اطبع هذه الصفحة


قصة خسيسة

د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
أ
كاديمية سعودية .. جامعة الملك فيصل الدمام

 
في أعقاب صدور الحكم بالسجن مدى الحياة على (بولارد) أمر الكيان الصهيوني الذي سبق أن أدان العملية ووصفها بالعملية (الخسيسة)، بمضاعفة المكافأة الشهرية المخصصة لـ(بولارد)، والاستمرار في إيداعها في حسابه، وذلك ليضمن كما أكد (بول فندلي) حياة مريحة في إسرائيل إذا تم إطلاق سراحه

ستسمعون مني اليوم قصة قال أهلها عنها إنها (خسيسة)!! قصة حدثت عام 1985م حيث ألقي القبض على (جوناثان جي بولارد )، اليهودي الأمريكي، الذي كان يعمل محللاً للجاسوسية المضادة، في وحدة مكافحة الإرهاب في مخابرات سلاح البحرية الأمريكية .. فعلى مدى عام كامل نقل (بولارد) للاستخبارات الإسرائيلية معلومات غاية في السرية، اعترف بعد القبض عليه بأنه كان لا بد أن يخدم إسرائيل بكل إخلاص لسبب بسيط... وهو أنه يهودي، ولم ينس أن يعترف بالسخاء المادي لذلك الكيان الصهيوني المخادع حتى لحلفائه...!!
هذه المعلومات من الأهمية بمكان جعلت الكاتب الأمريكي (جولدن توماس) صاحب كتاب (بذور النار) يؤكد أن (بولارد) اختلس ما لم ينجح السوفيت طيلة الحرب الباردة في اختلاسه، فقد اشتملت اختلاساته على معلومات حساسة عن تكنولوجيا أشعة الليزر والأسلحة الأمريكية، وعلى معلومات سرية عن القوات البحرية والألغام، والتسهيلات في موانئ البحر الأبيض المتوسط، وعلى نصوص دليل ضخم يعرف باسم (الكتاب المقدس) يشتمل على الاستراتيجية التي سيتبعها الأسطول البحري الأمريكي إذا تعرض للهجوم، وكانت الوثائق من الضخامة بحيث قيل إنها تملأ صندوقاً طوله وعرضه ست أقدام، وعلوه عشره أقدام!!، معلومات لأهميتها دفعت وزير الحربية الأمريكي آنذاك (كاسبر واينبرغر) لأن يقدم مذكرة من (46) صفحة كدليل إثبات على خيانة (بولارد) طالب من خلالها إنزال أقصى العقوبة على الجاسوس الصهيوني وهي الحبس مدى الحياة، فكان مما قال فيه إن فعله: (أوقع ضرراً فادحاً لا يمكن تلافيه، وذلك لتعريضه حياة العملاء الأمريكيين للخطر، ولما يشتمل عليه من تهديد غير مقبول للقوات الأمريكية حيثما كانت... وذلك في حالة استغلال المعلومات... لقد حطم وخرب سياسات وممتلكات وطنية استغرق بناؤها سنوات طويلة وتطلب جهداً عظيماً وموارد هائلة)... والواقع يؤكد أن ما قاله وزير الدفاع الأمريكي على حزمه يعد أقل القليل أمام فداحة جريمة (بولارد) تجاه وطنه، أو الذي يفترض أن يكون وطنه .

أما الموقف الرسمي للكيان الصهيوني تجاه هذه الجريمة فكان الإدانة ولكن من نوع لم نعتد سماعه نحن أهل الإدانات والشجب المقنن، إذ وصفت من قبل الكيان الصهيوني بالعملية (الخسيسة) التي بحسب زعمهم لم تجر الموافقة عليها، ولم يعلم بها أحد من الوزراء ‍‍وعرضوا التعاون التام مع المحققين الأمريكيين، إذ وجه (بيريز) مجلس وزراء الكيان الصهيوني، لإصدار اعتذار علني هذا نصه: (إن حكومة إسرائيل مصممة على بذل جميع الجهود للخروج بتحقيقات شاملة مفصلة... إن حكومة إسرائيل تعد حكومة الولايات المتحدة الأمريكية أنه في حالة إثبات التهم فإن المسؤولين سيتحملون النتائج بالتأكيد).
وعن عدم موافقة المسؤولين في الكيان الصهيوني على تلك الخيانة والمحاسبة عليها فحدث ولا حرج... ففي أعقاب صدور الحكم بالسجن مدى الحياة على (بولارد) أمر الكيان الصهيوني الذي سبق أن أدان العملية ووصفها بالعملية (الخسيسة)، بمضاعفة المكافأة الشهرية المخصصة لـ(بولارد)، والاستمرار في إيداعها في حسابه، وذلك ليضمن كما أكد (بول فندلي) حياة مريحة في إسرائيل إذا تم إطلاق سراحه.

كما قامت حكومة الكيان الصهيوني بمحاسبة الإسرائيليين اللذين قاما بأكبر دور في عملية التجسس هذه بطريقة غريبة‍‍..!! وهما (رفائيل إيتان) الذي كان مستشاراً سابقا لرئيس الوزراء لشؤون الإرهاب، ثم رئيساً لمكتب الارتباط العلمي، و(أفييم سيلا) العقيد النشط في سلاح الجو، الذي كان في أمريكا بهدف دراسة الكمبيوتر، إذ قطف كلاهما ثمار ما جنته أيديهما عسلاً مصفى، فقد عين (إيتان) رئيساً تنفيذياً لأكبر تجمع صناعي كيمائي يملكه الكيان الصهيوني، أما (سيلا) فقد ناله عقاب مماثل هذا ما أشار إليه اليهودي الصهيوني الجنسية (باري شميش) الذي أكد أنه حصل على ترقيه من رابين نفسه إذ سلم قيادة أكبر قاعدة جوية (تل نف) في الكيان الصهيوني، وهو في العادة المنصب الثاني بعد منصب قائد القوات الجوية، كما تلقى جائزة أخرى فقد رفضت حكومة الكيان الصهيوني طلبا أمريكيا بتسليمه لها لمحاكمته.

لقد اعتقد ساسة الكيان الصهيوني أنهما استحقا تلك المناصب عن جدارة، وكيف لا يكونان كذلك، ألم تمكنهما تلك المعلومات العسكرية الأمريكية من الوقوف على معلومات سرية تفصيلية عن قوة دروع العراق، وعن الأسلحة غير التقليدية التي يمتلكها، وعن مواقع منظمة التحرير الفلسطينية في تونس بكل دقة، بما فيها منزل الرئيس ياسر عرفات، ألم تمكن الطائرات الحربية لكيانهم الصهيوني، من الإفلات من المراقبة البحرية والجوية الأمريكية في البحر المتوسط خلال هجومها الجوي في أكتوبر 1985م،على مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، والذي أسفر عن قتل مئة، أكثرهم من المدنيين التونسيين؟, ألم يستعن جيش الكيان الصهيوني بها في عملية قتله لمساعد القائد العام لمنظمة التحرير أبي جهاد في تونس؟ ألم يتمكن الاتحاد السوفيتي إبان الحرب الباردة من الحصول على بعض الوثائق التي سرقها (بولارد) أو كلها، بطريقتين إحداهما كانت عبر الموساد، وما تمثله هذه الدائرة في الكيان الصهيوني، هذا ما أكدته مصادر من الاستخبارات الأمريكية، فقد ذكر (بول فندلي) أن الوثائق التي تسربت من الكيان الصهيوني عن طريق الجاسوس (بولارد) إلى موسكو اشتملت على (معلومات استراتيجية عن قوات الدفاع في تركيا وباكستان والدول العربية المعتدلة).

والمضحك المبكي في هذه القضية وقاحة هذا الكيان وتطاوله، فقد توجه (نتنياهو) وهو رئيس وزراء ذلك الكيان، مطالباً كلينتون رئيس الولايات المتحدة آنذاك، بالإفراج عن (بولارد) كجزء من اتفاقية تم الاتفاق عليها، طلب لم يتمكن كلينتون، ولن يتمكن أي أمريكي مخلص لوطنه من القبول به، ولم يكتف (نتنياهو) بذلك بل توجه لزيارته في سجنه الانفرادي، زيارة فريدة من نوعها لمجرم اقترف الخيانة العظمى لوطنه...بالله عليكم ماذا تعنيه المطالبة الرسمية للكيان الصهيوني بالإفراج عنه!؟..وما الذي تعنيه زيارة (نتنياهو) (لبولارد) في سجنه الانفرادي!؟... استفساران لا يحتاجان لإجابة... أليس كذلك...!!


 

أميمةالجلاهمة
  • مـقـالات
  • الصفحة الرئيسية
  • ملتقى الداعيات
  • للنساء فقط