اطبع هذه الصفحة


القاتلة

نور الجندلي

 
وحدَها تسمعه ، يئِنُّ مثل ثورٍ جريح ، ها قد عاد أخيراً وقد تعبت عقارب السّاعة من انتظاره ، مازالت تنصت إلى وقع خطواته ، وارتطام نعله بقسوة على الأرض ، تلاحق أنفاسه ، تترقبُ سكناته ..
أغلقَ باب غرفته على نفسه .
لا بدّ وأنّه سيتجرّعه الآن ..
ياللغبـاء !! كيف انقاد إلى هذا السّمّ وقد كان راجح العقل ذكياً ؟ كيف استعبده ؟ وهو القويّ الشامخ الذي لم يذل يوماً لأحد ! أيكون بهذه الهشاشة ؟

تودّعُ الفراش بجفاء ، تسير على أطراف أصابعها إليه .
نورٌ ضئيلٌ يلوحُ من غرفته .
ترتدي شجاعتها لتواجهه ، تحرّكُ مقبض الباب بشكلٍ مباغت
لقد أقفله بالمفتاح !
تراودها كوابيس اليقظة ، تتنفّس الألم ، وهو .. مازال يتنشّقُ الموتَ الأبيض دون وعي ..
تبكي بصمت ، تلملمُ أجنحتها المكسورة من أمام بابه ، وتعود لتستدعي النّعاس بأسى لعلها تنسى..
ها هو النوم يمارس غطرسته الآن .. فقد رفضت عرضه آنفاً ، وقد آن أوان الانتقام .
ليلةٌ كئيبة ، تنتظرُ الفجر بأجفانٍ لا ترفّ .
عيناها تدورُ في أنحاء الغرفة برعب ، تارة تلتقيان بالباب المغلق ، تتوجّسان حضوره المباغت ، ثمّ تعودان إلى باب الخزانة ، تطمئن أنّ مفتاحه مازال تحت وسادتها ، تتحسسه كل دقيقة ، بقايا الإرث ، صورة والديّ ، طوق أمّي الذهبي .. قد أفقدها جميعاً في لحظة ، قد يبيعها ، ثم يبيعني معها بثمن بخسٍ كي يشتري سُمّه .
- لم يبقَ لديّ شيءٌ ليأخذه ! النّقود ، الذّهب ، مصروفي الخاص !
أفلستُ من كلّ شيء .. قبل أن يُفلِسني من كرامتي .
بيتنا الوادعُ بات عشّاً لأشباح الموت ، هاهي تقهقه في كل ناحية ، وتتعالى أصواتها المظلمة لتأكل ما تبقّى في قلبي من أمل ..
سيهلكُ حتماً إن استمرّ على حاله ، وسأهلك جزعاً ..
تباغتها الأحلام آملة بشفاء ..
- ترى .. هل يشفى إن عالجته ؟ هل تعود له بسمته ، حيويته وإشراقة وجهه ؟
تثور على الحلم ..
- ومن يشفي جراحي أنا ؟! ومن يعيد لي مستقبلي الذي وهبته له ؟ تركت دراستي لأعتني به ، تخلّيت عن وظيفتي لأقنعه بأننا الآن فقراء ، بلا مرتب ، ولأواري فضيحة قد تنتشر في أية لحظة .. أخي مدمن !
سأعترف لحظتها بأنني أعطيته كل مرتبي ، ليصبّ في جيبه المثقوب .
تجهش بكاءً ..
- لكنّه أخي بدر ! وصيّة أمّي وأبي .. كيف أساعده ؟ وأنا أتواطؤ معه ، أعطيه ما يريد ، لكيلا يتألم ، وألقي به إلى نار السموم !
لا أحتملُ أنينه ، أكرهُ ذلّه ، أمقت رؤيته وهو يتوسّل إليّ ، يعدني وعوداً كاذبة ، وأكّب نفسي وأصدّقه .. قلبي لا يملكُ إلا أن يفعل ! وعقلي يدور في دوامة الندم ..
- لجين .. أرجوكِ ، ستكون المرّة الأخيرة التي أطلب بها مالاً .. أعدكِ سأتوقف عن تناول هذا الـ..
سأتوقّف ، لجين .. إني أتعذّب ...
تمسح دمعة ساخنة ..
- أحنُّ عليه ، فهو أخي ، صديقي ، ولدي .. أشاركه الأكذوبة ، أغرق معه في الأوحال .. أتغاضى عن سرقاته .. لا بأس .. فليسرقني مادام لا يؤذي غيري .. سأصبرُ حتى يعود إلى رشده .
تسافرُ في الذاكرة ..
- أذكر أن آخر مرّة عاندتهُ بها ورفضت أن أعطيه مالاً ، تحوّل فيها إلى وحشٍ بشريّ ، حطّم أثاث البيت ، وكسر مرآة الصّالة بكلتا يديه .
قضيتُ الليل أعالجُ نزفه ، عاد بعدها كطفلٍ صغير يبكي مأساته ، يناديني بحرقة ، ساعديني .. لا أريد أن أبقى بصورة الوحش ..
تألمت لأجله .. احترقتُ ، ذبت كمداً ، لكنني لم أستطع احتضانه ..
عالجت بدمعي نزفه ، ولم يتسنّ لي الوقت لأفكر كيف أعالج نزف ضميري الشاكي .
يطلع الفجرُ أخيراً ..
تتنفّسه بعمق ..
- حمداً لله ، لم يفتح باب غرفته .. لم يأتِ إليّ كعادته ليطلب قوته ..
يبدو أن الجرعة هذه الليلة ثقيلة ..
ربّـــــاه ..
تستجمع جرأتها ، وبقايا قوة ، وحطام قلب ، تضغط أزرار الهاتف بأصابع ترتعش ..
- مركز مكافحة المخدّرات ؟ من فضلك .. أودّ التبليغ عن نفسي ...
لقد تواطأتُ مع أخي في قتله ..
أرجوكم أسرعوا في القبض عليّ ، حرّروني من عذابي ، أطلقوني من ألمي حالاً ، ولا تنسوا أن تطلقوه .
 

نُورٌ ومِسك
  • مـقـالات
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط