اطبع هذه الصفحة


حد الكفاية لا للكفاف للعاطلين عن العمل

د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
أ
كاديمية سعودية .. جامعة الملك فيصل الدمام

 
لعل من أهم ما جاء به الإسلام في المجال الاقتصادي، هو مبدأ الضمان الاجتماعي، بمعنى ضمان الحد اللائق لمعيشة الأفراد، بحيث يكون الفرد قادرا على الإنفاق على نفسه وعلى من يعول، مهيئا لأسرته الحياة الكريمة تلحقهم بالمستوى المعيشي السائد في مجتمعه، فمن المعروف أن الدخل الذي يفترض توفيره لأهل المدينة الرئيسية يختلف عما يتوجب توفيره لأهل المدينة النائية،أو توفيره لأهل القرية وهكذا، وهذا الحد هو ما عبر عنه رجال الفقه الإسلامي القدامى باصطلاح"حد الكفاية"، تمييزا له عن "حد الكفاف"الذي هو الحد الأدنى للمعيشة، وهو الحد الذي بالكاد يسمح للأفراد بالبقاء على قيد الحياة، والذي زاد عند تطبيقه من اتساع الهوة بين طبقات المجتمع على اختلافها.
فإذا عجز الفرد أن يوفر هذا الحد لنفسه عجزا جزئيا أو كليا، لمرض أو شيخوخة، أو لتقصيره عن إدراكه لسبب خارج عن إرادته، فإن نفقته في تلك الحالات وأمثالها تكون واجبة من بيت مال المسلمين، ويعتبر هذا الضمان من أولويات الاقتصاد الإسلامي، كما بين علماؤنا الكرام أن بيت مال المسلمين يعتمد بشكل أساسي في توفيره للحد اللائق للمعيشة على "الزكاة"، والتي يفترض أن تجمع كل عام من المسلمين مالكي النصاب، إلزاما لا تطوعا.
وغني عن البيان هنا أن الإسلام لا يؤيد النظام الاشتراكي وموقفه الرافض للملكية الخاصة، وبالتالي يفسح المجال للتفاوت في دخول الأفراد بحسب جهدهم وعملهم، وقبل هذا وذاك بحسب أرزاقهم التي كتبها الله سبحانه لهم، فما فوق حد الكفاية مسخر لكل مجد مجتهد يسعى لزيادة دخله، ولكن في الوقت نفسه يعمل النظام الاقتصادي في الإسلام على إيقاف شتى صور الفقر والمسكنة، ومن هنا فرض الإسلام على الدولة جمع الزكاة وتوزيعها، قال سبحانه وتعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) لقد نصت الآية الكريمة على فعل أمر (خذ) ومن هنا نفهم أن الله سبحانه أمر ولاة الأمر بأخذ الزكاة ممن تجب عليهم، ومن ثم توزيعها على مستحقيها، موضحا سبحانه في محكم كتابه وجوب تنظيم جهاز إداري يعمل على جمع الزكاة وتوزيعها، فقد قال سبحانه وتعالى : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها.. ) فالعاملون عليها، الذين أشارت إليهم الآية الكريمة هم كما بين علماؤنا من تكلفهم الدولة بجباية الزكاة وتوزيعها على مستحقيها، كما بينت الآية الكريمة أن مستحقاتهم المالية مقابل عملهم هذا يفترض أن تخرج من الزكاة، وهذا نتيجة طبيعية لخدمتهم المباشرة لأفراد المجتمع.
كما أكدت السنة النبوية الشريفة -أيضا- أن جمع الزكاة وتوزيعها من واجبات الدولة،إذ ليس للأفراد الحق في توزيع زكاتهم على من أرادوا، فالزكاة تجب لكل مستحقيها، ومن المهم هنا بيان أن إخراجها ينحصر لفقراء البلاد، فتؤخذ من أغنيائهم لترد إلى فقرائهم، هذا ما يؤكده الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، عندما بعث لمعاذ بن جبل رضي الله عنه، إلى اليمن بقوله:( فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) لقد قال عليه الصلاة والسلام: ( صدقة تؤخذ ) كما قال: ( ترد على فقرائهم ) أي إن هناك يدا تأخذ الزكاة من أغنيائهم لتردها لفقرائهم، وهكذا نصل إلى أن جمع الزكاة وتوزيعها لا يترك لرغبات دافعيها أو عواطفهم.
إن دفع الزكاة يجلب الخير لكل الأطراف ففي حين يغتني الفقير والمسكين وغيرهما، نجد أنها تكفي القائم على جمعها وتوزيعها فلا ينشغل بغيرها، ومن جانب آخر تتعلق قلوب الفقراء بأغنيائهم، فالأغنياء منهم ساهموا في رفع معاناتهم، وبالتالي يحرص الفقير على التعاون تجاريا مع أغنيائهم دون غيرهم، يفرح لغناهم ويحرص ألا يصيبهم أي أذى.
وبما أننا على أبواب شهر رمضان الكريم، الشهر الذي يكثر فيه إخراج الزكاة والصدقات، آمل أن نفرق بين الزكاة التي يجب علينا دفعها كاملة للدولة أو من ينوب عنها لإيصالها لمستحقيها، وبين الصدقة التي من حق الأفراد صرفها بحسب رغباتهم.
وليت علماءنا يذكروننا بهذه المناسبة بأهمية دور القرابة في تدعيم التكافل الاجتماعي في المجتمعات الإسلامية، فإنفاق الرجل المسلم على أسرته الصغيرة وعلى أقاربه الفقراء يخفف عبئا كبيرا عن المجتمع والدولة، وفي الوقت نفسه ينال صاحبها من الله سبحانه الأجر العظيم، ويقوي الروابط الفطرية المستندة على القرابة.
ويشار هنا إلى أن توفير الحد اللائق بالمعيشة في بلادنا قد يتحقق عن طريق تمكين العاطل من الانضمام إلى دورات تعليمية مدفوعة، تعينه على تحسين وضعه ومستواه الوظيفي، وقد يكون توفير هذا الحد من المعيشة الكريمة متحققا عن طريق توفير راتب البطالة للعاطل عن العمل، بحيث يكفل له ولأسرته حياة تتوافق والمستوى المعيشي السائد لمجتمعه، وحبذا لو استمر هذا الراتب ما دام الفرد عازما أمره على إيجاد عمل مناسب، مستجيبا لتوجيهات ديوان الخدمة أو مكتب العمل المتعلقة بهذا الشأن، وإن كنا نأمل من الجهات المعنية الاهتمام بتحديد الحد الأدنى للأجور ليكون المردود المالي للوظائف مهما كانت بسيطة كافيا لتوفير الحد اللائق لمعيشة الفرد وأسرته التي يعول، كما نأمل أن يكون توزيع راتب البطالة في حال اعتماده رسميا، منظما لئلا يكون مدعاة لاستغلال البعض، إذ إن من الضروري إيقاف صرفه لمن يرفض العمل، أو من يمتهن الاستقالة من عمله دون مسوغ مقبول، علما أن العمل براتب البطالة تم اعتماده مؤخرا في دولة الكويت، كما هو معتمد في كثير من الدول الأوروبية والعالم، والذي آمل أن يعتمد بيننا في القريب العاجل.

 

أميمةالجلاهمة
  • مـقـالات
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط