اطبع هذه الصفحة


هم بدؤوا

د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
أ
كاديمية سعودية .. جامعة الملك فيصل الدمام

 
قد تكون الصورة التي وصلت إلينا عن اعتداء هذا الكيان على الأراضي اللبنانية أقرب للواقع المروع بسبب استقلالية الإعلام اللبناني عن السيطرة الصهيونية، إلا أن الصورة المسكوت عنها تكمن هناك على الأراضي الفلسطينية المحتلة...

لم يكن لي أن أحدثكم عن "عبير العراق" الفتاة التي قتل والداها وأختها، وحرقت بعد هتك عرضها، ولا عن العدالة الأمريكية المطلقة التي أبت إلا أن تبرئ الجناة، تاركة الحمل على من وصمته بالاختلال النفسي، الاختلال الذي لم يكن ليتعارض مع حمله السلاح في الجيش الأمريكي، ولم يكن لي أن أحدثكم عن سعادتي بهذا التفاعل الذي وجه لدعم الابن الأسير "حميدان بن علي التركي" وأسرته في محنتهم، ولا عن سعادتي بدلالة هذا الدعم من قبل المواطن السعودي على اختلاف مواقعه. لم أكن لأحدثكم عن ابنة المملكة العربية السعودية "لمى بنت حميدان التركي" التي حازت على جائزة من مدرستها الأمريكية بسبب حسن خلقها، ولا عن تحسينها صورا ألصقت بدينها ووطنها، ولا عن تفاعلها في الأنشطة المدرسية، مما أوصلها لنيل جائزة الرسم من المدرسة نفسها، ولا عن تجربتها كمتحدثة رسمية في قضية والديها المهددين بالأسر في السجون الأمريكية. لم أكن لأحدثكم عن دعم حكومة المملكة العربية السعودية لوكالة "الأورنوا" الإغاثية المتخصصة برعاية حوالي (3.6 ملايين) لاجئ فلسطيني في كل من لبنان والأردن وسوريا والضفة الغربية وغزة، ولا عن المشروع الإسكاني السعودي في رفح الذي وفر فرص عمل لكثير من اللاجئين الفلسطينيين، ولم أكن لأحدثكم عن أبنائنا الأسرى الذين قيل إن اثنين منهم انتحرا، ولا عن أجسادهم التي وصلت إلينا ناقصة الأعضاء. مشوهاً ما بقي منها.

لم أكن لأحدثكم اليوم عن أي من هذه القضايا مع استحقاق كل منها لأكثر من هذه المساحة الإعلامية ولأكثر من منبر ثقافي، إلا أن ما يلم بنا اليوم يستلزم تضافر كل الجهود في خندق واحد، فاعتداء ذلك الكيان الصهيوني على غزة وما حولها، وتدميره الأخير للبنية التحتية لجارته لبنان لا مبرر له، لا من قبل ولا من بعد، قد تكون الصورة التي وصلت إلينا عن اعتداء هذا الكيان على الأراضي اللبنانية أقرب للواقع المروع بسبب استقلالية الإعلام اللبناني عن السيطرة الصهيونية، إلا أن الصورة المسكوت عنها تكمن هناك على الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث يتحقق الانعدام التام لتكافؤ القوى بين كيان مدجج بكل أنواع السلاح وبين طرف خالي الوفاض من كل مقومات الحياة ولو البسيطة منها. هذا الوضع المتردي دفع "فيلييو جراندي" مساعد المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة للقول محذرا من أن "الوضع هناك قد وصل إلى أزمة إنسانية" معلنا ما أعلنته المفوضية العامة "للأورنوا": (من أن استهداف الأطفال سيخلق فقط جيلا جديدا من الأطفال الذين سيلجؤون للعنف). ومن جهة أخرى أشار برنامج الغذاء العالمي في تقرير له إلى أن الفلسطينيين باتوا يعانون من انعدام الأمن الغذائي، إذ تتحكم القوات الإسرائيلية بالمناطق الرئيسية في شمال وجنوب قطاع غزة، حيث ألحقت أضرارا بالغة بالبنية التحتية الاستراتيجية من جسور وطرقات إضافة لمحطة توليد الكهرباء، مؤكدا أن الضغط الذي تمارسه إسرائيل على الفلسطينيين يتزايد يوميا، فالمنشآت الصحية باتت في خطر بسبب الاعتداءات الإسرائيلية. إن الوضع غير الإنساني أنطق "جدعون ليفي" الكاتب في صحيفة "هآرتس" والذي فاز عام 1996م بجائزة وطنية بناء على مواقفه الداعمة لحقوق الإنسان، فقد نقل موقع "الإسلام اليوم" إنه قال: (حجتنا دائما تكمن في قولنا "هم بدؤوا"... لكن قبل ساعات قليلة من سقوط أول صاروخ على مدرسة في "آشكيلون" من غير أن يصيب أو يحطم شيئا كانت إسرائيل قد قصفت ودمرت الجامعة الإسلامية بغزة، لقد أقدمت إسرائيل على القطع الكلي للكهرباء، وضيقت من نطاق الحصار قبل أن تقتل وتقف وتغتال وتوقف، لقد قتلت وجرحت المدنيين بمن فيهم الأطفال والرضع وبأرقام مرعبة، الحجة دائما "هم بدؤوا". لكن من كان البادئ الفعلي؟ وهل حقا أننا انسحبنا من غزة؟ فغزة لا تزال لحد الساعة سجنا، ومحكوماً على سكانها أن يتحملوا الفقر والظلم المنتشرين فيها، لقد فرضت عليهم إسرائيل حصارا من البحر والبر والجو أيضا. لقد قمنا بإنشاء أكبر قوة استعمارية وأكثرها إجراما، إننا بصدد الدفع بالفلسطينيين إلى محاربتنا بالوسائل القليلة التي يملكونها، وكإجابة لهم عن ذلك نقوم بتوظيف معظم الترسانة العسكرية التي بحوزتنا من غير أن ننسى التحجج دائما بمنطق: "هم بدؤوا"، لقد كنا نحن البادئين، بدأنا بالاحتلال، ولسنا نفكر جديا في إنهائه، لقد كنا نحن من بدأ بالعنف، وليس هنالك عنف أكثر بشاعة من عنف المحتل حينما يستعمل القوة ضد أمة بأكملها.

إن قطاع غزة حاليا يعيش واقعا خطيرا يحكمه القتل والرعب والمشكلات اليومية. أما آمال التسوية فإنها تتضاءل بما أن كل يد تخرج لتعرض السلام، والتي آخرها يد إسماعيل هنية نفسه، سرعان ما يتم رفضها. إن الحقيقة هي عكس ما يظنه الكثيرون من بيننا، لم يكونوا هم البادئين، وأما العدالة فهي ليست في جانبنا).

قد يعجب بعضنا من كاتب إسرائيلي يفترض أن يسكت عن ظلم وطغيان قومه، عندما يأتي ليرصد الواقع الفلسطيني المأساوي للحياة اليومية في غزة وما حولها، ولكن ما حيلة هذا البعض من أقلام عربية تسكت وتتجاهل بل تسخر من معاناة شعب واقع تحت إرهاب كيان خارج عن نطاق القانون الإنساني، كيان اعتقد أن التدمير والظلم والإرهاب تكفي لكسر همم عالية، لم يعرف عنها أنها انحنت لمعتد.

أما لبنان العزيز، فيكفي أن أورد نصا من "التوراة" يحذر من لبنان جاء فيه: (شعوب الشمال تأتيكم بلا رحمة) كما أن تاريخكم القديم والحديث يؤكد أن لبنان لم يخضع يوما لسلطة يهودية، وبالتالي أعتقد أنه من الحكمة الرجوع إلى طاولة المفاوضات، من الحكمة أن تكفوا أيديكم عن لبنان. فالأرض اللبنانية لن تكون في يوم من الأيام لكم مغنما بل مغرما يصعب احتماله.. بإذن الله.

 

أميمةالجلاهمة
  • مـقـالات
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط