اطبع هذه الصفحة


الشيخ رائد والجهاد المدني

د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
أ
كاديمية سعودية .. جامعة الملك فيصل الدمام

 
لا شك أنكم تابعتم ما تناقلته وكالات الأنباء العالمية من إطلاق سراح الشيخ رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية في فلسطين 48، بعد أن أمضى قرابة العامين ونصف في السجن .. ففي عام 2003م قام أكثر من ألف عنصر من قوات الأمن الصهيونية، وبإشراف مباشر من قيادة جهاز الأمن العام (الشاباك) ومدير عام شرطة إسرائيل باعتقاله أثناء ملازمته لوالده المحتضر في مستشفى الخضيرة، كما اعتقلت (13) قيادياً من قيادات ونشطاء الحركة ..
لن أتوقف عند استغلال هذا النظام لبر هذا الشيخ بأبيه، وهو العالم أنه مستهدف، ولكن أود أن أتحدّث عن كيانه ووجوده ونشاطه الذي استمده من انتمائه لدينه، ثم من عدالة قضيته، وبذله في سبيلهما كل غال ونفيس.

إن الأخلاق الإسلامية بالنسبة لهذا الشيخ الجليل كانت وما زالت جزءاً لا يتجزأ من ممارسته السياسية، فقد اعتبر أن أخلاق الفرد جزء لا يتجزأ من نجاح مشروعه، لذا وعندما وضع مشروع (المجتمع العصامي) اختار أن تكون إحدى مبادئه اختيار نخبة من أصحاب الخلق لحمله وتنفيذه، وفي الوقت نفسه أدرك القوة الكامنة في المؤسسات غير الحكومية والجمعيات الأهلية، فوجّه نشاطه لها عام 2001م، تاركاً خلفه عمله كرئيس لبلدية أم الفحم.
تجربته السابقة في القطاع العام مكنّته من الوقوف على هموم الناس اليومية، وعلى أشكال التمييز التي تمارسها سلطات الاحتلال على قومه، وكان طبيعياً وحاله هذه أن يستوعب الأنماط العنصرية لتفكير هذه المؤسسات الرسمية ... وطرق تفاديها ..

ولمن تابع نشاطه في خدمة القضية الفلسطينية والأقصى الشريف والشعب الفلسطيني المحتل، سيجده قد ترك مساحة فاصلة بينه وبين سلطات الاحتلال منعاً لأي شكل من أشكال الدمج أو (الأسرلة) للمواطن الفلسطيني، ولذا رفض المشاركة في انتخابات الكينست، وهو وإن لم ينكر اتهام سلطات الاحتلال له ولحركته بالعمل على إغاثة الشعب الفلسطيني- لا سيما أهالي الشهداء والأسرى وأصحاب البيوت المهدمة- ولم ينكر دفاعه عن الأقصى؛ فهو صاحب شعار (الأقصى في خطر)، إلا إن ادعاءها أنه متورط في قضية غسيل أموال، أو تقديمه الدعم المباشر للقيام بأعمال عسكرية، فاتهامات لم تتمكن السلطات - مع باعها الطويل في تلفيق التهم- من إلصاقها به .. لقد اعترفت رئيسة طاقم التحقيق في شرطة إسرائيل أنْ لا أدلة لديها حول تورّط الشيخ رائد وزملائه بما يُسمّى (دعم الإرهاب) !!
إن الحقيقة الكامنة خلف هذا العداء وذاك الاستهداف لشخصية الشيخ رائد لم يكن الأول من نوعه، ولا أعتقد أنه سيكون الأخير، فهذا الشيخ الذي يترأس مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية، عمل ومن معه على حماية وترميم المقدسات والأوقاف الإسلامية التي حوّلتها سلطات الاحتلال إلى حظائر وخمارات، كما نجح هو وزملاؤه في إعمار المصلّى المرواني داخل الحرم القدسي وفتْح بوابته، وفي إعمار الأقصى القديم وتنظيف ساحته وإضاءتها، وإحياء الدروس في المصاطب التاريخية، إضافة إلى ذلك ساهم في إنشاء صندوق طفل الأقصى الذي يهتم برعاية (16) ألف طفل فلسطيني.
لقد صاغت حركته الإسلامية ملحمة الجهاد المدني، وهو جهاد لا يقل فعالية وكفاءة عن الجهاد السياسي و العسكري، فمن خلاله عمل على بقاء الشعب الفلسطيني في أرضه، وثبّت وجوده وساعد على تزايد نموه، وليتحقق ذلك عمدت حركته إلى تأمين الحياة المعيشية وتحسينها، خاصة في ضوء الممارسات اليومية القمعية لسلطات الاحتلال التي تجتهد في تجويع ومحاصرة الشعب الفلسطيني، من خلال فرضها للضرائب والغرامات الباهظة، ورفعها المتعمد للأسعار، ومصادرتها للأراضي وهدمها للمنازل وحتى للمقدسات ..!!

إن مشروع (المجتمع العصامي)، يهدف إلى الإفلات بالشعب الفلسطيني من الحصار الصهيوني، ويعمل على تربية الناس على الاعتماد على الله أولاً.. ثم على أنفسهم ثانياً، ولذا فقد عمدت الحركة الإسلامية إلى إنشاء (هيئة الإغاثة العليا) لتتولى الإشراف على الشؤون الصحية والاقتصادية والمرافق العامة الفلسطينية.. لقد بين الشيخ رائد أهداف هذا المشروع بقوله: "إنهم يرفضون الاعتراف بـمائة قرية فلسطينية تضم سبعين ألفاً من أهلنا، وهذه السياسة قد تترجم أحياناً إلى إهدار دمنا، كما أنها قد تترجم إلى تفريغ مجتمعاتنا من المقومات الحضارية المهمة، مثل المستشفيات والجامعات والمناطق الصناعية، الأمر الذي أدّى إلى أن أكثر من 60% من أهلنا يعيشون تحت خط الفقر" كما قال في هذا الشأن: "إن الهدف من المشروع – المجتمع العصامي – هو بناء مجتمع متكامل يملك مؤسساته وأمور حياته بيده، ويتحرّر من حملات الضغط الواقعة عليه من السلطات الإسرائيلية".
وجدير بالإشارة إلى أن الحركة كانت واضحة في التشديد على أن تكون مصادر تمويل هذا المشروع ذاتية، بإحياء الوقف الإسلامي، وإحياء باب الوصية بالثلث في الميراث، والى إقامة جمعيات تعاونية.

لقد نجح ونما المشروع بفضل من الله سبحانه، حتى اتسع ليضم إحدى وعشرين هيئة وجمعية، تشمل النواحي الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية، كما عمل على إعمار المساجد وصيانة المقدسات وحراستها، ومساعدة المعتقلين، وكفالة الأيتام، والأسر المحتاجة، وطلبة العلم .. نجاح لا شك أغاظ المحتل، وأقضّ مضجعه.
إن المحافظة على الهويّة الإسلامية للشعب الفلسطيني كانت من أولوياته، فدعم هو وفريقه الدعاة، كما رمّموا المساجد، ولأن الحديث عن الشيخ رائد صلاح لن يكتمل دون الحديث عن نشاط (مؤسسة الأقصى) التي أسسها، نبين أن من أهم أهدافها حراسة الأقصى، وترميمه، وإيصال قضيته إلى العالم، وفضح مخططات سلطات الاحتلال الرسمية تجاهه، والتي تبنت خططاً لتهويد مدينته وهدم بنيانه المقدس، لإقامة الهيكل المزعوم، والعمل على إقرار قوانين تعسفية قمعية لتفريغ المدينة القديمة من أهلها المسلمين وإحلال اليهود فيها. .
وأخيراً تم إفراج سلطات الاحتلال عن الشيخ رائد صلاح بعد أن أمضى عامين ونصف في السجن، لا لشيء إلا لأنه شخصية فاعله مؤثرة في المجتمع الفلسطيني، شخصية استطاعت تفادي مزالق القانون الصهيوني الذي يسعى لاقتناص أمثاله، شخصية كانت الدافع الأساسي لاعتراف الإعلام صهيوني بفضلها؛ إذ تم اختياره من قبل أسبوعية (تل أبيب) التابعة لشبكة (يديعوت تكسورت) .. خامس شخصية مؤثرة في إسرائيل في عام 1420 هـ - 1999م، من بين مائة شخصية لها تأثير على الحياة السياسية والاجتماعية والإعلامية.

إلا أن قرار الإفراج تضمن شرطاً تعسفياً يصعب على الشيخ قبوله والتعايش معه، لقد نص على منعه من الاقتراب من المسجد الأقصى خلال فترة تمتد لأربعة أشهر من تاريخ إطلاق سراحه!! فدخوله المسجد الأقصى - ولو لأداء الصلاة المكتوبة- تستوجب موافقة خطيّة من السلطات الرسمية للاحتلال، وقد ردّ الشيخ المجاهد على هذا الشرط بتعقيب كتبه بخط يده على صفحة قرار العفو الصادر بحقه، جاء فيه: "من الواضح جداً أن هذا الشرط جاء بهدف منعي من دخول المسجد الأقصى المبارك، وهذا مما يؤكد لنا أن الأقصى في خطر، وأن الخطر يزداد عليه يوماً بعد يوم، ولذا فهو شرط قبيح ومرفوض وتفوح منه رائحة الإكراه الديني".
لا. لم يكن دعمه المزعوم للإرهاب هو الدافع لسجنه، ولم يكن دعمه المزعوم للإرهاب هو الدافع لحرمانه من دخول المسجد الأقصى، إن المزلزل لكيانهم هو نجاحه ورفاقه في تحقيقهم لأهداف الجهاد المدني بشتى أشكاله، هو قدرتهم على إثارة الهمم في شعب لم يبق من كيانه إلا روح أبيّة توّاقة للحرية، لقد هزّ سعيه الحثيث ورفاقه على إبقاء قضية الأقصى الأسير قضية حيّة .. هز الاحتلال الإسرائيلي.
الحقيقة إن إيمانه وشعبه..ويقينهم.. وثباتهم.. كان بالنسبة لسلطات الاحتلال الصهيوني أشد سطوة وترويعاً من القنابل المتفجرة ..

 

أميمةالجلاهمة
  • مـقـالات
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط