اطبع هذه الصفحة


شَيْمَاء ( قصّة )

نور الجندلي

 
بيتٌ تتصدّع جدرانه ، قلبهُ يتوقّف ! قذيفةٌ تحيلهُ أطلالاً ، تحطّم بقايا الذكريات ، وتخنقُ بسماتٍ شاحبة سكنت ، واستحالت بعدها إلى قهقهة أشباح ..
حلمٌ يغادرُ مسرعاً ، فقد أعلنت حالةُ الطّوارئ فجأة !!
غادرت نساءُ الفلّوجة على عجل .. وبقيت شيماء ...
الّليلُ يطوفُ بوشاحِ الحزن ، يعدُّ الضّحايا ، من الطّرفين ، ويبتسمُ بسخرية مرّة .. وتكبّر النجمات ..
- كُنَّا الأقوى .. كما خمّنّا !
تنتزعُ قلبها الباكي من تحت الرّكام ، وتسير على أنقاض النّصر الحزين ، لتبحث في برد العالم عن ملجأ ، قطعة خبزٍ ، حفنة جمر ، ويدٌ تكفكفُ دمعها .
ليلُ النّكباتِ طويلٌ ، يفزعها فيه عِواءُ الذّئابِ البربريّة ، تتخفّى في هيئة شبحٍ ذكوريّ ، لتحمي أنوثتها من لسعات عقارب المدن ، أومن نظرات خفافيشها المتعطّشة إلى دماء .
تقطعُ مع الليل مسافاتٍ طويلة ، تقتاتُ الهمّ كلما لمحت خيال طيرٍ ، أو سمعت مواء هرّة .
كم كانت تطربُ لصوتها في ذلك البيت الذي .... كان لها ..
قطعُ الجبنِ اعتادت أن تسكن طيّات ملابسها ، وقطط الحي ألفن صحبتها ..
أمّا الآن فإنّها أحوجُ من هرّة إلى كسرة خبزٍ جافّة ، تذكرها بأنّها مازالت من الأحياء .
هاربة من جحيمِ الموتِ ، ومن جنون البشر ..
شلّال الدّماء أهداها منهُ رذاذاً ، فتنفّست رائحتهُ مع الفجر وقد وقفت تدعو أن تهتدي إلى مأوى ..
لمحت حيّة رقطاء تعود إلى جحرها .. لم تقوَ إلا على حسدٍ ..
- ليتني كنتُ حيّة لأختفي في وكري ، ليتني استطعتُ أن ألدغهم بكلّ ما بثّوا في داخلي من سمٍّ ، وبكلّ ما جرّعوني من أسى ..
ليتني ... ليتني !
تغرقُ في بكاءٍ مُرٍّ ، ثمّ تنصبُ عصا الترحال ، وتمضي ..
- لاسبيل لنجاة إلا بأن أغدو رجلاً ..سألقى حتفي إن عرفوا أنّي فتاة !
بقايا أسمال غدت ثيابك يا أبي ! ممزّقة لكنها تفي بالغرض .. وهذه الكوفيّة !
لكم وضعتها على كتفي وسرت في مسيرات تعاطف مع الفتاة الفلسطينية ..
والآن .. أنا وحدي هنا !! فمن يتعاطف معي ؟!
هاهي المدينة تلوح مع الفجر .. تبدو ميتةً بلا أضواءٍ ، بلا حياة ..
لقد نام الجميع وأعينهم مفتوحة ، على إثر زلزالٍ أمريكيّ الهويّة ..
حتّى التّسوّلُ قد غفى لحظة ، في أعينٍ بائسةٍ يئنُّ من وطأة جوعٍ وفاقة .
تناديها مئذنةٌ قريبة ، تبتسم أخيراً بمرارة !
تهرولُ مسرعةً إلى المسجد ، يحدّقُ بها بعضهم بنظراتٍ ملأى شكوكاً ..
- من أنتَ ؟ من أينَ أتيتَ ؟ ما اسمكَ ....... هيّا اعترف ! ما أهدافكَ ؟ سُنّيٌّ أم شيعيّ ..
لا تدخل قبل أن تبرز سلاحك !
وبصوتٍ ممزوجٍ بتراب الأسى يخفيه لثام ..
- اسمي عبد الله ، أتيتُ منَ الفلّوجة .. أخوكم سُنّيٌّ ، مسلم ! ولا أحملُ أيَّ هويّة ..
تتلاشى النّظرات المُتّهِمة ..
- أهلاً بالبطل ، تعالَ واسترح ، وتوضأ وصلِّ وخذ بعضَ الزّادِ ولا تُطلْ !
المعركةُ ستحتدمُ قريباً ، والمسجدُ لن يسلم من حقدٍ ، وما نراكَ إلا هارباً من بؤسٍ إلى بؤس ..
على السّجادة الطّاهرة تغفو أخيراً ، لتفزعها أصوات الرّصاص ..
تهبُّ مدافعةً ، بلا سلاح ! أخبروني ماذا أفعل ؟ كيف أعين ؟
بلهفةٍ تسأل ..
بلا سلاحٍ أنا .. بلا قلبٍ أصبحتُ فبمَ أقاوم ..
يعطيها مسدّساً وبضعُ طلقاتٍ ..
- اذهب إلى الجهة الشّرقية لدينا ما يكفي هنا من متطوعين ، هيا اذهب قاوم هناك ..
تركضُ مسرعةً ، تبتعد ، تقفُ برهةً لتلتقط أنفاس الدّخان ..
ينكشفُ لثامها عن فتاة حسناء ، وتجلس تستعيد ذكريات الحياة.. بمرارة !
لا تدري أنّ الصّياد يراقبُ .. يترصدها من خلف الشّجرة ..
يبحثُ عن غنيمة .. نسـاءٌ يريد ! فقط نساء !
التّجارةُ عنده مربحةٌ ، وجيوبهُ امتلأت دنساً ومرارةً تتقاطر من عيونُ الشّوارعِ السّوداءِ التي شهدتْ انتزاع العفّة بوحشية ، واختطاف المروءة بشراسة ..
جرائمُ ترتكبُ في وضح الحقيقة ، على مرأى من ملأ ماتت فيهم الرّوح ، بعد أن سادت الحرب فأحرقت كلّ مكان .
تُدركُ بلمحةِ عينٍ مغزاه ..
يقتربُ وفرحٌ آثمٌ يغمرهُ ..
- ما اسمكِ ؟
وبعزّة عربيّة :
- اسمي شيماء ..
- من أين أتيتِ ؟
- من الفلّوجة ..
- لا بدّ وأنكِ بلا مأوى .. تعالي .. سأضمّكِ إلى بعضِ الصديقات !
- لا حاجةَ لي بكَ فاغرب عن وجهي أيها النجس ..
بنتُ الفلّوجة ترفعُ سلاحاً ، تصوّبهُ ، بلا رحمة ! يبتسمُ ساخراً من اضطرابِ اليدين .. يسخر من جرح قد تفجّر ، من يدين قد خرجتا تواً من وضوء ، يحاول أن يقتل الطهر بلؤم أرعن .. ويدنس كرامة الجبين !
ويسري الغضب .. في كلّ ذرّات كيانها ..
فتطلقها إلى قلبه .. رصاصة ألم ، تحمّلها مرارة البداية ، وألم النّهاية ..
تهتف بفرح .. أخيراً انتصرت !

كانوا هناكَ ..
خلف الجدرانِ يراقبونَ ويسمعون .. جنودٌ أتوا من بقاع الأرض ليوحدوا أرضها ، وينشروا السلام .. بأسلحة فتّاكة !
ومذ وطئت أقدامهم طهر التراب وما تكحلت عيناها بأمن ، ولا توقف سيل الدموع !
لؤمهم صليبيّ ، حقدهم غاشم ، أحكامهم مستبدّة ..! رصاصهم طائش ، لا يعرف الرّحمة ، لا يسأل في الحدث ، لا يحقق فيه ، بريء من العدالة والنزاهة ، مغيّب عنه الضمير ..
سمعوا الطلقة فأسرعوا نحوها مسلّحين ، حاقدين ..
رأتهم .. فتوحّدت مع الهواء فطارت كورقة خريفيّة ..
واجهت نخلة شمّاء ..
كم تشبهها بالشّموخ ، والشّعرِ الغجريّ ، والجذور الطيّبة الحرّة التي تمتد في أرض العراق ، تنبض عروقها حباً .. تعشق - مثلها - نهري دجلة والفرات ....
احتمتْ بها وقالت : أنا شيماء ..
أغمضت عيناها تنادي .. الله أكبر .. الله أكبر .. أخيراً تحررت ..
وتنطلقُ قذيفة أمريكيّة محمومةٌ تحيلها والنّخلة إلى أشلاء .
 

نُورٌ ومِسك
  • مـقـالات
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط