اطبع هذه الصفحة


دروس وعبر من عهد الملك عبدالعزيز

د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
أ
كاديمية سعودية .. جامعة الملك فيصل الدمام

 
كثيرا ما أتأمل الماضي البعيد والقريب، وكثيرا ما أعجب من حكمة بعض الرجال الذين لم يرتادوا المعاهد العلمية ولا الجامعات ولا المؤسسات البحثية، كلمات بعضهم تعد حكماً تستحق أن تذكر، وأن تكون مدار الدراسة والبحث.
ومن الأحداث التي بهرتني في سياسة الملك عبدالعزيز وفي أهل نجد وأهل مكة المكرمة -رحمهم الله- جميعا، موقفهم من الأحداث التي سبقت وأعقبت دخول الملك عبدالعزيز - رحمه الله - لمكة المكرمة، فعقب منع الشريف حسين بن علي - رحمه الله- أهل نجد من أداء فريضة الحج لسنوات متتالية، اندفع جمع من علماء نجد ووجهائها برئاسة الإمام عبدالرحمن بن فيصل - رحمهم الله - للملك عبدالعزيز، في الرياض يشكون انقطاعهم عن أداء هذه الفريضة مع قدرتهم عليها، وفي ذلك الاجتماع افتتح الإمام عبدالرحمن الحديث بقوله "إنه تلقى عدة رسائل من الإخوان يطلبون فيها أداء فريضة الحج، وقد أرسلت هذه الكتب في حينها إلى ولدنا عبدالعزيز، وها هو أمامكم فاسألوه ما تريدون" فقال عبدالعزيز لهم "لقد وصلني كل ما كتبتموه، وأحطت علماً بكل ما شكوتموه، إن لكل شيء نهاية فلا تيأسوا، وإن الأمور مرهونة بأوقاتها" إلا أن رؤساء العشائر أرادوا الحج ولم يصبروا على تركه وهم القادرون عليه، ولذا قال أحدهم "نريد أن نحج يا عبدالعزيز، فإن منعنا الشريف - الحسين - دخلنا مكة بالقوة".
فما الذي نستفيده من موقفهم هذا؟ لقد كانوا طائعين لولي الأمر، ولم يستخدموا القوة من تلقاء أنفسهم، بل عرضوا رغبتهم عليه وانتظروا توجيهاته، أما موقف الملك عبدالعزيز من طلبهم، فينم عن احترامه الكبير للعلماء ورجال الدين، فقد رد على محدثيه رحمه الله بقوله "إن مسألة الحج من المسائل التي يرجع الفصل فيها إلى علمائنا وها هم حاضرون فليتكلموا" عندها أجاب الشيخ سعد بن عتيق أحد العلماء -رحمه الله- بقوله "إن الحج من أركان الإسلام، ومسلمو نجد ولله الحمد يستطيعون أن يؤدوا هذا الركن على الوجه الأتم بالرضى أو بالقوة، ولكن من أصول الشريعة النظر إلى المصالح والمفاسد، فالأمر الذي قد يؤدي إلى ضرر أو مفسدة يدفع - أي يؤجل بسببه الحج - فهل هناك مفسدة أو مضرة قد تنتج عن الترخيص لمسلمي نجد بالذهاب إلى بيت الله، ذلك ما نريد أن نقف عليه من الواقفين على السياسة".
نستطيع من خلال موقف هذا العالم الجليل استيفاء العبر والدروس أيضاً، ففي حين تطلب السلطة السياسية والمتمثلة بالملك عبدالعزيز الفتوى الدينية من أهلها، يوجه أهل الإفتاء والمتمثلون بالشيخ سعد بن عتيق، أمور السياسة إلى أهلها، وهكذا تمت الموافقة على دخول مكة المكرمة.
لقد كانت النية مبيتة في تمكين الحجاج والمعتمرين من أداء مناسك الحج والعمرة، دون التعرض لحرمة هذه الأرض المباركة ما كان لذلك سبيل، ومن هذا المنطلق أمر يرحمه الله، رجاله بدخولها محرمين عزلا من السلاح، موضحاً أن العلماء بينوا حرمة دخول مكة المكرمة بنية القتال، وهكذا دخل جيش عبدالعزيز مكة المكرمة دون قتال ولله الحمد، ثم ما إن وصل الملك عبدالعزيز لمكة المكرمة، حتى نادى بالأمان لها ولمن فيها، ثم أكمل هو ورجاله أداء العمرة.
أما حديث الملك عبدالعزيز لأهل مكة، فيستحق أيضا التدبر والدراسة، فقد كان أول عمل يقوم به بعد أدائه العمرة أن استقبل أهل مكة وعلماءها وأعيانها، وشرح لهم أسباب دخولها، وطمأنهم على أنفسهم وأموالهم،ثم بين لهم المعالم الهامة لسياسته، فكان مما قال لهم "لا ينفعنا غير الإخلاص في كل شيء، الإخلاص في العبادة لله وحده، والإخلاص في الأعمال كلها، والذي أبغيه في هذه الديار أن يعمل بما في كتاب الله وسنة نبيه في الأمور الأصلية، وأما في الأمور الفرعية فاختلاف الأئمة فيه رحمة" ولم يكتف بذلك بل قال "والآن أنا بذمتكم وأنتم بذمتي، إن الدين النصيحة، وأنا منكم وأنتم مني، وهذه عقيدتنا في الكتب التي بين أيديكم، فإن خالف كتاب الله فردونا عنه، واسألونا عما يشكل عليكم فيها، والحكم بيننا وبينكم كتاب الله وما جاء في كتب الحديث والسنة، إننا لم نطع محمد بن عبدالوهاب ولا غيره إلا فيما جاؤوا به من كتاب الله وسنة رسوله، أما أحكامنا فهي طبق اجتهاد الإمام أحمد بن حنبل، فإذا كان هذا مقبولا عندكم فتعالوا نتبايع على العمل بكتاب الله وسنة الخلفاء الراشدين من بعده" وهكذا تمت البيعة لعبد العزيز رحمه الله. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه - وفي الوقت نفسه- تقدم بعض علماء مكة للسلطان عبدالعزيز بطلب الاجتماع بعلماء نجد للتباحث في الأصول والفروع، طلب وقع من نفسه موقع الرضى، وهكذا تم الاجتماع وانتهى باتفاق علماء نجد والحجاز على الأصول التي لا يجوز للمسلم الخلاف حولها.
الحقيقة تظهر للمتابع أن هذا التآلف بين الحاكم والمحكوم والذي قد يتطلب تحقيقه سنوات، تحقق في أيام، وهذا الواقع يدل دلالة واضحة على عظم هذه البقعة في نفس القائد عبدالعزيز، ونفوس أهل نجد ومكة وعلمائهما ووجهائهما، فقد بدا واضحا أنهم جميعا قد عقدوا العزم على توحيد الصف حول كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وحول خدمة أحب بقاع الأرض إلى الله سبحانه.
هذه المواقف وغيرها سنجدها دون أدنى شك في أبحاث لمتخصصين في الدعوة والفقه والسياسة والاجتماع يتبناها "مركز تاريخ مكة المكرمة" الذي وجه بإقامته قريباً، صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض حفظه الله، المركز الذي أعلن أن من سياسته دعم ومساندة الأبحاث الجادة التي تتعلق بتاريخ مكة القديم والحديث، مركز تاريخي هام يليق بمكانة مكة المكرمة في قلوب محبيها من المسلمين، مركز سيكون -بحول الله- وجهة الباحث عن تاريخ هذه المنطقة المباركة. ولكم جميعا أقول (مبارك).


 

أميمةالجلاهمة
  • مـقـالات
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط