابة حوله، فوجئت بالأحداث التي جرت في المؤتمر المذكور أعلاه، والتي دفعت ببعض الحضور إلى إبداء الاحتجاج العلني على ما يجري، فكان مما قالته إحدى الحاضرات : "هل هذا هو التطبيق العملي لمبادىء جمعيتكم والتي تهدف إلى بناء مجتمع عربيّ فاعل مع الحفاظ على الثقافة واللغة والأدب"؟ وقالت أخرى: "أبدًا أبدًا لا يمكن أن يحدث ذلك، هذا تدميرٌ للغة العربية".
اما الأسباب التي دفعت هؤلاء إلى التعبير عن مواقفهم الرافضة لهذا المؤتمر، فيعود إلى الكلمات التي ألقيت في المؤتمر والتي جاءت لتعبر عن نقيض الشعار المرفوع وهو "التحديات التي تواجه اللغة العربية". ومن الملاحظات التي يمكن إيرادها حول هذه الكلمات ما يلي :

1- اعتبار إحدى المحاضرات بأن اللغة العربية هي رموز مهزومة كحال أهلها في العالم العربي، وقالت أيضاً : إنّ "تلك الهزيمة مردّها إلى النظرة المثالية والمقدّسة للغة العربية، والمثالي ميّت أو أعمى، لذا يجب كسر هذه المثالية، وأترك لكم مسؤولية التصرّف في هذا الأمر" .
إن هذا التصرف البديهي الذي يمكن ان يفهم من كلام المحاضرة هو الدعوة إلى كسر الرابط بين الدين واللغة ، الذي تعتبره سبباً في تراجع اللغة العربية وهزيمتها .

2- الدعوة الصريحة إلى القضاء على اللغة العربية الفصحى، وذلك عبر استخدام طريقين اساسيين ذكرهما احد المحاضرين عندما دعا إلى إلغاء تدريس قواعد اللغة العربية من جهة، وإلى توحيد اللهجات العامية بلهجة واحدة من جهة اخرى . ومما يؤكد على تبني هذا المنحى الشعارات العامية المرفوعة من قبل الجمعية، مثل شعار "بحكيك من الشرق betred min el gharb" ، وشعار "احكيني يا حبيبي بالعربي" ، وهو الشعار الذي رفعته الجمعية من اجل تشجيع الشباب على الحديث باللغة العربية. وشعار "ما تحكيني بهاللغة عم ركّ (ركّز) عالعربي" ، الذي استخدمته الجمعية كاسم لمجموعة اسست على موقع الفايسبوك وكان لها أثر كبير في حث كثير من الشباب على التغيير والتحول إلى الكتابة باللغة العربية اثناء المحادثة فيما بينهم .

3- رفض الصريح والواضح لأحد المحاضرين لربط اللغة العربية بجذورها التاريخية التي تعود إلى الجزيرة العربية واليمن، فاللغة العربية التي يتكلمها اليوم، حسب زعمه، هي ليست لغة العرب أو ما أسماه بـ (اللغة الجاهلية) التي نطقت بها القبائل التي عاشت في (العربة) أي الصحراء. بل إن اللغة العربية اليوم هي "لغة جديدة تحتوي على مخزون ثقافي هائل لقبائل هذه المنطقة مع الانفتاح على المحيط".

إن هذا المنطلق دفع بالمحاضر ، وهو السيد" محمد أيوب" رئيس جمعية " نحن" الداعمة للمؤتمر ( والمدعومة من قبل " الوكالة الأميركية للتنمية الدولية ) إلى القول بأن الهجرة من الجزيرة العربية الى بلاد الشام غير دقيقة، بل هي معكوسة حسب زعمه .

وقال المحاضر نفسه ايضا : ان هناك مصطلحات في اللغة العربية الحالية لم تكن معروفة سابقا، مثل كلمات العنب والفلاح والمزارع ، فكلها بزعمه كلمات آرامية دخلت الى اللغة الجاهلية عبر الاحتكاك والهجرات والتجارة، فلا عنب ولا زراعة في الصحراء . وقد نسي هذا المحاضر أن هذه الكلمات وردت في القرآن الكريم، الذي نزل بدوره على اهل الصحراء كما يصفهم، ومن الآيات التي ورد فيها ذكر العنب قوله تعالى : [ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا* وَعِنَبًا وَقَضْبًا ] ( عبس 24-28).. ...

إن قراءة متأنية لأهداف هذه المؤتمرات التي تحمل اسماء براقة يمكن ان تخدع الانسان، وتبيّن الأهداف الخفية للقائمين عليها، والتي لا تختلف كثيرا عن أهداف الداعين إلى الكتابة بالحرف اللاتيني، ولا أولئك الذين يخلطون كلمة عربية بأخرى انجليزية وثالثة فرنسية . بل إن كل هؤلاء يعملون ، بنية معلومة أو مجهولة، على هدم الدين وابعاد المسلم عن لغته الأصلية، واستبدال لغة القرآن الكريم باللغة المحكية والمحلية. وبذلك يصبح كل من يتقن اللغة العربية الفصحى إنسانا إرهابيا متشددا، كما ادعى أحد المحاضرين في المؤتمر المذكور عندما ختم كلامه بالقول :" أين نحن من هذا كله؟ وأي لغة نريد وأي ثقافة وأي أحساس وأية هوية وأي مصطلحات سنتسابق على ايجادها؟ أنريد ثقافة السيف والعار والشرف، ام ثقافة السؤال والعلم والفلسفة " .

 

د.نهى قاطرجي
  • مـقـالات عامة
  • مـقـالات نسائية
  • مـقـالات موسمية
  • مـقـالات الأمة
  • المكتبة
  • القصة
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط